حصلت «الاتحاد الاشتراكي» على الوثيقة التي حررها المناضل محمد حبيب الطالب، عضو المكتب السياسي السابق لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، ويتحدث فيها عن التنمية وهشاشة المجتمع السياسي والتحالفات والآفاق الممكنة والمشروع المجتمعي. ونحن إذ ننشرها، فذلك تعميما للفائدة.. 3 - التحالفات الأخرى: أما على مستوى التحالفات، فإن التشويش والاضطراب قد بلغا ذروتهما في الفترة الأخيرة، ولذلك يهمنا أن نؤكد على الموقفين التاليين: أولا: ما من تغير نوعي يدعونا إلى إعادة النظر في الكتلة الديمقراطية. فحزب الاستقلال لازال هو حزب الاستقلال في رؤيته ومنهجيته ومبادئه وسلوكاته. والتغيرات النسبية التي حدثت في قواعده الاجتماعية وأطره وقياداته هي في حكم ما يجري في مختلف الأحزاب الديمقراطية الأخرى. أما الظواهر الشخصية الغارقة في النفعية، فهي ظواهر قديمة لا يمكن بعد القياس عليها لوحدها. ثم، إن برنامج الكتلة الديمقراطية الذي سطرته في مجموعة من الوثائق مازال قائما، ولم يستنفد بعد كل أغراضه، لا في المجال السياسي والدستوري ولا في المجالات الأخرى. والمشكلة الحقيقية في نظرنا، أن أيا من أحزاب الكتلة مارس تجاه حليفيه الآخرين سياسة كتلوية فعلية ونشطة ومبادرة. بل كان الحذر والتنافسات الضيقة العقلية السائدة داخل الكتلة ولاسيما بين الطرفين الرئيسيين فيها: حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. ولذلك، غابت الكتلة عمليا، وانعدمت مبادراتها السياسية والجماهيرية، وانطفأ حتى ذاك البصيص المعنوي الذي كانت تثيره لدى مكوناتها. فكيف يجوز لنا إذن أن نحكم على خيار لم يمارس في الواقع، بل تمَّ وأده في حينه. بينما تُبين التجربة، أنه عندما كانت الإرادة السياسية الكتلوية متوفرة عند أولئك القادة التاريخيين وعند الجميع، أنجزت الكتلة وقدمت الشيء الكثير. فمن كان يصدق، بعد الصراعات القديمة، أن حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي سيتوصلان إلى تقديم لائحة مشتركة وموحَّدة في الانتخابات التشريعية لسنة..... !! إن عقلية الوحدة والتحالفات الاستراتيجية تبدو في المشهد السياسي العام لدى اليسار والقوى الديمقراطية، وكأنها عقلية مناقضة في الصميم لشخصيتهم السياسية التجزيئية بالأحرى. وفي هذا الأمر أكثر من دلالة على تدني «النخبة السياسية» في بلدنا. إن عملا وحدويا أو تحالفيا من هذا القبيل يتطلب الوعي الصاحي بشروط المرحلة، والإرادة الوحدوية القوية، والأفق السياسي الواضح، والنفس الطويل والمثابر، والاستعداد للتنازلات المتبادلة، وبالجملة، فإنه يحتاج إلى التربية الايديولوجية المناسبة. ولكي تكون الكتلة في مستوى تحديات الانتقال الديمقراطي، بخصوصياته التاريخية التي ألمحنا إليها، عليها أن تعي، أن أشكال العمل الفوقية والوقتية التي تعودت عليها دون غيرها، لم تعد كافية ولا مقنعة في المراحل القادمة. فما لم تكن قواعد الكتلة مقتنعة بجدواها ومشاركة بفعالية في توجهاتها وأنشطتها، وما لم يكن الهم الجماهيري حاضرا على الدوام في كل موقف تتخذه، وفي أشكال العمل التي تنتقيها، فستظل الكتلة معرضة للحسابات الضيقة، وعلى هامش التطلعات الشعبية، وقاصرة على أن تكون التعبير المجتمعي المطلوب. لكن، ألا نتوقع لأحزاب الكتلة تموقعات سياسية قد تكون متعارضة في المرحلة القادمة؟ قد يحصل ذلك. بل ومن أجل درء هكذا احتمال، والذي سيكون لا محالة إضعافا إضافيا للقوى الديمقراطية، ينبغي التعجيل باستئناف عمل الكتلة والقيام بالمراجعات النقدية الضرورية، واستخراج الخلاصات المشتركة منها، وتقريب التصورات السياسية للمرحلة القادمة. فلا شيء حتمي تفرضه الضرورة الموضوعية الخالصة وحدها، وإنما للإرادة أيضا مكانتها وفاعليتها. ثانيا: من أهم القضايا التي مازالت تثير الكثير من الجدل لدينا وفي الساحة الوطنية والعربية عامة، الموقف الذي ينبغي للاشتراكيين أن يتخذوه من الحركات المنسوبة إلى الإسلام السياسي. ولأننا سنخصص ورقة لموضوع الإصلاح الديني، فإننا سنؤجل التشخيص الدقيق لحمولاتها الإيدلوجية المختلفة إلى ذاك الموقع. وما سنطرحه الآن ليس أكثر من منطلقات أولية يتم نسيانها في الغالب في خضم التنافس الساخن الجاري. وهذه المنطلقات الأولية هي: أولا: لنبدأ بالتذكير التالي، إن الحركة الاسلامية ليست بالحركة الواحدة المتجانسة، لأنها مختلفة المذاهب الطائفية والمشارب الفكرية ومتناقضة التموقعات السياسية ومناهج العمل وأساليبه، عدا تطبع كل منها بخصوصيات تجاربها الوطنية ودرجات التطور الديمقراطي بها. وتشمل هذه التعددية البلد الواحد أيضا. ولذلك، لا يجوز التعميم وإطلاق نفس الحكم الواحد عليها جميعا. والأمر لا يختلف في بلدنا عن هذه القاعدة. إذ لدينا حركة عقيدية هي أقرب إلى «الزاوية» منها إلى حزب سياسي، ومازالت تتموقع سياسيا خارج السيرورة الديمقراطية. ولدينا حركة سياسية براغماتية مندرجة في العملية الديمقراطية وتشكل الايديولوجيا لديها رديفا مكملا وتابعا لأولوية العمل السياسي. وهي تنهل بوجه عام من أدبيات ما يسمى «بالإسلام الوسطي». ولدينا تنظيمات ناشئة أكثر انفتاحاً وتحرراً ايدلوجيا وسياسيا، وإن كان موقف السلطة منها مازال متعثراً ومتردداً وغامضا. ولدينا أخيراً، «المجموعات الجهادية» المستنسخة لفكر القاعدة وأساليبها. وأما هذا الوضع المتعدد الألوان، فإن تعاطينا مع هذا الفريق أو ذاك يختلف قوميا ووطنيا بحسب إقتراب كل منها من رؤيتنا السياسية وانفتاح كل منها ايديولوجيا على التقدم الفكري. إن شعار «ليس في القنافد أملس» شعار مضلل واستعدائي وكارثي على مستوى الممارسة العملية. ثانيا: ينبغي ألا يغيب عنا، من جهة، أن حركات الإسلام السياسي قابلة، للتطور في جميع الاتجاهات، كأي حركة اجتماعية سياسية أخرى، تبعا لمستوى تطور التناقضات الاجتماعية والثقافية والسياسية في البلد المعني. إن الحكم عليها الإجمالي بالجمود المطلق في نفس مواقعها، حكم غير متبصر وغير واقعي. قد تكون وتيرة التطور بطيئة، بحكم طبيعة المعتقد الحاملة له، وبحكم التحصن الدفاعي الذي تمر منه تجاه اكتساح الحداثة آخر معاقلها الدفاعية «الأسرة على سبيل المثال» وما تعتبره ثوابت أخلاقية بوجه عام، وبحكم حالة الإذلال القهري الامبريالي-الاستعماري الذي مازالت تعاني منه الأمة العربية والشعوب الإسلامية دون غيرها... إلا أن كل ذلك لا يستثني الحركات الاسلامية من سنة الحياة، وقانونها العام في التطور تبعا لتطور المجتمع ككل. ومن جهة ثانية، وكيفما كان الدور الذي لعبته السلطات الحاكمة في تشجيع الحركات الاسلامية لكبح المد اليساري الماركسي والقومي، فهي مع ذلك حركات اجتماعية شعبية لها جذورها في التربة الوطنية. إن الإشارة لهذا الجانب، على غير النظرة «المؤامراتية السطحية» قد يفيدنا أيضا في رؤية الوجه الآخر الخلفي لهذه الظاهرة. فإذا كان من مصادر قوتها الشعبية، أنها استثمرت الموروث الثقافي الديني في تموقعها الاحتجاجي المعارض بوجه عام للأنظمة القائمة، ولو بالصيغة الايدلوجية المحافظة، فإن من مصادر ضعف القوى الحداثية، أنها أهملت هذا الموروث الثقافي كلية، أو أنها تحاشت الخوض فيه ولا تملك عنه سوى أجوبة شكلية فارغة المضمون، ولذلك فلم تستطع أن تبيئ وتوطن و«تعرب» حداثتها، كما عجزت من قبل على تبييئ وتوطين وتعريب ماركسيتها أو اشتراكيتها. ثالثا: إن مطلب فصل الدين عن السياسة هكذا بإطلاق، مطلب غير واقعي وغير تاريخي بالمرة. عدا أنه تحريف لمفهوم العَلمانية بحد ذاته والذي لا يطالب أكثر من فصل الدين عن الدولة و فصل الدولة عن الدين. ليس الدين مجرد علاقة فردية مع الله، تُختزل في تمارين دائمة لشعائر ثابتة، يقوم به الفرد لضمان خلاص في الآخرة. بل هو في الواقع التاريخي أكثر من ذلك، إنه - أيضا - رابطة روحية وثقافية وأخلاقية واجتماعية لمساعي فردية ومجتمعية دنيوية. ويشتد لحامه (أي الدين) والحاجة إليه، كلما كانت الروابط الاجتماعية الأخرى ضعيفة أو تمر من حالة أزمة. فهو الملجأ الواقي، والتعويض اللاحم لضعف تاريخي أو مرحلي للروابط المجتمعية الأخرى. فالارتباط إذن بين الدين وشؤون الدنيا حميمي ومتغير. ومن ثمة، فالعلمانية في هذه الحال ليست مجرد إجراء قانوني دستوري، وإنما هي حصيلة لحرث ثقافي تصير معه الثقافة الدينية السائدة قابلة للتطور ومطابقة لحاجيات العصر، وتكون العلاقات المجتمعية الأخرى مواكبة وعلى قدر مناسب وداعم لهذا التقدم. غاية القول، ليس «المرجعية الإسلامية» التي تتشبث بها الحركات الاسلامية هي موطن الخلاف، فكل الأحزاب الديمقراطية تمتح بهذا القدر أو ذاك من نفس المرجعية، وإنما الخلاف في التأويلات السياسية والفكرية المستخلصة منها والموضوعة كخيارات نهائية للمجتمع. لقد أعطت الحركات الاسلامية الأولية المطلقة للحركية السياسية على حساب التجديد الفكري والايديولوجي. فكان انخراط بعضها أو جلها في العملية الديمقراطية مشوها ومبتوراً ومتناقض النتائج، تقدم نسبي سياسي من جهة ومحافظة اجتماعية وتلفيقية فكرية من جهة ثانية، والأنكى من ذلك، روح المداهنة الشعبوية لأشد مظاهر الموروث رجعية وتخلفا في سبيل كسب سياسوي عاجل. ولعل في هذا الانشغال السياسوي الشعبوي ما يفسر كيف بقيت الحركات الاسلامية تحت القبضة الثقافية لمفكرين إسلاميين تقليدانيين، وبعيدة كل البعد عن تأثيرات اجتهادات المفكرين الإسلاميين الحداثيين وهم بالأولى والأحرى. رابعا: لكل تلك المقدمات السابقة، فإن موقفنا الذي يسعى إلى أن يستوعب كل الشروط الموضوعية والذاتية، التاريخية والمرحلية، والذي يحاول أن يُكوِّن صورة متكاملة عن حركات «الاسلام السياسي» في أوضاعها المختلفة ودينامياته المتناقضة.. إن موقفنا هذا لن يكون بالتالي حكما عليها بالجملة، ولا حكما نمطيا ذا اتجاه واحد، بل سيتعاطى مع كل حالة خصوصية بالقدر الذي تقترب فيه من قناعاتنا الحداثية ومن خياراتنا السياسية، سواء بالنقد لما يخالف هذه القناعات والاختيارات، أو بالتعاون والمساندة لما يتفق معها. أو بالإدانة الكلية لمن يكون على نقيض الخيار الديمقراطي جذريا. إن هذا السلوك لا يلغي في النهاية واجبنا الديمقراطي في الدفاع عن حقوق أي منها إذا ما تعرض لجور أو تظلم أو عسف لا يجيزه القانون ومبادئ حقوق الإنسان كيفما اختلفنا سياسيا أو فكريا. وفوق هذا وذاك، أو مع هذا وذاك، فإننا نضع من هواجسنا واهتماماتنا، أن نجاح الحداثة الفكرية أو الايدلوجية الاشتراكية، لا يستقيم إلا مع وصلهما الاستيعابي والنقدي مع تراثنا الثقافي الديني، وإلا ظلت الحداثة والاشتراكية على حالهما دعوة برانية ونخبوية معزولة وعاجزة على الفعل والقيادة والسيادة. 4 - الايديولوجيا.. بعد انهيار ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، لم يعد لمفهوم الايديولوجيا في التداول الفكري إلا طابعا سلبيا محضا، وبما يدل على كل أشكال الوعي الزائفة والمناقضة للعلم. نحن لا نتقيد بهذا الاختيار السائد لاحتراسات عديدة، منها، أن الهجوم المركز على «الايديولوجيا» موجه بالدرجة الأولى لخصي الفكر من غاياته الإنسانية المثلى. وهو بالتالي يضرب في الصميم الايديولوجيا الاشتراكية، كفكر وكفلسفة وتصورات اقتصادية واجتماعية وغايات تحررية إنسانية جذرية. مشجعا في مقابل ذلك نزعة وضعانية برغماتية، وعقلانية أداتية، بلا بعد تاريخي ولا أفق إنساني تحرري شامل وجذري، ويقصد أن يظل الانسان في النهاية عبداً ذليلا لمنتوجاته واختراعاته وللنظام الرأسمالي العالمي. وبديهي أننا لا نعمم هذا الاستنتاج على كل الكتابات النقدية في هذا الشأن. فالمفهوم الاشتراكي للايديولوجيا لا يسقط كل جوانب الزيف فيها، وإنما يشدد على مضامينها الاجتماعية وعلى مدى مطابقتها الفعلية لشرط التقدم وللتحرر الانساني الشامل. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هو التالي: إذا كان في المجتمعات المتقدمة ما يبرر، أو ما يفسر بالأصح، تراجع الايديولوجيا لديها، فهل مجتمعاتنا العربية - الاسلامية في نفس الوضع التاريخي، العلمي والثقافي، والإنتاجي.. بينما هي مجتمعات مستهلكة في كل تلك المجالات، وذات تراث ثقافي ماضوي مثقل على حاضرها، وتواجه اليوم مهاماً متداخلة ومكثفة نهضوية وحداثية ومعاصرة(؟) إن جوابنا سيكون بالقطع في أن مجتمعاتنا مازالت مجتمعات ايديولوجية... وهي في حاجة إلى ايديولوجية مطابقة لمتطلباتها التاريخية. ودليلنا على ذلك، حتى ولو كان إثباتنا من نوع الإثبات بالسلب، أن التنظيمات السياسية التي لها تماسك داخلي قوي، وحضور جماهيري يمتد إلى القعر، هي التنظيمات ذات التماسك لايديولوجي، وإن كانت ايديولوجية تقليدانية. بينما ضعفت تلك التي تبنت الحداثة في ظل تفكك وانحلال ايديولوجيتها الاشتراكية، وهي الايديولوجيا الوحيدة المتماسكة والقادرة على مجابهة التقليد بأفق فكري تاريخي واجتماعي مفتوح على النهضة والتقدم. إشكاليتنا نحن الاشتراكيين المغاربة، أن الايديولوجيا الاشتراكية لدينا لم ترسخ أقدامها بعد برصيد نظري غني ومتين. فما أن بدأت تخطو خطواتها الأولى في المتسع الشعبي، وما أن بدأت تتعمم في أوساط المثقفين، وبالشكل الفقير والبراني الذي عممت به، حتى تسارع الزمن «لغير مصلحتها» مباغتا أياها بانقلابات عالمية في مجال السياسة والفكر والعلم، طرحت عليها أسئلة جديدة لم تألفها من قبل، وهي مازالت تحبو وتتلمس الطريق إلى واقعها الخاص. ولذلك، لا نجد على امتداد التجربة المغربية إنتاجات نظرية معمقة في الايديولوجيا الاشتراكية، غير ما كان عاماً وشائعا عنها. إضافة لتحاشي الفكر السياسي المغربي التقدمي الخوض في الأسس الفلسفية للاشتراكية مكتفيا منها بالمنهج الاقتصادي مراساً وحيداً له. ولا نجد بالأحرى متابعة لها بعد الزلازل التي عرفها العالم، وفي ضوء التطورات الكيفية الحاصلة في ميادين المعرفة المختلفة. كل شيء يجري في الميدان الفكري والثقافي لدينا، وكأن الاشتراكية لم يعد لها وجود نظري، ولم تعد أفقاً تاريخيا للإنسانية جمعاء، سوى التصريح بها إسما والانتماء إليها رمزاً. ما نود استخلاصه في النهاية، أننا بحاجة إلى إرجاع الاعتبار للايديولوجيا في حياتنا الحزبية، وإلى إغناء وتجديد تفكيرنا الاشتراكي، والانكباب على عملية تثقيف واسعة ودائمة لأطرنا وقواعدنا الحزبية. وهذا لن يتأتى على أحسن وجه إلا من خلال القيام بمراجعة جماعية فكرية للتراث الاشتراكي بكل تفرعاته، قديمه وجديده. ومن خلال إعادة ربط الصلة العضوية بين الحداثة وبين المشروع الاشتراكي، وكذلك بإيجاد صلات الوصل بين الايديولوجيا الاشتراكية وثراتنا الحضاري التقدمي. إن هذا المجهود النظري-التثقيفي الذي نطمح له لا يمكن أن يجد البيئة المناسبة لإنجازه سوى إذا استطعنا أن نشرك المثقفين، ونسترجع معهم أدوارهم وحضورهم الفاعل في الحياة السياسية عامة، وفي المشروع المجتمعي الاشتراكي بوجه خاص. 5 - البرنامج المجتمعي النهضوي: تعتبر هذه القضية من أهم المراجعات التي نصبو إليها. ذلك أن من أسباب التراجع في التعاطف الشعبي مع حكومات الانتقال الديمقراطي، غياب مثل هذا البرنامج لدى الأحزاب الديمقراطية والاشتراكية، وبالتالي، انسحابها الشبه كلي من الميدان المجتمعي، و استغراقها في انتظارية ذيلية للعمل الحكومي. إن المشاركة في حكومة التوافق، وفي ما بعدها، وفي تلك الشروط المؤسساتية والدستورية، وتحالفاتها الحزبية العريضة، وبالتجاوزات التي صاحبتها، وفي أجواء شعبية غير مبالية وقلقة... كل ذلك كان يستوجب على القوى الديمقراطية، وعلى الاتحاد الاشتراكي أساساً، أن يحافظ على استقلاليته النسبية تجاه جماهيره وقواعده، بل كان هذا الارتباط فريضة مطلقة فوق أي تضامن حكومي وفي كافة الظروف والأحوال. والواقع نفسه يبين، أن بين التضامن الحكومي وبين العمل الجماهيري مسافة، غير متناقضة، وشاسعة، لا يمكن للعمل الحكومي كيفما كان نمطه، أن يحتاجها لوحده. وأن أشكال العمل الجماهيري وأساليبه متنوعة بحسب كل ظرف سياسي. لكن الحقيقة أننا كنا أمام جمود تنظيمي حزبي شبه مطلق، مبعثه هو الآخر، أن القوى الاشتراكية دخلت المشاركة الحكومية بلا تحليل معمق لاستراتيجية الانتقال الديمقراطي، ودون تثقيف مسبق لقواعدها وأطرها بما كان ينتظرها من احتمالات وتحديات وما كان الظرف يستدعي منها من استعدادات تكتيكية ومؤهلات جماهيرية حماية للتجربة ودعما لها وتقليلا للخسائر الواردة. إن غياب البرنامج المجتمعي، تحليلا وممارسة، كان من أبرز علائم هذا الجمود. بل قل، كان قصوراً واضحا في الوعي الاستراتيجي وفي الممارسة النضالية. ولهذا، يصعب علينا أن نستسيغ تعليق كل المعضلة السياسية في ما آلت إليه الأوضاع الجماهيرية والحزبية، إما على المشاركة الحكومية، وإما على طبيعة الدستور الجاري به العمل. بل لا نرى في هذا السلوك الاختزالي سوى شكل من أشكال «الهروب إلى الأمام» للتغطية على مواطن العجز الذاتي العميقة. نعم...، لقد كانت هناك دائما برامج قطاعية أو مناطقية، لكن هذه البرامج على تجزيئيتها وتشتتها وتضارب أولوياتها، وتموضعها على هامش الخط السياسي المرحلي، وفي بيئة تنظيمية سائبة، وفي غياب المتابعة والتثقيف الجماعي بها، لم ترق في الممارسة العملية، قط، إلى مركز الاهتمام اليومي للقيادة أو للقاعدة. ولم تصل قط إلى مستوى المحاسبة والمتابعة الحثيثة والمبدعة. إنها بكل بساطة أوراق موضوعة على الرف. إن البرنامج المجتمعي الذي نعنيه هو العصب الحي لعمل كل الهيئات القيادية والقاعدية. وهو نهج تعبوي، تنظيمي وسياسي وايديولوجي، متماسك ومتكامل الأهداف. ينطلق من التحليل الموضوعي للتحولات الاجتماعية في كل مرحلة، ومن مطالب وأهداف وأساليب عمل مع كل فئة أو مكون من المكونات المجتمعية. ويجيب على الأسئلة المستقطبة التي طرحتها الممارسة المجتمعية على الحزب في كل مرحلة ولدى كل فئة. ولأن التراجع في الحياة السياسية العامة هو طابع المرحلة، فإن الهدف المركزي الذي وضعناه للبرنامج المجتمعي المرحلي، نتوخى منه استنهاض القوى الشعبية وإعادة ارتباط القوى الاشتراكية بها. وهذا ما جعلنا نسميه ب«البرنامج المجتمعي النهضوي». وسنعطي الأولوية لهذا الموضوع الحاسم بتفاصيله في ورقة خاصة قادمة.