حصلت «الاتحاد الاشتراكي» على الوثيقة التي حررها المناضل محمد حبيب الطالب، عضو المكتب السياسي السابق لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، ويتحدث فيها عن التنمية وهشاشة المجتمع السياسي والتحالفات والآفاق الممكنة والمشروع المجتمعي. ونحن إذ ننشرها، فذلك تعميما للفائدة.. أوشكت المرحلة الجارية في «الانتقال الديمقراطي» على الأفول، وأضحت سيماتها العامة، الإيجابية والسلبية، على قدر من الوضوح والاستقرار. وبات من الضروري، استعداداً للمرحلة القادمة، القيام بمراجعة نقدية شاملة لما تمَّ إنجازه، ولما قصرت عليه، استخلاصا لما يمكن استخلاصه للمستقبل. ليس أهداف هذه الورقة الاستجابة الموسعة والمتكاملة لهذا التطلع. وإنما الغاية منها، فتح أبواب هذه المناقشة الجماعية، والبدء فيها، والانخراط الجماعي في كل قضاياها المذكورة، والمتروكة. ولذلك، سنقتصر على الأسئلة التالية: - ماهي العوائق الأساسية التي طبعت هذه المرحلة؟ - وماهي أسبابها وتحليلاتها؟ - وماهي الآفاق الممكنة القادمة؟ ربما تجمع هذه الأسئلة الكبرى كافة القضايا المتداولة في الجدل السياسي الجاري. ومع ذلك، فالورقة الحالية لن تستطيع الإحاطة بها جميعا، ولا الاستفاضة في كل محتوياتها وجوانبها المختلفة. وإنما سنكتفي بالإشارات المقتضبة لما نعتبره أساسيا فيها، آملين أن نعيد طرح الموضوع، بعد المناقشة الجماعية، في مشروع آخر أكثر شمولا وتفصيلا وعمقاً. أولا: العوائق الأساسية: بداهة، إن سؤال العوائق، يتضمن في البدء أسئلة أخرى سابقة عليه ومؤسسة له. ومنها على وجه الخصوص: هل كان اختيارنا لما أسميناه ب«مرحلة الانتقال الديمقراطي» وب«منهجية التوافق الوطني»، وما ترتب عنهما من تصويت إيجابي لصالح دستور 96، ثم مشاركة القوى الديمقراطية في حكومة التناوب التوافقي وبعدها المشاركة في الحكومتين التاليتين... هل كان هذا الخيار صائبا وضروريا؟ بدون العودة إلى أدبياتنا، وأدبيات القوى الديمقراطية التي تموقعت في هذا الاختيار، والتي عللت وشرحت معانيه وظروفه وملابساته، فإننا مازلنا على قناعة تامة بصوابية هذا الاختيار بمفاهيمه المؤطرة وبالخطوات المترتبة عنه. وذلك في ضوء الحيثيات التالية: * إن تصورنا للانتقال الديمقراطي، كان ولايزال، تصوراً تاريخيا وجدليا. تاريخيا، من حيث أنه لا يقتصر على مطلب نزاهة الانتخابات، ولا على تناوب حكومي منقوص السيادة، إن صح التعبير. ولا على نمو لا يغير في الهياكل الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية، ولا يؤسس لفوز الديمقراطية واستقرارها. إن تصورنا، كان ولايزال يبتغي الوصول إلى مؤسسات منتخبة نزيهة وذات مصداقية، وحكومة قوية وذات سيادة سياسية، ونمو يضمن الديمقراطية الاجتماعية والحداثة الثقافية. وهي كلها مهام لازالت في جلها أمامنا لا وراءنا. وجدليا، من حيث أن الانتقال الديمقراطي هو سيرورة مركبة ومتناقضة لا تنمو مركباتها على وتيرة واحدة، فمنها ما يتقدم، ومنها ما قد يسير ببطء أو يتراجع، كل بحسب موازين قوى المجتمع كافة، وفي هذا المجال أو ذاك. ثانيا - إن منهجية التوافق مع المؤسسة الملكية بوجه خاص، هي المنهجية الأمثل لإنجاز مهام الانتقال الديمقراطي في أفضل الشروط. فلقد دلت التجربة التاريخية على الصراع بين قوى التقدم والمؤسسة الملكية، في ظل شروط مجتمع متأخر، لم يقض إلا إلى المآزق الدائمة لكل الوطن. فالحاجة كانت ومازالت ماسة وقوية لما يمكن أن تضطلع به المؤسسة الملكية ( الدولة) من أدوار ريادية في سيرورة التقدم المجتمعي. هذا على صعيد الاختيار الاستراتيجي العام. أما على الصعيد العملي، فيمكن القول وبدون مبالغة، أن المغرب قد شهد خلال هذه المرحلة حركية إصلاحية شاملة، غير مسبوقة في الماضي، لم تستثن قطاعاً، ولا تركت قضية، لم تطلها يد الاصلاح، بهذا القدر أو ذاك. إن المغرب اليوم، هو بلا جدال، غير مغرب الماضي الراكد في أكثر من جانب والمأزوم سياسيا على الدوام. وخاصة إن استدرك مكامن العطب التي تعيق انتقاله الديمقراطي الجاري. وبدون أن نثقل هذه الورقة بما كتب مراراً عن منجزات هذه المرحلة في وثائق حزبية وفي دراسات ومقالات مختلفة، فإننا سننتقل فوراً إلى العائقين الرئيسين التاليين: * هشاشة التنمية البشرية * وهشاشة المجتمع السياسي. أ- التنمية البشرية نلفت النظر، إلى أننا نأخذ «التنمية البشرية» هنا بمنظور أوسع وأشمل من المؤشرات الرقمية التي تستعملها المؤسسات الدولية في هذا الشأن. فنحن ننظر من خلالها إلى كل النشاط الذي تقوم به الدولة في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وهي في نفس الآن البوصلة التي نسترشد بها في وضع برنامجنا الإصلاحي المتميز والمستقل، إنسجاما في ذلك مع هويتنا الاشتراكية. وهكذا، لقد كان على حكومة التوافق في أولى خطواتها أن تخطط الوقف التدهور الذي وجدت عليه الاقتصاد الوطني، وأن تضبط في هذا الاتجاه التوازنات الماكرو-اقتصادية، وأن تقلص المديونية الخارجية التي أنهكت مستحقاتها موارد الدولة، وأن تنقذ العديد من المؤسسات العمومية من حافة الإفلاس، وأن تقرر في البيئة التشريعية المناسبة لتشجيع الاستثمار. وتضع في أولوياتها تحقيق نمو اقتصادي أدنى يستجيب لمتطلبات سوق الشغل... كل هذه الإجراءات وغيرها أنجزت فيها حكومات الإصلاح المتتالية خطوات هامة، في الوقت الذي لم تهمل فيه التطرق المباشر للخصاصيات الاجتماعية سواء بتحسين الأجور لبعض الفئات الاجتماعية، أو بتحسين مداخيلها بطرق غير مباشرة، وسواء بوضع مشاريع تحفيزية للتشغيل. وبرفع ميزانيات القطاعات الاجتماعية، وبالاهتمام بالتعليم ومحاربة الأمية، وبإقرار مشروع التغطية الصحية الإلزامية وتقديم المساعدات الطبية لعديمي الدخل.. وأخيرا وليس آخراً، بالشروع في إنجاز مخطط إرادي موازي الذي حمل إسم مشروع «التنمية البشرية» والذي استهدف المناطق الأشد فقراً... وبالرغم من كل الجهود، وبالرغم من أن التنمية البشرية أضحت هاجسا حاضراً لدى حكومات الاصلاح خلال هذا العقد الأخير، إلا أن المردودية العامة لازالت هشة وضعيفة، بحيث يتعذر علينا القول: أن الفروقات الاجتماعية قد أحدث فيها تحول ما يقلص تفاقمها، إن لم يكن العكس هو الصحيح. ومع كل التشديد على ضخامة الخصاصات الاجتماعية التي تراكمت مضاعفاتها خلال الخمسين سنة الماضية، أمام هزالة الموارد وضعف الاقتصاد الوطني المنتج، ومع وعينا بمواطن الضعف وقصور المعالجات خاصة في ميدان التنمية السياسية (حالة التراجع الواقعة في الحياة السياسية عامة)، وفي ميدان التنمية الثقافية (غموض السياسة اللغوية على سبيل المثال)، وفي استمرار اقتصاد الريع وتضخم آفات الرشوة والفساد بكل أشكاله في كل بنيان المجتمع... فإن الذي يهمنا في هذه العجالة التأكيد على الاستخلاص التالي: لقد شكلت هشاشة «التنمية البشرية» العائق الأكيد في تعثر الانتقال الديمقراطي وبُطئه. ولأن التنمية البشرية تحتاج لأمد طويل بسبب عمق الاختلالات البنيوية الموروثة، فإن هذا الواقع يمد «القوى اليمينية والتقليدية بهامش واسع للمناورة الديماغوجية، ويمنحها إمكانيات اجتماعية كبرى لتجديد هيمنتها وعلاقاتها التقليدية. ب - هشاشة «المجتمع السياسي» بقراءة لتاريخ الصراع السياسي في بلدنا منذ أواسط الستينات، يمكن الوقوف على الظاهرة التالية: لقد اتجه التطور الشعبي - الجماهيري للقوى التقدمية في منحنى انحداري انكماشي، رغم أنها استمرت على الدوام ضمير الأمة الحي، ورغم كل التضحيات الكبرى التي قدمتها، ورغم أنها صاحبة الفضل في كل التقدم الديمقراطي الذي تحقق. لقد تفاقمت هذه الظاهرة، والتي توالت مقدماتها كما أسلفنا، في المرحلة التي تحملت فيها المسؤولية الحكومية، بينما كان الرهان عكس ذلك، يصبو إلى استعادة الحركة الجماهيرية لنهوضها وزخمها دعما للاصلاح وطموحا نحو الأفضل. إذن نحن أمام نفس السؤال الإشكالي، سواء عندما كانت القوى التقدمية في المعارضة أو عندما شاركت في الحكومة. والسؤال كان ولايزال هو التالي: لماذا يعجز المجتمع المغربي عن تحقيق قفزته الديمقراطية طيلة خمسين سنة ونيف؟ ورغم أنه تميز بوجود قوة سياسية ديمقراطية، تمتعت بحضور فاعل في الحياة السياسية مقارنة له (أي المغرب) مع تجارب أخرى معاقة؟ عند طرح المسألة على هذا المستوى، لابد من النظر إلى الأسباب الموضوعية كأساس، قبل النظر إلى الأسباب الذاتية الخاصة بالقوى الديمقراطية نفسها. ومع ذلك، فليس من الصحيح إعطاء جواب وحيد ومطلق عن كل التطور التاريخي للمجتمع المغربي، إذ لابد أن لكل مرحلة إشكالها الخاص الذي ميز انتظام تفاعل تناقضاتها الموضوعية والذاتية مجتمعة، حتى ولو كان من بينها ما يكتسي قدراً من الثبات والاستمرارية، كاستمرار الموروث الثقافي التقليدي كعائق في كل المراحل. ولذلك سنكتفي هنا بذكر العوامل التي تفاعلت في ما بينها لإعادة إنتاج ظاهرة القصور المجتمعي الحاصل اليوم: 1 - طبيعة التصور الاجتماعي-الديمغرافي المشوه الذي أنتج جملة من الظواهر السكانية والعمرانية والثقافية. من أبرزها، نمو مدن كبرى «مريفة»، واستولاء متزايد لفائض سكاني مهمش أو خارج حلبة الانتاج. 2 - تموقع المرحلة الجارية في سياق عولمة متوحشة وذات قطب واحد، قلبت موازين العلاقات الاجتماعية وأدوار الدولة واختيارات الاقتصاد الوطني في مجتمع متأخر لم يكن مؤهلا للانخراط فيها من موقع فاعل ومنتج ومستقل. 3 - انشطار المجتمع المغربي عموديا بين ثقافتين، إحداهما ترتكز على موروث ثقافي ديني وسياسي تقليدي، يطيل العمر الافتراضي للبنيات التقليدية ويعيق الاندماج في العصر. والثانية، ترتكز على ثقافة حديثة معولمة ومقولبة على نمط المجتمع الاستهلاكي الفردوي، يزيد في تفكيك وانحلال القوى الاجتماعية الحديثة والضعيفة أصلا. 4 - انتشار منظومة قيم جديدة، تنبني على إندماج بين القيم الفرداوية النفعية الاستهلاكية الوافدة وبين القيم المخزنية التقليدية المبنية هي الأخرى على الاستهلاك البدخي والانتفاع الشخصي، والخلاص الفردوي بكل الوسائل غير القانونية. ولذلك، انحط الضمير الحي الجمعي، وصار الفساد الذي يضرب بأطنابه في المجتمع المغربي آفة كل تقدم ممكن. هذه بعض العوامل في عناوينها العريضة التي تفسر هشاشة المجتمع السياسي، ودون أن ننسى سياسة القمع الممنهج والإفساد السياسي الذي مارستها الدولة خلال عقود متتالية. وليس عسيراً أن نفطن إلى كيف أن القوى الديمقراطية واجهت في هذه المرحلة تحولات مجتمعية لم تكن مهيأة لاستقبالها، ومنها على وجه الخصوص، تلك التحولات الثقافية القيمية، والتي لم تكن مسلحة ايديولوجيا لخوض معاركها. ولا يغير من هذا الواقع المجتمعي الهش ما نراه من تضخم لهيئات المجتمع المدني، فعدا الاختزال الإفقاري لمفهوم المجتمع المدني كما هو في المصطلح المعمول به اليوم، فإن المفارقة التالية، بين تضخم الهيئات المدنية غير الحكومية، وبين التراجع الواضح في الاهتمام بالشأن العام، يُبين في النهاية أن هذا الذي قبل فيه «المجتمع المدني» لم يرق بعد إلى أن يكون كذلك! ثانيا: الآفاق الممكنة: سنغالط أنفسنا إن نحن اعتبرنا أن تذليل كل حمولات العائقين السابقين من مهام القوى الديمقراطية لوحدها. ذلك أن الدولة - السلطة في مجتمع متأخر وفي راهن سياسي هش، تلعب أدواراً مضاعفة لما قامت به في المجتمعات التي كانت بنيويا مفتوحة على التقدم «المنسجم» و«المنتظم». وهي بهذا المعنى إما تسرعه أو تؤخره أو تطيل تعقيداته واستعصاءاته. ووفق هذه الحقيقة التاريخية، فإن التوافق مع المؤسسة الملكية خيار لا بديل عنه، شريطة ألا يفهم من ذلك ممارسة انتظارية ذيلية، تلقي أو تحجم في الواقع العملي مسؤولية وأدوار القوى الديمقراطية واستقلاليتها في التعبير عن مصالح القوى الاجتماعية التي تمثلها، فضلا عن المصلحة الوطنية العليا. وبالرغم من العوائق المجتمعية القائمة، فلا أحد يستطيع أن يتكهن مسبقا بالتفاعلات التي من شأنها أن تستنهض الحركة الجماهيرية وتخرجها من عزوفها الراهن. ولا خيار للقوى الديمقراطية في هذا الوضع المحجوز سوى خيار الممارسة الجماهيرية، فهي وحدها الكفيلة بالخروج من المأزق الحالي. وتبرز الحاجة الاستراتيجية لدور المؤسسة الملكية بوجه خاص في القضيتين التاليتين: تسريع وتيرة الإصلاح السياسي-الدستوري من جهة، والإصلاح الديني واللغوي من جهة ثانية، لما لهذين القضيتين من ارتباط عضوي بالهوية الوطنية وبالبعد الحضاري وكل قضايا التنمية المستدامة. ولما للمؤسسة الملكية من مخزون تاريخي وشعبي يؤهلها في أن تضطلع بدور حاسم فيهما. ولأننا سنفرد ورقة خاصة بالإصلاح الديني واللغوي، فإننا سنتطرق هنا للإصلاح السياسي-الدستوري في جانب أساسي منه، ثم سننتقل على التوالي لطرح مجموعة من القضايا التي تخص إعادة تأهيل القوى اليسارية. 1 - الإصلاح السياسي/الدستوري من الخطأ الجسيم أن نعتبر تدني نسبة المشاركة في العمليات الانتخابية، أو ظاهرة العزوف السياسي عامة، مجرد حالة عادية كالتي تقع بين حين وآخر في البلدان المتقدمة. ذلك لأن السياق التاريخي ليس هو نفس السياق. فنحن مازلنا في مرحلة الانتقال الديمقراطي الجامع في آن واحد وبشكل مكثف ومتداخل بين مهام النهضة والتحرر الثقافي، والحداثة وبناء دولة الحق والقانون في مجتمع ديمقراطي، والمعاصرة المرتكزة على مجتمع المعرفة والتكنولوجيا الرفيعة. وهي مهام تعاقبت وقضت فيها الأمم الأخرى المتقدمة مراحل تاريخية مديدة. والأدهى من ذلك، فالعزوف السياسي وعدم المشاركة واللامبالاة يفسح المجال لدينا، في واقع التأخر المجتمعي، للوبيات المصالح الشخصية ليعيثوا فساداً في المؤسسات المنتخبة وفي المصالح العامة التي يؤتمنون عليها، مما يفقد المؤسسات والدولة معا مصداقيتهما. وبدل أن تكون الانتخابات والمؤسسات وسيلة للارتقاء الديمقراطي، تغدو آلية من آليات تعطيله. وهذا فرق جوهري ميداني بين الحالتين عندنا ولدى الآخرين. وبدون العودة إلى المجهودات التي بذلت في هذه المرحلة الانتقالية في الميدان السياسي عامة، كالمفهوم الجديد للسلطة الذي استهدف إعطاء الأولوية للتنمية لدى السلطات المحلية بدل الأولوية الأمنية القهرية. وقانون الأحزاب الذي أرسى قواعد تعامل قانونية واضحة بينها و بين الدولة، كما وضع علاقاتها الحزبية الداخلية على محك الشفافية، وتقنين إشراك المرأة في المؤسسات المنتخبة وغيرها من الإصلاحات الأخرى كضمان قدر هام ومتقدم في نزاهة الانتخابات والحريات العامة على غير العهود السابقة، فإن من عوامل تزمين تقهقر الحياة السياسية وتفشي ظاهرة العزوف السياسي، السقف الدستوري الواطي الذي لا يفسح المجال لمباراة برنامجية حزبية كاملة في تسيير شؤون الدولة. إن الوضع الدستوري الذي عليه الحكومة من حيث صلاحياتُها ومسؤولياتها على الجهاز الإداري وعلى العديد من المؤسسات، مبتور في النص والعمل. نحن إذن بجاحة ماسة إلى دستور جديد، يأخذ العبرة من التجربة الدستورية الحالية، ويستهدف الرقي بالتوافق الجاري إلى وضع مؤسسي ديمقراطي أكثر نجاعة وعصرنة. ويأتي في مقدمة هذه التغييرات المطلوبة، منح الحكومة كهيئة دستورية مستقلة كامل صلاحياتها في أن تحدد «السياسة العامة للدولة وتديرها» كما ورد في مذكرة الكتلة لسنة 1996 . وكذلك، بمنح مجلس الحكومة حق اقتراح التعيين في الوظائف المدنية السامية، وحق إعفاء الوزراء من طرف الوزير الأول. إن الإشكالية الدستورية بوجه عام، أننا مازلنا بحاجة إلى دور دستوري قوي للمؤسسة الملكية، ولكننا أيضا بحاجة لدور دستوري قوي لحكومة ذات شخصية سياسية مستقلة ومتضامنة، ويمكن محاسبتها، شعبيا ومؤسساتيا، على أفعالها الحقيقية لا المجازية. ونعتقد أن هذه الإشكالية قابلة للحل دستوريا وسياسيا وعمليا. إن الطرح الدستوري الذي نقدمه لا يتقيد بموازين القوى التقليدية، كما جرت العادة في الماضي، ولكنه يتطلع إلى حساب المصلحة الوطنية العليا، والتي أمست في حاجة إلى توافق جديد يخرج البلاد من مآزقها السياسية المتجددة، والتي تعوق انتقاله الديمقراطي، وسترتد وبالا في المدى المتوسط أو البعيد على الأحزاب والنظام والمجتمع جميعاً. نعم للجهوية المتقدمة، ونعم للاتمركز، ونعم للمفهوم الجديد للسلطة... لكن، لا هذه ولا تلك يمكنها أن تثمر أغراضها، وأن تنقذ مصداقية المؤسسات والدولة والأحزاب، إلا في ظل دستور جديد يحقق طفرة حقيقية في حياتنا السياسية. 2 - المعارضة أو المشاركة: هل من الجائز مناقشة هذا الموضوع قبل أوانه؟ قد يكون في ذلك بعض الفائدة. ولكن في غير «كل الضرورة» وبالتالي كل الفائدة. ذلك أن الوقت الضروري لمناقشة هذا الموضوع، سيكون حتما حين انتهاء الانتخابات التشريعية القادمة، وحين إفصاحها عن توزيع القوى الانتخابي وعن الوضع السياسي والدستوري المصاحب لها. أما قبل هذا الأوان، فإن الدعوة للانسحاب الفوري من الحكومة القائمة، مضرة سياسيا وتشويشية عمليا. لأن لا قضية ساخنة حدث فيها خلاف حكومي يهم الرأي العام، ولأن بعض الإصلاحات الحساسة لديه بالكاد وضعت على الطاولة، ومنها إصلاح القضاء ومواجهة تداعيات الأزمة العالمية على الاقتصاد الوطني والحوار الاجتماعي.. وقضايا أخرى ذات شأن وطني كبير ومن بينها البرنامج الاستعجالي في ميدان التعليم. ولذلك، فالنتيجة الوحيدة المترتبة عن هذا الموقف المتسرع والفاقد للجاذبية لدى الرأي العام، والمشبوه في مصداقيته، لأنه سيبدو وكأنه هروب من المسؤولية في مناورة انتخابوية لا أكثر ولا أقل، إحداث خصومة قد تصل إلى قطيعة مع الحلفاء، وبث أجواء سياسية مسمومة لا تتلاءم مع الرغبة في إحداث توافق دستوري متقدم. ومع ذلك هناك «بعض الفائدة» في هذه المناقشة من جانب أنها فرصة للتأكيد على رؤيتنا في المبدئين التاليين: أولا: أننا سنكون بالضرورة مع المشاركة في أية حكومة قادمة شرط أن تكون منسجمة ومتضامنة وذات برنامج سياسي واضح، ولها صلاحيات فعلية لتنفيذه، وتعكس ميزان قوى انتخابي حقيقي لصالح قوى التقدم. ثانيا: وفي الوضعين، المعارضة أو المشاركة، إن فرضت الضرورة السياسية أيا منهما، فإن مركز الثقل في العمل الحزبي اليساري ينبغي أن يتوجه إلى إصلاح الأوضاع الذاتية جذريا، وبما يستهدف استنهاض المشاركة الشعبية وإعادة الارتباط بها. لكي لا تتكرر مآسي كل التجارب الحكومية السالفة... بل والتجارب النضالية السابقة عامة. 3 - وحدة اليسار الاشتراكي والتحالفات: ما من فصيل يساري إلا ويدعو إلى وحدة اليسار الاشتراكي. لكن حقيقة الممارسة الفعلية، أنها جميعا متشبثة وحريصة على كياناتها المستقلة بشتى الذرائع والتبريرات: إما لخصوصية تاريخية مازالت تعتقد في جذواها. وإما لخلافات سياسية لبعضها مع ما سمته «اليسار الحكومي». وإما لحكم مسبق على فشل أية وحدة اندماجية، وعلى خلفية أن التعددية اليسارية في حد ذاتها واقعا تاريخيا إيجابيا وضروريا. وعلى النقيض من هذه الذرائع والتبريرات، وبدون الدخول في تفاصيل تقييماتنا عن كل فصيل، فإننا ندعو لتصور وحدوي جذري وفوري، يفضي إلى الوحدة الاندماجية في حزب اشتراكي واحد وموحد... وبناء على الحيثيات التالية: أولا: إن انتقال مركز الثقل في الصراع السياسي إلى المؤسسيات المنتخبة، يعري في هذا المجرى الموضوعي للتطور الديمقراطي، ويكشف، عن أزمة الوجود والمصير التي تعاني منها وتتخبط فيها معظم الفصائل اليسارية. فلا واحدة منها تستطيع مغالبة مستحقاته الجماهيرية، ولا الوقوف أمام تحدياته وأمام ترسانة اليمين ونفوذه. صحيح، أن المؤسسات المنتخبة لا تحظى بعد بثقة الجماهير الشعبية العريضة، لكن ذلك لا ينفي عنها أنها باتت هي مركز الصراع السياسي والتنافس الجماهيري الحزبي. ثانيا: ليس لأي من الفصائل اليسارية الجديدة كيانية تاريخية صلبة قد تعيق سهولة اندماجها في حزب اشتراكي موحد. فعدا أن بعضها لم تكن دوافعه في الوجود خلافات سياسية أو ايديولوجية واضحة، وعدا أن أغلبيتها من أصول اتحادية، فإن حزب التقدم والاشتراكية يبقى هو الاستثناء الوحيد بعتاقته والذي لايزال له «بعض الموروث التاريخي» في هذا الشأن. ومع ذلك، فالأوضاع التاريخية لكيانه المستقل قد تغيرت في الملموس وفي القناعة. وكذلك الجيل الواسع لمنتسبية قد تغير. ولنا في ترشيحاته وممثليه في المؤسسات المنتخبة ما يغنينا عن التفاصيل. ثالثا: ليس المهم الخلافات السياسية في حد ذاتها، بل الأكثر أهمية أن يكون لهذه الخلافات قوة شعبية تستقبلها وتتبنى شعاراتها واختياراتها. أما حينما يكون المجتمع يعاني من تأخر وإعاقة مديدة في انتقاله الديمقراطي، فإن التعددية اليسارية تكون مضرة وهدر الطاقات اليسار، بل هي دليل مرض في المجتمع وفيه. وفي هذه الحال، فإن الوحدة الاندماجية، والعمل على كسب الأغلبية داخل الحزب الموحَّد، سيكون هو الطريق الأمثل لاستنهاض الحركة الجماهيرية ولكسب الأغلبية الشعبية مستقبلا. رابعا: ثمة إمكانية فعلية لوضع أرضية سياسية وايدلوجية وتنظيمية موحَّدة في قواسم مشتركة، تقبل بها أغلب فصائل اليسار في حالة القيام بمراجعة نقدية شاملة وجماعية وناظرة للمستقبل بكل تعقيداته وتحدياته. أرضية قادرة على تجاوز العديد من الخلافات الراهنة، وعلى مد اليسار بقوة جماهيرية أوسع وأداة حزبية أكثر فعالية ومتانة سياسية.