من حسن حظ الحركة الإسلامية المغربية أنها لم تعان كثيرا على مستوى تبني مقولة التحالف السياسي، فقد كان الجانب التأصيلي لهذه القضية جزءا من بنائها الفكري منذ فترة ليست بالقصيرة، وظل كتاب التحالف السياسي وكذا تجارب الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي على هذا المستوى تشكل جزءا من قناعتها في الموضوع، لكنها كغيرها من الحركات الإسلامية كانت تطرح موضوع التحالف المرجعي على رأس الأولويات. وكان طبيعيا أن يركز حزب العدالة والتنمية في بداياته الأولى على مفهوم التحالف المرجعي الذي يجعل من التقارب على مستوى المرجعية الفكرية والسياسية أساسا لأي تعامل أو تنسيق مع مكونات المشهد السياسي، وهكذا كان حزب الاستقلال هو الحزب الذي لا يتصور تحالف مع غيره بحكم التوافق على هذا المستوى، فحزب الاستقلال يقوم على مرجعية إسلامية وعلى تراث سلفي، وهو حزب علال الفاسي الذي تعتبر كتاباته خاصة منها النقد الذاتي و مقاصد الشريعة ومكارمها و دفاعا عن الشريعة الأسس الفكرية والمرجعية ليس فقط لحزب الاستقلال وإنما للحركة الإسلامية أيضا، فلمدة طويلة، كانت التعبيرات الإعلامية للحركة الإسلامية المشاركة سياسيا الإصلاح سابقا، و الراية و التجديد تعتبر علال الفاسي المنظر الحقيقي للحركة الإسلامية في المغرب وخلفيتها الفكرية والسياسية، وكانت أول ما فكرت فيه الحركة الإسلامية ذات النفس المشارك وهي تؤصل لرؤيتها للمشاركة السياسية منذ سنة 1987 أن طرحت فكرة التحالف مع حزب الاستقلال، وكانت أول الخطوات التي قامت بها الحركة في تنزيل رؤيتها لورقة المشاركة السياسية التي أنتجتها سنة 1990 بعد إجهاض محاولة تأسيس حزب التجديد الوطني أن بادرت لفتح حوار مع حزب الاستقلال، لكن يبدو أن إطار العمل الذي اقترح عليها من قبل قيادة حزب الاستقلال لم يكن مناسبا لحجم الحركة ولا متوافقا لتطلعاتها، فقد اقترح قادة الاستقلال على قيادة الحركة وقتها أن يلتحقوا كأفراد بالحزب، وهو ما نظر إليه من قبل قيادة الحركة على أساس أنه استهانة بالحركة ومقدراتها وطاقاتها الفكرية والسياسية. حزب العدالة والتنمية من التحالف المرجعي إلى التحالف السياسي فتحت الحركة باب الحوار مع أكثر من جهة ، فمن جهة فتحت باب التواصل مع حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة عبد الله إبراهيم، لكن هذه الحوارات لم يكن من ورائها طائل، ومن جهة أخرى انعطفت إلى حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية وتوافقت معه على إطار للعمل يحترم ثوابت البلد الدستورية ويتجنب العنف كمسلكية للعمل السياسي، وبدأ مشوار بناء الهياكل التنظيمية للحزب والاختيارات المذهبية والمرجعية التي ترجمتها ورقة الاختيارات والتوجهات، وتوارى موضوع التحالف السياسي لفترة من الزمن، وظل الثابت الوحيد في خطاب الحزب لفترتين انتخابيتين 1997، و2002، الهوية والتخليق، ولم يكن يتصور أي تحالف خارج الإطار المرجعي بما في ذلك المشاركة في الحكومة، فقد عرض على الحزب سنة 1998 أن يشارك في حكومة التناوب التي كان يقودها حزب الاتحاد الاشتراكي برئاسة الوزير الأول الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي، ورفض الحزب المشاركة فيها بناء على الشرط المرجعي، وكان من بين شعارات الدكتور سعد الدين العثماني وقتها لا نشارك في حكومة على رأسها الاتحاد الاشتراكي وقد ترجم هذا الشعار على مستوى الحراك الفكري والسياسي في شكل احتراب قوي بين الطرفين على العديد من الواجهات: واجهة التدافع المرجعي (الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ) والتدافع القيمي (الثقافي والفني: المهرجانات) وواجهة التدافع التدبيري (التحول من المساندة النقدية إلى المعارضة) وواجهة الصراع الوجودي (انخراط حزب الاتحاد الاشتراكي في أطروحة الاستئصال مع أحداث 16 ماي) وهكذا نشبت بين الحزبين مساجلات إعلامية ساخنة عبرت بنحو من الأنحاء على وجود تيارين مجتمعيين يحملان مشروعين مجتمعيين مختلفين، ويحددان سقف الحراك الفكري والسياسي الموجود في البلد. لكن، بعد امتصاص تداعيات أحداث 16 ماي، دخل الحزب في عملية نقد ذاتي لأسلوبه في العمل السياسي لجهة التركيز على السياسات العمومية وتدبير الشأن العام من جانب، وجهة فك العزلة السياسية عنه من جهة ثانية، وكانت الانتقادات الموجهة لخطاب الحزب الهوياتي من خارج الحزب، والانتقادات الموجهة من داخل الحزب لأسلوبه في تدبير العلاقة مع مكونات المشهد السياسي، سببا دافعا إلى إعادة بناء أطروحة التحالف بناء على الأرضية السياسية التدبيرية، وكان من الطبيعي بعد أن وصلت تجربة الانتقال الديمقراطي إلى مداها أن يطرح موضوع التحالف مع الاتحاد الاشتراكي. جنينيات فكرة التحالف مع الاتحاد الاشتراكي كان أول من حرك موضوع التحالف بين العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي العضو السابق في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي محمد المريني، فقد صرح في استجواب نشرته التجديد أن التقدم الحقيقي في البلاد لا يمكن أن يتم من غير تحالف للقوى السياسة الثلاثة في البلاد: حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية، ولم يكن هذا التصريح ليمر دون أن يحدث ردود فعل إعلامية كبيرة إلى درجة أن جريدة محسوبة على جهات في الدولة اعتبرت هذا الحوار خارطة طريق لتحالف سياسي بين العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي، وأن قيادة الاتحاد الاشتراكي صرفت موقفها المستقبلي على لسان أحد أعضاء مكتبها السياسي، ولم تكن هذه الدعوة لتحظى بقبول قيادات الاتحاد الاشتراكي وقتها (محمد اليازغي) الذي أبدى انزعاجه من هذه الخرجة الإعلامية وغطى عليها بتصريحات إعلامية صنفت العدالة والتنمية ضمن خانة الظلاميين، ورسمت إطار تحالف الاتحاد الاشتراكي في دائرتين اثنتين: الكتلة أولا، واليسار ثانيا، واعتبر رأي المريني محسوبا على وجهة نظر تيار المندمجين الذي كان بدأ يطرح على جريدة أنوال فكرة الحوار والتواصل مع الإسلاميين، وهكذا كان يتعامل مع تصريحات وتحليلات الأستاذ عبد الصمد بلكبير وغيره من رموز هذا التيار. أما من جهة الإسلاميين، فقد كان الأستاذ عبد الإله بن كيران في كثير من تصريحاته الإعلامية يرحب بفكرة التحالف مع حزب الاتحاد الاشتراكي، وكان يسايره في هذا الرأي العديد من قيادات حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم مصطفى الرميد وعبد العزيز رباح وغيرهم. الاتحاد الاشتراكي: الموقف من العدالة والتنمية من المفيد أن يتخذ هذا الموضوع كحيثية بحثية لدراسة ثوابت الموقف ومتغيراته، بل ولرصد المحددات التي تحكمت في صياغة الموقف. من الملفت أن نسجل بهذا الخصوص أن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي اقترح على العدالة والتنمية المشاركة في الحكومة لمرتين، كانت أولاهما سنة 1998، وكان موقف العدالة والتنمية وقتها هو الرفض لاعتبارات مرجعية وسياسية، وعلى الرغم من الاعتراض الذي سجله الأستاذ عبد الإله بن كيران على توجه الحزب بهذا الخصوص إلا أن الحزب في ذلك كان يجسد خياره الهوياتي المرجعي، وكان يترجم قناعاته المبدئية بخصوص التحالف السياسي. من حيث المبدأ، لم يكن للاتحاد الاشتراكي أي موقف من التحالف الحكومي، ولقد ظل هذا الموقف معمولا به داخل الاتحاد، وظلت نقاشات الاتحاديين تستحضر هذا الموقف، ولا تستبعد المشاركة في حكومة إلى جانب العدالة والتنمية، لكن ما لم يكن مقبولا داخل الاتحاد الاشتراكي هو فكرة التحالف السياسي مع العدالة والتنمية على قاعدة برنامج سياسي، بحكم الخلاف المرجعي والقيمي بين الحزبين. وظل محمد اليازغي يعبر عن هذه القناعة بكل وضوح، ولا يتردد في تصنيف حزب العدالة والتنمية في خانة الظلاميين إلى فترة ما بعد اليوسفي وحكومة إدريس جطو المحسوبة ضمن تجربة الانتقال الديمقراطي حسب تحليل محمد اليازغي. لكن مع انتخابات 2007، ومع التقييم السياسي الذي انتهى إليه الاتحاديون لحصيلة تجربة الانتقال الديمقراطي، ومع خروج الوافد الجديد إلى العمل السياسي (حزب الهمة)، ومع الصراع الذي عصف باليازغي وأطاح به من قيادة الحزب، أخذ موضوع الموقف من العدالة والتنمية يأخذ أبعادا أخرى خاصة لما دفع به عضو المكتب السياسي إدريس لشكر إلى مداه مطالبا بإعادة النظر في الاتحاد من العلاقة مع هذا الحزب، وداعيا إلى التنسيق معه في جملة من الموضوعات، بل وداعيا إلى جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية، ولم يكن هذا القيادي الاتحادي يزايد بهذا الشعار أو يستثمره في معركة سياسية، ولكنه كان مسنودا بتحليل سياسي عميق للمشهد السياسي وبمؤشرات من واقع الممارسة البرلمانية والسياسية تؤكد لقاء الحزبين في العديد من المواقف، ولم يتأخر رد العدالة والتنمية على هذا الموقف، إذ سرعان ما عبر الأستاذ عبد الإله بن كيران عن ترحيبه بفكرة الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية، واستعداده للانخراط فيها، وكان نشر تصريحه في جريدة الاتحاد الاشتراكي وفي الصفحة الأولى دليلا على بداية التغير في موقف العدالة والتنمية. كيف انتهى موقف الاتحاديين من العدالة والتنمية؟ لأول مرة يتم مناقشة الموقف من العدالة والتنمية داخل المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي بشكل مستفيض ومطول، ولأول مرة يناقش مؤتمر الاتحاديين في شوطه الثاني هذا الموضوع بشكل غير مسبوق،ولأول مرة يعبر كل قيادات الحزب عن موقفهم الحقيقي من هذا الحزب، ولأول مرة يظهر أن هناك تمايزا ملحوظا في تقييم أداء هذا الحزب وقدرته على الحراك السياسي وطبيعة العلاقة التي يمكن أن تربطه بالاتحاد الاشتراكي. ظل الرأي الذي كان اليازغي يعبر عنه حاضرا، لكنه لم يكن غالبا، فقد كان رأي إدريس لشكر أيضا حاضرا وبقوة، ولم هذان الرأيان هما اللذين يعبران عن حقيقة ما يتمخض داخل الاتحاد الاشتراكي من مواقف، فقد كان للأستاذ عبد الواحد الراضي رأيه الذي لا يختلف كثيرا عن موقف الدولة المغربية، فالرجل طرح فكرة القبول تخدم نضال الحزب من أجل الديمقراطية، أما لحبيب المالكي لكنه يعرف له لهذا الحزب والاعتراف به، ولم يستبعد أن يكون هذا الحزب مستقبلا إلى جانب الاتحاد الاشتراكي في حكومة واحدة، لكنه أعاد التأكيد على دوائر التحالف التي استقر عليها موقف الاتحاد في كل من الكتلة واليسار، أما الأستاذ فتح الله ولعلو فقد كان رأيه قريبا من رأي عبد الواحد الراضي بهذا الخصوص، وكان أميل إلى رفض الانخراط في خصومات ومشاحنات تضر بالحزبين معا، أما لحبيب المالكي فلا يعرف له موقف مستقر في الموضوع، لكن الثابت في مواقفه غير المستقرة هو رفض الانخراط في الاحتراب الثاني بين الحزبين، وتفضيل علاقة أن تكون العلاقات مع العدالة والتنمية سوية وخالية من خطابات التوتر والعزل والشحن المتبادل ، وقد لخص الأستاذ محمد الحبيب طالب في حوار مع التجديد خلاصة الموقف الذي انتهى إليه الاتحاد الاشتراكي بهذا الخصوص، وقال إن الموقف تغير لجهة يمكن أن تثمر تحالفا مرحليا إذا ما وقع التوافق في النظر إلى بعض القضايا مثل علاقة الدين بالدولة .