كلما حلت مناسبة للاحتفال بمعلمة المغرب الفكرية والسياسية إلا وخرجت كتابات تحاول إما أن تبرز جانبا من جوانب فكره، أو موقفا من المواقف التي عبر عنها في قضية من القضايا. ففيما يذهب الباحثون إلى نخل تراثه وتقليب النظر فيه، تحاول بعض الحركات والأحزاب السياسية أن تثبت بشكل من الأشكال انتسابها له، فيما تجنح حركات أخرى كَالت له الاتهام في الماضي إلى إبراز بعض مواقفه محاولة منها تصحيح الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها في حق الرجل. وتسعى حركات أخرى، تنطلق من نفس المعين الذي انطلق منه علال الفاسي، بعد غفلة طويلة عن تراثه وأدبياته، للتعبير عن رغبتها في التصالح معه. والواقع أن تراث علال الفاسي رحمه الله، وأفكاره وأدبياته هي فوق أن يتعامل معها بهذه الانتقائية أو الاعتذارية الفجة. فالرجل من خلال الكتب والآثار التي خلفها كان معلمة فكرية كبيرة ونادرة، من حيث الإحاطة والشمول، والمنهج والتناول، والقدرة على الاجتهاد، وكذا فهم طبيعة المجتمع المغربي، ومراعاة فقه المآل في تنزيل الاجتهادات والفهوم التي انتهى إليها. وسنحاول في هذا المقال، أن نرتكز على فرضيتين اثنتين نحاول من خلالها بحث علاقة الحركة الإسلامية بأدبيات الأستاذ علال الفاسي ومحاولة تقديم تفسير لتطورها، كما سنحاول دراسة مستقبل هذه العلاقة في ضوء المآل الذي انتهت إليه مراجعات الحركة الإسلامية، ومقارنتها بما كتبه علال الفاسي في الموضوع. أي أننا سنثير السؤالين التاليين: - لماذا لم تنطلق الحركة الإسلامية من فكر علال الفاسي، مع أن مقولاتها المركزية والجزئية تتفق جملة وتفصلا مع فكر علال الفاسي؟ - ما هي أوجه التوافق والاختلاف بين حصيلة المراجعات التي انتهت إليها الحركة الإسلامية المغربية وبين المقولات والمفاهيم والمفردات التي عبر عنها علال الفاسي في كل كتبه؟ - ثم نطرح بعد ذلك سؤال مستقبل هذه العلاقة، هلى هي مصالحة أم مناكفة، أم استصحاب للحال السابق؟ في الحاجة إلى نظرية للعمل في خاتمة كتابه الحركات الاستقلالية في المغرب العربي دعا علال الفاسي رجال الحركات الإصلاحية إلى أن يهتموا بتكوين النظرية ووضع البرنامج المفصل الذي يسهل عليهم تحقيق الإصلاحات العميقة التي تنشدها الأمة متى ما ظفرت بالاستقلال وظفرت بالحرية حتى لا يقع لها من التبلبل ما يشككها في قيمة الكفاح الذي تبذله من أجل تحقيق الاستقلال والحرية وتحسين حالها. وكانت هذه هي النقطة المحورية التي اشتغل عليها طيلة خمسة وعشرين عاما، يحاول فيها أن يبني النظرية اعتمادا أولا على عشرات المؤلفات التي كتبت في الموضوع من شتى اللغات، ودراسة وجهات النظر المتباينة في الموضوع، مع المقارنة بينها، وعرض ذلك كله على تجاربه الخاصة في الكفاح وتقلباته بين الكادحين في أقطار عديدة، وانتهى من هذه التجربة الطويلة إلى إنتاج كتابه النقد الذاتي الذي اعتبره من جهة التوجيهات التي تقف بالمغاربة عند كل نقطة، وتحملهم على التفكير فيها، وتكوين النظرية الصحيحة حولها، كما اعتبره من جهة أخرى جهدا غير مكتمل يحتاج إلى أن ينقح أو يتم حتى تتوضح الأفكار التي يرمي إليها وتتبلور الغاية التقدمية التي يسعى إليها، إلى درجة أن علال الفاسي نفسه اعتبر ما تضمنه الكتاب من أفكار غير نهائية حتى بالنسبة إليه، وأعلن استعداده لإعادة النظر في كل رأي مع أي واحد ممن يهمهم الدرس والبحث عن الحقيقة. والواقع أن علال الفاسي، ترك نظرية إصلاحية تنطلق من قراءة الواقع المغربي بكل تفاصيله وحيثياته، وتقدم الاجتهادات الضرورية انطلاقا من الشريعة الإسلامية للعديد من القضايا المجتمعية والسياسية. والناظر في أدبيات الحركة الإسلامية، خاصة منها المقولات التأسيسية، يجدها لا تكاد تخرج عن القناعات الرئيسة الآتية: 1 حتمية الحل الإسلامي. 2 احتفاظ الدين بدور مركزي في الإصلاح، والتأكيد على شموله لكل مجالات الحياة (الإسلام منهج حياة). 3 التأكيد على الدور الكيدي الذي مارسه الاستعمار من أجل تنحية دولة الخلافة الإسلامية ومن ثمة الشريعة الإسلامية. 4 الصراع مع الفكرة العلمانية ومع النظم والمقاييس التي أنتجتها على واقع الأرض في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية. 5 تأكيد مركزية هدف إعادة الاعتبار للشريعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية الكفيلة بإقامة العدالة الاجتماعية. 6 التأكيد على محورية الأخلاق والقيم الإسلامية في أي نهضة وتقدم للأمة. والواقع أن هذه القناعات الرئيسة بدأت تنضج وتأخذ تكاملها ونسقيتها بشكل تراكمي، إلى أن انتهت في صورتها الاتساقية البنائية، مع مؤسس حركة الإخوان المسلمين الإمام حسن البنا، وأخذت بعض القضايا وهجها مع الأستاذ أبي الأعلى المودودي وبشكل خاص مع كتابات الشهيد سيد قطب. وقد تلقفتها الحركة الإسلامية المغربية من هذا المعين دون أن تمتلك بإزاء تصريفها نظرية مكتملة للعمل. وبحكم الخلفية الثقافية والتجربة التراكمية التي كان يحملها بعض مؤسسيها في السبعينيات، فقد انتظمت هذه المفاهيم المركزية ضمن نظرية أقرب في منطقها إلى النظرية التغييرية الماركسية، مع إعطاء فاعلية للدين ودوره في التغيير والثورة، وهو تقريبا المنطق ذاته مع خلاف في بعض التفاصيل، انتهجه الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية حين اعتبر أن في أذن الجامع لا ينسلك إلا صوت يبشره بالخبز، وحين اعتبر أن دور الدين أن يراكم رصيد الغضب الاجتماعي وأن يوجهه ويجنده وينهجه في اتجاه القومة على الظالمين. بيد أن المتفق عليه بين مكونات الحركة الإسلامية بخصوص تبني هذه المقولات أنها ظلت وفية للتراث الإخواني (البنا وسيد قطب) وتراث المودودي، ولم تسع إلى محاولة الاقتراب من فكر علال الفاسي بخصوص هذه القضايا، مع أن صاحب مقاصد الشريعة ومكارمها وضع نظرية مكتملة، شملت كل هذه القضايا مجتمعية وضمن نسق مكتمل نحاول أن نشير إلى بعض معالمه في هذه العجالة: دور الدين في نظرية العمل الإصلاحية يرى الأستاذ علال الفاسي في كتابه النقد الذاتي أن الإسلام يتميز بطابع يميزه عن سائر الديانات وهو كونه ينبني على أصول متينة تجعله قابلا للتطور وصالحا لكل الطبقات ولكل العصور ومختلف البقاع، وأنه بني أصلا على هداية الخلق وإرشادهم لا السيطرة عليهم وإرغامهم، وأن الشريعة الإسلامية تركت للمسلمين حق النظر في كل ما هو من شؤون الحياة مما يسميه علماء الإسلام بالمصلحيات أي المسائل الراجعة إلى المصلحة العامة، والتي تتطور بحسب تقلباتها وجودا وعدما، ويرى الأستاذ علال الفاسي أن في مقدمة هذه المصلحيات ما يتعلق بشؤون الدولة وأنظمتها وشكل الحكم الذي تختاره الأمة لنفسها. ويعتبر علال الفاسي رحمه الله أن مهمة مواصلة تحقيق الغاية التي من أجلها بعث الرسول لا زالت متواصلة، ولم تنته، وأنها أصبحت ملقاة على عاتق الذين يشعرون بالمسؤولية وينشدون الحرية من ذوي المعرفة والعلماء والمثقفين، ويرى أن كل محاولات عزل الدين عن مجاله الحيوي، هي مجرد خطل في التفكير تعاكس ما وقر في ضمير الشعب ووعيه من مركزية للدين ودور في الإصلاح المجتمعي ليس فقط على مستوى الاجتماعي (انظر النقد الذاتي فصل التفكير الاجتماعي) ولكن أيضا على المستوى الاقتصادي (انظر الموقف من الاقتصاد الربوي في كتابه دفاعا عن الشريعة) وعلى المستوى الدستوري السياسي (أنظر تأكيده على ضرورة التنصيص الدستوري على إسلامية الدولة) والناظر في كتابه النقد الذاتي وكتابه دفاعا عن الشريعة يقف على مقاطع كثيرة تؤكد شمول الشريعة لكل مناحي الحياة، وحتمية الحل الإسلامي، وأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، بل ويؤكد على دور الاجتهاد والتجديد في الدين للإجابة عن النوازل المستجدة، بل ويؤكد بأن الشريعة يمكن لها أن تحيط بكل مناحي الحياة تقنينا وتدوينا، ويمكن لها من دون تدورين أو تؤطر كل مناحي المجتمع. في الموقف من اللائكية والعلمنة بنفس التفصيل التاريخي الذي نجده عند المودودي وسيد قطب خاصة في بحثه المتميز الفصام النكد وبنفس التفسير الذي اعتمده في كون التجربة الإسلامية لم تعرف نفس سياق صراع الدين مع العلم، وربما بتفسير أعمق يحاول أن يقرأ الصراع في التجربة الغربية ليس بين الدين وبين الطبقة المتحررة، ولكن بين المتحررين وبين الإكليورس المتحالفين مع الإقطاع، يحاول علال الفاسي أن يقرأ تاريخ الفكرة العلمانية في كتابيه: النقد الذاتي وكتابه دفاعا عن الشريعة، ويخلص إلى الخلاصة ذاتها التي خلص إليها سيد قطب من كون: - العلمانية هي تجربة غربية خالصة لا يمكن سحبها على السياق الإسلامي، نظرا للمفارقات الصارخة بين التجربتين. - العلمانية لم تناهض الدين ولكنها ناهضت التسلط والهيمنة التي حاولت أن تفرغ الدين من منظوره الحقيقي وتجعل مجرد أداة لشرعنة الممارسات الاستبدادية والاستغلالية والابتزازية. - ليس بين الدين والعلم صراع ولا تضاد، بل بالعكس من ذلك فما يميز الإسلام أنه كان ثورة على الخرافة والسحر وكل معطلات العقل، وكان في المقابل محرضا على العلم والنظر والتدبر والسير في الأرض والاعتبار. - إنه لا مكان للعلمانية في التربة المغربية، ولا جدوى من محاولة تأصيلها، وأن كل محاولة من هذا النوع ستبوء بالفشل لاعتبار المكانة المحورية التي يحتلها الدين في ضمير الشعب ووعيه، وأن محاولة فصل الدين عن الدولة، وحصر الدين في الصلوات والشعائر، هي من الخطل في التفكير ولا يمكن أن تكون محل قبول داخل مجتمع يعتبر الدين أمرا حيويا في كل مناشط حياته. في مركزية الشريعة ربما كان علال الفاسي رحمه الله، الأكثر تفصيلا وتدقيقا على مستوى هذا الموضوع، بالقياس إلى كل الذين كتبوا في الموضوع، وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت الحركة الإسلامية تحيل إلى الأدبيات المشرقية في الموضوع، ولم ينل كتاب دفاعا عن الشريعة للأستاذ علال الفاسي أي موقع في فكرها وأدبياتها إلا في وقت متأخر، كما هو الشأن في مقال جيد للأستاذ محمد يتيم عن الشريعة في فكر علال الفاسي، إذ حاول أن يتتبع كل الأفكار التي أوردها علال الفاسي في كتابه، من السياق التاريخي لإقصاء الشريعة، ودور الاستعمار في ذلك، والصيغ التي اعتمدها لإقصاء كل النظم والآليات ذات الارتباط بالشريعة الإسلامية، ومرورا بمناقشة دعاوى خصوم تطبيق الشريعة (قضية التدوين والتقنين) وانتهاء بسؤال ما العمل الذي اقترح للجواب عنه صيغتين: إما العمل على إقرار الشريعة على أرض الواقع، أو على الأقل التأكيد على مبدأ الإقرار الدستوري، وهو التفصيل الذكي الذي لم تلتفت إليه الحركة الإسلامية، فاكتفت بخوض معركتها في الشق الأول دون أن تعطي كبير أهمية للجانب الثاني إلا في سياق متأخر، كما هو الشأن في التجربة السورية التي انتهت إلى مأساة حماة. والواقع أن كتاب دفاعا عن الشريعة، وقبله كتاب النقد الذاتي الذي تناول الجانب المنهجي في القضية، وبعدهما كتاب مقاصد الشريعة ومكارمها، والذي التفت إلى الجانب المقاصدي والحكمي، كل هذه الكتب لم يتم التعاطي معها بالشكل الكافي من قبل الحركة الإسلامية عند محاولتها تأسيس مقولة تطبيق الشريعة في فكرها ونظريتها التغييرية، فجاءت أدبياتها في هذا الاتجاه مرتهنة إلى كتب سيد قطب ورسائل حسن البنا وكتب المودودي أكثر من التفاتها وإشارتها لكتب علال الفاسي. في محورية القيم والأخلاق الإسلامية وهو المحور الذي برز بشكل كبير في كتابه النقد الذاتي خاصة في محور التفكير الاجتماعي، والذي حاول فيه أن يقارب قضية العائلة والطفولة والزواج والطلاق والخمر والمسكرات والإدمان والمخدرات، وناقش فيه أيضا قضية الزنا والبغاء، إذ كانت منطلقاته في هذا الاتجاه أكثر وفاء للقيم والأخلاق الإسلامية، وكانت المقاربة الدينية حاضرة بقوة ضمن نفس تحليلي تجاوز سقف التشخيص إلى اقتراح نوع المقاربة والتدبير كما هو الشأن في قضية البغاء والخمر والمخدرات وغيرها. وهي القضايا التي لم تتجاوز فيها الحركة الإسلامية دور التشخيص والنقد والاحتجاج والدعوة إلى تقويم الخلل، دون أن تصل في مراحلها الأولى إلى تحليل الظواهر لمعرفة محدداتها الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية والسياسية، ودون أن تقارب ما قام به على مستوى الاقتراح الذي كان يتميز في بعض الأحيان بطابع الجرأة والتبصر بالمآلات. ويتضح من مجموع هذه الأمثلة أن كتب علال الفاسي كانت أكثر عمقا على مستوى التأكيد على القضايا التي استلهمتها الحركة الإسلامية المغربية من الأدبيات الإخوانية (حسن البنا، وسيد قطب) بل وحتى من كتابات أبي الأعلى المودودي، لكن مع ذلك، لم تكن أفكار علال الفاسي متداولة بالشكل الذي تدوولت به أفكار سيد قطب وحسن البنا داخل أوساط الحركة الإسلامية المغربية بل مكوناتها. علال الفاسي ومراجعات الحركة الإسلامية من الصعب أن نضع كل المراجعات التي قامت بها الحركة الإسلامية في هذا المقال ونقيس ما انتهت إليه ببعض ما كتبه الأستاذ علال الفاسي. لكن سنكتفي منها على مراجعتين اثنتين تخص الأولى الموقف من النظام السياسي القائم، وتخص الثانية قضية المشاركة السياسية. في الموقف من النظام السياسي القائم: كان الذي انتهت إليه الحركة الإسلامية المغربية في شأن مراجعة موقفها من النظام السياسي، أنها قطعت مع منطق التكفير ومنطق المفاصلة وشخصنة النظام السياسي واعتباره طاغوتا واجب الإزالة، وبدأت تدريجيا تؤصل لفكرة القبول بالعمل في المشروعية السياسية، وقد قطعت في سبيل ذلك أشواط كثيرة نفصلها إن شاء الله في بحث مستقل. لكن الذي يهمنا في هذه المراجعة هو حصيلتها، إذ انتهى الحركة الإسلامية، على الأقل المشاركة في العملية السياسية منها، إلى اعتبار الملكية الدستورية هي النظام السياسي الأليق والمناسب للحالة المغربية، وانتهت أيضا إلى التأكيد على الشرعية الدينية للدولة (إسلامية الدولة) وعلى مسألة التمثيل النيابي الديمقراطي، وعلى فكرة سيادة الأمة، ومرجعية الشريعة، وعلى فكرة دولة المؤسسات، وتقوية الجهاز الحكومي و الرقابة على الحكومة على حد سواء. والملاحظ أن هذه القناعات التي انتهت إليها الحركة الإسلامية بعد مسار طويل من المراجعات ابتدأ منذ سنة 1981 وتبلور في بداية التسعينيات في شكل اقتناع بالمشاركة السياسية، وزاد تبلورا إلى أن وصل إلى ما انتهت إليه أطروحة حزب العدالة والتنمية في المؤتمر السادس، كل هذه القناعات، بسطها الأستاذ علال الفاسي في نفس تحليلي مقارن بالنظم السياسية في العالم خاصة منها النموذج الإنجليزي والفرنسي والإسباني، مستحضرا في ذلك التراكم الذي حصل في التجربة التاريخية للأمة المغربية، إذانتهى في ذلك كله، وقبل أن ينال المغرب استقلاله، أي عند كتابته لالنقد الذاتي ضمن المحور الفكر السياسي، إلى ضرورة التأكيد على أهمية العرش، وعلى الملكية الدستورية، وعلى فكرة تقوية الجهاز الحكومي وتأكيد مسؤوليته، وتقوية البناء الديمقراطي عبر التمثيل النيابي الديمقراطي وعبر تقوية الرأي العام المراقب والناقد للسياسة الحكومية، بل إنه ضمن فصل الفكر الحزبي انتقد بقوة بعض النظم السياسية التي تبني تمثيلتها السياسية على الطبقات والفئات المتنفذة، وجعل أنسب حالة للمغرب أن يبني تجربته الديمقراطية على تمثيلية الأحزاب، وذهب بعيدا في ذلك، إذ استبق الحديث عن تقنية نظام الاقتراع وفاعليته في تجنب السقوط في البلقنة السياسية، وإنتاج خريطة سياسية قوية يتداول فيها الحكم أحزابا قوية معدودة ضمن تعددية ديمقراطية حقيقية، وهي الأفكار التي لا زالت إلى الآن محور نقاش عام في سبيل تأهيل الحقل السياسي وتجنيبه آفة البلقنة السياسية التي قضت على الحياة السياسية، ولو أن الحركة الإسلامية وقفت عند كتابات علال الفاسي العميقة في هذا الموضوع وغيره، لما أضاعت سنوات طويلة في الصراع مع السلطة السياسية، بل ولما احتاجت أصلا إلى أن تقوم بمراجعات أخذت وقتا طويلا لإقناع أبنائها بعكس ما سبقت أن نشأتهم عليه في مراحلها التأسيسية. - المشاركة السياسية: أما عن هذا المحور الذي قطعت فيه الحركة الإسلامية في المغرب وغيره مسافات طويلة من أجل إقناع أبنائها به، فقد كان الأمر ناضجا لدى الأستاذ علال الفاسي منذ وقت مبكر، إذ كتب في النقد الذاتي يؤكد على ضرورة المشاركة السياسية لإنجاح التجربة الديمقراطية وتقوية الرأي العام، فقد اعتبر أن مآل أي ديمقراطية بدون رأي عام قوي متبع وناقد ومراقب هو الفشل، وفي المقابل، فإن أي ديمقراطية لا يمكن أن تنجح من غير توسيع دائرة المشاركة السياسية وإحداث رأي عام شعبي قوي متابع للشأن السياسي، ومراقب للسياسة الحكومية، وناقد لها، وأنه في دون جود هذا الرأي العام القوي، أي بدون مشاركة سياسية واسعة، فإن الأمر سيؤول إلى أصحاب المصالح والنفوذ، يستأثرون بصناعة القرار السياسي بما لا يخدم المصلحة العامة، وهو ما لم تنتبه الحركة الإسلامية إلى ضرورته وأهميته إلا في مراحل متأخرة. على سبيل الختم قد يبدو من المفارقة أن تكون المفاهيم التأسيسية التي ارتكزت عليها الحركة الإسلامية في خطابها وسلوكها السياسي متضمن وبنفس تحليلي نسقي عند الأستاذ علال الفاسي، وقد يكون مثيرا أكثر أن تقفز الحركة الإسلامية على هذه الأدبيات وأن تستلهمها من خارج الحدود ضمن الأدبيات الإخوانية، وأن تخوض ببعضها غمار التجربة مستحضرة في ذلك، وتنتهي إلى صدام مع السلطة، وتخوض بعد ذلك في مراجعات تنتهي بها إلى نفس مقولات علال الفاسي، لكن ما لا يمكن أن يكون مقبولا أن يظل فكر علال الفاسي إلى الآن لا يتمتع بالأهمية التي ينبغي أن يتمتع بها داخل أدبيات الحركة الإسلامية، ويكتفى بدلا من ذلك بالحديث عن الانتساب، أو محاولة إيجاد العمق التاريخي للحركة الإسلامية داخل الحركة الوطنية، أو أحيانا الاستنجاد بفكر علال الفاسي في عملية سجالية ذات بعد سياسي، إن الأمر يحتاج حقيقة إلى الاستفادة من منهجية الرجل قبل فكره، وفي مقاربته قبل مواقفه، وفي بعد نظره قبل آرائه، وهو جهد نأمل من الحركة الإسلامية أن تعطيه ما يستحق من العناية.