يختلف كتاب الفطرية بشكل كبير عن كتاب الأخطاء الستة للدكتور فريد الأنصاري، برغم أن مقدمات الأول موجودة في الثاني، إلا أن منهج الصياغة وتركيزه على القضايا والأفكار عوض الأشخاص، وخضوعه للمراجعة بما يشبه اشتراك آخرين في تأليفه، كل ذلك يشكل علامات فارقة بين الكتابين وتيح التعامل النقذي والبناء، والذي يتفاعل مع ما هو إيجابي ليأخذ به ويرد ما يراه سلبيا ليتجاوزه.قد يعتبر البعض أن فكرة الكتاب ليست بالجديدة، إلا أن صاحبها وصياغتها تكسبها نوعا من الجدة تجعلها تختلف عن بعض تجارب نبذ الأطر التنظيمية مثل حالة تنظيم الإخوان المسلمين بقطر أو حالة تنظيم الطلائع الإسلامية، رغم التقائها معهم في عدد من الحيثيات. >التجديد < في صفحتها الاسبوعية حول الحركة الإسلامية تفتح المجال لمدارسة الكتاب. مفهوم الفطرية يرى الدكتور فريد الأنصاري أن مدار المعركة اليوم تتلخص في تحرير الإنسان فردا وأمة من أغلال الاسترقاق العولمي عقيدة وثقافة واجتماعا واقتصادا، وأن المسلم فقد كثيرا من خصائص فطرته ـ بما هو عبد لله- وأصبح جزءا من منظومة الآخر، وان العمل الإسلامي الذي كان من المفترض أن يقوم بهذا الدور ـ أي تحرير الإنسان والعودة به إلى فطرته- انحرف بنفسه عن الفطرة، وسلك مناهج الآخر، وانخرط في أطر الآخر التنظيمية والسياسية، وأنتج العديد من المسلكيات التي حاذت به عن فطرته، وأن واجب الوقت بالنسبة إلى الحركة الإسلامية اليوم بات يفرض أن تعود إلى فطرتها في الدين والدعوة، وان هذا السبيل لن يتأتى إلا بمنهاج فطري يعيد للوحي دوره التربوي والاجتماعي في النفس والمجتمع بعيدا عن ما سماه د فريد الأنصاري بمضايق الجماعات والتنظيمات وحرج الأسماء والمصطلحات وما يترتب عن ذلك من تصنيفات وتعقيدات، ويقدم كتابه الفطرية كرؤية في فقه الدعوة يحاول من خلاله أن يبسط بعض التأصيلات المنهاجية والنظرية لأطروحته. المقولات الخمس على الرغم من أن الدكتور فريد الأنصاري تحدث عن مقدمات سبع إلا أنها عند التأمل والتمحيص تجتمع في مقولات خمس يعتبرها الأساس في تأصيل النظرية وتفسير دواعيها: - المقولة الأولى: هيمنة الغرب: يرى الأنصاري أن هناك تطورا كبيرا في أسلوب الغرب في المواجهة، إذ انتهى حسب نظره زمن وكالة الأنظمة العربية، وبدأت مرحلة المواجهة المباشرة، بينما تعاني الأمة من داء التمزق والتآكل الداخلي الذي تطور وآل إلى انهيار في وجود الأمة المعنوي، وأمام هذا الوضع يتساءل الأنصاري عن دور الحصيلة التي قدمتها الحركة الإسلامية في قرن من الزمان، حصيلة البرامج والخطط التي وضعتها للمانعة والنهوض، ويعتبر فشل الحركة الإسلامية في رفع مبشرات الإسلام النصية والمنهاجية بعالمية هذا الدين أحد مسوغات لإعادة النظر في الأساليب التربوية والمنهجيات الدعوية. - المقولة الثانية: من الحركة إلى الدعوة: يرى الأنصاري أن الجهاز المفهومي الذي تحمله الحركة الإسلامية يعتبر أحد تجليات الأزمة، ويعتبر أن استعمالها لمصطلح حركة بما يحمله من دلالات غير إسلامية هو أحد تجليات هذه الأزمة، وأن ألأمر لا يتوقف عند حدود ما يعرف عند الأصوليين بلا مشاحة في الاصطلاح والحركة الإسلامية سواء استعملت مصطلح الحركة أو الدعوة أو اليقظة أو غيرها فإن المسميات مهما تعددت فإن المضمون واحد ولا عبره باختلاف الأسماء، وإنما الأمر حسب الأنصاري ينطلق من المصطلح وينتهي إلى ابتعاد الحركة الإسلامية عن فطرتها ومنهجها الدعوي الأصيل، إذ تصير مثل الحركات الاجتماعية الدنيوية التي تتنافس من داخل القوالب والأطر التي وضعها الآخر على مكاسب ومغانم غافلة عن الوظيفة الأصلية الفطرية بما هي تخريج نموذج عبد الله الذي هو مناط كل شيء في الدعوة والحركة، ويتفرع عن هذه المقولة الحديث عن الوسائل التي تشتغل بها الحركة الإسلامية والتي تتطلب في نظر الأنصاري أن تتقيد بالاشتغال بالنص اجتهادا وتأصيلا والدوران معه حيث دار، وهو ما جعل بعض الحركات الإسلامية حسبه تتحول من مشروع ديني تجديد إلى مشروع مدني لا يرتبط بالدين إلا قليلا. - المقولة الثالثة: الإنسان هو القضية: يرى الأنصاري أن قضية الأمة في هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها اليوم ليست قضية البرامج التفصيلية وإنما هي أن يكون الناس مسلمين، وأن يحضر هذا الدين ويخترق قوى العمران الأربعة المتحكمة في نسيجه الاجتماعي: التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة، ويرى الأنصاري أن الأسس الثلاثة الأولى هي التي ينبغي أن تكون ميادين للعمل الدعوي، إذ أن من سيطر عليها صنع السياسة، وان محاولة صناعة السياسة بدون السيطرة عليها كليا أو جزئيا هو ضرب من العبث، وأن العمل فيها ينبغي أن يكون من خلال البرامج الدعوية أساسا، فهو العمل القاعدي التحتي الذي يشتغل في الميدان العملي في ظروف سيطرة الآخر عليه، أما العمل السياسي فيكتفى فيه خ حسب الأنصاري- بمخاطبة إنسانه بكلمات الله بعمقها الغيبي وامتدادها الأخروي. يقول فريد الأنصاري في هذا الصدد: إنني على يقين بأن الدعوة الإسلامية بصيغتها الفطرية ستجد مكانها بين أولئك جميعا وتصنع تيارها من كل الأطياف، لأن السياسة الحزبية بصورها الحالية إنما هي صنيعة بشرية براجماتية أشبه ما تكون بالطائفية لخلوها في الغالب من المصالح العامة الحقيقية، ويفصل الدكتور فريد الأنصاري في هذا التصور في المسألة السياسية في العمل الإسلامي في مقدمته السادسة ويستعرض نماذج من القصص الإسلامي المعاصر، ويخلص إلى أن المنهاج الفطري يهدف إلى إنتاج سياسة تسوس السياسة ولا تشتغل بالسياسة سياسة حاضرة بالقوة في كل شيء وإن لم تحضر بالفعل، سياسة موجهة لكل شيء، سياسة مصنوعة بصناعة الدين. - المقولة االرابعة: ولاية الله وتدبير الشأن الدعوي، يؤكد الأنصاري على أن مهمة العمل الدعوي في هذه المرحلة هو صناعة المسلم، وأن ولاية الله ونصره ستشمل المخلصين له من عباده، وأن العمل الإسلامي الذي لا يتولاه الله لا يصل إلى الغاية أبدا، وان تدبير شأن الدعوة في الأرض إنما هو من شؤون الربوبية لا قيادة للإنسان فيه ولا ريادة، وإنما المومن فيه جندي من جنود الله، وأن سبب فساد أجزاء كثيرة من العمل الإسلامي وسبب خروجه عن مقاصده يرجع حسب فريد الأنصاري إلى رفع ولاية الله عنه تسديدا وتأييدا ونصرة. - المقولة الخامسة: وتتعلق بأركان المشروع الدعوي الذي يحقق النقلة النوعية من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، والذي يلخصه إلى ثلاث عناصر: 1 في منهج تجديد العلم ومفهوم العالم. ويلتمس في كتابين: أبجديات البحث في العلوم الشرعية محاولة في التأصيل المنهجي، و مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية) 2 في التأصيل النظري للعمل الدعوي ويعتبر كتاب الفطرية مرجعية في هذا الباب. 3 في مجالس القرآن وتلقي رسالاته وهو العمود الفقري لمشروع الأنصاري على المستوى التطبيقي (كتاب مجالس القرآن) ملاحظات أولية يجدر للمتأمل أن يسجل بعض الملاحظات على كتاب الدكتور فريد الأنصاري حول مشروعه الدعوي الفطرية، منها أن الكتاب ناقش واقع العمل الدعوي وسجل انتقاداته وبسط مشروعا دعويا نظريا معياريا يتأسس على قاعدة نبذ العمل السياسي بالشكل الذي تمارسه الأحزاب السياسية وقاعدة تمحيض العمل الدعوي من خلال الارتباط بالوظيفة الدعوية المشتغلة بالنص، ومنها أيضا أن الدكتور الأنصاري نأى بكتابه الجديد عن توجيه النقد للتنظيمات الإسلامية وقياداتها، وفضل عرض مشروعه بعيدا عن المماحكات، بل إنه عرض الكتاب على بعض أهل العلم من أجل التنقيح والتصحيح وهو ما يمكن اعتباره قطعا مع منهج كتاب الأخطاء الستة، ومنها أيضا أن الكتاب لا يخلو من هوامش ومساحات للتعامل الإيجابي مع كسب الحركة الإسلامية في جميع مناشطها. الجديد في الكتاب ليس هو فكرة حل التنظيمات أو ما يصطلح عليه اليوم بما بعد التنظيمات فهذه فكرة رأينا أصولها ودواعيها في الحالة القطرية،(أنظر الشريط أسفله) رغم أن الدكتور فريد الأنصاري لا يحيل إلى شيء مما كتبه الدكتور جاسم سلطان ولا الدكتور عبد الله النفيسي، لكنه يبني نفس الأطروحة اعتمادا على مقولات اختار أن يسميها مقدمات على طريقة الشاطبي في الموافقات، وهي مقدمات سبع لخصت الحجج والاعتبارات التي بنى عليها نظريته في العمل الإسلامي المسماة بالفطرية التي تعني في أحد عناوينها التخلي عن الأطر التنظيمية وبشكل خاص الحزبية منها والنقابية وبناء العمل الإسلامي على نسق الأنبياء من غير مزاحمة للخصوم في مغانمهم ومكاسبهم. إنما الجديد في محاولة التأصيل المنهاجي للمشروع بناء على قراءة للنص وقصص الأنبياء وتتبع كسب العمل الإسلامي المعاصر. لسنا فقط أمام فكر يتأمل التجربة الحركية الإسلامية ويراجع أطروحتها في هذا المستوى أو ذلك، وإنما نحن أمام جهد نظري في تأصيل تصور جديد لعمل دعوي تغيب فيه الإطارات السياسية والنقابية وكل ما له علاقة بالتدافع على المكاسب السياسية أو الاقتصادية، وتحضر فيه فقط الرسالة الدعوية المشدودة إلى النص. هي دعوة تبليغية لكن بسقف آخر يتغيى صناعة السياسة من خلال السيطرة على العناصر المتحكمة في النسيج المجتمعي (التعليم، الإعلام والاقتصاد ). هي ذات الفكرة القطبية التي ترى أن الأصل هو البناء العقدي الذي تنبثق منه النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن ليس من مهمة الداعية النظر إلى النتائج واستباقها، لأن الله هو الذي يرتبها حيث يشاء. ملاحظتان أساسيتان تنتصبان على هذا الطرح الذي تقدم به الدكتور فريد الأنصاري: الأولى متعلقة: بمآل المشروع الدعوي الذي يدعو إليه، ذلك أن الفكر حين يبرر وجوده بنقد فكر قائم لا يطرح أية مشكلة، لكن حين ينتقل إلى دائرة التأصيل، بحيث يكتسب المصطلح مفهومه، ينتقل الفكر من إطاره المجرد إلى شبكة من المفاهيم النسقية التي تنتقل بتبنيها الجماعي إلى شكل من أشكال التنظيم الذي لا ينقصه سوى الآليات التي تنزل الرؤية، وهي نفس المسلكية التي انطلقت منها الحركة الإسلامية وأنتجت بعض صور التعصب وبعض مظاهر الحزبية. أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بفراغات في التصور، إذ لو افترضنا أن التنظيمات الإسلامية انسحبت من الإطارات السياسية والنقابية، وجردت نفسها من كل مقومات الدفاع الشعبي والمدني، فإن المساحة، كل المساحة، ستبقى لمن يدفع بالسياسات المفسدة لقيم الأمة بما يتحكم في تغيير ومسخ الأجيال القادمة، ما دام دور الممانعة والمغالبة قد توارى من المؤسسات. ما يقدمه تصور الدكتور فريد الأنصاري في هذا الصدد، هو أن على الدعوة أن تسيطر على العناصر المتحكمة في النسيج المجتمعي ، لكن الفراغ الكبير الموجود في مشروع الأنصاري هو كيف يمكن للدعوة أن تراهن مثلا على التعليم بعد أن تكون الحركة الإسلامية انسحبت من المنشط السياسي والنقابي، وكيف يمكن لها أن تتعامل مع الواقع الجديد بعد أن تتغير مناهج التعليم وبرامجه وتقلص المواد الداعمة للقيم والهوية وينشأ جيل جديد مقطوع عن ثوابته؟ وكيف يمكن للدعوة أن تخاطب الكينونة المسلمة وقد رانت عليها أشكال من المسخ بعد أن خلت الساحة تماما لمن ينتظرون خلوها لملأ الفراغ وشطب ما تبقى من حصون الأمة؟