برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    الحكومة تعفي استيراد الأبقار والأغنام من الضرائب والرسوم الجمركية    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية        إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله        بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأنصاري: سيرة عالم من التلقي إلى المراجعة
نشر في هسبريس يوم 11 - 11 - 2009

لم يترك الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله سيرة ذاتية تروي قصة حياته الكاملة، كما ترك من قبله من العلماء و المفكرين سيرهم الذاتية العلمية، و إنما اكتفى برواية قصصه الذاتية في بعض من مقدمات كتبه، و هناك قول يعتبر أن رواية " كشف المحجوب" هي سيرة ذاتية له، ويبقى أن الأنصاري رحمه الله غادر الحياة دون أن يدون مذكراته التي لو وجدت، لقدمت للمهتمين صورة واضحة عن أشياء كثيرة تحتاج إلى البيان و الشرح من الكاتب نفسه ليرفع الخلاف عن أفهام الناس، و نظرا لثراء حياة الأنصاري بالأحداث و العطاءات، فقد اكتفيت في محاولة أن أرسم صورة، لسيرة عالم و مراحل تشكل معرفته الإسلامية و أثرها في نظرته إلى الإصلاح و التغيير على كل مستوياته السياسية و التربوية و العلمية، و قد قسمت مراحل سيرته العلمية إلى ثلاث مراحل وهي كالآتي: ""
مرحلة التلقي: صحبة الشيخ العالم المربي
التحق الأنصاري بالجامعة سنة 1980 و انخرط في مجال التدريس بالجامعة في أواخر الثمانينات، فقضى بالجامعة إلى حين وفاته 29 سنة، وهذه المدة التي قضاها بالجامعة طالبا و مدرسا، كانت فترة علم و اجتهاد وبحث علمي متين ليتحقق بصفة " العالم الوارث"، ولذلك لا غرابة أن يتخصص في "أصول الفقه" أو بمعنى آخر في فلسفة قانون الاستنباط الإسلامي، بل تخصص في دراسة مصطلحات و مفاهيم أصول الفقه، ففي سنة 1985/1986 مرحلة تكوين المكونين، أنجز بحثا في السنة الأولى في موضوع:"الأصول و الأصوليون المغاربة: بحث ببلوغرافي" تحت إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي وفي السنة الثانية موسم 1986/1987 أنجز بحثا في موضوع :" مصطلحات أصولية في كتاب الموافقات: مادة قصد نموذجا" تحت إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، وفي سنة 1989/1990 سجل بحثا لنيل دبلوم الدراسات العليا/ الماجستير في موضوع:" مصطلحات أصولية في كتاب الموافقات" تحت إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، وفي سنة 1991 سجل بحث الدكتوراه في موضوع:" المصطلح الأصولي عند الشاطبي" تحت إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي و ناقش الأطروحة سنة 1998 ..
هذه مسيرة الأنصاري العلمية باعتباره باحثا أكاديميا، أكثر من عقد من الزمن وهو مصاحب لأصول الفقه و الشاطبي ومصطلحاته، و الملفت للنظر أن يكون الإشراف في جميع البحوث للشيخ العلامة الشاهد البوشيخي، ولذلك عند قول الأنصاري في كتاباته " الأستاذ" دون أن يسمي من هو هذا الأستاذ، فالمقصود به الشاهد البوشيخي، فهو مربيه و أستاذه، أثمرت هذه الصحبة معاني وجدانية عميقة و منهجيات علمية دقيقة، ولذلك ليس غريبا أن يقول البوشيخي مقدما لأطروحة الأنصاري:" إن فريدا الفريد لم يكد يخلق إلا للعلم و البحث العلمي" ويقول الأنصاري في حق أستاذه:"و لعمري لقد هذب وربى، و علم فأربى. نهلت من علمه، وتشبهت بخلقه، ونشأت على فكرته، و تخرجت من معهده" المقصود بالمعهد معهد الدراسات المصطلحية بكلية الآداب ظهر المهراز فاس الذي أسسه البوشيخي مع ثلة من تلامذته سنة 1993 ..
ومن خلال تجربة الأنصاري العلمية و الأكاديمية يتضح أن التضلع في المعرفة الإسلامية لا يمكن أن تكون إلا " بالمصاحبة" للشيخ العالم و المربي، إذ المعرفة الإسلامية من أقوى مصادر تلقيها " أفواه الرجال" وهذا التلقي هو من يصنع الطالب الذي يبتغي العالمية، فالعالمية لا يتحقق بها من ركن إلى مطالعة الكتب، لأن سلامة المنطق ودقة المعلومة لا تتحقق إلا مشافهة، وهذه الصحبة ليس علمية محضة بل هي مصاحبة تربوية عميقة، فالأنصاري يحكي عن التحول الوجداني الكبير الذي مر به، و كان سببه هو مدارسة له مع أستاذه البوشيخي، فيحكي الأنصاري قصة فهمه للعقيدة حيث يؤكد أنه مر بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى الفهم التقليدي؛ العقيدة شهادة و انتهى الأمر، المرحلة الثانية مرحلة أن معنى العقيدة هي " الحاكمية لله"و تلقى هذا المعنى في فترة ارتباطه بالحركة الإسلامية، المرحلة الثالثة مرحلة اليقظة الوجدانية حيث يقول:" وبقي الأمر بالنسبة لي غامضا، حتى لقيت بعض أساتذتي الأجلاء، ممن تتلمذت عليهم، وأخذت عنهم علم الدعوة و علم البحث العلمي، فكانت لي معه جلسة مذاكرة حول بعض مفاهيم القرآن الكريم، و تحدثنا عن بعض النماذج من بينها مفهوم الإله في القرآن الكريم، فنبهني إلى أن الأصل اللغوي لهذه العبارة، من أنه راجع إلى معنى قلبي وجداني، و ذكر لي شيئا من الدلالة اللغوية على المحبة، مما بينته قبل قليل، فكانت بالنسبة لي مفاجأة حقيقية ! لا على مستوى الفهم فقط، ولكن على مستوى الوجدان و الشعور !" و بهذا يتضح أن المعرفة الإسلامية كذلك ليست معرفة معلوماتية، بل هي معرفة هدفها الوصول إلى خشية الله و يتحقق ذلك بصحبة العالم المربي، وهذه الصورة التي نرسمها من خلال سيرة الأنصاري العلمية، قلت و اضمحلت و انعدمت في ما يسمى بالجامعات العلمية العصرية وفي شعب الدراسات الإسلامية، وهذه العلاقة بين الطالب و الأستاذ تذكرنا بعصور علمية زاهرة عرفها التاريخ الإسلامي، بمعنى أن الذي صنع الأنصاري ليس هو نظام تعليمنا الجامعي المغربي في شعب الدراسات الإسلامية، و إنما الذي خرجه هو صحبته "لشيخ عالم مربي " لمدة تصل أكثر من عقد من الزمان، أخذ عنه علم الدعوة والبحث العلمي
كما أن الأنصاري كان موفقا في تركيزه على مجال واحد من مجالات المعرفة الإسلامية" أصول الفقه" حيث أنه طيلة مسيرته البحثية لا يفارق أصول الفقه، و هذا الارتباط الوثيق بأصول الفقه أسهم في تشكيل منهجية تفكيره، فكما يقال؛ المنطق بالنسبة للفلسفة، كأصول الفقه بالنسبة للفقه ، فأصول الفقه مسدد و منظم للتفكير بغية استنباط الحكم الشرعي، و إقباله على هذا العلم ربما راجع للتنشئة التربوية التي تلقاها في البيت و التي كانت تحرص على النظام و التنظيم كما يحكي ذلك في كتابه " أبجديات البحث في العلوم الشرعية محاولة في التأصيل المنهجي" و الذي صدر في سنة 1997 قبل مناقشته لأطروحة الدكتوراه، وهذا الكتاب هو في أصله قراءة لكتاب" أصول البحث العلمي و مناهجه" لأحمد بدر، فتنشئته التربوية أسهمت في إقباله على هذا العلم، و كان لهذا الأخير أثرا واضحا في بناء شخصيته العلمية " التأصيلية"، فهو لا يتحدث في أمر إلا أصل له وبحث عن دليله من القرآن و السنة ، ولذلك أطلق في آخر حياته مشروع "من القرآن إلى العمران"، كما أن تعلقه بالموافقات أسهم في تشكيل رؤيته الإصلاحية على اعتبار أن مصنف الشاطبي 790ه ، هو في حقيقته مشروع إصلاحي يتداخل فيه التربوي بالتعليمي بالمعرفي بالإصلاحي، كما أن اهتمامه بالمصطلح الأصولي كان سببا في اطلاعه على الدراسات المصطلحية التي من مراميها الكشف عن أبنية المفاهيم و علاقتها ببعضها البعض، فلا تكاد تجد مؤلفا للأنصاري إلا و يقدم له بتحديد مفاهيم المصطلحات ويخلص إلى تعريف معين، فهذه الرحلة العلمية للأنصاري مكنته من منهجية التأصيل و القراءة بمقصد إصلاحي دعوي تربوي.
مرحلة التنزيل:تناقض المثال العلمي و الواقع الحركي
انخرط الأنصاري في مشروع حركي إصلاحي بالمغرب وهو مشروع حركة التوحيد و الإصلاح، وحاول أن يحقق بعضا من أحلامه التربوية و العلمية الإصلاحية، فوجد نفسه حاضرا بجسده في قلب اللقاءات الداخلية للحركة و عقله معلق بنموذج " العالم" و نموذج "المؤمن الصالح" كما رآه وعايشه تاريخيا- و نتحدث هنا عن فترة ما بعد سنة 1996 إثر وحدة رابطة المستقبل الإسلامي و حركة الإصلاح و التجديد في إطار حركة التوحيد و الإصلاح- فوجدانه معلق بحقائق القرآن و السنة من خلال مؤلف الموافقات للإمام الشاطبي، حيث بحث في حقيقة المصطلح الأصولي عند الإمام صاحب الرؤية الإصلاحية، برعاية و إشراف أستاذه و مربيه الشيخ الدكتور الشاهد البوشيخي، هذا الإشراف الذي ابتدأ مند سنة 1985 إلى سنة 1998 تاريخ مناقشة أطروحته، فاجتمع في هذا الإشراف التربية الروحية و الإفادة العلمية اللغوية في المصطلح و التضلع في المنهجية الأصولية، في مقابل واقع حركي غير راض عنه البتة، و هكذا عاش بين مسارين مسار الواقع الحركي و مسار بحثه العلمي، ولذلك فالقارئ لانتقادات الأنصاري تصدمه، لكن لما يعلم أن الرجل عاش في كنف مصاحبة الفحول من العلماء بمعنى أنه يعيش "النموذج المثال" إما قراءة وبحثا أو مصاحبة و معايشة، يفهم سر حدة نقده، فالأنصاري لا يتصور في علاقته بقيادة العمل الإسلامي إلا أنهم من زمرة المتقين الصالحين العالمين بشرع الله سبحانه و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، و إضافة إلى ذلك أنهم دعاة الوطن و الأمة، فلا يعقل أن يعيشوا واقعا داخليا في ما بينهم يتنافى مع ما يدعون إليه، ولذلك تأتي أحكامه قاسية، ولا يخاف في الله لومة لائم، باعتبار أنه وقاف عند حدود الله و مقدم صفة "العالم " على صفة " الحركي" المتعصب لانتمائه ، فيصف مثلا أحد لقاءات مجلس الشورى لحركة التوحيد و الإصلاح، هذا المجلس الذي يضم أرفع الأطر الحركية علما و ورعا يجتمع فيه " أهل العقد و الحل" يعني علماء الحركة من مختلف التخصصات العلمية فيقول:" و مازلت أذكر بعض مجالس الشورى التي وضعت في الأصل لجمع آراء ذوي العقول و الأحلام، كيف كانت تتشكل فرقا و أحلافا، و تترس ببعض زوايا مقر الحركة لتحصين مدافعها ضد إخوانها، وإني لأذكر بعض تلك الوجوه البئيسة من "أهل الحل و العقد" يا حسرة ! كيف كانت تتخير خنادقها بين الكراسي، و ترتب أرقام تدخلاتها و مواقعها بعناية قبل من تكون و بعد من تكون، حتى إذا افتتحت الكلمات و حميت النقاشات و اشتعل الشرر لم تسمع منها إلا عبارات اللمز، ولم تر بينها إلا إشارات الغمز في مناورات من الدجل و الحيل من أجل ترشيد قرارات العمل الإسلامي و خططه ! زعموا، و الله المستعان ! " فالأنصاري من خلال ما رآه واقعا و ما استوعبه علما و تعلما و بحثا ودراسة، يجد نفسه هاربا و فارا إلى أحضان من يطمح أن يكون مثلهم في الزهد و الورع، غير مبال بنقاشات المتناورين، وهذا يعطي صورة عن نموذج العالم و المثقف الإسلامي المهتم بقضايا الدين الكبرى وكلياته، فهو لا يتعب نفسه في الخوض في الخلافيات الجزئيات التي لا يمكن معالجتها إلا من خلال أصولها المرجعية ، عكس من يشتغل بمنطق تكنوقراطي عملياتي و بمنهجية سياسية مناورة، و كأنه من خلال معايشته لهذا المجلس يقول أن من الإشكاليات التي يعيشها العمل الإسلامي المعاصر هو سيطرة التكنوقراط المحترف للتدبير و الإدارة، و له قوة في المناقشة التدبيرية، و السياسي المناور الذي مصلحته عند أنفه لا يبرحه ويمكن أن يضحي بمبادئه، و الأنصاري لم يختر لا الأول و لا الثاني، و إنما اختار التموقع في دائرة رجل المعرفة الإسلامية الشرعية المقاصدية، و الذي ليس له مكان في مثل هذه المجالس لأنه لا يجيد الجدل و المناورة وإنما سلطته معرفية محضة.
ولذلك انحاز الأنصاري إلى رجالات العلم و المعرفة فقد أثنى كثيرا على من سماه بالداعية الحجة المقرئ الإدريسي أبو زيد، و على المفكر الإسلامي أحمد الريسوني و الفقيه محمد الروكي و الأستاذ أحمد العبادي، وهذه المجموعة أصبحت موالية لقضايا الأمة و الوطن أكثر من موالاتها للقضايا الحزبية و الحركية الضيقة، فمنهم من غادر و منهم من يراقب و منهم من بين فصل و وصل، وهذا يقدم صورة عن جدل السلطة داخل الحركة الإسلامية المغربية، التي تتنازع بين أصحاب المعرفة و أصحاب الإدارة و أصحاب السياسة، فيختار المفكر أو المثقف المغادرة أو الاعتزال و يسيطر التكنوقراط على دواليب العمل الداخلي و يصبح السياسي الناطق الرسمي المفاوض..، وهذا الاختيار؛ اختيار المغادرة و الاعتزال نابع من سياسة التهميش وعدم المبالاة برجل العلم الفقيه بنصوص القرآن و السنة خصوصا إذا كان الأمر له علاقة بمجالات التأثير و النفوذ في النقابة و الحزب، فيقول مثلا :" إن الحركة الإسلامية في تجربتها النقابية مارست ما يسمى بحق الإضراب دون تفقه في نوازله ولا تأصيل لأحكامه و إنما اعتمادا على منشورات إنشائية ضعيفة القيمة العلمية صدرت عن بعض الكتاب ممن لا علاقة لهم بالبحث العلمي المتخصص في الدراسات الفقهية الأصولية" بمعنى أن رجل العلم الفقيه لا يصح له القول إلا في دائرة التربويات الفردية و في الفقهيات العبادية أما شؤون السياسة و النقابة فلغيره، ولذلك الأنصاري رحمه الله في تآليفه الأخيرة قدم أطروحة تجديدية ليس في ما له علاقة فقط بالفرد تجاه ربه وإنما قدم أطروحة إصلاحية تغييرية في علاقة الفرد بالمجتمع، بمعنى أنه يقول أن العالم و الفقيه الأصولي قادر على صياغة المشاريع الإصلاحية الكبرى وليس دوره مرتبط بالعبادات الفردية.
مرحلة المراجعة:من القرآن إلى العمران
بعد أن اتضح للأنصاري أن لا مكان له في هذه الحركة الإصلاحية لسيطرة التكنوقراط و السياسي على شؤونها، انسحب بهدوء تام دون ضجيج، وعمل على أن يقدم مشروعه الإصلاحي كما يراه هو، و إن للمسيرة العلمية الأكاديمية التي قضاها الأنصاري في رحاب الجامعة و البحث العلمي، كان لها أثرا كبيرا في دراساته الإصلاحية الدعوية التربوية، و كانت جميع مصنفاته ذات الاتجاه الإصلاحي منذ سنة 2000 إلى سنة 2007، تعطي للقارئ صورة واضحة، أن الكاتب متمرس في البحث العلمي الأكاديمي، و كأن كتاباته موجهة إلى طلاب الجامعة و أساتذتها من الباحثين، فترى الأنصاري في كتاباته هذه، يخاطبك بلغة الباحث لا بلغة العالم الحافظ لمجاميع العلم، يكتب دون مقدمات و لا منهج و لا نتائج، و دون أن يحيل على من أخذ عنهم، بل ممكن أن أقول إن هوامش كتابات الأنصاري لوحدها تجمع الفوائد الجمة، بل في الهامش يذكر من أخذ عنه العلم مشافهة حرصا على الأمانة العلمية، هذه نظرة مجملة إن تناولت كل كتاب على حدة بالقراءة و الدراسة.
إن كتابات الأنصاري النقدية التصحيحة لا يمكن فهم مقاصدها ومراميها إن لم تقرأ جميعها، و أيما قارئ اقتصر على كتاب دون آخر سيقع في الأحكام المتسرعة، و أعتقد أن رسائل الأنصاري النقدية التصحيحة لحركات الإصلاح الإسلامي بالمغرب، دشنها بكتابه " الفجور السياسي و الحركة الإسلامية بالمغرب:دراسة في التدافع الاجتماعي" الذي صدر سنة 2000، هذا الكتاب يستعرض فيه تشخيصا دقيقا لواقع المغرب الديني و القيمي و السياسي، وهنا أشير إلى أن بعض من انتقد الأنصاري، لعدم نقده للأوضاع القيمية المتردية التي يعيشها المغرب و المغاربة، وتركيزه فقط على الحركة الإسلامية إثر صدور كتابه " الأخطاء الستة للحركة الإسلامية المغربية " سنة 2007، هذا النقد غير صائب، لأن كتاب الفجور السياسي تشريح للواقع المغربي على كل مستوياته تشريحا دقيقا، ليبين أن معركة المغرب في بداية القرن الواحد و العشرين هي معركة " القيم و التدين" و يتسأل في نهاية الكتاب قائلا: هل الحركة الإسلامية في المغرب داخل حلبة الصراع أما خارجه؟ وبين أن الحركة الإسلامية المغربية هي على اختيارين؛ اختيار التصادم الذي تمثله جماعة العدل و الإحسان و اختيار المشاركة الذي تمثله حركة التوحيد و الإصلاح، و انتقد كلا الاختيارين لأنهما في نظره يبتعدان عن حلبة الصراع الدائرة في المغرب، بمعنى ما تضمنه كتاب الأخطاء الستة هو مجرد تفصيل لما أجمل في كتابه الأول الفجور السياسي في بعض من جوانبه، ثم جاءت رسائله تترى كل واحدة منها تشرح الأخرى و تؤكد على مدار أطروحته الإصلاحية " من القرآن إلى العمران" عكس ما سلكته الحركة الإسلامية الإصلاحية " من العمران إلى القرآن"، ثم صدر له بعد كتاب الفجور السياسي في سنة 2002؛ كتاب" بلاغ الرسالة القرآنية: من أجل إبصار لآيات الطريق" و هذا الكتاب هو خلاصات جاءت إثر رحلة الأنصاري لأداء فريضة الحج عام 2000 ، و التي يقول عنها أنها كانت سببا في إعادة النظر و المراجعة لواقع العمل الإسلامي، و الكتاب أيضا هو في أصله مدارسات قرآنية بمدينة مكناس، و واضح كما يعلن في مقدمة الكتاب على الهامش، الأثر الكبير الذي رسخته رسائل النور لبديع الزمان النورسي في تعامله مع القرآن الكريم، كما يشير إلى مدارسته القرآنية مع الأستاذ أحمد العبادي في معاني البصيرة، وقد تضمن أيضا الكتاب نقد حاد للحركة الإسلامية فيقول مثلا:"فيا عجبا من الإسلاميين- زعموا- برعوا في تنميق العبارات، و الخطب السيارات، و حظهم من الصلاة ضئيل ! و خطوهم إلى مساجدها قليل ! فإن اضطروا إلى ذلك فهو خطو ثقيل ! قد كاد ينطبق عليهم قول الله تعالى:" وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا" النساء:142/143 "، وعليه فكتاب الأخطاء الستة لم يكن له من هدف سوى ضرورة الخروج من التلميح إلى التصريح، وهذا الكتاب؛ كتاب بلاغ الرسالة القرآنية هو برنامج عملي في مدارسة القرآن مؤسس على نظرات فلسفية تأملية مرتبطة بوجود الإنسان ومصيره، ثم في سنة 2003 أصدر كتاب " البيان الدعوي و ظاهرة التضخم السياسي" يقول في مقدمة الكتاب :"إن البيان الدعوي القرآني هو محاولة لتلمس موقع المفتاح في المسألة الإسلامية التجديدية، إنه محاولة للعودة بها من جديد إلى القرآن رسالة رب الكون إلى الناس في هذه الأرض" وهذا كتاب هو محاولة في ترتيب الأولويات و تحديد الأصول من الفروع في إقامة الدين، و الكتاب لوحده يشكل أطروحة في موقع العمل السياسي من باقي قضايا الدين و التدين استنادا لاستقرائه لمجمل ما جاء في القرآن و السنة، وهذا الكتاب يبصر القارئ تبصيرا وافيا بالشرح والبيان لرؤية الأنصاري للعمل السياسي الحزبي، ولذلك بعض القراء لم يفاجئهم كتاب الأخطاء الستة المنتقد للسياسة و السياسيين، ونظرا لاهتمام الأنصاري بالمرأة أصدر رسالة " سيماء المرأة في الإسلام: بين النفس و الصورة " و تسلمت هذه الرسالة مطبوعا قبل أن تصدر في الأكشاك سنة 2003، و هذه الرسالة عميقة جدا حيث يقول أن مرادها" الكشف عن ما ترمز إليه المرأة في الإسلام، نفسا وصورة، فأما نفسا فباعتبارها أنثى الإنسان من الناحية الوجودية، وأما صورة فباعتبارها هيأة خلقية" بهذه الخلفية المعرفية العميقة كان نقده حدا لمسمى "أخوات الحركة الإسلامية " على حد تعبيره فيقول في الأخطاء الستة:"أما اليوم، فقد نبت جيل مشوه من هذا المسمى ب"الأخوات" ! ..محجبات تبرجن ب"حجابهن" أشد من تبرج السافرات بعريهن ! و إذا خاطبن الشباب سمرن فيهم أعينا خائنات ! .." ثم في سنة 2006 أصدر كتابين الكتاب الأول " مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية" و الكتاب الثاني" جمالية الدين: معراج القلب إلى حياة الروح"، فالكتاب الأول هو دراسة مفهومية عميقة في معنى العلم و العالمية، و وضع لبرنامج عملي تعلمي للتحقق بصف العالمية لمن يرجوها من طلبة الدراسات الإسلامية و العلوم الشرعية، و الدراسة بكاملها ترسم نموذجا معينا للعالم الذي سماه ب" العالم الوارث" هذا العالم الذي من أدوراه الدعوة و التعليم وإصلاح المجتمع، و الذي يعتبره القائد الطبيعي لقيادة التنظيم الفطري الإسلامي، دون انتخابات ديمقراطية أو هياكل تنظيمية، فبالفطرة ينتظم وبالفطرة يتداول، وعلى هذا الأساس ينتقد غرق الحركة الإسلامية في التنظيم الميكانيكي - كما ورد ذلك "في الأخطاء الستة"- الذي يتنافى مع رسالة الإسلام الفطرية و حقيقة الإنسان المجبولة على الفطرة، و الكتاب الثاني" جمالية الدين:معراج القلب إلى حياة الروح" هو كتاب تجديدي في فهم عقائد الإسلام و عباداته، فالأنصاري رحمه الله بأسلوبه الشاعري الأخاذ، يعرض قضايا الإيمان بمنهجية تخاطب الواجدان المسلم و تبعث فيه الحياة من جديد، و يهدف من خلال هذا إلى تنبيه الحركة الإسلامية على أن الإنسان المسلم يعرف أركان الإسلام و الإيمان، لكن هذه المعرفة لا تتحول إلى انبعاث وجداني و فعالية حركية، و يشير إلى أن الحركة عليها أن تهتم بهذه الأصول البدهية التي هي أصل كل قيمة خير في المجتمع، لكن يأسف على ما تورطت فيه الحركة الإسلامية من قضايا السياسة الحزبية في المغرب، ولذلك اندهش كثير من القراء عند مطالعتهم للكتاب، لقراءتهم لأول مرة مفردات مركبة من مثل جمالية الموت و جمالية اليوم الآخر ، ثم في سنة 2007 أصدر كتابين؛ الأول كتاب " الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب: انحراف استصنامي في الفكر و الممارسة" و الثاني كتاب " الفطرية: بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام"، فالكتاب الأول كتاب ينتقد العمل الداخلي للحركة الإسلامية و خصوصا حركة التوحيد و الإصلاح و مآلت إليه الحركة من أوضاع، كما ينتقد الممارسة التربوية و السياسية لجماعة العدل و الإحسان و تيار السلفية الحنبلية بالمغرب، فارتضى في نقده أسلوب التصريح المباشر دون تلميح، لأن التلميح أخذ ما يقرب عن ست سنوات في الإصدارات السابقة، وهذا الكتاب هو نقد في مساحة كبيرة من الاقتراح و الترشيد و التسديد لفعل الدعوة الإسلامية بالمغرب، و ما اختصار مشروع الأنصاري في كتاب الأخطاء الستة سوى تجن على رجل مرامي مشروعه أكبر من النقد، و النقد بالنسبة إليه هو بمقدار الملح في الطعام ، ولذلك أعقب الكتاب بكتاب " الفطرية " الذي هو تجميع شامل لمجمل أطروحته في الإصلاح و التغيير وفقا لرسالة القرآن، فما جاء في كتاب الفطرية يتكرر البعض منه في الكتب السابقة، و هذه الأخيرة كانت تبشر بصدور الكتب اللاحقة، ويتضح لذكاء الأنصاري رحمه الله أنه كان يؤمن بمنهجية التدرج و التروي وعدم التسرع ، ويبدو لي أن أطروحته بالكامل كانت مدونة عنده و يختار الأوقات المناسبة لإصدارها، فيصدر الرسالة ويرى الأثر في واقع الناس و مدى تجاوبهم سواء بالموافقة أو النقد، ولهذا فالأنصاري عرض أطروحته في مدة سبع سنوات من 2000 ابتداءا من كتاب الفجور السياسي إلى كتاب الفطرية الذي صدر سنة 2007 ، ويتضح أن هدفه كان هدفا بنائيا حواريا بعيدا عن الإثارة و التشهير، ولو كان يرغب في غير ذلك لأصدر أطروحته في مجلدا و انتهى الأمر، لكن الرجل كان يعلم أن من الحكمة التروي و طرح الفكرة تلو الأخرى، ليستوعبها العاملون في الحقل الإسلامي..
والملاحظ من خلال هذه المسيرة التأليفية أن الهدف كان عنده واضح من التأليف ألا وهو عرض مشروع في " الإصلاح و الدعوة الإسلامية" مبني على فكرة "من القرآن إلى العمران" و التي تبشر بالبعثة الجديدة؛ من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام، و لذلك هو لم يؤلف في ماله علاقة مباشرة بالعلوم الإسلامية، فلم يؤلف مصنفا خاصا مثلا في أصول الفقه بالرغم أنه درس أصول الفقه و درسها لمدة تقارب ربع قرن، و يبدو لي أن أطروحة الأنصاري لا زالت لم تقرأ قراءة فاحصة لمناقشتها أو الرد عليها ، وإن كل ما هنالك قراءات متناثرة هنا و هناك على صفحات الجرائد و المواقع الإلكترونية أما القراءة العلمية الأكاديمية فلم تتم بعد.
وفي الختام إن هذه المراحل الثلاث تعطي صورة واضحة عن الأساس المرجعي العلمي و التربوي الذي كان ينهل منه الأنصاري رحمه الله ، إلى أن استوى عالما داعية مصلحا يبشر ببعثة جديدة في العالم الإسلامي، منطلقها الرسالة القرآنية و هدفها بناء الوجدان الاجتماعي الديني للإنسان المسلم، بمخاطبته بأصول الدين الكبرى البدهية، وقائدها العالم الوارث المنتصب لتبصير الناس بشؤون الدين و الدنيا، وفضاؤها التنظيم الفطري الذي يستجيب لتركيبية الإنسان وفطرته .
[email protected] mailto:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.