ردا على مقالة ذ. عيسى أشرقي (أحفاد يزيد في سيدي إفني) لم أستطيع الصبر عن الكتابة، حينما قرأت ما ورد في مقال الأستاذ عيسى أشرقي المعنون ب " أحفاد يزيد في سيدي إفني "، خاصة وهو يتحدث عن فترة تاريخية من صدر الإسلام مات أصحابها وأفضوا لما قدموا من أعمال، وليس هناك من ينصفهم حينما يفتري عليهم المفترون ممن لا يتقون الله فيما يدعون وينقلون من أخبار، أما الأحياء فهم يعرفون كيف ينفون عن نفسهم الكذب إذا كان هناك كذب، وإلا فاليتحملوا مسئولية أفعالهم وأقوالهم لقول الله سبحانه : ( كل نفس بما كسبت رهينة .( كثيرة هي الأقلام المعاصرة التي تناولت واقعة الحرة بالكتابة، وأخذت ما وجدت عنها من روايات مليئة بالكذب والافتراء في كتب التاريخ مأخذ التسليم المطلق، دون أن تلزم نفسها عناء البحث والتنقيب لمعرفة مدى صحة ما ورد فيها من عدمه، وكان أهم مستندهم في ذلك هو روايات رواها أناس عرفوا بالكره والحقد على أهل الإسلام مثل " أبو مخنف لوط ابن يحيى " و " هشام بن محمد بن السائب الكلبي" و " جابر بن يزيد الجعفي" وهؤلاء الثلاثة أهم من اكبر رواة الأكاذيب التاريخية وممتهني تزوير الحقائق يجمع بينهم خيط الترفض والتشييع الإمامي المقيت . وهم يُعدون بحق المصدر الرئيس لكل رواية تروم الطعن في الإسلام وأهله بدءا من أحداث السقيفة، مرورا بمقتل عثمان رضي الله عنه وما جرى بعده من حروب بين الصحابة أيام الفتنة، وصولا إلى مقتل الحسين و موقعة الحرة التي عليها يدور حديثنا في هذه المقالة، وغيرها من الأحداث التي تعرض لها أمثال هؤلاء الرواة وتناولوها بكثير من الكذب والتزوير والتدليس. والسبب في عدم التمحيص هذا هو انعدام الكفاءة العلمية وعدم التخلق بأخلاق البحث العلمي الموضوعي التي تروم الوصول إلى الحقيقة القائمة على الدقة والتمحيص في التعامل مع المرويات الموجودة في كتب التاريخ وغيرها. الكل يعلم في وقتنا الحالي مدى ما يتطلبه نقل الخبر والمعلومة إلى الناس من دقة وصدق حتى ينال ناقله كل التبجيل والاحترام، فيُعتمد بعدها كمصدر موثوق، خاصة عند من يهتم بتلك الأخبار من صناع القرار في المجالات المختلفة سواء كانت سياسية، اقتصادية أو اجتماعية. وقد سمعنا كثيرا، كيف أن أفرادا ومؤسسات فقدوا مصداقيتهم بسبب عدم الدقة في الأخبار والمعلومات التي ينقلونها للآخرين، مقابل غيرهم زادت مصداقيتهم بسبب تحريهم الدقة وعدم القبول بترويج الأغاليط والأكاذيب فنالوا بذلك السمعة الطيبة في محيطهم. نعود لحديثنا عن واقعة الحرة وما دار حولها من أكاذيب وأراجيف باطلة، كان بطلها بدون منازع " ابو مخنف لوط ابن يحيى". وقبل ان نعرض لرواية " ابو خنف يحيى ابن لوط" وأصدقائه الأخرين في الكذب نقارنها بروايات أهل السنة ، والتي أرى أنها كانت المصدر الأساسي الذي اعتمده الكثير من الحطابين والحكواتيين حينما يريدون التعرض لتلك الواقعة، وقد ذهب، على ما اعتقد، الأستاذ عيسى أشرقي في مقاله الأنف الذكر مذهبهم، وعليه أطلق العنان لأحكامه القاسية، المبنية على باطل، على جيل كان لا يزال بعض الصحابة وكثير من أبناء الصحابة أحياء يرزقون فكيف به يعتقد أنهم سكتوا عن تلك المنكرات التي اقترفت في حق أهل المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم بحسب رواية أبو مخنف وباقي الكذبة؟، غير انه ما بني على باطل فهو باطل كما تقول القاعدة الفقهية. تعالوا بنا نعرف من هو أبو مخنف وصديقاه الأخرين، وماذا قال بحقه علماء الرجال وأطباء الروايات الممحصين لصحيحها من سقيمها. 1) أبو مخنف لوط بن يحي : يعتبره الشيعة من كبار مؤرخيهم ( رجال الكشي 245 _ رجال الحلي136) وأما درجته عند أهل السنة فقد أجمع نقاد الحديث على تضعيفه بل وعلى تركه . قال أبو حاتم : متروك الحديث . وقال ابن حبان رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات وقال السليماني : كان يضع للروافض . وقال ابن عدي : حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين ولا يبعد منه أن يتناولهم وهو شيعي محترق صاحب أخبارهم . وقال ابن حجر : إخباري تالف لايوثق به. 2) هشام بن محمد بن السائب الكلبي : قال الدراقطني : متروك . وقال ابن عساكر : رافضي ليس بثقة . وقال ابن معين : ليس بشيء كذاب ساقط. 3) جابر بن يزيد الجعفي : قال ابن معين : كان كذابا . وقال في موضع آخر : لا يكتب حديثه ولا كرامة . وقال زائدة : أما الجعفي فكان والله كذابا يؤمن بالرجعة . وقال ابن حبان : كان سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ كان يقول : إن عليا يرجع للدنيا. يقول ابن تيمية رحمه الله، وهو قد أتى متأخرا بقرون عن هؤلاء الرجال الأفذاذ من أهل العلم بالرجال عن هؤلاء الرواة الكذابين في كتابه منهاج السنة ( منهاج السنة ( 5 / 81) :" وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب ( الكذب ) يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل : أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذب الناس وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب". غير انه لسائل أن يسأل لماذا صاحب التاريخ الكبير الإمام الطبري رحمه الله تعالى روى عنهم وهم معروفون بالكذب؟ أقول أن الإمام الطبري قد بين منهجه في تاريخه وأبرأ ذمته حين قال في مقدمة تاريخه الجزء الأول ص 8: ( فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه ، من أجل أنه لم يعرف له وجها من الصحة ولا معنى في الحقيقة ؛ فليعلم أنه لم يُؤْت في ذلك من قبلنا ، وإنما أُتِي من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا). فطريقته رحمه الله كانت كطريقة باقي المؤرخين هي الجمع والتقميش دون التفتيش إلا في القليل النادر، بمعنى أنه جمع ولم يحقق الأسانيد لما جمعه ، فمثله في ذلك كمن يجمع التحقيقات في حادثة فيجمع أقوال الشهود ومن كان موجودا بغض النظر عن عدالتهم وضبطهم وكونهم ثقات أو كذابين أو لهم غرض أو هوى،ثم تأتي مرحلة التمحيص للأقوال من القضاة بعد ذلك فيكشفون زيغ فلان وكذب فلان وغير ذلك حتى يصلوا للحقيقة. وهكذا ينبغي أن توضح أسانيد الكتاب تحت التحقيق والبحث وللأسف حتى الآن لم يطبع الكتاب محققا تحقيقا علميا ُيَبين فيه الصحيح من السقيم . وكمثال على هذا نجد مثلا ان تاريخ الطبري قد بلغت فيه روايات أحد أبرز المتهمين بالكذب ، وأهم الوضاعين الرافضة الكذابين المطعون في عدالتهم - " أبو مخنف لوط بن يحي" في تاريخ الطبري قرابة ( 600 ) ستمائة رواية استغرقت الفترة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى سنة 132ه. وقد تناولت روايات أبو مخنف هذا، زمن الخلفاء الراشدين والدولة الأموية حيث جاء فيها بالطامات والبلايا كانت بمثابة المعين الذي لا ينضب للشيعة الراوفض والمستشرقين للتشنيع على الإسلام وأهله. بعد أن بينا حال الرواة الذي تم اعتمادهم في مثل واقعة الحرة التي تدعي الروايات الشيعية انه تم خلالها استباحة المدينة النبوية ثلاثة أيام حتى وصل الأمر إلى أن حملت في تلك الأيام ألف امرأة زوج وافتض فيها ألف عذراء، سنقف قليلا عند واقعة الحرة وكيف تم الحديث عنها في الروايات السنية والروايات الشيعية. موقعة الحَرَّة وكذب استباحة المدينة النبوية ثلاثة أيام أخرج ابن عساكر في تاريخه: لما احتضر معاوية دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوماً. فإن فعلو فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته. فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة و جماعة فأكرمهم و أجازهم، فرجع فحرَّض الناس على يزيد و عابه و دعاهم إلى خلع يزيد. فأجابوه فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة. فهابهم أهل الشام و كرهو قتالهم. فلما نشب القتال سمعو في جوف المدينة التكبير، و ذلك أن بني حارثة أدخلو قوماً من الشاميين من جانب الخندق. فترك أهل المدينة القتال و دخلو المدينة خوفاً على أهلهم. فكانت الهزيمة و قتل من قتل. و بايع مسلم الناس على أنهم خوَّل ليزيد يحكم في دمائهم و أموالهم و أهلهم بما شاء»( تاريخ دمشق (58/104-105).. و ذلك سنة 63ه(المعرفة و التاريخ (3/426). روى المدائنى أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة فلما أخبره بما وقع قال «واقوماه». ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري فقال له: «ترى ما لقي أهل المدينة فما الذي يجبرهم»؟ قال: «الطعام و الأعطية». فأمر بحمل الطعام إليهم و أفاض عليهم أعطيته(البداية و النهاية (8/233-234).. و قد أوصاه أباه معاوية قبل موته بأهل الحجاز فقال: «اعرف شرف أهل المدينة و مكة فإنّهم أصلك و عشيرتك». و لا صحة للروايات الشيعية بأنه فرح لما حدث كما أثبت المحققون من مؤرخي السنة ( و البداية و النهاية (8/224). و كذلك الرواية الشيعية في إباحة المدينة للجيش الشامي ثلاثة أيام يفعل فيها ما يشاء بطلب من يزيد بن معاوية. فهذا من الكذب الظاهر الذي لم يثبت (إنظر: كتاب يزيد بن معاوية – حياته و عصره – للدكتور عمر سليمان العقيلي، (ص68-69) مع هامش رقم (94) و (103)، و كتاب صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت عبد الله (ص77-83) حيث ناقشت الموضوع بأسلوب علمي و ظهرت بنتيجة واحدة وهي عدم ثبوت صحة واقعة الاستباحة للمدينة. و لو قارنا الرواية الشيعية على لسان أبي مخنف الكذاب، و بين الروايات السنية التي جاءت عن رواة ثقاة مثل: عوانة بن الحكم (ت147ه) و وهب بن جرير (ت206ه)، لوجدنا تناقضاً واضحاً، حيث لم يرد في رواياتهما ما يشير إلى الاستباحة. بل إن الرواية الشيعية نفسها غير معقولة أصلاً. فهي تذكر أن يزيد أوصى الجيش باستباحة المدينة ثلاثة أيام بلياليها يعيثون بها، يقتلون الرجال و يأخذون المال و المتاع، و أنهم سبو الذرية و انتهكو الأعراض حتى قيل إن الرجل إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها و يقول لعلها افتُضَّت في الوقعة. و أن عدد القتلى بلغ سبعمئة رجل من قريش و الأنصار و مهاجرة العرب و وجوه الناس، و عشرة آلاف من سائر القوم. و قد أنكر شيخ الإسلام ذلك (انظر: منهاج السنة (4/575-576) . و هل يعقل حدوث ذلك كله في عصر التابعين و الصحابة دون أن نجد أي ذكر لذلك في الروايات السنية؟ فعلى الباحث ألا يتسرع في الأخذ برواية هذا الكذاب، خاصة إذا كانت تتعرض لأحداث وقعت في عهد الدولة الأموية و عهد يزيد بالذات، و هو المكروه من قبل عامة الشيعة فما بالك إذا كان هو الراوي الوحيد للحادثة؟ و هناك رواية أخرى عند الطبري عن وهب بن جرير حيث أشار فيها إلى إكرام وفادة يزيد لوفد أهل المدينة عند تواجدهم في دمشق، كما أنه لم يتطرق بالذكر لتوجيه يزيد لقائده مسلم بإباحة المدينة ثلاثة أيام، و إنما قال: فانهزم الناس فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل من الناس، فدخلو المدينة و هزم الناس، فدخل مسلم بن عقبة المدينة فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم و أموالهم ما شاء. و هناك رواية ثالثة ذكرها الطبري تختلف عن رواية أبي مخنف و هي لعوانة بن الحكم، و تؤكد أن مسلم بن عقبة دعا الناس بقباء إلى البيعة – أي بيعة يزيد– ففعلو و قتل مسلم المعارضين و المشاغبين منهم فقط (الطبري ( 5/495). إذاً رواية وهب بن جرير و عوانة بن الحكم لم تذكر شيئاً عن أمر يزيد لمسلم بإباحتها ثلاثاً، إذاً أمر إباحة المدينة ثلاثة أيام قصة مشكوك في وقوعها، و لم يرد شيء على الإطلاق في هذا الصدد عن سبي الذراري و هتك الأعراض. فحادثة إباحة المدينة و قتل الصحابة فيها بتلك الصورة لم يكن و لم يحدث. و لكن قد حدثت معركة حتماً و قتل البعض. كما أسفرت هذه الوقعة عن فقدان كثير من الأشياء المادية والعلمية و حرقها (إنظر: التهذيب (7/180)، و البخاري مع الفتح (5/370-371)، و صحيح مسلم برقم (4077)، و أثر في مسند أحمد (3/376)، و أورده الحافظ في الفتح (5/373). و ثبت أن أهل الشام، قد أخذو بعض الأشياء التي تخص أهل المدينة، لكن ليست بالصورة التي صورتها الروايات الضعيفة من الاستباحة و القتل و هتك الأعراض و غيرها من الأمور المنكرة ( إنظر: مواقف المعارضة في خلافة يزيد لمحمد الشيباني (ص347-356). بعد كل ما ذكرناه نقول للأستاذ اشرقي عليك ان تراجع ما كتبته بخصوص أمر يزيد ابن معاوية باستباحة المدينة النبوية ثلاثة أيام ، وما رتبت عليه من أحكام جاهزة من تفسيق وإخراج من الإسلام لأحد ملوك المسلمين الذي قال عنه الإمام أبي حامد الغزالي لما سئل عمن يصرح بلعن يزيد بن معاوية ، هل يحكم بفسقه أم لا ؟ و هل كان راضياً بقتل الحسين بن علي أم لا ؟ و هل يسوغ الترحم عليه أم لا ؟. فأجاب رحمه الله: ]لا يجوز لعن المسلم أصلاً ، و من لعن مسلماً فهو الملعون ، و قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم ليس بلعان ، ( المسند (1/405) و الصحيحة (1/634) و صحيح سنن الترمذي (2/189) ) ، و كيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك - لحديث عمران بن الحصين قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره و امرأة من الأنصار على ناقة ، فضجرت فلعنتها ، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : خذوا ما عليها و دعوها فإنها ملعونة ، قال عمران : فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. جمع الفوائد (3/353) ، و حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم - هو أثر موقوف على ابن عمر بلفظ : نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنه يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك و أعظم حرمتك ، و المؤمن أعظم حرمة منك ، و هو حديث حسن ، أنظر : (غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال و الحرام للشيخ الألباني (ص197)). و قد صح إسلام يزيد بن معاوية و ما صح قتله الحسين ولا أمر به ولا رضيه ولا كان حاضراً حين قتل ، ولا يصح ذلك منه ولا يجوز أن يُظن ذلك به ، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام وقد قال الله تعالى: (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ) )الحجرات/12( ، و من زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به ، فينبغي أن يعلم أن به غاية الحمق ، فإن من كان من الأكابر والوزراء ، و السلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله و من الذي رضي به و من الذي كرهه لم يقدر على ذلك ، و إن كان الذي قد قُتل في جواره و زمانه و هو يشاهده ، فكيف لو كان في بلد بعيد ، و زمن قديم قد انقضى ، فكيف نعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد ، و قد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب فهذا الأمر لا تُعلم حقيقته أصلاً ، و إذا لم يُعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به . و مع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلماً فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر ، و القتل ليس بكفر ، بل هو معصية ، و إذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة و الكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته فكيف بمؤمن تاب عن قتل .. و لم يُعرف أن قاتل الحسين مات قبل التوبة و قد قال الله تعالى: (و هو الذي يقبل التوبة عن عباده ، و يعفوا عن السيئات و يعلم ما تفعلون)(الشورى/25) فإذن لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين بعينه لم يروه النص ، و من لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى .و لو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع ، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره مع جواز اللعن عليه لا يُقال له يوم القيامة : لِمَ لَمْ تلعن إبليس ؟ و يقال للاعن : لم لعنت و مِنْ أين عرفت أنه مطرود ملعون ، و الملعون هو المبعد من الله تعالى و ذلك علوم الغيب ، و أما الترحم عليه فجائز ، بل مستحب ، بل هو داخل في قولنا : اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإنه كان مؤمناً و الله أعلم بالصواب . قيد الشريد من أخبار يزيد (ص57-59(.. و قد سئل الإمام ابن الصلاح عن يزيد فقال) : لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين رضي الله عنه والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك ، و أما سب يزيد و لعنه فليس ذلك من شأن المؤمنين ، و إن صح أنه قتله أو أمر بقتله ، و قد ورد في الحديث المحفوظ : إن لعن المؤمن كقتاله - البخاري مع الفتح (10/479) -، و قاتل الحسين لا يكفر بذلك ، و إنما ارتكب إثماً ، و إنما يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام .و الناس في يزيد على ثلاث فرق ، فرقة تحبه و تتولاه ، و فرقة تسبه و تلعنه و فرقة متوسطة في ذلك ، لا تتولاه ولا تلعنه و تسلك به سبيل سائر ملوك الإسلام و خلفائهم غير الراشدين في ذلك و شبهه ، و هذه هي المصيبة – أي التي أصابت الحق - مذهبها هو اللائق لمن يعرف سِيَر الماضين و يعلم قواعد الشريعة الظاهرة) . قيد الشريد ص59-60)). خاتمة: منقبة ليزيد بن معاوية : أخرج البخاري عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت و هو نازل في ساحة حمص و هو في بناء له و معه أم حرام ، قال عمير : فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ، فقالت أم حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ، فقلت : أنا فيهم قال : لا . البخاري مع الفتح (6/120). فتحرك الجيش نحو القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأ رضي الله عنه عام خمسين من الهجرة ، فاشتد الأمر على المسلمين فأرسل بسر يطلب المدد من معاوية فجهز معاوية جيشاً بقيادة ولده يزيد ، فكان في هذا الجيش كل من أبو أيوب الأنصاري و عبد الله بن عمر و ابن الزبير و ابن عباس وجمع غفير من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين . وأخرج البخاري أيضاً ، عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود : فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي توفي فيها ، ويزيد بن معاوية عليهم – أي أميرهم - بأرض الروم . البخاري مع الفتح (3/73(. و في هذا الحديث منقبة ليزيد رحمه الله حيث كان في أول جيش يغزوا أرض الروم. ""