ريمي لوفو منذ الانتخابات التشريعية الجزائرية لدجنبر 1991 التي كان بإمكانها أن تأتي بالاسلاميين إلى السلطة والتي أدت إلى انقلاب عسكري، تتساءل النخب السياسية في العالم العربي عن الجدوى من مسلسلات انتخابية تتعدى الواجهة، فخضوع الشعوب لزعماء شعبويين وديماغوجيين يشكل ذريعة شائعة لعدم وضع اختيار الحاكمين فعليا بين أيدي الاقتراع الشعبي. النقاش عاد إلى الواجهة في الوقت الذي تريد الدول الغربية فرض الديمقراطية على أنظمة تسلطية لطالما شجعتها كما هي من أجل ضمان السيطرة على عائدات النفط وأمن اسرائيل، صحيح أنه بالإمكان أن نجد تبريرات مماثلة للتهرب تجاه الشعب صاحب السيادة لدى البورجوازيات الأوربية في القرن 19. في المغرب طرح المشكل خاصة غذاة الاستقلال وعودة الملكية ويمكن تلخيصه في نوع من التفاعل بين مبدأ الاجماع الذي يبقي على الوحدة بين مختلف الفاعلين في النظام السياسي في مواجهة السلطة الاستعمارية التي ماتزال متواجدة ونوع من القدرة على الرد العسكري مادام النزاع الجزائري قائما ومبدأ الشرعية. وفي الجدلية السياسية يفترض أن يعمل هذا الاخير (مبدأ الشرعية) لتعزيز سلطة أحد الفاعلين على حساب الاخرين. وانطلاقا من فكرة ان الشرعية تستمد من الاقتراع الشعبي، كانت الحركة الوطنية المجسدة في حزب الاستقلال تبدو معينة لكسب دعمها مع الوقت بدون منازع . صحيح أن الملكية كانت تجسد شكلا آخر من الشرعية التقليدية والعصرية في نفس الوقت بفعل نفي محمد الخامس وهي الشرعية التي كانت تبدو في البداية غير قابلة للانتقال أوتوماتيكيا إلى ولي العهد المولاى الحسن. وفي حالة المغرب كان ذلك يعني تجاهل أن الملكية بإمكانها أن تراهن على الاجماع مع البقاء سيدة الاجندة السياسية مستعملة شركاءها مع اللعب، في نفس الوقت، على انقسامها بحيث يمكن مصادرة الشرعية السياسية في الوقت المناسب باستعمال الاقتراع العام لصالحها وأظهرت الملكية بسرعة خبرة وحسا في استعمال الأجندة السياسية لإلتقاط الاقتراع العام وبالتالي التقاط الشرعية، ولكنها تفعل ذلك على حساب الاجماع الذي يقوم عليه النظام السياسي في أعقاب الاستقلال وتبعا لصيغة الحسن الثاني سنة 1964، لا يمكن للملكية أن تكون موضوع مجادلة. وهو ما يستبعد تماما تبعية السلطة الملكية بأي شكل من الاشكال للاقتراع الشعبي بعد أن حصلت على الشرعية الأولى. إشكال مماثل سنشهده في مرحلة لاحقة عندما ظهر احتمال فوز الاسلاميين، فإذا كانت الشرعية الشعبية قد أدت إلى وضع نهاية للاجماع القائم غذاة الاستقلال فإن اللجوء إلى العنف من طرف الأحزاب التي أبعدت عن السلطة أو الضباط الشباب الذين كانوا يريدون ممارستها على النمط الناصري كان يبدو المخرج الوحيد الممكن وهكذا رأينا إجماعا جديدا يتشكل غذاة المحاولتين الانقلابيتين، وهذه المرة مع اللجوء إلى ممارسات انتخابية لا يخشى أن تؤدى إلى الطعن في شرعية النظام. وبعودة سريعة إلى الشروط الأولية لوضع النظام الانتخابي المغربي غذاة الاستقلال يمكن أن نفهم أبعاد ونحدد اجراءات عمل مؤسسات مازالت تشكل الاطار القانوني المرجعي للنظام الحالي. ويميل المغرب الراهن إلى نسيان معنى التجارب الانتخابية الاولى التي جرت غذاة الاستقلال (1960 - 1963) أو لإعادة قراءتها على ضوء موازين القوة والتزوير والتلاعبات التي رافقت اعادة بناء النظام السياسي بعد المحاولتين الانقلابيتين (71 و72)، لكن الأفق السياسي والفاعلين ومجالات القوة كانت جوهريا مختلفة فما بين عودة الملك محمد الخامس إلى العرش في نونبر 1955 وحل البرلمان في يوليوز 1965 سيتغير دور، وربما طبيعة الملكية والاقتراع العام سيلعب دورا في هذا التطور الذي لا يخلو من تشابه مع تبنيه (الاقتراع العام) في فرنسا القروية سنة 1848 من أجل اعادة التوازن للاتجاهات الثورية للمدن والطبقة المتوسطة تم ابتداء من انتخاب الامير رئيسا وانقلاب 2 دجنبر 1851 في ارساء نظام «الانقلاب الدائم». في البداية جعلت عودة محمد الخامس التي اشترطتها الحركة الوطنية خطاب الملكية الدستورية يتطور حتى بدون برلمان، حيث لا يحكم الملك مباشرة دون أن يفقد تحكمه في قطاعات اساسية (الداخلية والجيش) يمكن أن تمنع تنحيته . وغموض النظام يأتي من كون الشركاء / المنافسين للملكية لا يمارسون هذه السلطة إلا بتفويض من الملك ويتحاشون بالمقابل الطعن في دوره وفرض حدود لا رجعة فيها. ومع وضعية التنافس المحدثة بين مختلف الاطراف (صدور ظهير ابريل 1985 حول الحريات العامة الذي يسمح بإنشاء احزاب جديدة بتصريح فقط) بدأ كل طرف يحاول الحصول على وسائل تعزيز موقعه. وفي هذا الأفق طغى الصراع الخفي بين مختلف تيارات الحركة الوطنية على المحاولات الجنينية لتشكيل تحالف ضد الملكية وبالنسبة لأغلب الفاعلين السياسيين المغاربة المبهورين بكفاح حركات التحرير الوطني من فيتنام إلى كوبا، كان مصير التنافس مع الملك يبدو كمسألة وقت، مع حرص خاص بعدم تسريع الأمور مع ملك يقدرونه ويعرفون شعبيته. بالنسبة للكثيرين القضية يمكن أن تنتظر تغيير الملك على العكس من ذلك، كان محمد الخامس وولي العهد مولاي الحسن أكثر حرصاً على مأسسة تعبئة الجماهير التي رافقت المعركة من أجل عودة الملك من المنفى، وتحويلها في شكل تيار من أجل شرعية عصرية. وفي السنوات الأولى للاستقلال، لا الملكية ولا مختلف تيارات الحركة الوطنية كانت تبحث عن الخروج من الغموض، وكل طرف كان يأمل في توجيه إجماع الإحساس الوطني لصالحه. كان إقرار الاجراءات الشكلية للديمقراطية البورجوازية، وخاصة النظام الانتخابي، جزءاً من المرحلة الأولى للتغيير السياسي الذي أعقب استقلال المغرب، لكن بسرعة ستكشف محاولة امتلاك الطقس السياسي للقوة الاستعمارية السابقة، عن طبيعته المزيفة. وإذا كانت الدراسات الانتخابية تبقى متأثرة بالنقاشات الكلاسيكية (1) حول التمثيلية والتفويض وتأخذ المواطن كنقطة انطلاق، فإن وضع المسلسل الانتخابي ينطلق في الأساس من قرار تتخذه النخب السياسية المغربية التي تنتظر منه مكاسب هناك، حيث البنيات الجماعية ذات الطابع القبلي أو العشائري تبقى أهم من الفرد. ولذلك، فإن التجربة الانتخابية المغربية تشكل حالة خاصة، فالمغرب شارك من ماي 1960 الى أبريل 1963 في ثلاثة اقتراعات عامة حيث استطاعت الأحزاب السياسية القيام بحملات انتخابية ناجحة أحياناً حول مواضيع مختلفة ومعارضة للحكومة. فتم انتخاب معارضين للنظام وتم إخفاق وزراء في الحكومة. ولفهم المعنى السياسي لهذه الظواهر، سيكون من المفيد مقارنة تنفيذ ووضع النظام الانتخابي المغربي مع مسلسل تاريخي مشابه في أوربا، وإذا كانت الطرق تختلف، يمكن على مستوى نوايا القادة، أن نضع بعض الفرضيات، من شأنها أن تقربنا من النماذج الكلاسيكية في أوربا، لاسيما حول دور الانتخابات في نظام ملكي انتقالي. وهكذا يمكن مقارنة قوة المشاركة الشعبية في الكفاح من أجل عودة محمد الخامس من المنفى، بقوة الثورات الأوربية في القرن 19، وإلى جانب ذلك، فإن القرار الملكي لفاتح شتنبر 1959 الذي أسس للانتخاب بالاقتراع العام المباشر دون أية قيود، لم يأت كمكسب لنضال شعبي، بل كمحصلة لنقاش سياسي داخل الطبقة الحاكمة، فمطالب حزب الاستقلال لم تكن مبالغة، ومقاومة الملك تنبع من اعتبارات لها علاقة بالظرف السياسي أو بالأجندة السياسية، أكثر منها لاعتبارات معارضة مبدئية للديمقراطية. وفي نفس الوقت، هناك عدة مشاكل متنوعة من قبيل التضامن مع نضال الشعب الجزائري، وجلاء القواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية، واستعادة الأراضي المحتلة وتوسيع وتعريب التعليم وإحداث الحزب الوحيد أو التعددية الحزبية كلها مواضيع كانت لها سلطة تعبوية أكبر بكثير من انتزاع حق الاقتراع. فنحن هنا بعيدون عن المطالب البورجوازية والعمالية المتعلقة بتوسيع حق الاقتراع في أوربا القرن 19. والعنصر الوحيد الذي يمكن أن يذكر بالظروف السياسية لأوربا القرن 19، هو بالفعل، اختيار الملك المشابه لاختيار ديزرائلي أو بيسمارك لفائدة الاقتراع العام المباشر، بينما بعض الوطنيين كانوا سيقنعون بحق تصويت ممنوح في مرحلة أولى لمواطنين متعلمين أو باجراءات اقتراع غير مباشر. النخب القروية كانت أكثر انتباها للاجراءات التي تسمح لها من جديد بالمشاركة في قرارات الادارة المحلية. وفي هذا الصدد، كانت العودة إلى ممارسات توظيف مساعدي السلطة يهمهم أكثر من مسلسل انتخابي لا يكتسي أهمية إلا بالقدرة الجديدة على التفاوض مع السلطة التي يوفرها لهذه النخب. والتيارات المختلفة للحركة الوطنية والنقابات العمالية والمهنية كانت تفضل صيغة مجلس استشاري معين، كما تؤكد ذلك، سواء تجربة مجلس الحماية أو الجمعية الوطنية الاستشارية للسنوات الأولى للاستقلال. وبشكل ثانوي، كل واحد من الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية، يعتقد أنه المؤهل لتمثيلية شاملة وموحدة للنظام السياسي، والقبول بقياس تأثير كل واحد في نظام تعددي يجبر هذه الأحزاب على التخلي عن تطلعها الأساسي ويجعلها هشة أمام تأثير الملكية. بالمقابل، مبدأ المجالس الاستشارية لا يمس بآمالها مع توفير وسائل ضغط هائلة على القصر وعلى الحكومة. ورغم هذه التحفظات والترددات، استطاع النظام الانتخابي المغربي الاشتغال من 1960 الى 1963 بنسبة مشاركة مرتفعة، سواء بالمقارنة مع نسب المشاركة التي نجدها عادة في دول العالم الثالث أو مع النسب التي لاحظنا خلال مرحلة وضع الاقتراع العام في الدول الأوربية. وإذا كان هذا النظام الانتخابي قد تمكن من المساهمة في مسلسل تعبئة سياسية للجماهير، فإنه مازال بعيداً عن أن يشكل الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها يؤثر المواطنون على قرارات الجماعة. ومازال بالإمكان التلاعب به وبشكل مباشر من طرف السلطة الملكية. 1 تتقاسم النخب السياسية المغربية، بدءاً بولي العهد مولاي الحسن، ثقافة قانونية فرنسية تجعل من المنتخب ممثلا للأمة. ويتخوف أغلبها من العلاقات التي يمكن أن تبقى بين المنتخبين في العالم القروي والأوساط القبلية والعشائرية. ومازال في الوسط القروي رهينا بشبكات التأثير التقليدية التي تعمل في الغالب في نفس الإتجاه. على العكس من ذلك في الوسط الحضري التقليدي أو العصري، تتعامل التنظيمات السياسية مثل الأحزاب، النقابات أو حتى بعض الجمعيات (التجار، الحرفيين أو قدماء المقاومين) مع المسلسل الانتخابي كأي شكل آخر من العمل الجماعي. محاولة تصنيف عوامل التعبئة تقليديا بقسم خبراء الدراسات الانتخابية عوامل التفسير الى قسمين: العوامل السياسية و العوامل السوسيواقتصادية. هذه النظرة الثنائية للواقع تبدو غير ذات جدوى بالنسبة لهذا التحليل، فإذا كان عنصر التعبئة هو العنصر البارز للاستشارات المغربية، فالعنصر المهم الآخر هو رغبة العمل أو المناورة لدى الأوليغارشيات الحاكمة، هذا التوجه يمنح امتياز التلاءم بشكل أفضل مع مفهوم التعبئة، والأخذ في الاعتبار عناصر لاتهتم بها كثيرا الدراسات الانتخابية، وادماج العناصر السياسية والاقتصادية وفق تصور جديد، وأخيرا، التساؤل حول عواقب اللعبة الانخابية على النظام السياسي برمته. ومنذ البداية تبدو مجهموعة من العوامل في متناول الأوليغارشيات الحاكمة، لاسيما المعطيات القانونية والسياسية للاستشارات. ولا يتعلق الأمر هنا بإعطاء جرد لها، بل برؤية كيف يمكن لهذه الآجراءات اأن تبرر (لأنها لا تنجح في ذلك دائما) الهيمنة السياسية لهذه الأوليغارشيا على مستؤى الاستراتيجيات. ما هي تصورات القادة للجوء إلى الاقتراع؟ أو بمعنى أدق ما هي الإيديولوجيات التبريرية التي يستعملونها؟ هل يتعلق الأمر باعتقادات »ليبرالية« أو »شمولية«؟ في مرحلة أولي نظهر حرصا علي ابراز أو توضيح مختلف تيارات الرأي أو التعبير عن التعددية السياسية والاجتماعية. وعلى النقيض يرمي اللجوء الى الاقتراع العام إخفاءالاختلافات بمنع تنافس فعلي للقوى الاجتماعية والسياسية في اختيار الحاكمين تجعل من الوضعية المغربية حالة خاصة. نعرف كيف عاد محمد الخامس من المنفى إلى السلطة سنة 1955 بواسطة حركة احتجاج وطني مكثف أدى إلى كفاح مسلح يمزج بين العمليات العسكرية في المدن والمقاومة الشعبية في البادية، وإلى جانب قيمته كزعيم ديني، فالملك يحضى بعد عودته إلى العرش بمكانته كزعيم وطني عصري ساهمت الأحزاب والنقابات بشلك كبير في خلفه وجعله رمزا لكفاحهم ضد الحماية. لكن بعد الاستقلال لم يكن قادة الأحزاب والنقابات يرغبون في أن يحتكر الملك لصالحه ما كانوا يعتبرون أنه مكسب جماعي للاستقلال. بالمقابل لم يكن محمد الخامس يرغب في أن يرى المنظمات الوطنية تستعمل ضده تاكتيك الاستنزاف ورهان القوة الذي نجح ضد الحماية. في ظل هذه الظروف، كان اللجوء الى الاقتراع العام يبدو له علي نحو مزدوج. فهو من جهة حريص كل الحرص على تفادي أن يسقط تحكم اللجوء الى الاقتراع العام، بين أيدي قادة حزب وحيد سيكون بذلك قادرا علي مواجهة الشرعية التقليدية للملكية بشرعية ديمقراطية. ومن جهة ثانية أحس محمد الخامس وبالأخص الحسن الثاني بأن بمقدوره، من خلال اللعب على تناقضات مختلف اتجاهات الحركة الوطنية، أن يوجه لصالحه هذه الشرعية الديمقراطية الصاعدة. محمد الخامس كان يتبنى المرجعية للنظام الإيديولوجي الليبرالي. وفي خطاب العرش ليوم 18 نونبر 1955، الذي ألغاه يومين بعد عودته إلى أرض الوطن، أعلن الملك رغبته في أن يرى تشكيل »حكومة مغربية مسؤولة وتمثيلية مكلفة ب «خلق مؤسسات ديمقراطية ناجمة عن انتخابات حرة، ترتكز على مبدأ فصل السلط في إطار ملكية دستورية». لكن هذه المرحلة لا يمكن بلوغها إلا بعد مسار: فالشعب المغربي سيتعلم أولا داخل مجالس محلية قبل الانتقال الي مرحلة البرلمان الوطني. ومن تم جاء قرار تنظيم انتخابات بلدية سنة 1960. والشرعية الديمقراطية لا تطبق في مرحلة أولى على الهيئات السياسية العليا. عند وصوله الي السلطة في مارس 1961، كان الملك الحسن الثاني يشاطر الاختيار الإيديولوجي لوالده. لكنه دفع الى »التلاعب« بالشرعية الديمقراطية الصاعدة، فمطالب أهم القوى السياسية، والضغط غير المباشر لاستقلال الجزائر (1962) وضعت بالحاج - أكثر فأكثر مسألة انتخاب جمعية تأسيسية على جدول الأعمال هذه المسطرة تحمل في طياتها خطر نشوب نزاع بين الشرعية التقليدية والشرعية الديمقراطية الجديدة. وهكذا لجأ الملك الى مسطرة الاستفتاء التي تسمح للملكية بوضع سلطاتها على أسس جديدة باستعمال مبدأ الشرعية الديمقراطية لمنافسيه. بتوجيه الانخراط الشعبي شبه الكلي نحو أمير المؤمنين عن طريق الاقتراع العام، نصب الملك نفسه الممثل الأسمى للشعب دون أن يمس بمبدإ الملكية، كما كان من المحتمل أن يحدث لو قدم دعمه المباشر لحزب من أجل انتخاب هيئة تأسيسية. هذه الاستراتيجية »تلاعبت« بالشرعية الديمقراطية لأن الناخبين مدعوون للموافقة على وضعية قائمة (امتلاك السلطة أمر واقع). نظريا يمكن للناخبين أن يصوتوا ب «لا» وبهذا المعنى فالاستفتاء له بعد ديمقراطي. لكن التصويت »بلا« له حظوظ بأن لا يكون شيئآ آخر أكثر من احتجاج رمزي. وكل ما يمس أسس السلطة، الدنيوية يمتزج بمحتوى ديني قوي. وبالتالي كان مؤكدا أن استشارة شعبية حول الدستور ستجري في مناخ خاص حيث العنصر الروحي والغيبي للسلطة الملكية يبدو أكثر أهمية من التقنيات العصرية لاختيار الحاكمين او اتخاذ القرارات الجماعية التي تنوي التأسيس لها. وهذه »القدسية« للسلطة الملكية تضع الناخبين تحت تأثير »إكراه إلاهي«. ودهاء الاسلوب الاستفتائي يتمثل في الاستجابة للتطلع الاجماعي للمجتمع التقليدي بتحويله الى ايديولوجية ديمقراطية بالدعوة الى التصويت ب «نعم» للملك قائد الامة. لكن استعمال الايديولوجية الديمقراطية من طرف الحسن الثاني لم يكن كليا. لأن انتخاب مجلس النواب المقرر في مشروع الدستور، المصادق عليه من طرف الشعب، يحترم مبادىء النظام التنافسي. حق التصويت ممنوح لجميع المواطنين دون شروط خاصة، ومن حق النساء ايضا المشاركة في التصويت. وجميع المقتضيات المتعلقة بالكتلة الناخبة والاهلية مستلهمة من القانون الفرنسي، وهي مقتضيات تتلاءم مع الطابع الليبرالي المعبر عنه، والطابع المميز لها هو اقحامها من البداية في اللعبة السياسية بينما في أوربا الغربية لم تعتمد هذه الاجراءات الا تدريجيا. وكما في ميادين أخرى ، فإن مسلسل التعلم المميز للدول العريقة غائب. ومع ذلك لايمكن تجاهل أهمية الاجراءات الادارية الضرورية لإعطاء وجود ملموس لهذه القرارات القانونية (التحفيز على التسجيل في اللوائح الانتخابية، الظروف والشروط المادية لسرية الاقتراع...). ونظمت حملة حقيقية للتسجيل: تعبئة الادارة على المستوى الوطني والمحلي من أجل الإعداد ووضع 15 ألف مكتب للتصويت، وتم تخصيص اعتمادات مالية خاصة، وتم الرفع من عدد مكاتب التسجيل، وفي البوادي تم تجنيد فرق متنقلة لتلقي طلبات التسجيل في الاسواق، وتم منح تسهيلات إدارية تأخذ في الاعتبار التقاليد. وتسجيل النساء يتم عن طريق الازواج او الآباء سواء بالنسبة للانتخابات البلدية لسنة 1960 او خلال استفتاء دجنبر 1963. عمل السلطات الادارية رافقته حملة دعائية مكثفة، وتم استعمال وسائل الإتصال العصرية على أوسع نطاق. تم تنظيم عدة برامج إذاعية، توزيع أجهزة المذياع مجانا على الشيوخ من أجل تنظيم جلسات استماع جماعية. وتم وضع 1000 جهاز تلفزة في الاماكن العمومية ومقاهي المدن. وتم وضع ملصقات ولافتات في الطرقات، وتم تخصيص خطب الجمعة في المساجد لهذا الموضوع. واستعملت وسائل الدعاية التقليدية (البراح) في أسواق البوادي، وفي المدن استعملت سيارات بالابواق لنفس الغرض... حملة الدعاية هاته اعطت الإمتياز للسلطات العمومية. واحزاب المعارضة، حتى وآن كانت وسائلها دون مستوى الوسائل المتاحة للسلطات العمومية، فلها امكانية إسماع صونها خاصة من خلال تقديم ترشيحات في مواجهة مرشحين مقربين من السلطة. وفي مجتمع تعتبر فيه الآلية الانتخابية مؤسسة جديدة ورغم المقتضيات القانونية غير التمييزية، فإن الحاكمين فكروا في لحظة من اللحظات في تأجيل الانتخابات البلدية لسنة 1960 ، بسبب العدد غير الكافي للمرشحين وهذه الوضعية تفسر تدخل السلطة السياسية فيما بعد من أجل تشجيع الترشيحات، والناخبون لم يستوعبوا بعد أهمية الطقس الانتخابي، وفي العديد من الدوائر المنسجمة على المستوى العرقي او القبلي لم يكن بها سوى مرشح واحد معين من طرف أهله للمشاركة في هذا الشكل الجديد من الحوار مع الحاكمين، وعلى العكس اذا كانت الدائرة مشكلة من قرى ودواوير مقسمة بصراعات وخصومات تقليدية، تقدم كل مجموعة مرشحها والصراع قد يكون حاميا، قد يصل حد تسجيل نسب مشاركة استثنائية في التصويت لاسيما المشاركة النسائية. في المدن وفي المناطق القروية العصرية كانت ترشيحات الاحزاب معقلنة، لكن التصرفات التقليدية خلال التصويت كانت هي السائدة. التقسيم غير المتكافىء للدوائر لعب دوا ثانويا على العموم، ولاحظنا تفاوتات في التمثيلية بسبب اختيار الاقتراع الاحادي الاسمي في دورة واحدة أساسا سواء بالنسبة للانتخابات البلدية او بالنسبة للانتخابات التشريعية. وتم ترجيح كفة المناطق القروية المساندة تقليديا للملكية، على كفة المدن الكبرى العصرية، وتم عموما احترام الحدود الاثنية والادارية، وتم إعطاء وزن لايستهان به لهذه العناصر خلال الانتخابات التشريعية، وهكذا لانجد تقسيمات مصطنعة للدوائر تجمع أحياء حضرية ومناطق قروية واسعة، واذا لم يكن التقطيع الانتخابي سنة 1960 و1963 موضوع تلاعبات كبيرة فإنه مع ذلك عنصر في أيدي الحاكمين. والملك استعمل بشكل واسع مسألة اختيار تاريخ الاستشارات. في البداية استعمل محمد الخامس هذا العنصر متأكدا من تحييد ما كان يعتبره مناورة من حزب الاستقلال ضد شرعية سلطته. كان يهمه قبل ان تجري الانتخابات المحلية، ان يضمن عدم افراز سلطة منافسة تجسد بقوة الشرعية الديمقراطية في مواجهة الشرعية الملكية. وكان عليه ان يسهر على تنظيم الشروط القانونية والسياسية الضرورية لتطور نوع من التعددية حتى يبقى السلطان رمز الوحدة الوطنية. وعندما قرر الانخراط بشكل نهاذي في المسلسل المؤدي للانتخابات المحلية، رفض الملك ان يجعل منها انتخابات سياسية، خوفا من بروز سلطة منافسة. وبعد عدة ترددات جرت الانتخابات يوم 29 ماي 1960. وأقال محمد الخامس أسبوعا قبل ذلك حكومة عبد الله ابراهيم التي كانت تهيمن عليها المعارضة اليسارية، وكلف ولي العهد مولاي الحسن بمهام الوزير الاول. بعد ذلك استعمل الحسن الثاني بشكل ممنهج عنصر المباغتة، بتحديد تاريخ الاستفتاء أو تاريخ الانتخابات التشريعية. في سنة 1962 كانت المعارضة تتوقع إعادة فتح النقاش الدستوري في بداية 1963. وكان الوفاء بالأجل الذي وعد به محمد الخامس سنة 1960، والمثال الجزائري يبرر تصرفه. وكان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يهيئ في يناير 63 لمؤتمر وطني، وكان يأمل خلال تلك الفترة توطيد علاقاته مع الاتحاد المغربي للشغل، وعندما نشر في نونبر 1962 قراره بإجراء استفتاء دستوري في دجنبر 1962، خلط الملك الأوراق، وعزز الى جانبه حزب الاستقلال الذي بدأت تظهر عليه علامات الاستعجال ودفع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الى قرار مقاطعة الاستفتاء، وهو تكتيك من الصعب مجاراته في الوسط القروي، حيث يعتبر المقاطع في نظر الجميع مثل الخصم للملكية. في بداية 1963، قرر الملك مباشرة سلسلة من الاستشارات الانتخابية التي نص عليها الدستور بدءا بالانتخابات التشريعية، بينما توحي النصوص أنه سيبدأ الاستشارات المقررة بالانتخابات البلدية، لكن حسابه لم يكن فعالا لأنه لم يتمكن من تنظيم حزب ملكي، في الوقت المناسب، يستطيع استغلال نجاح الاستفتاء، نظرا بالأخص لغياب انضباط الترشيحات والتصويت والتحكم في النخب السياسية التي تدعي مساندة الملكية. وتعدد ترشيحات هذه النخب خلف وضعية كارثية في مواجهة معارضة تمكنت من رص صفوفها وتتحكم جيدا في الترشيحات. بدون شك فتاريخ الاقتراع عنصر يمكن استغلاله وله أهمية كبيرة، ومع ذلك لا يلعب بشكل مطلق في صالح السلطة، فهناك عناصر أخرى لا يمكن التحكم فيها كليا من طرف الحاكمين مثل العناصر الاقتصادية والاجتماعية التي لها دور. وكون سنة 1962 اعتبرت سنة فلاحية جيدة، عزز قرار إجراء استفتاء دون انتظار أن يستهلك الفلاحون محصولهم من الحبوب، ويبدو ان نجاح الاستفتاء شجع انتعاش الاقتصاد (انتعاش ظرفية ملائمة لكن، في أبريل 1963، كانت العناصر السياسية هي الأقوى). فالتنافر الإثني (الأمازيغ والعرب) قد يكون من بين العناصر المستعملة من طرف الملكية من أجل خلق تعددية سياسية تقيها من خطر المواجهة مع قوة أخرى تجسد شرعية ديمقراطية موحدة، ولكن أحزاب المعارضة استفادت أيضا من شبكات ترتكز على الدور المهيمن الذي لعبته البورجوازية الفاسية داخل حزب الاستقلال، ونتائج الانتخابات كما الملاحظة السياسية العادية، تؤكد أن الكتلة الامازيغية استعملت جيدا كقاعدة في الريف والأطلس المتوسط لتشكيل حزب ملكي يبقى قوته المهيمنة. في جنوب البلاد، الامازيغ تأثروا أكثر بالتطور السياسي لمدن الساحل الاطلسي، حيث كان المهاجرون منهم في منافسة تجارية مع الفاسيين وصوتوا لصالح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ونلاحظ تطورا مماثلا بالنسبة لليهود المغاربة الذين كانوا يشكلون ما بين 1960 و1963 مجموعة مهمة نسبيا من الكتلة الناخبة الحضرية في سنة 1960. كان أغلب المستشارين البلديين من الجالية اليهودية ينتمون للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الدارالبيضاءالرباط ومكناس، وقادة الاتحاد الوطني ولاسيما المهدي بن بركة أبدوا ترحيبا كبيرا في استقبال الوطنيين الشباب من اليهود. والتوجه الاشتراكي للنهج المذهبي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إضافة الى جعل المرجعية للعنصر الديني والعربية عوامل ثانوية كأسس للانتماء الوطني، كان يضمن لهم آفاقا أفضل للاندماج ويسمح لهم بإدانة الصهيونية. فيما بعد سيلتحق أغلبية اليهود المغاربة بالتيار الملكي خلال استفتاء 1962 وانتخابات 1963. ومضمون الاتفاق الضمني يتمثل في ضمان حرية الهجرة للراغبين فيها مع منح الحماية الملكية التقليدية لمن قرر البقاء. خلاصة: العناصر المثارة أعلاه استعملت بدرجات مختلفة من طرف الحاكمين المغاربة من أجل الحصول على نتائج في صالحهم خلال الاستشارات التي جرت ما بين 1960و 1963. والضغط الذي ولدته لم يكن بالقوة الكافية لإقناع أحزاب المعارضة والناخبين بعدم المشاركة في اللعبة الانتخابية. ولذلك، يبقى النظام ديمقراطيا نسبيا ويشجع إدماج جميع المشاركين في نظام سياسي انتقالي. وبينما تسعى الملكية لاستعمال التعبئة الانتخابية لتعزيز نظام سياسي تقليدي، تنشأ تناقضات، ونصل ظاهريا الى تعبئة قوية لمجموعات ، قروية في الغالب، تريد مثل للملكية، الحفاظ على البنيات القائمة وفي المقابل الاوساط الحضرية المنخرطة أكثر في مسلسل التحديث السياسي، متحفظة أكثر ولا تقبل المشاركة في هذه التعبئة السياسية إلا إذا كانت تمر عبر تنظيماتهم. وهكذا نصل عموما الى نظام سياسي هجين حيث العناصر التقليدية التي تشكل الاطار المهيمن للحياة السياسية ، لا يحد نفوذها إلا وزن التنظيمات السياسية والنقابية التي لا يكتسي المسلسل الانتخابي بالنسبة لها إلا مظهرا ثانويا. وبدرجة أو بأخرى، فإن الحساسية الى نماذج سياسية أجنبية التي يشجعها الانفتاح على تأثيرات ثقافية خارجية، ولاسيما الفرنسية، تشكل عاملا لا يستهان به لتعبئة الشرائح الاجتماعية التي تتعامل مع هذه النماذج. من جانب آخر، يمنع تواجد هذه النماذج السياسية الرضوخ الكلي لآثار الدعاية الحكومية، أو يضمن الوصول الِى مصادر معلومات (صحافة، إذاعة) ليس سهلا التحكم فيها. ويتعين أيضا الاخذ في الاعتبار آثار مسلسل التعلم: فقد تعود الناخبون من 1960 الى 1963 على ان الانتخاب والاستشارات لم تكن مستقلة عن بعضها البعض. ويتعين دمج هذا العنصر مع فهم الاستشارة من طرف المعنيين. والانتخابات البلدية لسنة 1960 يمكن أن تقترب من الديمقراطية المحلية التقليدية التي لم تكن بعيدة في اللاوعي الجماعي. وأصبح الاستفتاء شكلا جديدا من البيعة. أما بالنسبة للانتخابات التشريعية، فإن التصور السائد لها يجعل منها في الوسط القروي إجراء هدفه تعيين مستشارين مكلفين بإبلاغ الملك والدفاع لديه عن مصالح دائرة غالبا ما ينظر إليها بمنظور نظام قبلي. ويمكن استخلاص عدة دروس من هذه التجارب الانتخابية المغربية الأولى. أولا لم يتم إجراؤها الا بعد تظافر عدة ظروف داخلية وخارجية. وقرب استقلال الجزائر خلق وضع تنافس سياسي من أجل الهيمنة داخل الكيان المغاربي الجديد، والتيارات السياسية الوريثة للحركة الوطنية كانت تتردد بين المعارضة والخضوع. وبغريزة البقاء اختارت الملكية المواجهة داخليا وخارجيا، وكسرت الإجماع الى موقع قوة وأرادت تجديد شرعيتها عن طريق الاقتراع الشعبي من أجل القيام بإصلاحات تحت مراقبتها، وفي نفس الوقت تدبير منافستها مع السلطة الجديدة في الجزائر. وقد أدت الانتخابات جزئيا هدفها، وأظهرت الادارة والسلطة الملكية قدرتهما على تعبئة الاقتراع العام لصالحها، وهذه العملية التي تعزز تحالف الملكية مع العالم القروي، عرقلت كل سياسة إصلاح محافظ كان من الممكن أن يحدد مصير الملكية المغربية، كما أدت الى إسقاط شاه إيران. ومحمد الخامس كما الحسن الثاني اكتسبا الإحساس بخطورة المسلسل الانتخابي الذي يتعين التحكم فيه إذا ما أردنا تحديد دوره في إضفاء الشرعية فقط ، دون تأثير على اختيار الحاكمين مادامت الملكية تضطلع بهذا الدور دون رغبة حقيقية في تقاسمه. وبالتالي تركيبة السلطة الناتجة عن التجربة الانتخابية، أقبرت فكرة الاصلاحات التي ربما كانت ستهدد الملكية، ورهانها الدولي عززها وسمح لمدة طويلة ببناء شرعيتها على الوطنية، ومن ثم بإعادة خلق مسلسل سياسي مع التيارات الكبرى للحركة الوطنية تدريجيا. هذا التطور عطل بالتأكيد ممارسة سيادة شعبية حقيقية تتعلق بشكل خاص باختيار الحاكمين ودور الملكية. وإذا كان هذا النظام الانتخابي قد تمكن من المساهمة في مسلسل تعبئة سياسية للجماهير، فإنه مازال بعيداً عن أن يشكل الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها يؤثر المواطنون على قرارات الجماعة. ومازال بالإمكان التلاعب به وبشكل مباشر من طرف السلطة الملكية. 1 تتقاسم النخب السياسية المغربية، بدءاً بولي العهد مولاي الحسن، ثقافة قانونية فرنسية تجعل من المنتخب ممثلا للأمة. ويتخوف أغلبها من العلاقات التي يمكن أن تبقى بين المنتخبين في العالم القروي والأوساط القبلية والعشائرية. ومازال في الوسط القروي رهينا بشبكات التأثير التقليدية التي تعمل في الغالب في نفس الإتجاه. على العكس من ذلك في الوسط الحضري التقليدي أو العصري، تتعامل التنظيمات السياسية مثل الأحزاب، النقابات أو حتى بعض الجمعيات (التجار، الحرفيين أو قدماء المقاومين) مع المسلسل الانتخابي كأي شكل آخر من العمل الجماعي. محاولة تصنيف عوامل التعبئة تقليديا بقسم خبراء الدراسات الانتخابية عوامل التفسير الى قسمين: العوامل السياسية و العوامل السوسيواقتصادية. هذه النظرة الثنائية للواقع تبدو غير ذات جدوى بالنسبة لهذا التحليل، فإذا كان عنصر التعبئة هو العنصر البارز للاستشارات المغربية، فالعنصر المهم الآخر هو رغبة العمل أو المناورة لدى الأوليغارشيات الحاكمة، هذا التوجه يمنح امتياز التلاءم بشكل أفضل مع مفهوم التعبئة، والأخذ في الاعتبار عناصر لاتهتم بها كثيرا الدراسات الانتخابية، وادماج العناصر السياسية والاقتصادية وفق تصور جديد، وأخيرا، التساؤل حول عواقب اللعبة الانخابية على النظام السياسي برمته. ومنذ البداية تبدو مجهموعة من العوامل في متناول الأوليغارشيات الحاكمة، لاسيما المعطيات القانونية والسياسية للاستشارات. ولا يتعلق الأمر هنا بإعطاء جرد لها، بل برؤية كيف يمكن لهذه الآجراءات اأن تبرر (لأنها لا تنجح في ذلك دائما) الهيمنة السياسية لهذه الأوليغارشيا على مستؤى الاستراتيجيات. ما هي تصورات القادة للجوء إلى الاقتراع؟ أو بمعنى أدق ما هي الإيديولوجيات التبريرية التي يستعملونها؟ هل يتعلق الأمر باعتقادات »ليبرالية« أو »شمولية«؟ في مرحلة أولي نظهر حرصا علي ابراز أو توضيح مختلف تيارات الرأي أو التعبير عن التعددية السياسية والاجتماعية. وعلى النقيض يرمي اللجوء الى الاقتراع العام إخفاءالاختلافات بمنع تنافس فعلي للقوى الاجتماعية والسياسية في اختيار الحاكمين تجعل من الوضعية المغربية حالة خاصة. نعرف كيف عاد محمد الخامس من المنفى إلى السلطة سنة 1955 بواسطة حركة احتجاج وطني مكثف أدى إلى كفاح مسلح يمزج بين العمليات العسكرية في المدن والمقاومة الشعبية في البادية، وإلى جانب قيمته كزعيم ديني، فالملك يحضى بعد عودته إلى العرش بمكانته كزعيم وطني عصري ساهمت الأحزاب والنقابات بشلك كبير في خلفه وجعله رمزا لكفاحهم ضد الحماية. لكن بعد الاستقلال لم يكن قادة الأحزاب والنقابات يرغبون في أن يحتكر الملك لصالحه ما كانوا يعتبرون أنه مكسب جماعي للاستقلال. بالمقابل لم يكن محمد الخامس يرغب في أن يرى المنظمات الوطنية تستعمل ضده تاكتيك الاستنزاف ورهان القوة الذي نجح ضد الحماية. في ظل هذه الظروف، كان اللجوء الى الاقتراع العام يبدو له علي نحو مزدوج. فهو من جهة حريص كل الحرص على تفادي أن يسقط تحكم اللجوء الى الاقتراع العام، بين أيدي قادة حزب وحيد سيكون بذلك قادرا علي مواجهة الشرعية التقليدية للملكية بشرعية ديمقراطية. ومن جهة ثانية أحس محمد الخامس وبالأخص الحسن الثاني بأن بمقدوره، من خلال اللعب على تناقضات مختلف اتجاهات الحركة الوطنية، أن يوجه لصالحه هذه الشرعية الديمقراطية الصاعدة. محمد الخامس كان يتبنى المرجعية للنظام الإيديولوجي الليبرالي. وفي خطاب العرش ليوم 18 نونبر 1955، الذي ألغاه يومين بعد عودته إلى أرض الوطن، أعلن الملك رغبته في أن يرى تشكيل »حكومة مغربية مسؤولة وتمثيلية مكلفة ب «خلق مؤسسات ديمقراطية ناجمة عن انتخابات حرة، ترتكز على مبدأ فصل السلط في إطار ملكية دستورية». لكن هذه المرحلة لا يمكن بلوغها إلا بعد مسار: فالشعب المغربي سيتعلم أولا داخل مجالس محلية قبل الانتقال الي مرحلة البرلمان الوطني. ومن تم جاء قرار تنظيم انتخابات بلدية سنة 1960. والشرعية الديمقراطية لا تطبق في مرحلة أولى على الهيئات السياسية العليا. عند وصوله الي السلطة في مارس 1961، كان الملك الحسن الثاني يشاطر الاختيار الإيديولوجي لوالده. لكنه دفع الى »التلاعب« بالشرعية الديمقراطية الصاعدة، فمطالب أهم القوى السياسية، والضغط غير المباشر لاستقلال الجزائر (1962) وضعت بالحاج - أكثر فأكثر مسألة انتخاب جمعية تأسيسية على جدول الأعمال هذه المسطرة تحمل في طياتها خطر نشوب نزاع بين الشرعية التقليدية والشرعية الديمقراطية الجديدة. وهكذا لجأ الملك الى مسطرة الاستفتاء التي تسمح للملكية بوضع سلطاتها على أسس جديدة باستعمال مبدأ الشرعية الديمقراطية لمنافسيه. بتوجيه الانخراط الشعبي شبه الكلي نحو أمير المؤمنين عن طريق الاقتراع العام، نصب الملك نفسه الممثل الأسمى للشعب دون أن يمس بمبدإ الملكية، كما كان من المحتمل أن يحدث لو قدم دعمه المباشر لحزب من أجل انتخاب هيئة تأسيسية. هذه الاستراتيجية »تلاعبت« بالشرعية الديمقراطية لأن الناخبين مدعوون للموافقة على وضعية قائمة (امتلاك السلطة أمر واقع). نظريا يمكن للناخبين أن يصوتوا ب «لا» وبهذا المعنى فالاستفتاء له بعد ديمقراطي. لكن التصويت »بلا« له حظوظ بأن لا يكون شيئآ آخر أكثر من احتجاج رمزي. وكل ما يمس أسس السلطة، الدنيوية يمتزج بمحتوى ديني قوي. وبالتالي كان مؤكدا أن استشارة شعبية حول الدستور ستجري في مناخ خاص حيث العنصر الروحي والغيبي للسلطة الملكية يبدو أكثر أهمية من التقنيات العصرية لاختيار الحاكمين او اتخاذ القرارات الجماعية التي تنوي التأسيس لها. وهذه »القدسية« للسلطة الملكية تضع الناخبين تحت تأثير »إكراه إلاهي«. ودهاء الاسلوب الاستفتائي يتمثل في الاستجابة للتطلع الاجماعي للمجتمع التقليدي بتحويله الى ايديولوجية ديمقراطية بالدعوة الى التصويت ب «نعم» للملك قائد الامة. لكن استعمال الايديولوجية الديمقراطية من طرف الحسن الثاني لم يكن كليا. لأن انتخاب مجلس النواب المقرر في مشروع الدستور، المصادق عليه من طرف الشعب، يحترم مبادىء النظام التنافسي. حق التصويت ممنوح لجميع المواطنين دون شروط خاصة، ومن حق النساء ايضا المشاركة في التصويت. وجميع المقتضيات المتعلقة بالكتلة الناخبة والاهلية مستلهمة من القانون الفرنسي، وهي مقتضيات تتلاءم مع الطابع الليبرالي المعبر عنه، والطابع المميز لها هو اقحامها من البداية في اللعبة السياسية بينما في أوربا الغربية لم تعتمد هذه الاجراءات الا تدريجيا. وكما في ميادين أخرى ، فإن مسلسل التعلم المميز للدول العريقة غائب. ومع ذلك لايمكن تجاهل أهمية الاجراءات الادارية الضرورية لإعطاء وجود ملموس لهذه القرارات القانونية (التحفيز على التسجيل في اللوائح الانتخابية، الظروف والشروط المادية لسرية الاقتراع...). ونظمت حملة حقيقية للتسجيل: تعبئة الادارة على المستوى الوطني والمحلي من أجل الإعداد ووضع 15 ألف مكتب للتصويت، وتم تخصيص اعتمادات مالية خاصة، وتم الرفع من عدد مكاتب التسجيل، وفي البوادي تم تجنيد فرق متنقلة لتلقي طلبات التسجيل في الاسواق، وتم منح تسهيلات إدارية تأخذ في الاعتبار التقاليد. وتسجيل النساء يتم عن طريق الازواج او الآباء سواء بالنسبة للانتخابات البلدية لسنة 1960 او خلال استفتاء دجنبر 1963. عمل السلطات الادارية رافقته حملة دعائية مكثفة، وتم استعمال وسائل الإتصال العصرية على أوسع نطاق. تم تنظيم عدة برامج إذاعية، توزيع أجهزة المذياع مجانا على الشيوخ من أجل تنظيم جلسات استماع جماعية. وتم وضع 1000 جهاز تلفزة في الاماكن العمومية ومقاهي المدن. وتم وضع ملصقات ولافتات في الطرقات، وتم تخصيص خطب الجمعة في المساجد لهذا الموضوع. واستعملت وسائل الدعاية التقليدية (البراح) في أسواق البوادي، وفي المدن استعملت سيارات بالابواق لنفس الغرض... حملة الدعاية هاته اعطت الإمتياز للسلطات العمومية. واحزاب المعارضة، حتى وآن كانت وسائلها دون مستوى الوسائل المتاحة للسلطات العمومية، فلها امكانية إسماع صونها خاصة من خلال تقديم ترشيحات في مواجهة مرشحين مقربين من السلطة. وفي مجتمع تعتبر فيه الآلية الانتخابية مؤسسة جديدة ورغم المقتضيات القانونية غير التمييزية، فإن الحاكمين فكروا في لحظة من اللحظات في تأجيل الانتخابات البلدية لسنة 1960 ، بسبب العدد غير الكافي للمرشحين وهذه الوضعية تفسر تدخل السلطة السياسية فيما بعد من أجل تشجيع الترشيحات، والناخبون لم يستوعبوا بعد أهمية الطقس الانتخابي، وفي العديد من الدوائر المنسجمة على المستوى العرقي او القبلي لم يكن بها سوى مرشح واحد معين من طرف أهله للمشاركة في هذا الشكل الجديد من الحوار مع الحاكمين، وعلى العكس اذا كانت الدائرة مشكلة من قرى ودواوير مقسمة بصراعات وخصومات تقليدية، تقدم كل مجموعة مرشحها والصراع قد يكون حاميا، قد يصل حد تسجيل نسب مشاركة استثنائية في التصويت لاسيما المشاركة النسائية. في المدن وفي المناطق القروية العصرية كانت ترشيحات الاحزاب معقلنة، لكن التصرفات التقليدية خلال التصويت كانت هي السائدة. التقسيم غير المتكافىء للدوائر لعب دوا ثانويا على العموم، ولاحظنا تفاوتات في التمثيلية بسبب اختيار الاقتراع الاحادي الاسمي في دورة واحدة أساسا سواء بالنسبة للانتخابات البلدية او بالنسبة للانتخابات التشريعية. وتم ترجيح كفة المناطق القروية المساندة تقليديا للملكية، على كفة المدن الكبرى العصرية، وتم عموما احترام الحدود الاثنية والادارية، وتم إعطاء وزن لايستهان به لهذه العناصر خلال الانتخابات التشريعية، وهكذا لانجد تقسيمات مصطنعة للدوائر تجمع أحياء حضرية ومناطق قروية واسعة، واذا لم يكن التقطيع الانتخابي سنة 1960 و1963 موضوع تلاعبات كبيرة فإنه مع ذلك عنصر في أيدي الحاكمين. والملك استعمل بشكل واسع مسألة اختيار تاريخ الاستشارات. في البداية استعمل محمد الخامس هذا العنصر متأكدا من تحييد ما كان يعتبره مناورة من حزب الاستقلال ضد شرعية سلطته. كان يهمه قبل ان تجري الانتخابات المحلية، ان يضمن عدم افراز سلطة منافسة تجسد بقوة الشرعية الديمقراطية في مواجهة الشرعية الملكية. وكان عليه ان يسهر على تنظيم الشروط القانونية والسياسية الضرورية لتطور نوع من التعددية حتى يبقى السلطان رمز الوحدة الوطنية. وعندما قرر الانخراط بشكل نهاذي في المسلسل المؤدي للانتخابات المحلية، رفض الملك ان يجعل منها انتخابات سياسية، خوفا من بروز سلطة منافسة. وبعد عدة ترددات جرت الانتخابات يوم 29 ماي 1960. وأقال محمد الخامس أسبوعا قبل ذلك حكومة عبد الله ابراهيم التي كانت تهيمن عليها المعارضة اليسارية، وكلف ولي العهد مولاي الحسن بمهام الوزير الاول. بعد ذلك استعمل الحسن الثاني بشكل ممنهج عنصر المباغتة، بتحديد تاريخ الاستفتاء أو تاريخ الانتخابات التشريعية. في سنة 1962 كانت المعارضة تتوقع إعادة فتح النقاش الدستوري في بداية 1963. وكان الوفاء بالأجل الذي وعد به محمد الخامس سنة 1960، والمثال الجزائري يبرر تصرفه. وكان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يهيئ في يناير 63 لمؤتمر وطني، وكان يأمل خلال تلك الفترة توطيد علاقاته مع الاتحاد المغربي للشغل، وعندما نشر في نونبر 1962 قراره بإجراء استفتاء دستوري في دجنبر 1962، خلط الملك الأوراق، وعزز الى جانبه حزب الاستقلال الذي بدأت تظهر عليه علامات الاستعجال ودفع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الى قرار مقاطعة الاستفتاء، وهو تكتيك من الصعب مجاراته في الوسط القروي، حيث يعتبر المقاطع في نظر الجميع مثل الخصم للملكية. في بداية 1963، قرر الملك مباشرة سلسلة من الاستشارات الانتخابية التي نص عليها الدستور بدءا بالانتخابات التشريعية، بينما توحي النصوص أنه سيبدأ الاستشارات المقررة بالانتخابات البلدية، لكن حسابه لم يكن فعالا لأنه لم يتمكن من تنظيم حزب ملكي، في الوقت المناسب، يستطيع استغلال نجاح الاستفتاء، نظرا بالأخص لغياب انضباط الترشيحات والتصويت والتحكم في النخب السياسية التي تدعي مساندة الملكية. وتعدد ترشيحات هذه النخب خلف وضعية كارثية في مواجهة معارضة تمكنت من رص صفوفها وتتحكم جيدا في الترشيحات. بدون شك فتاريخ الاقتراع عنصر يمكن استغلاله وله أهمية كبيرة، ومع ذلك لا يلعب بشكل مطلق في صالح السلطة، فهناك عناصر أخرى لا يمكن التحكم فيها كليا من طرف الحاكمين مثل العناصر الاقتصادية والاجتماعية التي لها دور. وكون سنة 1962 اعتبرت سنة فلاحية جيدة، عزز قرار إجراء استفتاء دون انتظار أن يستهلك الفلاحون محصولهم من الحبوب، ويبدو ان نجاح الاستفتاء شجع انتعاش الاقتصاد (انتعاش ظرفية ملائمة لكن، في أبريل 1963، كانت العناصر السياسية هي الأقوى). فالتنافر الإثني (الأمازيغ والعرب) قد يكون من بين العناصر المستعملة من طرف الملكية من أجل خلق تعددية سياسية تقيها من خطر المواجهة مع قوة أخرى تجسد شرعية ديمقراطية موحدة، ولكن أحزاب المعارضة استفادت أيضا من شبكات ترتكز على الدور المهيمن الذي لعبته البورجوازية الفاسية داخل حزب الاستقلال، ونتائج الانتخابات كما الملاحظة السياسية العادية، تؤكد أن الكتلة الامازيغية استعملت جيدا كقاعدة في الريف والأطلس المتوسط لتشكيل حزب ملكي يبقى قوته المهيمنة. في جنوب البلاد، الامازيغ تأثروا أكثر بالتطور السياسي لمدن الساحل الاطلسي، حيث كان المهاجرون منهم في منافسة تجارية مع الفاسيين وصوتوا لصالح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ونلاحظ تطورا مماثلا بالنسبة لليهود المغاربة الذين كانوا يشكلون ما بين 1960 و1963 مجموعة مهمة نسبيا من الكتلة الناخبة الحضرية في سنة 1960. كان أغلب المستشارين البلديين من الجالية اليهودية ينتمون للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الدارالبيضاءالرباط ومكناس، وقادة الاتحاد الوطني ولاسيما المهدي بن بركة أبدوا ترحيبا كبيرا في استقبال الوطنيين الشباب من اليهود. والتوجه الاشتراكي للنهج المذهبي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إضافة الى جعل المرجعية للعنصر الديني والعربية عوامل ثانوية كأسس للانتماء الوطني، كان يضمن لهم آفاقا أفضل للاندماج ويسمح لهم بإدانة الصهيونية. فيما بعد سيلتحق أغلبية اليهود المغاربة بالتيار الملكي خلال استفتاء 1962 وانتخابات 1963. ومضمون الاتفاق الضمني يتمثل في ضمان حرية الهجرة للراغبين فيها مع منح الحماية الملكية التقليدية لمن قرر البقاء. خلاصة: العناصر المثارة أعلاه استعملت بدرجات مختلفة من طرف الحاكمين المغاربة من أجل الحصول على نتائج في صالحهم خلال الاستشارات التي جرت ما بين 1960و 1963. والضغط الذي ولدته لم يكن بالقوة الكافية لإقناع أحزاب المعارضة والناخبين بعدم المشاركة في اللعبة الانتخابية. ولذلك، يبقى النظام ديمقراطيا نسبيا ويشجع إدماج جميع المشاركين في نظام سياسي انتقالي. وبينما تسعى الملكية لاستعمال التعبئة الانتخابية لتعزيز نظام سياسي تقليدي، تنشأ تناقضات، ونصل ظاهريا الى تعبئة قوية لمجموعات ، قروية في الغالب، تريد مثل للملكية، الحفاظ على البنيات القائمة وفي المقابل الاوساط الحضرية المنخرطة أكثر في مسلسل التحديث السياسي، متحفظة أكثر ولا تقبل المشاركة في هذه التعبئة السياسية إلا إذا كانت تمر عبر تنظيماتهم. وهكذا نصل عموما الى نظام سياسي هجين حيث العناصر التقليدية التي تشكل الاطار المهيمن للحياة السياسية ، لا يحد نفوذها إلا وزن التنظيمات السياسية والنقابية التي لا يكتسي المسلسل الانتخابي بالنسبة لها إلا مظهرا ثانويا. وبدرجة أو بأخرى، فإن الحساسية الى نماذج سياسية أجنبية التي يشجعها الانفتاح على تأثيرات ثقافية خارجية، ولاسيما الفرنسية، تشكل عاملا لا يستهان به لتعبئة الشرائح الاجتماعية التي تتعامل مع هذه النماذج. من جانب آخر، يمنع تواجد هذه النماذج السياسية الرضوخ الكلي لآثار الدعاية الحكومية، أو يضمن الوصول الِى مصادر معلومات (صحافة، إذاعة) ليس سهلا التحكم فيها. ويتعين أيضا الاخذ في الاعتبار آثار مسلسل التعلم: فقد تعود الناخبون من 1960 الى 1963 على ان الانتخاب والاستشارات لم تكن مستقلة عن بعضها البعض. ويتعين دمج هذا العنصر مع فهم الاستشارة من طرف المعنيين. والانتخابات البلدية لسنة 1960 يمكن أن تقترب من الديمقراطية المحلية التقليدية التي لم تكن بعيدة في اللاوعي الجماعي. وأصبح الاستفتاء شكلا جديدا من البيعة. أما بالنسبة للانتخابات التشريعية، فإن التصور السائد لها يجعل منها في الوسط القروي إجراء هدفه تعيين مستشارين مكلفين بإبلاغ الملك والدفاع لديه عن مصالح دائرة غالبا ما ينظر إليها بمنظور نظام قبلي. ويمكن استخلاص عدة دروس من هذه التجارب الانتخابية المغربية الأولى. أولا لم يتم إجراؤها الا بعد تظافر عدة ظروف داخلية وخارجية. وقرب استقلال الجزائر خلق وضع تنافس سياسي من أجل الهيمنة داخل الكيان المغاربي الجديد، والتيارات السياسية الوريثة للحركة الوطنية كانت تتردد بين المعارضة والخضوع. وبغريزة البقاء اختارت الملكية المواجهة داخليا وخارجيا، وكسرت الإجماع الى موقع قوة وأرادت تجديد شرعيتها عن طريق الاقتراع الشعبي من أجل القيام بإصلاحات تحت مراقبتها، وفي نفس الوقت تدبير منافستها مع السلطة الجديدة في الجزائر. وقد أدت الانتخابات جزئيا هدفها، وأظهرت الادارة والسلطة الملكية قدرتهما على تعبئة الاقتراع العام لصالحها، وهذه العملية التي تعزز تحالف الملكية مع العالم القروي، عرقلت كل سياسة إصلاح محافظ كان من الممكن أن يحدد مصير الملكية المغربية، كما أدت الى إسقاط شاه إيران. ومحمد الخامس كما الحسن الثاني اكتسبا الإحساس بخطورة المسلسل الانتخابي الذي يتعين التحكم فيه إذا ما أردنا تحديد دوره في إضفاء الشرعية فقط ، دون تأثير على اختيار الحاكمين مادامت الملكية تضطلع بهذا الدور دون رغبة حقيقية في تقاسمه. وبالتالي تركيبة السلطة الناتجة عن التجربة الانتخابية، أقبرت فكرة الاصلاحات التي ربما كانت ستهدد الملكية، ورهانها الدولي عززها وسمح لمدة طويلة ببناء شرعيتها على الوطنية، ومن ثم بإعادة خلق مسلسل سياسي مع التيارات الكبرى للحركة الوطنية تدريجيا. هذا التطور عطل بالتأكيد ممارسة سيادة شعبية حقيقية تتعلق بشكل خاص باختيار الحاكمين ودور الملكية. من كتاب مشاهد وكواليس انتخابات المغرب