لم يصدق العرب للوهلة الأولى قرار أوباما بالانسحاب من العراق بحلول منتصف 2010 . وأعاد بعضهم السؤال أكثر من مرة: هل فعلا سينسحب؟ ودارت التكهنات والتحليلات والقراءات وكلها تشكك في القرار على رغم صدوره عن أعلى مرجعية أميركية. ويمكن القول إن القلة فقط هي من صدق قرار الانسحاب الأميركي، وإن الأكثرية توقعت أن الأمر مجرد لعبة أميركية مكشوفة لكسب الوقت! لكن على رغم ذلك لا يخفى أن القرار أثار عند العرب مشاعر فرح واستغراب أيضاً، وفي الآن ذاته! وإذا كانت أسباب الفرح معروفة ولا تحتاج إلى دليل أو برهان ولا تحليل، فإن الاستغراب ومحاولة تقصي أسبابه يزيدنا للوهلة الأولى استغراباً مضاعفاً! لأن الإجابة عن أسئلة من نوع: لماذا يستغرب العربي قرار الانسحاب؟ ولماذا لم يصدقه ومازال يشكك فيه حتى اللحظة؟ ستعطينا وعياً أكثر عمقاً بخواء عالمنا العربي ومدى جفاف ينابيعه الفكرية. غير أن نظرة مدققة للبنى الفكرية التي تحكم تفكير الإنسان العربي عموماً، والمثقف خصوصاً، ستجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة هذا الاستغراب، إذ، يبدو قرار أوباما بالانسحاب من العراق لدى العربي مثيراً للاستغراب لأسباب كثيرة، ولكن هناك سببين رئيسيين ضمنها: - السبب الأول: الوعي المتشكل عن أميركا وسياساتها في الذهنية العربية فهي «إمبراطورية الشر» و«رمز الرأسمالية والإمبريالية والعولمة» والعدو الداعم لإسرائيل مع كل ما يرتبط بذلك من صفات ك«الخيانة» و«المؤامرة» وسياسة كسب الوقت. وهذه النظرة السلبية المتشكلة في الوعي العربي عن أميركا بعضها ناتج عن سياسات أميركية خاطئة خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي/ الصهيوني، إضافة إلى احتلالها العراق وتدمير شعبه وتمزيق وحدته الاجتماعية لتجعله يقف على شفير حرب أهلية، دون أن نغفل طبعاً دور النظام الصدامي في إيصال العراق إلى مرحلة الانسداد التاريخي ومرحلة الخيارات المغلقة. وبعضها الآخر -وهو الأهم- ناتج عن الوعي الزائف بالغرب وقيمه الديمقراطية (من حقوق إنسان ومجتمع مدني وحريات فردية).. الذي شكلته الثقافة السائدة في البلدان العربية منذ استقلالها حتى اللحظة الحالية، إذ أدى قيام الثورات الشعبوية والانقلابات «الثورية» إلى بتر جنين الليبرالية العربية الناهضة آنذاك، بحجة أنها من مخلفات الاستعمار، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى السير في ركاب الأيديولوجيا الشعبوية (من يسارية وقومية وإسلامية) التي «شيطنت» الغرب ومنجزاته وحمَّلته مسؤولية كل الهزائم التي ظلت تحصدها الأنظمة المستبدة وما تزال. إذ ارتبط الغرب في وعي هذه النخب وأحزابها بكل ما هو سلبي وبرجوازي (بالمعنى السئ) وبراغماتي، وكلنا ندرك الشعارات التي ترفعها القوى الديماغوجية عند نزولها للشارع العربي، إضافة إلى الأغاني والأناشيد والثقافة التي طبعت تاريخ نصف قرن من العداء الأيديولوجي لأميركا وبشكل لم يستطع التفريق بين النخب الأميركية التي تتخذ سياسات خاطئة مثلها مثل أية نظم أخرى، وبين القيم الديمقراطية والتعليمية ومؤسسات المجتمع المدني وفي النهاية الشعب الأميركي بما يختزنه من قوى حية قادرة على تجديد مجتمعها وتصحيح أخطاء سياسييه. - السبب الثاني: يتعلق بعدم ثقة الشعوب العربية ونخبها المثقفة بحكامها وسلطاتها على اختلاف أنواعها، فقد تعلمت الشعوب ألا تثق بأية سلطة أو حكومة أو زعيم عربي، لأن السياسة قد تعني الحكم المطلق وعدم الالتزام بأي وعد، في نظرها. وعدم الثقة هذا، يسقطه العربي على كل السلطات دون أن يستطيع وعيه التمييز، بين سلطة وصلت الحكم عن طريق صناديق الاقتراع وترحل عن طريق الصناديق التي أتت بها، وسلطة وصلت عن طريق العنف ولا ترحل إلا بالعنف. ولهذا يبدو الاستغراب على العربي وهو يسمع رئيس أكبر دولة في العالم يفي بوعده الذي قطعه خلال الحملة الانتخابية، لأنه لا يستطيع تخيّل سلطة في أوج قوتها تتراجع عن أخطائها، ولا يدرك أن السلطات القادمة نتيجة نظام ديمقراطي ناتج عن تمخضات عميقة حصلت في رحم المجتمع، غير قادرة على تغيير القوانين الأساسية التي أنجبها هذا المجتمع الحر. صحيح أن الديمقراطية قد تتعرض لخلل كبير -وهو ما حصل في عهد بوش- ولكن بالديمقراطية نفسها وليس بأي شيء آخر يتم تصحيح الخلل، الأمر الذي يعني أن سيئات الديمقراطية أفضل من حسنات الاستبداد. وقد أثبتت أميركا مرة أخرى، أن النظام الديمقراطي هو النظام الأمثل لتصحيح الاختلالات التي تحدث في أي نظام، من انتخاب رئيس أسود في بلد كان الأسود فيه لا يستطيع أن يمشي آمناً في شوارعه حتى قبل خمسين عاماً، إلى إغلاق معتقل جوانتانامو، إلى قرار الانسحاب من العراق. الآن، قد ينجلي استغراب العربي من قرار أوباما الانسحاب من العراق، لأن المثل العربي يقول: إذا عرف السبب بطل العجب! إنها الديمقراطية يا عزيزي! (*) كاتب ومحلل سياسي عن «منبر الحرية»