كثيرة هي الآمال المعقودة على مشروع الوحدة بإرادة الشعوب، فيما الأنظمة تغذي الشعور بأن تلك الآمال لا تعدو أن تكون تعبيرا انزياحيا عن عذابات الذاكرة الجماعية. ّ "" في الذكرى العشرين لتأسيسه 1989-2009، يبدو الاتحاد المغاربي، كمنتظم جهوي أشبه بسفينة ضاع ربانها و تآمر ركابها على ترك القارب يصارع لوحده قوة و جبروت أمواج البحر الهوجاء وسط ركام كثيف من الضباب المنبئ بفقدان البوصلة و تعذر الرؤية، حتى وإن توفرت آلات الرصد و محطات الإنذار و فرق الاتقاد، لم يكن من الممكن إنقاد السفينة بمن فيها من الغرق، لأن الامر يتعلق بسيناريو محبوك لمسرحية ، تآمر الجميع على اتلاف خيوط حبكتها في رمال صحراء متحركة، بالقرب من ضفة شمالية مدفوعة بأطماع التوسع و الهيمنة. لقد مرت عشرون سنة من عمر الهيئة، مما يوحي بانتقالها من طور التأسيس إلى طور النضج و اكتمال الحلقات، غير أن الاتحاد المغاربي انزاح عن القاعدة، لما فشل زعماؤه في تجسيد أمال شعوبهم التي لن تخرج عن مطالب الديمقراطية ، العدالة الاجتماعية، حقوق الإنسان و الكرامة... ، في الأفق الذي يغذي الإحساس بتجسيد الوحدة كحتمية و ضرورة تاريخية، قبل أن تكون مطمحا و شعارا تتغنى به وتقتات عليه مختلف الحساسيات. في الواقع، يحتاج تتبع وسبر أغوار تضاريس التعثر المغاربي إلى كثير من تاريخ الزعامات وسوسيولوجيا النخب، و حيث لا يد للجغرافيا في تعميق التعثر، ترصع المجال المغاربي نتوءات من مكر السياسة وخدع التواطؤ، بين كيانات قايضت شرف شعوبها إهانة وإلحاقا وتبعية و إذلالا حضاريا، بعد أن ظل مستقبل أجيال بكاملها رهين بنيات تقليدا نية، مستحكمة في السلطة و لا تستنكف أن تحمل راية الولاء لرموز الهيمنة ضدا على إرادة تلك الشعوب، و إمعانا في التبعية، حتى و لو تأكد البعد الاستعماري و الأطماع المحركة له في رؤى مؤد لجي خطاب المركزية الأوربية و مشاريع وحيد القرن الامريكي . تمخض التعثر المغاربي بكل معضلاته الكبرى عن وضع سياسي عاشته أقطاره غشية استقلالها فيما أشعلت فتيله، و تحكمت في تدبيره قوى استعمارية، لم تنس أبدا حجم الأعباء والتحديات التي كرسها الوصول الإسلامي إلى ما وراء المتوسط، فيما لازالت تستقرئ بعمق هواجس نجاح وحدة مغاربية، من شأنها أن تجعل أوربا في مواجهة تكتل اقليمي مهدد لمصالحها . في خضم الأزمات السياسية و الحروب المدمرة التي عاشتها و احتضنها المجال الأوروبي خلال الفترة الحديثة و المعاصرة ، لم يكن يتوقع الكثيرون نجاح المنظومة الأوربية الموروثة عن حصيلة تلك الحروب ، فالمجال تؤثثه اختلافات عقدية بين نحل مسيحية وبوذية و زرادشتية و غيرها، كما تطبعه اختلافات جوهرية ترتبط بالعرق و السحنة و الجنس، بيد أن هذه المحددات إلى جانب الخلافات السياسية والحدودية المرتبطة بالنفوذ و التوازنات الاستراتيجية ... كل ذلك لم يكن أبدا ليكرس تجزئة القارة العجوز، ولا ليقف في وجه أحلام و طموحات الشعوب الأوربية في تحقيق وحدة تاريخية، ما كان الرهان على نجاحها لا باللغة و الدين ولا بالتاريخ والمصير المشترك، لقد حققت أوربا مشروعها الاندماجي، إلى حد أن المؤسسات السياسية والاقتصادية و الثقافية لم تترك معنى للحدود البينية ، ومع ذلك، فالمشروع لا يمكن تصوره خارج رؤية الاستيعاب الأوربي لأهمية الكيانات الكبرى في تحقيق التكامل الاقتصادي و التقدم التقني ، دون اغفال أبعاد الهيمنة وأطماع بسط النفوذ التي لا زالت تراود صناع القرار في المجال الحيوي لأوربا، الباحثة عن دور في الزمن الامريكي، و خاصة في قضايا ترتبط بالعالم العربي و الاسلامي، و ضمنه طبعا المجال المغاربي، بكل معضلاته البنيوية و أزماته المعقدة. استقلت تونس والمغرب، و بقيت الجزائر الفرنسية تنتظر الاعتراف لها بكونها مستعمرة، ما كادت لتحقق استقلالها حتى انبرت لمواجهة ما أسمته بالخذلان التاريخي للجيران، إذ جسد اتهام المغرب بالوقوف وراء اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين، أحد أسس العقلية التآمرية التي طبعت الجزائر المستقلة، بعد أن صاغت لنفسها من حرب التحرير المليونية شخصية كاريزمية تحركها أحلام بسمار كية، لا زالت تراود حكام قصر المرادية، المدفوعين بهاجس الانتقام لهزيمتهم العسكرية في حرب الرمال سنة 1963. طيلة عقد السبعينات، بأزماته المعقدة، و في خضم حرب الخليج 1973 و هزيمة العرب المذلة آنذاك ، راهنت الجزائر على اضعاف مغرب الحسن الثاني، فالبلاد منخورة القوى اقتصاديا، تعيش تحت نبر المحاولات الانقلابية و العداء الدفين للقصر مع معارضيه، و الذي لم يخفف من حدته سوى استرجاع الأقاليم الجنوبية من يد امبراطورية كولونيا نية، كانت تضمد جراح حرب أهلية مكلفة، تلاها احتضار فرانكو وتداعي نظامه الديكتاتوري، و بينما شكل التمهيد لإعادة الملكية أحد معالم اسبانيا المعاصرة ، والتي ام يستسغ يمينها المتطرف خروجه من الصحراء، ظلت المعارضة المغربية ترى في مبادرة المسيرة مدعاة لتجديد مشروعية النظام السياسي وهروبا من وطأة المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية، لقد كان حلم الوحدة المغاربية قبل تبدده، ضحية صراعات ضيقة، ورؤى لم تقدر حسابات الربح و الخسارة، بالقدر الذي حركتها أطماع الزعامة و الاستقواء والهيمنة. وهكذا دخلت مصر أيام عبد الناصر على الخط مغامرة تجزئة المنطقة، بعد أن راهنت على اضعاف المغرب، وتقوية جزائر هواري بومدين، والذي سيصبح المدافع الاول وحامل لواء القومية العربية في مجال مغاربي أريد له أن يشكل امتدادا لشعارات الفلسفة الناصرية. كانت الجزائر تنازع المغرب في صحرائه، و استطاعت أن تدعم نواة انفصالية تشكلت غالبيتها من أبناء المنطقة، خريجي الجامعات المغربية من اليسار الراديكالي ، غير أنها تجاهلت أن المغرب كان بالإمكان أن يقامر بمصالحه على حساب الوحدة، و من ثم الرهان على لعب أوراق متعددة لرأب الصدع الجزائري ، حيث تحريك ورقة جبهة الانقاذ الاسلامية كان سيعقد مأمورية الوضع لسياسي إبان الانقلاب على التجربة الديمقراطية خلال تسعينيات القرن الماضي، كما أن اللعب على وتر أن للجزائر شعبا صحراويا من حقه أن يقرر مصيره، من شأنه أن يعمق جراحات التنوع العرقي، ويؤجج احساس تنسيقيات العروش بالحكرة و الإهانة التي أفرزت أحداث الربيع الأمازيغي، و بين هذا وذاك، لم يركب المغرب مصيدة التوغل إلى تخوم الجزائر وهو المنتصر في حرب الرمال المتحركة. في نظر المتتبعين للشأن السياسي المغاربي ، لم يكن اعتباطيا، توقيع اتفاق التبادل الحر مع المغرب، ولا اعتباره أحد أنظمة الاعتدال العربي، ولا حتى رميه بعبارات المجاملة ، إلى الحد الذي يجعل منه حليفا استراتيجيا لأمريكا في حربها على الارهاب، لولا رغبة أمريكا في توجيه رسائل شديدة اللهجة لمحور الممانعة والمقاومة أولا، قبل أن يتعلق الأمر بدفع الجزائر النفطية نحو خلع رداء العداوة لأمريكا، بعد أن تضايقت هذه الأخيرة من موالاة النظام الجزائري للسوفيات خلال الحرب الباردة. في الظرفية الراهنة، تبدو زيارة كريستوفر روس المبعوث الاممي في الصحراء، للمغرب و تندوف والجزائر، اسبانيا و فرنسا ، جولة ميكانيكية محدودة الأفق، راهن خلالها المبعوث الأممي على مجاملة الأطراف و جبر خواطرهم، و قياس درجة الاستعداد للعودة لطاولة مفاوضات عسيرة، أكثر مما شكل منقذا للتشتت المغاربي ، فالرجل الذي عمل سفيرا لأمريكا في الجزائر، واشتغل مديرا للمركز الثقافي الامريكي بفاس، لا تعوزه المعطيات التاريخية و الأدلة الدامغة على مشروعية المطالب المغربية، كما لا تنطلي عليه حيل جنرالات الجزائر الممسكين بقبضة من حديد على اختيارات نظام سياسي، موروث عن الحرب الباردة وقام بتعديلات دستورية تمهد لإعادة انتخاب رئيس غريب الأطوار ، ذو رؤية ديماغوجية عقائدية قوية، استطاعت أن تجعل من البوليساريو حصان طروادة الاغريقي الذي على ظهره تنكسر كل رهانات الوحدة، فيما ورطت الرئيس الجزائري نفسه، ليصبح أحد واضعي حجرة التعثر في البناء المغاربي. إن المبعوث الأممي لا يمكن وضع تصوره للحل في مسالة الصحراء بمعزل عن المصالح الأمريكية في المنطقة، حيث فرض ضبط وإعادة ترتيب مواقع القوة الامريكية في العالم نهج سلوك استباقي ، قائم على التنبؤ بمعطيات الساحة الدولية، وفي الآن ذاته، مكرس للقدرة الاختراقية لأمريكا التي منح أبناؤها صوتهم لإرادة التغيير، لما ركبوا سفينة أول رئيس أمريكي أسود، وضع على عاتقه حلم إعادة الاعتبار للقيم الأمريكية التي تفسخت بعد ضمورها في مستنقعات الفيتنام، افغانستان، العراق، الصومال و غيرها من بؤر التوتر التي تورط فيها ساكنو البيت الأبيض لفترات و عقود. لقد نجحت أمريكا في لي أذرع ليبيا،ممجدة ثورة الفاتح العظيم، بعد ما حسمت قضية لوكريي لصالحها، وتأكدت تلك النجاحات بلفظ البلد المغاربي يديه عن الحقوق المشروعة في امتلاك الطاقة النووية، مقابل عودته للحظيرة العالمية ، بعد أن اجتاز فترة حصار، استطاعت أن تغير كثيرا من طباع الزعيم الليبي، لكن في اتجاه مكرس للتبعية الاقتصادية و الولاء السياسي للقوى العظمى، و فيما اختلط في تونس العلمانية و الدائرة في الفلك الغربي رهان الاستقلال بالتبعية ، وتشابكت خيارات التقليد واختيارات حداثة هوجاء، يتبناها نظام سياسي، فرض تعديلا دستوريا قبل سنوات، لكي يسمح للرئيس بنعلي بولاية ثالثة ، في سياق يشبه حلم تحويل النمط الانتخابي إلى صيغة أوليغارشيات وراثية ، هبت رياحها على مصر حسني مبارك، و الآن مع جزائر بوتفليقة، كانت التجربة الديمقراطية الفتية في موريتانيا ضحية انقلاب عسكري، شكل من جهة، متنفسا للكثير من الأنظمة العربية التي وجدت نفسها أمام تجربة محرجة ويعسر تقليدها، كما مثل دليلا قاطعا على هشاشة البنية السياسية للمجال البيضاني. إن زيارة معمر القدافي لموريتانيا، في محاولة لاحتواء خلافات سياسية قد تعصف بالبلاد و ترمي بها في أتون أزمة دستورية معقدة، لم تكن أبدا لتعيد الشرعية للنظام المطاح به، و لا لتحقق أطماع المجلس العسكري الحاكم، رغم انحياز العقيد الليبي للأجندة التي فرضها الانقلابيون، حيث عمق الأزمة مرتبط بالأساس بإرادة الفاعلين السياسيين في تكريس البناء الديمقراطي في موريتانيا كما في ليبيا ، تجاوزا للتمييع الذي يطال الحياة السياسية، و كما في المغرب وتونس ، حيث العزوف عن المشاركة يغذي فقدان الأمل في التغيير بنخب وصلت سن اليأس السياسي، ولا تخجل من معاودة الظهور على خشبة مسرحية، حبكتها منمطة و تعيد نفسها في مسلسل طويل لم ينته بعد، و يشهد بعمق عن عذابات الذاكرة الجماعية كما تجسدت مغاربيا. إن إستراتيجية فلول الاستعمار الأوربي القديم في المجال المغاربي، رغم كونها تروم مبدئيا، تضييق الخناق عن الوجود الأمريكي المتزايد، منذ انطلاق مسلسل برشلونة خلال تسعينيات القرن الماضي والعوائق البنيوية التي عطلته ، وحتى المبادرة الفرنسية الجديدة حول مشروع الاتحاد المتوسطي، إلا أنها تتعاطى مع دواعي التعثر المغاربي، في سياق مكرس للتواطؤ و التآمر، تواطؤ مكشوف بين أمريكا وأوربا على ضرورة إبقاء كرة الثلج و الجليد في طريق العلاقات المغربية الجزائرية تحديدا، و اللعب عن التناقضات البينية، ثم تآمر مفضوح على مشروع الوحدة، كي لا يتقوى المجال مجددا وينبعث من رماده كما كان منذ قرون مع امبراطوريتي المرابطين والموحدين. بكلمة، يمكن القول أن تجاوز التعثر المغاربي، وفك ارتباطاته المعقدة يمر عبر إصلاح المنظومة القطرية للعالم العربي الاسلامي برمته ، عبر أوراش تنطلق من الاصلاح السياسي و الدستوري المتحرر من العقد النفسية التي تعتري الأنانيات العربية و تفرض عنها عزلة مدبرة غارقة في الخيانات و التواطؤات بين أنظمة سياسية تهاب القيام بأي خطوة إصلاحية مخافة انقلاب الأوضاع وانفلات خيوط اللعبة الهشة في مجال ظل أسير صراع الأنساق الفكرية والدينية. في قلب التحديات المركزية المكرسة للتعثر المغاربي، ثقل الماضي الاستعماري والفشل في تدبير تناقضاته، ثم المصير البئيس للتحديث السياسي، والذي أفرز منظومة قائمة على صفيح انقلابات عسكرية، ظلت تستبعد أي امكانية للوصول إلى السلطة بعيدا عن التزوير وصناعة الخرائط الانتخابية ثم تمييع الحياة السياسية. تجاوزا للالتباس الذي يطال الخطاب و الممارسة، تبدو الحاجة ملحة لثقافة الاعتذار عما مضى، والقطع مع ممارسات الحاضر تفاديا لاغتيال مستقبل، تأمل الشعوب أن يجسده سوك سياسي، هو في خدمة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة بمنطق موضوعي، لا ينقلب في تأويل مغرض عن الديمقراطية ليحولها استبدادا ، و لا يزايد بالكرامة وهو الذي يذبح حقوق مواطنيه من الوريد الى الوريد، و لا يدعي قوته واستقلاليته تجاه قادة الموجة الاستعمارية الجديدة، وهو اكبر المطبعين مع مشاريع الالحاق والتبعية ، وفوق هذا وذاك لم يعد مسموحا بزرع الالغام في طرق الوحدة، وإلا فتنبؤات المستقبل قد تفاجئنا بسيناريوهات محتملة لسايكس بيكو جديدة عنوانها " مؤامرة حضارية لدورة استعمارية يعيد الزمن الراهن إنتاج ملامحها و رهاناتها.