كلما شاهدتني والدتي العجوز ـ أطال الله عمرها ـ متسمرا أمام قناة الجزيرة القطرية أو المنار اللبنانية لمتابعة حرب الإجرام الصهيوني على أشقائنا الفلسطينيين في قطاع غزة، وكلما تراءت لها جثث الأطفال المشوهة، والنساء الثكال،ى والشيوخ الحيارى، والبنايات المهدمة على رؤوس أصحابها، إلا وقالت خ باللغة الأمازيغية التي لا تعرف غيرها- وهي بالغة التوتر: يا بني أين أولئك الرؤساء الذين نشاهدهم دائما على شاشات التلفاز؟ لماذا لا ترسل كل دولة مسلمة قسما من جيوشها لمساعدة إخوانهم المسلمين هناك؟ أليس لديهم شعور بالكرامة والعزة؟ لماذا سكتوا جميعا إلا هذه المظاهرات غير المجدية ( بنظر الوالدة) في ظل استمرار التدمير الممنهج لكل شيء : البشر والشجر والحجر؟ ! . أعترف بأنني كنت عاجزا عن تفسير موقف الحكام العرب لوالدتي لأنه ببساطة غير قابل للتفهيم والتفسير بحيث فاق كل مدى يمكن أن يتصوره العقل من قبول المهانة والذلة، وفقدان الشرف والكرامة . والدتي لا تفهم سوى أمر واحد : هناك اخوة لنا يذبحون ويقتلون فيجب أن يهب الجميع - الحكام والشعوب - لنجدتهم .أما غير ذلك فهو في أسوأ الحالات اشتراك في جريمة القتل وفي أحسنها لغو و عبث وكلاهما مسئوليته أمام الله وأمام التاريخ جسيمة. و لقد أحست بفطرة المرأة المسلمة بأن كرامتها ديست بالنعال وان العار يلفها لفا أمام هول ما وقع. ختمت كلامها قائلة : أسأل الله أن يقبضنا إليه حتى لا تتكرر أمامنا مثل هذه المشاهد الفظيعة. وذكرني هذا الكلام البليغ بالمؤرخ ابن الأثير صاحب كتاب الكامل الذي قال - لما عاين ما عاشته ساكنة بغداد في العصر العباسي الثاني من قتل وتدمير على يد التتار - قال: إنه تمنى لو أن أمه لم تلده لكي يعيش تلك الأحداث. (2) في عز العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة لم يستطع الزعماء العرب في الأيام القليلة الماضية التداعي الفوري والجماعي لعقد قمة على شاكلة تلك القمم التي عهدناها منهم خلال مسيرة الستين سنة الماضية من الاحتلال الصهيوني لفلسطين. ولكن دعونا نقول بأنه حتى تلك القمم لم تكن سوى سلسلة من المؤامرات على قضية فلسطين، ولم تقدم في يوم من الأيام أي شيء يعتد به لصالح تلك القضية العادلة عدا الدعم اللفظي الفارغ وبعض الدعم المالي الهزيل رغم وفرته في خزائنهم. لقد كان الزعماء يجتمعون دائما تحت ذريعة مواجهة إسرائيل ثم يفترقون على إصدار بيانات تعلن تأييدهم لفلسطي،ن وتنديدهم بالصهيونية، ودعوتهم إلى التضامن العربي . وحتى هذا الحد الأدنى من البيانات الفارغة عجزوا عن الاجتماع عليه خلال هذا العدوان الأخير. شكلت سنة 1948 بداية التآمر الرسمي العربي على القضية الفلسطينية لما دخلت الجيوش العربية الحرب لكن الحكام العرب وافقوا بعد ذلك على الهدنة، رغم بوادر انتصارهم على الصهاينة، ثم سحبوا جيوشهم، وظهر أن هناك بعض الأنظمة العربية التي اقترفت سلسة من الفضائح الخيانية تصب كلها في صالح إسرائيل حتى إن النظام المصري ( الملك فاروق) اخذ المجاهدين المتطوعين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين من قلب المعركة ليزج بهم في السجون، وباشرت تلك الجيوش العربية نزع أسلحة الفلسطينيين بنفسها كما منعوا المجاهد الحاج امين الحسيني رحمه الله من دخول فلسطين للإشراف المباشر على تنظيم المقاومة والجهاد. المتابع لتلك القمم التي انعقدت منذ منتصف ستينيات القرن الماضي يخرج بنتيجة أساسية وهي أن الملوك والرؤساء والأمراء يحضرون في غالبيتهم العظمى كلما كان هناك قرار جماعي سيكون نقطة تحول كبيرة ( سلبية طبعا !) في الموقف العربي الجماعي من قضية فلسطين. فمؤتمر الخرطوم الشهير ب اللاءات الثلاث : لاتفاوض ، لاصلح، لا اعتراف هو الذي تضمن في بيانه الدعوة إلى التركيز على الأراضي المحتلة سنة 1967 و شكل ذلك نوعا من الاعتراف بشرعية الاحتلال لأراضي سنة 1948 . نفس التراجعات شهدها مؤتمر الرباط الذي أعلن عن أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وفي مؤتمر بغداد الذي أعلن فيه العرب عن مقاطعة مصر السادات لكن أيضا هو نفسه الذي أسقط من استراتيجيته ( إن كانت هناك استراتيجية أصلا ) الصراع المسلح لاسترجاع فلسطين. طوال عشرين يوما من الحرب المدمرة على غزة لم ترغب الأنظمة العربية في الاجتماع على مستوى القمة فأخرجوا للرأي العام مسرحية رديئة يشغلونه بها تقوم على أن يطالب هذا الزعيم من محور الممانعة بالاجتماع ، ويؤيده زعيم آخر ينتمي إلى نفس المحور، وبالمقابل يعترض عليه زعيم آخر يصنف ضمن محور الاعتدال مفضلا انتظار قرار من مجلس الأمن، ثم يقوم زعيم آخر في مكان ثان ليدعو إلى نفس الدعوة، ولكن ما أن يكتمل النصاب حتى ينقص ... وبعد إعلان العدو عن وقف إطلاق النار شهدنا إسهالا في المؤتمرات على حد تعبير المحلل السياسي نبيل شبيب: مؤتمر في الدوحة ومؤتمر في شرم الشيخ ثم مؤتمر ثالث في الكويت . (3) الجديد في تآمر الحكام هذه المرة على قضية فلسطين هو أن التآمر أصبح على المكشوف وبدون أدنى حياء كأن يعلن محمود عباس ابومازن على شاشة التلفاز بأن حماس هي المسؤولة عن المحرقة الصهيونية في غزة؟ ! أو أن يرفض الرئيس مبارك صراحة فتح معبر رفح أمام الأطقم الطبية والمساعدات الإنسانية بدعوى الاتفاق المبرم مع الصهاينة؟ ! أو أن تشن الصحف المصرية القومية ( أي التابعة للدولة) حربا شعواء على حركة حماس لشيطنتها بالضبط كما تفعل الدعاية الصهيونية؟ ! أو أن يصرح الرئيس المصري حسني مبارك أمام نظيره الفرنسي ساركوزي قائلا: ما ينبغي لحماس أن تخرج منتصرة في هذه الحرب . وهذا له معنى واحد وهو أن إسرائيل هي التي يجب أن تنتصر. أو أن يخرج علينا كتاب ومحللون يحملون أسماء عربية وإسلامية لينضموا بأقلامهم وفضائياتهم إلى حرب التدمير على غزة ، وذلك بتجريم الضحية وتبرير للعدوان، كما فعلت فضائية العربية السعودية ( التي أطلق عليها الخليجيون قناة العبرية وليس العربية) ، وكما فعلت مقالات عبد الرحمان الراشد و تركي الحمد في جريدة الشرق الأوسط السعودية أيضا... ولشدة تقاطع تلك المقالات مع رؤية العدو الصهيوني دأبت وزارة خارجية العدو على إعادة نشرها في موقعها الإلكتروني لتقول بذلك للعالم : انظروا، لسنا وحدنا من يتهم حماس بالإرهاب، لسنا وحدنا من يصر على تفكيك حماس وتدمير غزة، إنما العرب أيضا يتقاسمون معنا نفس الرؤية ونفس الرغبة. وهو بمثابة ضوء أخضر بهدف مواصلة المذبحة . (4) من أسف أن المراهنة على الحكام للدفاع عن فلسطين هو رهان خاسر كما ألمحنا إليه. لكننا في المقابل لا ينبغي أن نستهين بالطاقات الشعبية الهائلة التي تكتنزها أمتنا . فبعد أن أصبح الكثيرون يعلنون موت الشارعين العربي والإسلامي إذا بالجميع يفاجأ بالتجاوب الجماهيري الرائع من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه ، بمشاركة عارمة من جميع قوى التغيير في الأمة الإسلامية ، سواء التيارات الإسلامية ( بجميع أطيافها، سنية، شيعية ، صوفية و سلفية) أو الاتجاهات القومية أو الأطياف اليسارية المختلفة ، علاوة على المواطن العادي المتدين وغير المتدين، وقد كانت لافتة تلك الصرخة التي أطلقتها إحدى الناشطات النسائية التي شاركت في مسيرة الدارالبيضاء لما قالت أمام شاشة التلفاز : أنا علمانية ، أنا علمانية ومع ذلك أدعو للجهاد، أدعو للجهاد، أدعو للجهاد. هذه الوحدة الاستثنائية بين هذه القوى تبرز إلى أي حد يمكن لقضية فلسطين أن تكون عنوانا كبيرا، ومظلة جامعة، تجتمع عليه قوى الممانعة والتغيير في مواجهة قوى التطبيع والهرولة الذين هم أعداء هذه الأمة الحقيقيين ، وأن المعركة المصيرية في أوطاننا هي بين من يريد أن يربط الأمة بحضارتها وتاريخها وقيمها وبين من يسعى إلى تغريبها وربطها بمخططات بني صهيون . إن الأمل في تحرير فلسطين معقود على الشعوب وعلى قوى التغيير والممانعة فيها وليس معقودا بحال على الحكام. وما أصدق الشاعر احمد مطر حين قال : ربما الزاني يتوب / ربما الماء يروب/ ربما شمس الضحى تشرق من صوب الغروب / ربما يبرأ إبليس من الذنب/ فيعفو عنه غفار الذنوب/ إنما لا يبرأ الحكام/ في كل بلاد العرب / من ذنب الشعوب.