إن أهم ما يجب تأكيده، ابتداء، هو أن الدفاع عن لغة بعينها يُعدّ دفاعا عن امتيازات مُحدَّدة تَخُصّ أو تَهُمّ فئة معينة في المجتمع. وهذا ما يَتحاشاه معظم المتدخلين خوفا من الكشف عمّا يحرصون عليه من امتيازات وما يُدافِعون عنه من مصالح. وبعيدا عن الخطاب الذي يُحدِّد اللغة رمزيا بربطها بمفهوم غامض ومتشعِّب مثل "الهُويّة"، ينبغي أن يُنظر إلى اللغة في علاقتها بالواقع المادي كما يتجسد في التبادلات "الاقتصادية" من الحياة الاجتماعية، مما يقود إلى إدراك أن الأمر يتعلق -وَفْق تعبير "بيير بورديو"- بأنواع من "الرأسمال" من بينها (وقد يأتي في مقدمتها) "الرأسمال اللغوي". وكل "رأسمال لغوي" تُعطَى له، من الناحيتين التاريخية والبنيوية، قيمةٌ هي التي تجعله مُتداولا بسوق معينة. ومن هنا، فإن الدفاع عن هذه اللغة أو تلك إنما هو دفاع عن تلك السوق من حيث إنها تُحقِّق أرباحا وامتيازات لفئات معينة وتجعلها، بالتالي، مسيطرة من خلال ما يتم تكريسه اجتماعيا ك"لغة مشروعة". وهكذا، فإن أول ما ينبغي تحديده، في المجال المغربي، إنما هو هذه السوق كبنية تفاعُلية وتنازُعية لها شروط تَكفُل اشتغالها على نحو يجعل التبادلات اللغوية مُعبِّرة أساسا عن واقع السيطرة الاجتماعية كتوزيع مُتفاوت لأنواع الخيرات المادية والرمزية وإعادة إنتاجها الدائمة بشكل مُتفاوت. ومن ثم، فإن الأسئلة التي تستحق أن تُطرح وتُناقش تتمثل فيما يلي: ما هي اللغة (أو اللغات) ذات القيمة من الناحية التداولية في المجال المغربي و، بالتالي، في العالَم؟ وما هي القيمة التداولية لِلُّغات المغربية على مستوى السوق العالَمية؟ بأي تكاليف يُراد تعليم هذه اللغة أو تلك؟ وما هي الأرباح المفترضة والمحتملة من خلال تعلُّم وتعليم لغة معينة على المدى المتوسط والبعيد؟ إن أول ما نُصادِفُه، بهذا الصدد، هو سُوء الفهم بخصوص الاستعمال الفعلي للُّغة. ذلك بأن هناك تكريسا للفهم المشترك حتى على الصعيد المتخصص، وهو فهم يَنظُر إلى لغةٍ بعينها كما لو كانت كُتْلَةً واحدةً تتَّسم بالاستمرار عبر الزمن والانسجام النَّسَقي بين مُكوِّناتها والنجاعة الذاتية في تحقيق الأغراض. لكن "اللغة" في واقع التبادل ليست سوى لانهائية من التغيُّرات والتمايزات بفعل شروط التداوُل في تعدُّدها وتبدُّلها وتفاوُتِها. فكل لغة إنما هي مستويات استعمالية تتحدَّد كفُروق دقيقة ولطيفة وغير محدودة تُؤثِّر في مختلف التبادلات الاجتماعية (وليس فقط اللغوية) وَفْق مجموع شروط الوجود والفعل البشريَّيْن. ولهذا، يجب التمييز في كل لغة بين "لُغةِ الأُمّ" و"اللسان المعياري" و"اللغة المشروعة". ف"لغةُ الأم" هي "اللغة العامِّيّة" نفسُها التي قد تكون قريبة، إلى هذا الحد أو ذاك، من "اللسان المعياري" من دون أن تكون مُساوِيَة له، باعتبار أن هذا "اللسان" هو تلك "اللغة المعيارية" التي تفرض نفسها، بواسطة العناية العالِمة والرسمية، في مجال معين من مجالات التداوُل والاستعمال. وحينما تصير هذه "اللغة المعيارية" مُسيطرةً في واقع الاستعمال كسلطة يجب الاستناد إليها لإعطاء أنماط الكلام حُظوظ النفاذ والنُّفوذ تداوليا واجتماعيا، فإن الأمر يتعلق ب"اللغة المشروعة" كلُغة رسمية نافذة ومُتنفِّذة. وهكذا، ف"لُغةُ الأم" تُمثِّلُ الحد الأدنى الطبيعي من اللغة، في حين أن "اللغة المعيارية" تُعدّ "المثل الأعلى" الذي لا يَمْلِك -رغم كونه مَنشودا- أن يتحقق إلا كشيء مَحْمِيّ ومُكلِّف ونُخبوي، تماما كما يتجسد في "اللغة المشروعة" التي هي "اللغة" المُكرَّسة اجتماعيا وتاريخيا كلُغة ذات سلطة ونفوذ في مجال التداول. ومن هنا، فإن "اللغة المعيارية" (أو الفُصحى من دون تعيين) امتيازٌ اجتماعي وثقافي، وليست عَطاءً طبيعيا أو فِطريا (ليس هناك "لسان طبيعي" تستعمله أكثرية الأمهات في مجتمع ما ويَصِحّ أن يتحدد في الآن نفسه ك"لغةٍ لِلْأُمّ" وك"لسان معياري" إلا في المدى الذي يَحصُل بالفعل أن يتساوى "لسان العامّة" و"لسان الخاصّة" بشكل يجعل "اللغة المعيارية" المُسوَّاة والمُكرَّسة في "المدرسة" تُكتسَب -ابتداء وتماما- من خلال التنشئة الأُسرية، بحيث تصير "لغةُ الأم" هي الأصل الحاكِم وليس "اللغة المعيارية". فمثلا، لا "الفرنسية" ولا "الإنجليزية"، بما هما لُغتان معياريتان، تُعدَّان "لغةَ لِلْأُم" بهذا المعنى ؛ إذ تتكلم الأمهات في فرنسا وإنجلترا "لُغات عامّية" تحتاج إلى كثير من التَّسوية المدرسية حتى تصير إحداها، وفقط إحداها، "لُغة معيارية" تُعْرَض كلغة قومية ورسمية وتُفرض، بالتالي، ك"لُغة مشروعة"). ولذلك، فإن دعوة "المُتمزِّغين" إلى اعتماد "الأمازيغية المعيارية" بصفتها "لُغةً لِلْأُم" لا تختلف عن دعوة "المُتعرِّبِين" في إصرارهم على جعل "العربية الفُصحى" بمثابة "لُغةِ الأُمّ". وكلتا الدعوتين لا تَقِلَّان توهُّما وتعسُّفا عن الدعوة الأخرى العاملة على فرض "اللغات الأجنبية" من دون مُراعاة انقطاعها البنيوي عن "اللغات العامية" المستعملة في المغرب ك"لُغة للأم". ف"المُتمزِّغون" تُحرِّكُهم، في الغالب، أهواءٌ عاطفية أو نُعْرة قومية فَاتَ أوانُها أو احتقان اجتماعي غير مُتبصِّر سياسيا، في حين أن "المُتعرِّبين" يُدافِعون عن العربية ك"لُغة معيارية" بناء على توهُّمات عن أمجاد تاريخية بائدة أو معتقدات دينية سائدة، من دون أن يأخذوا بحُسبانهم أنهم يُدافعون في الواقع عن امتيازات خاصة ونُخبوية غير مُؤسَّسة من الناحيتين التداولية والشعبية. أما المَهْوُوسون باللغات الأجنبية (وخصوصا "الفرنسية")، فيُضيفون إلى الأهواء العاطفية والدفاع عن الامتيازات الخاصة سَعْيَهم إلى فرض "مَتَاعِهم اللغوي" من دون استحضار نسبيته التداولية واعتباطيته اجتماعيا وتاريخيا وثقافيا. تُرَى، على مستوى واقع المجتمع المغربي بكل شروطه، ما القيمة التداولية ل"اللسان الأمازيغي" كلسان صاعد من حيث عُمقه التاريخي والثقافي والإستراتيجي ورصيده الأدبي وإمكاناته في الإبداع؟ وما القيمة التداولية لِلِّسانين الآخريْن "العربي" و"الفرنسي" كَلِسانين مسيطرين، ما قيمتهما التداولية من تلك النواحي نفسها في العالم المعاصر؟ إننا نجد أن "اللسان العربي" الذي يُوصف ب"اللغة الرسمية" للدولة المغربية واقعا بالفعل تحت كثير من التشكيك من قِبَل فئات عدة. ونُلاحظ أن هذا التشكيك، المُنصبّ على "اللسان العربي"، يَنبُع -من جهة- لدى "المتفرنسين" من الدفاع عن سُوقهم الخاصة ومن جهلهم به (أو تجاهُلهم له) بما هو "لسان" قائم بذاته ؛ وينبُع -من جهة أخرى- لدى "المُتمزغين" من توهُّم أنه لسان فُرِض (ويُفرَض) على نحو مُتعسِّف يُؤدِّي إلى تهميش لُغتهم الخاصة التي هي "الأمازيغية". وكلا الفريقين يتجاهلان أن ما أعطى للعربية قيمة تداولية ليس هو السلطة المادية الخالصة ("الطبقة الحاكمة" أو "الدولة")، وإنما هو استعمالها القُرُوني كلغة معيارية، وهو استعمال ترتَّب على كونها لُغة "الدين-الإسلام" كدين صاعِد وواعِد. حقا، إن "العربية"، من هذه الناحية، لا يمكن في الواقع أن يُقارَن بها غيرها حتى لو كان "الأمازيغية" التي لا زالت، في الوضع الحالي، "لُغات عامية" يُعمَل على جعلها "لسانا معياريا"، أو أيضا "اللغات الأجنبية" التي هي لُغات تتحدد في آن واحد بِبُعدها المزدوج، من حيث إنها بعيدة عن "لُغة الوحي" وبعيدة عن "اللغات المَحليّة" بشكل يجعل كفاءتها التداولية متعلقة حصرا بما يرتبط بها من إغراءات ترتبط ب"التقدم" و"الحداثة" كما يتجسدان في القيم والإمكانات التي تُمثِّلها المجتمعات الغربية المعاصرة بالنسبة إلى مجتمعات كانت حتى عهد قريب واقعة تحت نَيْر الاحتلال الاستيطاني أو لا تزال تَدِين بالتبعية للمركز في أكثر من ناحية. لكن "العربية"، رغم امتيازها التداولي (المتمثل في كونها كُرِّست تاريخيا ودينيا واجتماعيا وسياسيا كلغة معيارية)، لم تَعُد تملك أن تفرض نفسها في المجتمع المغربي المعاصر بصفتها اللغة ذات القيمة القُصوى بالنسبة إلى "المُتمزغين" الذين صاروا يجدون أنها تُمثِّل لغة الأجنبي الذي سيطر سياسيا ودينيا وثقافيا منذ "الفتح" العربي/الإسلامي للمغرب، وأيضا بالنسبة ل"المتفرنسين" الذين يجدون أنها لا تستطيع أن تُضاهي أو تُسايِر لغة المسيطر الفعلي الذي تَمكَّن، بعد عقود من الحماية والرعاية الأجنبية، من بناء آليات مَحلِّية لتكريس نُخبة مُتنفِّذة ومُوالية على كل المستويات. ولذلك، فإن الظن الذي يُفيد أن تَدنِّي قيمة "العربية" راجعٌ إليها بما هي لغة يُعدّ، في الواقع الفعلي، جهلا بكون الأمر يتعلق بشروط تداولية تَخُصّ قيمة المنتوج العربي في سُوق التداول (ما الذي يُوجد بين يَديْ مُستعمِل "العربية" من أشياء ذات قيمة تُوجِب تداولها؟). ومن هنا، فإن الذين يظنون أن مجرد استبدال "الأمازيغية" مكان "العربية" سَيحُلّ المشكلة اللغوية بالمغرب وَاهِمُون تماما، لأن هذه اللغة الصاعدة إذا لم تَكُن (أو تَصِرْ) مُماثِلة للعربية، فقد تكُون (وتبقى) بالأحرى أقل منها (ماذا يملك مُستعمل "الأمازيغية" من منتوج ذي قيمة يُوجِب أن يُتداوَل في سوق القِيَم المادية والرمزية؟). وهكذا، فأساس السيطرة اللغوية ليس لُغويا محضا كما يتوهم كثير من الناس، وإنما هو في العمق أساس تداوليّ يتعلق بتدنِّي قِيَم الإنتاج الثقافي والعلمي والتقني في المجتمعات التي تُمثِّلُها، سواء كُنّا نستعمل "العربية" أم "الأمازيغية" اللتين تبقيان -حتى الآن- مُتَدنِّيَتَيْن تداوليا في مقابل اللغات الأوروبية (خصوصا "الفرنسية" و"الإنجليزية"). وهنا يجب الانتباه إلى أن "العربية"، رغم ما تُعانيه من أزمة، تبقى أقرب إلى وضع اللغات المُهيمنة، من حيث إنها ليست بعيدة العهد بالنُّبُوغ في تلك المجالات التي تُنْتِج قِيَما تنعكس على لُغة التداول (ليس فقط بصفة لُغة التداول هذه حاملة لتلك القيم، وإنما أيضا بصفتها مُنتِجة أو صانعة لها) ؛ فضلا عن كونها "اللغة المعيارية" المنشودة في محيط بشري يُقارِب أربعمئة مليون نسمة يُعزِّزُه محيط أوسع وأشمل يُكوِّنُه مليار ونصف من المسلمين الذين يسعون إلى التعبُّد بها كلغة حاملة للوحي الإلهي. ولعل أحد الأمور التي تجعل، بهذا الصدد، دُعاة "الأمازيغية" و"الفرنسية" يُمارِسون التضليل هو أن "المتمزغين" يُنادُون بفرض "الأمازيغية" كما لو كان الاستناد إلى كونها تُعبِّر عن "الهوية الأمازيغية" كَافٍ وحده لتبرير ذلك الفرض (أو الإكراه)، في حين أن "المُتفرنسين" يلجأون إلى حجة الماضي الاستيطاني ويُغفلِون قوة التداول المحلي والعالمي، وهي القوة التي تَصُبّ في اتجاه التَّمكين لِلُّغات المحلية المفروضة تداوليا وتعزيز اللغات العالَمية المهيمنة علميا وثقافيا وإعلاميا. وإن كون اللغة تتحدَّد أساسا ك"بناء اعتباطي" لَيَجعل فرضها بذلك الشكل غير مُبرَّر ولا مُعلَّل إلا من خارجها، أي بالاستناد إلى عِلَل اجتماعية وتداولية هي التي يَسكُت عنها "المتمزغون" و"المتفرنسون" في معظم الأحيان، لأن التصريح بها يجعلُهم جميعا لا يكادون يختلفون عن "المُتعرِّبين" في سعيهم إلى فرضِ "اعتباطيٍّ لُغوي" آخر من دون تقديم تبرير كَافٍ يتفق مع الآمال والانتظارات الحقيقية ل"الإنسان المغربي". يتبين، إذن، أن واقع الاستعمال بالمجتمع المغربي قائم على تعدُّد وتفاوُت لغوي متجذر وواسع. إذ هناك "الأمازيغية" كلغة تاريخية للسكان المحليِّين ولفئات كبرى من المجتمع المغربي ؛ ثم "العربية" لغة المستوطنين بعد "الفتح" العربي/الإسلامي منذ حوالي ألف ومئتي سنة، وهي اللغة التي صارت تستعملُها فئات كبرى من المجتمع نفسه. واللغتان كلتاهما تفاعلتا، على امتداد قرون من التعايُش و/أو التنافُس، بشكل يُؤكِّد تبادلهما للتأثير والتأثر على نحو يجعل التداخل بينهما أعمق وأوثق خاصة على مستوى اللَّهجات العامية. وبالإضافة إلى كل من "الأمازيغية" و"العربية"، هناك "الفرنسية" و"الإسبانية" اللتان تغلغلتا -مع حفظ الفارق بينهما- في النسيج الاجتماعي والثقافي المغربي منذ فترة الحماية، وتَعزّز وجودُهما بعد ذلك من خلال إدماجهما في نظام التعليم والإعلام بالمغرب. وبالنظر إلى واقع التعدُّد اللغوي هذا يبدو التداول اللغوي بالمجتمع المغربي قائما على التداخُل والتناوُب و، بالتالي، التنازُع في صورة "بَلْبلة" تزداد (وستزداد) بفعل تدفُّق وتأثير عدد من اللغات الأجنبية (على رأسها اليوم الإنجليزية، وغدا الصينية) في عصر يتميَّز ب"عَوْلَمة" و"حَوْسَبة" مُتضافرتين ومُتناميتين في أفق مزيد من "الحَوْكَمة" (« Governance ») على كل المستويات. ومن ثم، وفيما وراء كل التوهُّمات والمُغالطات حول الوضع اللغوي بالمغرب، كيف يمكن أن يكون السبيل إلى تدبير معقول وناجع للبلبلة المغربية في إطار الاستناد المُؤسّس إلى المُقوِّمات المحلية والمعطيات الإقليمية، والانفتاح المُثْرِي على المكتسبات الأجنبية والمستجدات العالَمية؟ لعل أقرب السُّبُل إلى ذلك النوع من التدبير هو القول بضرورة إيجاد "مَجْمَع لدراسة الاستعمالات اللغوية بالمغرب"، مجمع يَضُمّ مختلف المتخصصين في دراسة اللغة مِمَّن لهم كفاءات ثابتة وهِمَم عالية تُؤهِّلُهم لبناء قاعدة معلومات دقيقة، مُستجدة وشاملة لأهم الاستعمالات اللغوية في كل أنحاء المغرب ؛ ثم "مركز للاستشراف اللغوي" ينطلق من قاعدة المعلومات تلك لتحديد مجموع الاختيارات اللغوية بخصوص اللغات المحلية واللغات الأجنبية الجدير بالمدرسة المغربية تعليمُها. وعلى أساس وجود مثل هذا العمل المُؤَسَّسي المُزدوِج يُمكن تحديد الواقع اللغوي في تعدُّده وتعقُّده على نحو يُتيح إمكان معرفة الحاجات والاختيارات اللغوية للمغاربة و، من ثم، إيجاد مُخطَّط وطني للنهوض بالأوضاع اللغوية بعيدا عن الحسابات الضيقة والانتهازية لكل اللُّوبيات بالمغرب. ولكن في غياب ذلك كله، ما الذي يُمكِنُ قولُه في إطار العمل على حل المشكلة اللغوية بالمغرب؟ إننا نُلاحظ أن التلميذ المغربي في السنة النهائية من الثانوي يكون قد قضى، بشكل متوسط، اثنتي عشرة سنة من التعلُّم من دون أن يكون قادرا على استعمال جَيّد لإحدى اللغات التي درسها خلال كل تلك السنوات من مساره التعلُّمي. ونعلم أن أي لغة لا تحتاج في أحسن الظروف إلا إلى ثلاث سنوات للتمكُّن من اكتسابها واستعمالها بشكل جيد. وبالتالي فإنه يُفترَض في تلميذ السنة النهائية من الثانوي أن يكون قادرا على استعمال أربعة ألسن (يُفترَض فيها أن تكون قادرة على الاستجابة لأهم حاجات المجتمع على المدى المتوسط والبعيد). وبما أن تلميذ السنة النهائية من الثانوي يكون، في الوضع الحالي، قد قضى اثنتي عشرة سنة في تعلُّم "العربية" (وكذلك سيكون حال "الأمازيغية") وعشر سنوات في تعلُّم "الفرنسية" وأربع سنوات في تعلُّم "الإنجليزية" من دون أن يستطيع في النهاية إتقان أي واحدة من هذه اللغات الأربع (مع العلم بأن ثلاث سنوات من التعلُّم/التعليم الجيد كافية لذلك)، فإن هناك خللا واضحا في اشتغال المؤسسة المدرسية المغربية. فأين يَكمُن بالضبط هذا الخلل؟ إنه ينبغي، بدلا من العمل على إيجاد طرف أو تحديد مَوْضِع مُعيَّن في الجسم الاجتماعي-السياسي، تأكيد أن فشل المؤسسة المدرسية معناه الحقيقي فشل المجتمع بكامله في بناء مؤسسة (بل مؤسسات) تستجيب لحاجاته. ومن ثم، فهو فشل في إقامة "نظام المؤسسات"، لأن المدرسة لا تشتغل في الواقع الفعلي وحدها. إنه، إذن، فشل في إقامة "نظام المؤسسات" الذي تُمثِّلُه، في النهاية، "الدولة" بما هي خادِمة وناظِمة ل"المجتمع المدني" الذي يُؤسِّسُها ويُعطيها مشروعيتها. وهكذا، وفقط هكذا، يتأتّى إيجاد تفسير لأزمة التعليم بالمغرب بحيث تكون تعبيرا عن أزمة المجتمع المغربي بكامله، بما هو مجتمع قد فَشِل حتى الآن في بناء "نظام المؤسسات" لِخدمة "مجتمع المُواطنين" كمجتمع مدني قائم في صورة "دولة-أمة" (رغم كل الحدود والتحديات التي تتعلق بها). وعلى ذلك الأساس يجب أن يُبنَى كل عمل يرمي إلى إيجاد الحلول المناسبة للمشكلة اللغوية، وذلك من خلال إعادة النظر في كيفية اشتغال نظام المؤسسات كله، وهو ما لا يمكن إلا إذا نهض "المجتمع المدني" فصار فاعلا على نحو يُمكِّنه من إقامة "نظام المؤسسات" ذلك، بما هو نظام يُفترَض فيه أن يستجيب لحاجات المُواطنين بشكل مُنصف وناجع. ومن هنا، تأتي صعوبة إصلاح التعليم من دون تأسيس إصلاح سياسي حقيقي يَكفُل قيام "المجتمع المدني" الذي هو الحاضن والضامن لاشتغال "نظام المؤسسات" في إطار "الدولة-الأمة" كإطار وضعي ونِسْبِيّ. وفقط حينما تتم إقامة "نظام المؤسسات" ذاك بالشكل المطلوب واقعيا سيتأتّى النهوض بالواقع اللغوي القائم على التعدُّد والتفاوت (وهذه ليست خاصية مغربية خالصة وليست سَلْبية، بل تُعدّ أسّ ثراء ثقافي ممكن) من خلال عمل مُؤَسَّسي متكامل للبحث اللغوي العلمي بالمغرب يسهر على إيجاد الآليات العلمية ووضع الإجراءات العملية لتدبير أشكال التعدُّد اللغوي بالشكل الذي يَكفُل، لكل مواطن، الحق في الوُصول المُتكافِئ إلى استعمال "اللغة المشروعة" بتيسير التحقُّق الفعلي للتوزيع المُنصِف والناجع لمُختلِف الموارد اللغوية في سبيل بناء فضاء للتبادل اللغوي يتجاوز واقع "البلبلة" المحليّة ويُوفِّر، من خلال تعدُّده المتجذر نفسه، أكبر قَدْر من الفُرص الممكنة للتفاعل الكُفء مع "البلبلة" الإقليمية والعالَمية. بناء على سلف يتأكد، إذن، أن مشكلة التعدد والتفاوت اللغوي بالمغرب لا تَقبَل فقط الاختزال الأُحادي والإقصائي كما تدعو إليه هذه الفئة أو تلك، ولا تقتضي الاستسلام الانهزامي والانتهازي الآخِذ في التفاحُش تُجاه "البلبلة" المحليّة والعالَمية، وإنما تُوجِب النهوض العمومي والمُؤسَّسِي بأعباء التدبير الراشد لأشكال التعدُّد اللغوي والتفاوُت الثقافي في أُفق ضمان توزيع مُنصِف وناجع لوسائل استعمال "اللغة المشروعة" كحق طبيعي ومدني لكل مُواطن في إطار "دولة راشدة" تَعِي، بمقتضى الضرورة الاجتماعية والسياسية، أن مشروعيتها مُعلَّقة دوما بواجب التفاني في خدمة مجتمع المواطنين الأحرار والمُتساوين.