خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق رئيس حكومة إسرائيل ووزير دفاعه السابق    البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    الملك يأذن بدورة المجلس العلمي الأعلى    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية        "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    دراسة: تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    جمعويون يصدرون تقريرا بأرقام ومعطيات مقلقة عن سوق الأدوية    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خاص حول اليوم العالمي للشعر : آه! كم أتعبني الشعراء!!

يبدع الشاعر قصيدته في لحظة تستدمج المتعة والألم معا. للقصيدة عمق رؤيوي دائم التحول. تلك هويتها كنص متمرد، يمنح الرؤيا وتتعدد فيه منابع الدهشة تماما كاللهو الجميل للجنون في حدائق العقل. شعريا، نحيا الحياة كلذة معصومة من الخطايا في شهوة اليأس. وهي ترتدي أزياء اللغة الشعرية، تماما كفراشة تبهر الفضاء بجوقة متنقلة من الألوان التي تقودها، احتفاء بالحلم القادم من شعاب التخييل المتشابكة، فسريرة الشاعر لا تكتب جراحها التي تنمو فيها كالغابة، إلا مستيقظة تماما كخيوط الضوء التي تتواشج فيها تجليات مغايرة للواقع، وعزلة تفيض عن الظلام الذي يلمس فيه الشاعر أصابع ذاكرته.
... في حوار القصيدة والشاعر، يستعير العالم فصاحته من اللغة الفاتنة شعريا، التي تضيئها صور كما لو أنها تنتمي إلى كوكب يستضيء هو أيضا بالحلم، بالكلمة وبالبروق الأكثر صفاء الآتية من أبعد الأماكن في عمق الشاعر. في ذات التواصل المقطر من ظلال الأفق، ومن ممرات النور في أجفانه الساهرة، يهدم الشاعر صخرة العتمات في الغموض على ركبة الضوء في القصيدة. يحرص أيضا أن يزن الحياة، بقصائد تحلم بمزامير تلدها دوما من كينونته زهي تعزف موسيقى الوجود على قيثارة لغته المبدعة، ليظل الشعر نفسه، ورشة متحركة من الألغاز.
بقدر ما يصر عناد القصيدة على خلق الحدث الشعري، من منطلق الحرية كفكرة ضرورية للممشى المعتدل للحياة ضدا على الجراح التي تمدها الحدود أفئدة للألم... بقدر ما تقيسه كخفقان مواز لكثافة السلم والحب الثابتين في الأحاسيس الكونية كرمح وتماما كنزوع إلى ما هو غير عادي بالنسبة "للتسويات السياسية في الأروقة المطلولة بالدم." هذا "الشعر الذي نحن في مغطسه" بتعبير سارتر، يدفعنا إلى امتطاء صهوة المخاطرة لولادة القصيدة ولجذوتها في الحدس والمخيلة، كخطوة لها مسكن في التاريخ والحياة معا، وكفعل لا تنبذه الأرض.
... لأن الوجود ظل موضع اختلاف في عظام القرون، فقد تنوعت هويات قول حقيقته شعريا... فلسفيا... وعلميا. فالعلم يقول كما قال رائد الأنثربولوجيا البنيوية كلود ليفي ستراوش "... على الإنفصال باعتباره الحركة الضرورية التي استطاع التفكير العلمي أن يبني نفسه من خلالها"، وجعل أفلاطون "مهمة الفلسفة كاهنة في صنع الحقيقة "، لكن راعي الكينونة الشاعر يعني ينتزع أشياء جديدة، "ويعمل ما تعمله الطبيعة بقوة التخييل" بتعبير س. أليوت، وهو "لم يعد يكتفي بمحاكاة العالم، ونما أصبح نفسه يمارس خلق العالم" كما قال أدونيس. عنوانا لأزليته، ظل الشعر يعكس تصادم البنى بين العمليات الميتافيزيقية وحوار الإنسانية، مادام يمتح حمولته الباهرة في اللغة كمثير حسي، من الأسطورة، من تاريخ الأديان، من الخرافة، من الفن... ومن التطور الحديث.
... بتقديمنا لاختلاف مرجعيات الرأي في الشعر تاريخيا كما أوردته مجلة الفكر العربي المعاصر في أحد أعدادها نؤكد أن الشعر سيظل المنافس الأوحد للعلم والفلسفة والفنون في ابتداعه لحقيقة العالم، وهو الأكثر قدرة على التواصل القومي كما هو رهان الرواية أيضا لتمكين تيار الكونية من اجتياز ضفة ثقافية إلى أخرى.
... فالشعر أكثر ألما وأشد اعتصارا، وهو "مفتاح قديم لفتح بوابات الأرض، والبشر، وقلوبهم، وكيانهم، كنجم السها... والقصيدة هي مجال الحركة في الطبيعة والإنسان وأوقيانوس البشر العارم الوسيع" بتعبير بابلو نيرودا.
عندما تتعرض حقيقة الوئام في الوجود للطعنات، يقيم الشاعر في قلق الحالة، مستندا بتعبير أنسي الحاج "إلى وعيه الحاد، وإلى اللاوعي المشرع على الشموس الداخلية المضرجة بالمآسي والميتات الكثيرة، فالشاعر لو لم يكتب الشعر، لبقي مجموعة أشعار غامضة". إن القصيدة هي الزمن الذاتي الذي لا يمكن السيطرة عليه، كلحظات مختزنة في مستودع الذاكرة ، إلا بالكيس الخفيف لكلمات الشاعر. بالشعر إذن،يزرع الشاعر القصائد "نجوما في السماء" كما قال محمود درويش، ليصير النور في أشعتها أكثر عدلا، وليتسع لجميع الرؤوس.
أفلاطون (429 - 327 ق.م.):
الشعراء مثل كاهنات معبد باخوس
يعتبر أفلاطون عادة، بمثابة عدو الشعراء، لذلك نوى استبعادهم من «مدينته»، ونظر إليهم بوصفهم مؤتمنين على «هبة إلهية» غير مسؤولين عن عطائها وإبداعها. وهو يرى أن الشعراء العظام لم ينظموا كل قصائدهم الرائعة بفضل فن ما، بل بفضل وحي إلهي وإيعاز رباني، فكما يرقص كهنة اليونان عندما يخرجون عن طورهم، كذلك لا يسيطر الشعراء على أنفسهم عندما يبدعون قصائدهم الجميلة التي نعرفها. وما أن يدخلوا في عالم الوزن والقافية حتى يصبحوا كمن أصابه مس، مثل كاهنات معبد باخوس اللواتي يغرفن اللبن والعسل من الأنهار، وذلك بتأثير المس الذي يصيبهن. إنه نفس الجنون هو الذي يتحرك في نفوس الشعراء، كما يعترفون هم أنفسهم بذلك.
وفي الواقع، يقول لنا الشعراء إنهم يجمعون قصائدهم من البراري والوديان حيث تعيش ربات الفن، تماما كما تجمع النحلة العسل متنقلة من مكان إلى آخر. إنهم يقولون الحقيقة. فالشاعر شيء خفيف، مجنح ومقدس، ولا يستطيع أن يعطي قبل أن يتلقى الوحي ويخرج عن طوره ويفقد السيطرة على عقله. وإذا كان الله ينظر إلى الشعراء فيعتبرهم كهنة، كما يفعل بالأنبياء وبوسطاء الوحي، فلكي نعرف، نحن الذين نصغي إليهم، بأنهم ليسوا هم الذين يأتون بالأشياء الرائعة، بل أن الله نفسه هو الذي يقول ذلك، متحدثا إلينا بلسانهم. فالقصائد الرائعة ليست من صنع البشر، إنما بلسانهم. فالقصائد الرائعة ليست من صنع البشر، إنما هي من صنع الآلهة، إنها ملكهم.
وليس الفن أو العلم هو الذي يوجه الشعراء لإنتاج ما ينظمون، إنه نوع من الغريزة، وحي إلهي، كما هو الحال مع الكهنة والأنبياء الذين يقولون الكثير من الأشياء الرائعة، دون أن يدركوا ماذا يقولون...
أرسطو (384 - 322 ق.م.)
ما يميز الشاعر هو لغته الأنيقة
ينظر أرسطو إلى الشعر، عكس نظرة أفلاطون، فيعتبر الشاعر فنانا يوجهه العقل والشعر فنا. لقد بدأ في معالجته لمسألة الشعر انطلاقا من الإنتاج الشعري نفسه، ومن شتى ضروب هذا الإنتاج، وعمد إلى قراءة العلاقة بين الشعر والمحاكاة حسب وسائل وأهداف ونماذج المحاكاة نفسها، وجعل من أهداف المحاكاة وطرقها منبعا لتعيين شتى أصناف الشعر.
وفي بحثه عن مصدر الشعر أو أصله وجد أن هناك سببين أساسيين يولدان الشعر، وهما يرجعان إلى طبيعتنا البشرية نفسها. يمكن السبب الأول في الميل إلى المحاكاة أو التقليد، وهو ميل غريزي عند الإنسان منذ طفولته. فالإنسان يتميز، على هذا الصعيد عن جميع باقي المخلوقات، بقدرته على التقليد والمحاكاة. وبالتقليد يكتسب الإنسان أولى معارفه، ويشعر بمتعته. ويربط أرسطو السبب الثاني لولادة الشعر بالميل الطبيعي، أيضا، عند الإنسان إلى تذوق الإيقاع والانسجام في الكلام. هكذا يتضافر هذان الميلان الطبيعيان في الإنسان، منذ القدم، فيعطيان شيئا فشيئا، ما نسميه الشعر من خلال عمليات الارتجال التي قام بها قديما رجال تميزوا بطبيعتهم بهذين الميلين.
ويطرح أرسطو العلاقة بين الشعر والتاريخ. وهنا يرى أنه ليس من مهمة الشاعر أن يروي بدقة وبصواب ما حصل في الماضي، بل على الشاعر أن يحكي ما كان يمكن حدوثه، أو ما يمكن حدوثه، أي عليه أن يبقى في حدود الممكن حسب الاحتمال والضرورة ولا يختلف الشاعر عن المؤرخ في كون الأول يكتب بأشعاره ناظما، بينما يعمد الثاني إلى لغة النثر، بل في كون الشعر يبقى في حدود العام هنا هو ما يتفق لهذه الفئة أو تلك من الناس أن تقوله أو تفعله في هذه الظروف أو تلك، وحسب ما هو ممكن أو ضروري، أما الخاص فهو ما قاله أو فعله هذا الرجل التاريخي، هذا الحاكم أو ذاك.
غوته (1749 - 1832)
الشعر إرث مشترك للإنسانية جمعاء
دافع غوته في ميدان الشعر عن الواقعية بوصفها تجربة ضرورية له. غير أن لواقعيته طعما خاصا بها، إذ ليس على الشاعر أن يجعل منها هدفه، بل نقطة انطلاقه، بحيث يبدأ من واقع الأشياء ليكشف ما فيها من كوني وشامل. وهو يعترف بأن قصائده كلها قصائد مناسبات، تستوحي منها وتقوم على أساسها. ويرى أن لا قيمة لشعر يقوم على أساس مناسبات واقعية. ويحذر من الادعاء بأن الواقع يفتقر إلى ما يثير الحساسية الشعرية، لأن الشاعر يثبت جدارته عندما يجد أمرا مهما في قضية واقعية بسيطة. هكذا إذن تشكل الواقعية المحرك، أو نقطة الانطلاق، أو النواة الفعلية التي يبدأ منها الشاعر في قصيدته. وما يعترض الشاعر من عقبات هو سعيه لخلق مناسبات وهمية لقصائده. وبالعكس يسير الأمر بشكل سهل جدا عندما تكون المادة الأساسية معطاة في الحياة الواقعية.
وينصح غوته الشاعر بحسن اختيار ما هو خاص وفردي ومتميز، فإن كان شاعرا ناجحا استطاع أن يتمثل من هذا الفردي ما هو شامل. وهو يرى أن الشعر إرث مشترك للإنسانية جمعاء. ويلتقي غوته مع أرسطو، تقريبا، في المقارنة بين عمل الشاعر والمؤرخ. وهو يتساءل ماذا يفيد الشاعر إن هو اكتفى بميدان وحدود نشاط المؤرخ. وينصحه بعدم الاكتفاء بحدود التاريخ، بل بالذهاب إلى ما هو أبعد منه.
وهو ينتقد جميع الشعراء الذين يكتبون كما لو أنهم مرضى والعالم مصح. فهم يتحدثون جميعهم عن آلام وتعاسة الأرض والسعادة في الآخرة. إن في ذلك خطأ فادحا في الشعر، إن فيه مغالاة، لأن وظيفة الشعر هي العمل على تخفيف التوتر ومصالحة الإنسان مع عالمه. ويؤكد على محبة الشاعر لوطنه، بحيث يغدو الوطن عنده ما هو رائع وطيب وكريم. ويميل غوته إلى إدانة الشعر الحديث (في عصره) أكثر من ميله إلى تأييده وتشجيعه. وينصح الشعراء بعدم التفكير كثيرا ببحور الشعر وأوزانه لدى نظم القصائد، لأن الوزن يأتي بشكل لا شعوري أثناء نظمه، فإن فكرنا في اختراعه أصابنا الفشل. ويمكن برأيه نقل قوانين النظم وتعليمها، ولكن خلق الشاعر، أو وجوده، يفترض امتلاك موهبة خلاقة وهذا ما لا يمكن الحصول عليه بالتعليم. ولا ينسى أن يحذر الشاعر من مغبة الالتزام السياسي، لأن ذلك يفقده مقدرته لحرمانه من حريته، ويرميه في ضيق الأفق والرؤية المنحازة العمياء.
نوفاليس (1772 - 1801)
على اللغة الشعرية أن تكون حية وعضوية
جعل نوفاليس- وهو واحد من أوائل الشعراء الرومنسيين وأكثرهم شأنا - من معرفة الطبيعة ومحبتها محبة عميقة مصدر كل شعر، والشاعر بالنسبة له هو ذلك الرجل الذي يعيش في حالة انسجام مطلق مع الطبيعة إزاء الإنسان. وهو يدافع عن الشعر عندما تؤخذ عليه المبالغة. فيرفض هذا النقد، داعيا النقاد إلى النظر بعيون الشاعر والإحساس بقلبه ومشاعره. وهو يرى أن اللغة الشعرية يجب أن تكون حية وعضوية. وينظر نوفاليس إلى الشاعر بوصفه كاهنا، انطلاقا من اعتباره أن الشاعر والكاهن كانا، في الأصل دائما، واحدا، ففصلت بينهما الأزمنة الحديثة. غير أن الشاعر المبدع يبقى ذلك الكاهن الذي يتعبد إلى آلهة الطبيعة.
شيلر (1759 - 1805)
الشاعر يفرق الكائنات ويوحدها
يرى شيلر أن هناك نوعين من الشعراء: الشاعر الشعبي، «الموضوعي» الذي يرجع إلى الأزمنة الغابرة في تاريخ مجتمع فتي وقوي. والشاعر الوجداني الذي ليس هو سوى مترجم لمشاعره الخاصة، ويظهر في عصور الضعف والانحطاط. غير أن للاثنين نفس المقدرة على جعل الإنسان ينسجم مع عالمه، كما لو أنهما يكشفان عن وحدتهما الإلهية. ينصح شيلر الشاعر بأن يجعل اللغة بالنسبة له بمثابة الجسد بالنسبة للعشاق. إنه وحده الذي يفرق الكائنات ويوحدها.
هيغل (1770 - 1831)
الشعر مخلوق حي وأسبق
إلى الوجود من النثر
جعل هيغل من الشعر تعبيرا عن العالم الروحي. ولذلك ليست مهمته وصف الواقع، بل جعله حيا وكشف ما يختبئ فيه على الوعي العادي. يعني ذلك أن على الشعر أن يتجسد في الملموس الذي يختص به والذي هو ذو صفة قومية. والشعر، بنظره، مخلوق حي، لا يخضع إلا لقوانينه هو. ومن هنا أهمية الحرية في الشعر، وضرورة وحدة القصيدة العميقة واستقلالية عناصرها المؤلفة لها. وينطلق هيغل في حديثه عن الشعر من التساؤل عن اختلاف فن الشعر عن فن النثر. ويسجل نفور جميع الذين تحدثوا عن الشعر، عن الكلام عن اختلافه عن النثر، أو عن العمل على تحديد ما هو شعري. وفي الواقع، عندما نتحدث عن الشعر، كفن، دون أن نتفحص، قبلا، ما هي مضامين وأساليب الفن عامة، يصعب علينا أن نعرف أين نجد جوهر ما هو شعري. فبأي حق نستطيع أن ننسب إلى هذا العمل أو ذاك كونه شعرا؟ هناك إذن أهمية أولى لتحديد مفهوم الشعر ومضمون الشعري.
يتحدد مضمون الشعر من خلال اهتمامه بمسائل روحية، غير مادية، سواء استدعت الحدس أو الإحساس والوجدان، وهو لا يعمل إلا في خدمة الحدس الداخلي الذي يتوق إلى الأمور الروحية. فمهمة الشعر إذن أن يقدم للوعي قدرات الحياة الروحية وكل ما يؤثر فينا من الأهواء والمشاعر الإنسانية، أو باختصار، الميدان غير المحدود للصور، للأعمال، للمصائر البشرية، وسير وتغير العالم، والطريقة التي تديره بها الآلهة. إلا أن الوعي النثري لا يختلف بهذا المعنى عن المضمون الشعري: معرفة القوانين العامة، تمييز وتصنيف وتفسير ظواهر العالم الخارجي... فما الفرق إذن بين الصورة الشعرية والنثرية؟..
يجيب هيغل بانطلاقه من أن الشعر أسبق إلى الوجود من النثر. فهو يعبر عن الصورة العفوية للواقع. إنه معرفة لا تفرق بين العالم وتظاهراته الخاصة الحية، وقوانين تطبيقاتها، إلا أنها لا ترى كلا من هذه الحدود إلا داخل ومن خلال غيرها. لقد بدأ الشعر يوم أحس الإنسان بالحاجة إلى التعبير عن نفسه. في حين أن النثر يعمل في إطار المظهر الواقعي للعلاقة بين السبب والنتيجة، بين الغاية والوسيلة. وهو يؤدي إلى طرح فرضيات قوانين الأحداث والظواهر، ويخلق فصلا بين ما هو خاص والقوانين العامة، ويقيم بينها علاقات تبعية واضحة. ويتحدث هيغل عن خصوصية الحدس الشعري. فالشعر، يعكس باقي الفنون، لم يعرف عصورا معينة وقفا على الشعوب أو حضارات محددة، وفي لحظات واضحة في التاريخ. بل إننا نجده لدى كل الشعوب، يضيء تارة ويخبو نوره طورا، ولكنه لا ينعدم لدى أي شعب. ومن هنا يأخذ الشعر صبغة قومية معينة ويعرف بها، فيقال الشعر الإسباني أو الإيطالي... وفي الشعر، بالإضافة إلى خصوصياته القومية والتاريخية عنصر كوني وشمولي، بوصفه إنساني من جهة، وله علاقة مباشرة بالفن، من جهة أخرى.
كيتس (1795 - 1821)
الشعر هو كل شيء وفي كل شيء
يرى كيتس أن الشعر شيء داخلي في ذات الشاعر. إنه نوع من الوحي، أو انفعال طبيعي. وبالتالي، لا يمكن أن نعطي الشاعر تعريفا يحدده... إنه نوع من الوهم المتغير، "حرباء" بوسعها أن تلبس شتى أزياء الطبيعة وألوانها.
وهو يعتبر أن من حق عشاق الشعر الحصول على زاوية يسرحون فيها شاردين ليختاروا ما يعجبهم. وليس هناك، في نظره، من خاصية شعرية في ذاتها تعطي للأشياء قابلية لأن تكون موضوع الشعر. وليس هناك مقياس محدد يعين حدود الشعر. فالشعر هو كل شيء وفي كل شيء، نجده في الظلمة وفي النور، في الجمال وفي القبح. ليس للشعر هوية وكذلك هو الشاعر. قد يكون للشمس وللقمر وللبحر وللرجال وللنساء صفة شاعرية، أما الشاعر فهو بالتأكيد شيء غير محدد، ولا نعرف سوى أنه شاعرا.
شيلي (1792 - 1822)
الشاعر رجل الخلود والوحدة والمطلق
يرى في الشعر تعبيرا مجازيا عن العلاقات المخبأة والموجودة بين الأشياء. ومن هنا، فالشاعر رجل الخلود والوحدة والمطلق، واللغة أداته المميزة بسبب غناها وطراوتها. ويعتبر شيلي أن الشعراء هم أولئك الذين يتمتعون بموهبة مفرطة في ملاحظة الجمال والروعة. وتتألف لغتهم من استعارات حية، فيعتبرون عن علاقات ما تزال غير مدركة تماما، بحيث تصبح الكلمات التي يعبرون بها، مع الزمن، إشارات النظم، أو منظومات الفكر. وهو يرى، أنه في مطلع الاجتماع البشري، كان كل مؤلف شاعر، لأن اللغة نفسها كانت شعرا. وكان الشاعر من يدرك الجميل والصحيح، باختصار كان ذلك ما هو موجود في العلاقة القائمة، أولا، بين الوجود وإدراكه، ومن ثم بين الإدراك والتعبير. ولذا كان الشعراء يدعون في العصور الأولى مشرعين أو أنبياء. وكان الشاعر يجمع، أساسا، بين هاتين الصفتين في نفس الوقت. ومن ثم جاءت قواعد اللغة والشعر وأنواعه، مع الزمن، وبعد أن قطع الشعر شوطا في صيرورته. ويعتقد شيلي أن التمييز بين الشعراء والناثرين خطأ فظ، كما أن التمييز بين الشاعر والفيلسوف حكم مسبق.
فيكتور هوغو (1802 - 1885)
الشاعر يجسد أعلى درجات الإنسانية
من بين جميع الرومنسيين الفرنسيين كان هوغو الوحيد الذي منح الشعر صفة الكلية. من هنا تمجيده لإنتاج الشاعر الشخصي والغنائي والمحلي والاجتماعي... فالشاعر يجسد أعلى درجات الإنسانية. فهو الإنسان الحر يامتياز، وشعره يعرف القوانين، مهمته أن يكون كونيا ويسمع صوت لإنسان والطبيعة والتاريخ، وهو صوت حر دوما، إنه صوت الحرية. وهو يرى أن ميدان الشعر لا يعرف الحدود. فخلف العالم الواقعي يوجد عالم مثالي يظهر لعين من عودته التأملات الكبيرة أن يرى في الواقع ما هو أكثر من الواقع نفسه. لقد كشف المؤلفات الشعرية الرائعة التي توجت عصرنا، سواء كانت شعرا أم نثرا، حقيقة، لم تلق الاهتمام الجدي، وهي أن الشعر ليس في شكل الأفكار، بل في الأفكار نفسها. إن الشعر كل ما هو حميم في كل شيء.
ويعتبر هوغو أن ليس على الشاعر الاقتداء إلا بنموذج واحد: الطبيعة، وبدليل واحد: الحقيقة. فليس هناك قواعد ونماذج للشعر، وبالأصح ليس هناك سوى قوانين الطبيعة العامة التي تحلق فوق كل فن، والقوانين الخاصة الناتجة عن الشروط الخاصة المتعلقة بكل موضوع: بعضها أبدي داخلي ويبقى كذلك، وبعضها الآخر متغير وخارجي لا يستخدم إلا مرة واحدة. فالبعض الأول، هو، بالنسبة للشعر، كالهيكل الذي يحمل البناء، والثاني هو المواد التي تكمل البناء. وهو ينصح الشاعر بأن يستوعب مجمل أفكار عصره، فصلا عما لديه من أفكار تأتيه من تكوينه الخاص، والأفكار التي تأتيه من الحقيقة الأبدية.
بودلير (1821 - 1867)
الشعر هو هدف الشعر
ينظر بودلير إلى الشعر نظرة شعرية صرف، ينطلق فيها من نقده لتصورات الآخرين عنه. فيرفض ظن البعض بأن الشعر يهدف إلى تعليم شيء ما، بحيث يكون تارة لتعزيز الوعي، وطورا لتحسين العادات والتقاليد، وطورا آخر للدلالة على ما هو مفيد للمجتمع أو للإنسانية... وهو يرى أن ليس للشعر من هدف خارج ذاته. فالشعر هو هدف الشعر، ولا يمكن أن يكون له هدف آخر سواه. ولا تكون القصيدة رائعة وناجحة وجديرة باسم قصيدة إلا تلك التي تكتب فقط من أجل كتابة الشعر.
ولا يقصد بودلير، بالطبع، أن الشعر لا يمكنه دعم وتأييد تقاليد البشر أو تغييرها، إلا أن ذلك لن يكون غرضه الأساسي. فلو تبع الشاعر هدفا ما غير هدف نظم الشعر، لأضعف مقدرته الشعرية، وأصبح في وضع من يجازف بأن ينجح أو يفشل. ولا يجوز للشعر، خشية مغبة الموت أو الضياع، أن يتحول إلى علم أو إلى أخلاق. وليست الحقيقة هدف الشعر، بل هو هدف ذاته. إن العقل الصرف يهدف إلى الحقيقة، ويظهر الذوق الجمال والروعة، ويعلم الحس الأخلاقي الواجب، بالعقل والحقائق والأخلاق والواجبات. فالعيب يؤذي الحقيقة والأخلاق، ولذلك فهو يؤدي الشعر والذوق الشعري لأنه يسيء إلى الانسجام. إن مبدأ الشعر هو، تماما وببساطة، النزوع الإنساني نحو الجمال الأسمى، ويتجلى هذا المبدأ في النشوة والمتعة الشعرية. ويعرج بودلير على الرومنسية الفرنسية، فيأخذ عليها استحداثها واستخدامها الشائع لتعبير "شعر القلب". ويرى أن هذا التعبير أعطى أهمية كبيرة في الشعر للهوى الجامح. والحال فقد أساء كثيرا إلى الأدب وإلى الفن الشعري. فالقلب يتضمن العاطفة والتفاني والجريمة.
نيتشه (1844 - 1900)
آه! كم أتعبني الشعراء...!؟
« قال زارا لأحد أتباعه: منذ بدأت أعرف حقيقية الجسد لم تعد الروح روحا، في نظري، إلا على أضيق مقياس، وصار كل «ما لا يفنى» رمزا إلى الرموز».
« أجاب التابع: سمعتك تقول هذا القول من قبل، وأضفت إليه « لكن الشعراء يفرطون في الكذب» فلماذا قلت ذلك؟
قال زارا: ... إذا قال أحدهم، بكل جدية: إن الشعراء يفرطون في الكذب، فإنه يقول حقا. لأننا نحن الشعراء نفرط في الكذب طالما أن ما نجده من العلم قليلا... إن افتقارنا إلى المعرفة يدفع بنا إلى محبة مساكين العقول وخاصة الفتيات... وكما لو أن هناك طريقا سريا يؤدي إلى المعرفة وإنه لا ينكشف لمن يدركون الأمور بالعلم. فالشعراء جميعهم يعتقدون أن كل من تمدد على العشب أو جلس على منحدر جبل مقفر، وهو يتنصت إلى السكون، يتوصل إلى معرفة شيء مما يحدث بين الأرض والسماء. وإذا هزهم الشعور المرهف خيل لهم أن الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم، فيرونها تنحني على آذانهم تلهمهم البيان الساحر والسرار، فيقفون متباهين بإلهامهم أمام كل كائن يزول. إن بين الأرض والسماء الكثير من الأمور التي لا يحلم بها إلا الشعراء. وهنالك أمور أخرى كثيرة فوق السماء. وما جميع الآلهة إلا رموز أبدعها الآلهة.
آه. لكم تعبت من كل قاصر يطمح إلى جعل نفسه شيئا ما، ولكم أتعبني الشعراء! لقد أتعبني الشعراء الأقدمون منهم والمتحدثون. إنهم، بنظري، سطحيون، بحار جفت مياهها، ولا يفكرون في العمق، وأفضل ما في تأملاتهم قليل من الشهوة وقليل من الضجر. لم يبلغ الشعراء درجة النقاء، فهم يعكرون جداولهم ليخدعوا الناس، ويوهموهم أنها بعيدة الغور. « يقتبس الشعراء من البحر غروره، وهل هو إلا أشد الطواويس غرورا! ».
غاستون باشلار ..
الخيال الطبيعي هو الذي يقدم جوهر الشعر
يرى باشلار، الذي يعتبر فيلسوف الشعر الحديث، أن الخيال الطبيعي هو الذي يقدم، فيما وراء الأفكار واللغة نفسها، جوهر الشعر. والشعر بالنسبة له طريقة لنحلم بها بالواقع. وهو ينطلق في بحثه في الشعر من معالجته وتحديده للقوى التخيلية في الفكر. ويرى أن هذه القوى تتطور على محورين مختلفين تماما. فتجد الأولى انطلاقتها أمام الجديد، فتتلهى بالغريب والتنوع والحدث غير المتوقع. وللتخيل الذي يحركها دوما، ربيع يصفه، فهي تنتج في الطبيعة، بعيدا عنا، حيث تعيش أزهارها. أما القوى الأخرى فهي تبحث في جوهر الكائن، وتريد أن تعثر فيه على الأصلي والأبدي، دفعة واحدة. وهي تنتج البرعم في الطبيغة وفينا، وهي براعم مليئة بالجوهر، حيث الشكل داخلي.
وهناك فلسفيا تخيلان: تخيل يولد السبب الشكلي وآخر يولد السبب المادي. أو هناك التخيل الشكلي والتخيل المادي. ويرى باشلار أنه لا يستغنى عن هذين المفهومين في دراسة الإبداع الشعري. وهناك بالإضافة إلى ما سبق ضرورة لوجود سبب شعوري كي يتحول إلى سبب شكلي، كما أن هناك صورا عن المادة. وهي صور مباشرة، تسميها الرؤية، ولكن اليد تعرفها. وبالطبع تتعاون هاتان القوتان في بعض الأعمال، ويستحيل أيضا، فصلهما عن بعضهما تماما. فالحلم الأكثر دينامية ومجازية، الذي يستسلم تماما للأشكال، يحتفظ، على الرغم من ذلك، بلحظة، بثقل، ببرعم. وبالعكس فإن على كل عمل شعري يهبط بعمق إلى برعم الكائن ليجد في المادة استقرارها الصلب ورتابتها الجميلة، أن يزهر، ويصبح رائعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.