الشاعر أحمد بلحاج آية وارهام من العلامات المائزة في القصيدة المغربية المعاصرة ؛ باعتباره سامر الكتابة الشعرية منذ السبعينيات من القرن السالف إلى الآن ، قام خلالها بتقليب القصيدة ضمن مجاميع شعرية عديدة منها: «زمن الغربة » سنة 1979، «كتابة على ألواح الدم » سنة 1984 ، « العبور من تحت إبط الموت» سنة 1994، «طائر من أرض السمسمة»، «الخروج من ليل الجسد»، «حانة الروح» سنة 2007 .. مجاميع بمثابة تجليات لأفق شعري باذخ، يجد امتداداته بصيغة ما، في دراساته وبحوثه في جماليات الكتابة و أبعادها نذكر منها: شعرية الحمامات، موقف ابن رشد من إشكالية المعرفية الصوفية، الخط العربي وعلم الحرف... هذا فضلا عن اشتغاله الثقافي الدؤوب ضمن إطارات ومنابر ثقافية. تعدد، تحولت معه القصيدة إلى أداة بحث في الكتابة والوجود . هنا حوار معه، لإضاءة بعض مفاصل هذه التجربة الثرة أكيد، أنك تدرجت على سلم الشعر الطويل بين سياقات وصيغ جمالية. أريد أن تحدثنا عن هذه الصداقة مع القصيدة كما تفهمها؟ الصداقة مع القصيدة هي صنوُ الصداقة مع الوجود، فهذا يغريني بالإنصات إليه والتعرف على أسراره الممتدة في البعيد الأبعد، وتلك تغريني، بالبحث عن حقيقتي الشخصية، وعن معنى وجودي في هذا العالم الذي أتيت إليه، وتحرضني على السؤال: هل أتماهى معه فأكون حجرة صماء في بنائه؟ أم أختلف معه فأثبت شرعية ذاتي خارج سياقاته؟ في القصيدة؛ ليس هاجسي الشكل، وإنما هاجسي هو الشعرية التي تتطابق مع ما في نفسي. فزمن المبدع هو ما في نفسه، وحين يتطابق زمنه مع ما في نفوس الآخرين تكون الشعرية، ويشع مجهول القصيدة. فكل تفاعلٍ محمل برغبة البقاء أو الموت أو الانتماء إلى أشياء الحياة الجوهرية هو لحظة شعرية، وكل مأزق للوعي مع الذاكرة أو مع الحاضر هو شحنة عالية من الشعرية، هذا هو تصوري الآن عن الانغمار في مياه الشعر. إنه انغمارٌ بالجسد المؤول لغة، فلغتي شعري ولغة الناس للناس، فمن ألياف لغتي وقراءاتي وتراثي أتطلع إلى عصرنة القصيدة، وهذا التطلع هو المحرض والجاذب إلى كتابة شعر فيه ملامحي وخلاياي الجذعية. شعر يتخفى فيه الضجر الكوني كما يتخفى الظل في النور. لقد جرَّأني الشعر على اجتراح حياة أكبر من حدود مخاوفي، وطبيعتي الحذرة المسالمة، فصدقته بسذاجة طفل يعتقد أنه سيتحكم في اتجاه الريح، أو في ترويض الموج، لكنه حملني فوقه ولطمني، و أنا في نار لطمته أتنفس الحياة كما أريدها وأعشقها، لا كما تظهر في مخططات الواقع، أعيشها مختلفا وممتلئا، دون سقوط في فخاخ الاغتباط. قلت ذات مرة :« لكل شاعر رموزه و إشاراته». في نفس الصدد، رموزك تحفر في طينة اللغة، تحولت معها القصيدة إلى أداة بحث في الحياة والوجود. ما تعليقك؟ في البادية؛ ذات صباح و أنا أمشي هونًا بين الأشجار؛ سألني رفيقي: لماذا تسقط الأوراق من الشجر في غيرالخريف؟ فقلت : إنها أعضاؤنا و أحاسيسنا تُفارقنا دون أن نهتمَّ. حدق فيَّ مليا وشرَدَ عني، ولم أكن أعتقد أن هذا الجواب العفوي سيُدخل مخاطبي في عمق التوحد بالطبيعة. أليس هذا هو سحر الشعر؟ يحرِّف المعنى المشاع إلى صورة نابضة من خلال الرمز والمجاز والإشارة. والشاعر الذي لا تخرق نفسُه العبارة لا يمكن له أن يَخرق الإشارة. فالإشارة هي بصمة الشعراء المتفردين، والصوفية المحلقين بأجنحة الإبداع خارج سماء المعتقد، بها يقرأون الكون، فيفهمهم ويفهمونه، وبها يعيشون كل شيء ثانية وبعمق حميمي. إن اللغة هي مَسكننا الوجودي المشترك، ولكنها في الشعر تصير ذلك المسكن المتعدد، مثله مثل الحقيقة، له وجود و أشكال وتمثلاتٌ إيقاعية و تخييلية و إشارية نابعة من ذات الشاعر و من ثرائه المعرفي. فالقصيدة لم تعد إلهاما، وكلاما فطريا، و إنما هي جُهدٌ معرفي وحفرٌ شاقُّ ومُضن في مداليل الوجود السرية، وتأسيس لمعرفة عُليا خارج المعارف المتداولة. ومن ثمة فإن تطويرها متضمِّنٌ تطوير الحياة. فقد انحسر نهائيا ذلك الفهم الذي يربط تطور القصيدة بالتخلي عن الوزن، وذلك لأن الأمر يتعلق بتحولات كبرى في الحياة غاية في الأهمية، فنحن وصلنا في لحظة معينة إلى أن تكون للشعر مصادر غير الشعر؛ هي: السينما والرواية والمسرح والتشكيل والرقص و إيقاع الطبيعة بكل مكوناتها، إضافة إلى الينابيع المنبجسة من جغرافية الأسطورة، ومن ذاكرة النسيان، ومباهج التقنية. ولهذا صارت تقنياتها تتقاطع مع عدة تقنيات أخرى، لاعتمادها على ميراث مختلف تماما عن الميراث الذي كانت تعتمد عليه القصيدة سابقا، ولكونها منذورة لمخاطبة الكون كله، وليس جزءا منه فقط. وهذا هو الذي يفرض على الشاعر أن تكون له رموزه و إشاراته الخاصة التي يخاطب بها العالم، فالشعر هو لغات الله التي تكلم بها إلى الخلق مكثفة في هذه الإشارات والرموز. ورموزي و إشاراتي ما هي إلا روحٌ قلقة فوق صهوة الريح، لا تجتذب إلا الأرواح الشبيهة التي تتماسّ مع قلقها، تبزغ في مشروعي الشعري لتردمَ الهوة بين الإنسان وبين جسده. فالجسد محتقر في ثقافتنا إلى حد الفظاعة والتعذيب، وما زال سيف هذه الثقافة يفصلني عن جسدي كلما سمعت منه هذا الصوت و أشباهه: عَلَيْكَ بِاُلنَّفْسِ وَ اُسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِاُلنَّفْسِ لَا بِاُلْجِسْمِ إِنْسَانُ بالشعر أُثبت إنسانيتي و ذاتي ضد كل سلطة، فالإنسان هو برزخٌ بين الله وبين العالم، إذا نفيته نفيت الكل، فهو ثمرة العالم و برنامجه، والبرزخ الحائر بين السماء و الأرض، ومن ارتباك وجوده يطلع الشعر، ويُشرق رموزا. ومن بين رموزي التي تحفر في طينة اللغة للبحث في الحياة والوجود: أرض السمسمة، الاصطلام، حضرةُ الناسوت، حضرةُ الملكوت، حضرةُ اللاهوت، حضرةُ الجبروت، حضرةُ الهاهوت التي يسميها الصوفية بحضرة العماء الذي ما فوقه هواء ولا تحته هواء، وهي خارج مفهوم الكاوس caos الفلسفي،وحضرةُ النور المطلسم، وحضرةُ نور الألوان المتدرجة في سلم سباعي، تتبدل فيه معاني الألوان و أنوارها أثناء السفر الشعري الصوفي بتغيير الأداة فقط، كالآتي: 1 السفر إلى الحق : نور أزرق 2 السفر من الحق : نور أسفر. 3 السفر على الحق : نور أحمر. 4 السفر مع الحق : نور أبيض. 5 السفر في الحق : نور أخضر. 6 السفر عن الحق: نور أسود. 7 السفر بالحق : نور بلا لون. يبدو لي، و أنا أطالع نحتك الشعري، أنك على علاقة خاصة بالكلمات؛ كأنك تنفضها لتتطهر، وتدخل في سياق بنائي آخر. علاقتك بالكلمات في الكتابة؟ الكلمات طين لازبٌ في المعاجم، والشاعر يأخذ من هذا الطين اللازب ما يتفق وزمنه الداخلي فينفخ فيه روحا، بحيث يصبح أمَّةً من الأُمَمِ لا تموت؛لها سياقها الخاص المخالف لسياق المعاجم، وسياق الخطابات الأخرى. ففي القصيدة تملك الكلمات عيونا، تسلطها على العالم في استدارات داخلية بطيئة، وخارجية سريعة، تُحول الفكر والوجدان إلى ظل تتقطر منه الحياة..الحياة كما نشتهي أن نراها، لا كما هي في الواقع. وبهذا تكون الكلمات عندي لغة للعمق العاطل، كلما تلقاها المتلقي أدرك أنها ليست لسواي، وأنه باستطاعته مصادقة العالم فيها. ولذلك تجدني في صراع قاس حدَّ الاحتراق مع تجربتي الشعرية، أتأملها لأنسلخ منها إلى ضوء راعش يناديني في تخوم اللانهائي. فأنا ما زلت أشكلها ديوانا ديوانا، وقصيدة قصيدة، وأخرج منها لأدخل فيها بنفَس جديد كمن يقوم بالرَّكْمَجَةِ ( = ركوب الموج) على أمواج المستحيل، ولذا تتلبسني حالات القلق والتوجس والفَرَقِ من الكلمة، فأدقق كثيرا في اختياراتي اللغوية تهيبا من المتلقي، واحتراما لذاتي، وكذلك في صوري الشعرية التي أنحتها بطريقة تحمل بصمتي كما تحمل منحوتات جْيَاكُومِتِي بصمته. و الآن أحلم بكتابة شيء أتجاوز به كل منجزي الشعري، ليس الشكل هاجسي، وإنما هاجسي هو الشعرية، ومجهول القصيدة الممتد في اللانهائي. فهل تراني أتنازل عن هذا؟ لم يبق لي من الحياة إلا الشعر، و أنا لن أتنازل عن هذه الحياة التي أخلق فيها الكلمات بحرية، رغم ما فيها من توجُّس وتوتر وفزع وصمت وطمأنينة وطيبة واحتراق، فهي حياتي العميقة التي ضحيت من أجلها بكثير من المباهج المادية، فكل قصيدة من قصائدي هي جزء من عمري، خطٌّ وبصرٌ، بصيرة وحلُم.أرحل فيها وبها إلى أراض شعرية غير معلومة السمات. فأنا متهوِّسٌ بقصيدة تجسد أعلى درجات الإنسانية و أسماها في قائلها أولا، ثم في ذاتها ثانيا، لا أريد أن أكون هباء عابرا في أرض الشعر التي هي ميراث مشترك لكل الإنسانية، وخير لي الصمت إذا لم تتنفس قصيدتي أنفاس الإنسانية. لغتك الشعرية في تحققها، نراها محتمية بداخل يرقب العالم من نقطة ما. إلى أي حد تساهم المرجعية الصوفية في تشكيل اللغة و الرؤيا في تجربتكم الشعرية؟ المرجعية الصوفية علمتني أن أتكلم لغة العمق العاطل التي أشرت إليها، كما علمتني أن أنظر إلى العالم على أنه جميل بالأصالة، و أن القبح طارئ عليه من لدن الذين لم يدركوا بعدُ جماله هذا في مظهره ومخبره. و الرؤيا الصوفية حين تتشكل إبداعا لا ترتبط بمعتقدٍ خاص، فكل المعتقدات ماؤها، تسقي به مكونات الكون إلى حد الامتلاء والشفوف والرهافة، بحيث أن من شرب منه يَستحيِي أن يقوم بإذاية أي كان في الكون، فإذا عثر بحجر مثلا لا يأنف من الاعتذار إليه، لأنه يدرك ذوقا وبعين البصيرة أن مفردات الكون امتدادٌ له، فإن هو آذاها يكون قد آذى نفسه. بهذا الزخم الصوفي تأثثتْ ذاكرتي ووجداني، وتشكلت لغتي، فجاء الخيال في شعري توأمًا للخلق والحرية. فالشعر هو ماهية الخيال، ولغة اللغات التي كلم الله بها العالم، ولذلك سنَّ له العرب القدامَى سجدة سموها ب «سجدة الشعر». فهم كلما سمعوا شعرا أخذ بمجامع قلوبهم خرُّوا سُجَّدا. ومن هنا كانت الحاجة إليه، فهو الذي يحرر الإنسان من الزمن المستبد، ومن الأقنعة الماسخة التي تسحق وجوده، وتشل فيه رعشة المستحيل المتوهجة في البعيد الأبعد، ووردة اللانهائي الفواحة بألوان الطيف. إن لغتي المتشكلة من السرِّ الصوفي هي لغة الكون، تحدث بها عبر ذاتي في لحظة التماهي الأصفى، الغايةُ منها تحويلُ الموت؛ أيا كانت أشكاله؛ إلى حياة نابضة بالتوهج و التألق، والبحث عن شعرية الوجود خلف ما هو موجود. وبهذا تكون اللغة في القصيدة حركة وحلما وتوقا للانهائي، ويكون الخيال فيها توليدا. إذ لا يسمى الخيال خيالا إلا إذا ولَّد لدى المتلقي شيئا ما و أحدثه. فهذا التوليدُ و الإحداث هو الخاصية التي تميزه من الاستعادة أو الاستحضار، وتجعله يُعيد إلى المتلقي ذاته باعتباره مرآة غير مرئية للذات الشعرية، بحيث يتحول من منطقة تشكيل الصور إلى منطقة أخرى تقوم على تغيير الصور التي تستبعد الإدراك. فالخيال الصوفي شعريا يبني صُورًا تُحررنا من الصور، ويقذفنا في تجربة الجِدَّة والحداثة و الإبداع والانفتاح بلغة غير اللغات التي ألفناها. الشعر المغربي المعاصر والتجربة الصوفية ، أية علاقة؟ في العمق لا تظهر لي ملامح علاقة بين شعرنا المغربي المعاصر والتجربة الصوفية. فمعظم من يمارس الشعر عندنا لديهم حساسية إزاء التجربة الصوفية، ولهم الحق في ذلك، كما لهم عذرهم. فالحقل الصوفي ملتبسٌ وملغومٌ، فقد داهمه التدجينُ والتمأسُسُ، مع أنه ثورةٌ دائمة ضد كل تمأسُس، وتجربة فردية، كما غشيه التدجيلُ والخنوعُ والانسحابُ من الحياة، إلا القلة القليلة منه التي انفلتت من الوقوع في هذا المستنقع، وبقيت حاملة الكون في قلبها بجوهر جوهره، غير متعصبة لدين أو لون أو نظام أو مذهب، فهو عندها واحد كلون الدم في البشر. ولكن هذا لا ينفي وجود تقميشات من المعجم الصوفي في بعض قصائد هذا الشعر، توهم القارىء بأنها من التجربة، والأمر ليس كذلك.فالتجربة الصوفية تعاش من الداخل، ثم تفيض شعرا، أي أنها سلوك وممارسة، ليس الشعر سوى أحد تجلياتها الصغرى. وعلى أي، فإن الصلة بين الشعر المغربي المعاصر و بين التجربة الصوفية تبقى محتشمة، ما دام سياقنا الفكري والثقافي والجمالي لم يُعِدِ النظر في موقفه من البعد الصوفي، لا كوجهٍ ثقافي ديني يصرف الناس عن منطق مخالفة السياسي، و إنما كأفق إبداعي خلاق، يفك أسر الموجودات من مستودع الوجود التي وضعتها التقنية والعولمة فيه بمكر حاذق، ويؤسس لحضارة المعنى وفق سياق جديد كليا. وليس شحوب الوشائج بين الشعر المغربي المعاصر وبين التجربة الصوفية بقادح في هذا الشعر، فهو أسطع حركةً، وأزهى حلما و أشد وعيا بالصيرورة، ما ينفك في سباق مستمر مع ذاته،ومع الشعريات الكونية. إنه سائل سحري متنقل من التقرير إلى التصوير، وموازاةٌ رمزية للواقع. وبين الواقع والحلم والواقع والشعر، لا يملك الشعراء أن يختاروا، لكنهم يملكون أن يحيلوا ثنائيته المتصلبة تلك إلى تفاعل متبادل لا يكفي أن يتجه فيه الشعر صوب الواقع، بل ينبغي تحويل الواقع ذاته، ورَدِّهِ صوبَ الشعرِ لتوسيع معاني الوجود الجمالية والفنية. فتُرْبَةُ السبعينات التي ولدت شعريًّا فيها هي تربة المخالفة لكل ما سلف من الحساسيات، وشعرياتها هي شعرية أفق حداثي بكل المقاييس، وليست رد فعل ضد أي مرحلة شعرية، بل هي فعل دعا ويدعو إلى ضرورة إحداث انعطافةٍ في الشعر المغربي،و إبدالات مفارقة، تنقل جسده من الترهل والمحدودية إلى الفتوة والكونية، وذلك بجعله يتكلم لغة جديدة هي لغة المكان والجنس والحلم والجسد، أي لغة الحاضر الذي يغاير لغة الماضي بكل قداستها واستيهاماتها التي تتنفس في غرف يملأها غبار الموتي. فالفوضى الخلاقة هي سمة الشعراء السبعينيين، وهي سمة الحرية الكاملة وكسر النموذج القديم، واستحداث أشكال فوارة بالحياة والأمل ومخلصة لهما. فقد كان وعيهم باللغة حادا، بحيث أبصروا فيها كما هائلا من الظواهر الصوتية التي يمكن أن تحقق للنص نوعا من الإيقاع الناتج عن بنيتها اللغوية، ولذلك فليس من حق أحد أن يفرض الإيقاع العروضي بوصفه الأداة الوحيدة لتحقيق الإيقاع، فكل قصيدة تتعامل مع الأنظمة الإيقاعية التي تناسبها دون قيد سابق، أي أن التكافؤ الصوتي أصبح بديلا للتكافؤ العروضي. في هذه التربة مارستُ حياتي شعريا، وبأدوات تشبهني في طبعي الخجول، واندغامي اللامحدود مع قوس الصوفية المتجهة نحو المختلف، ونحو مطلق الإبداع. لك لمسة خاصة في الشعر المغربي والعربي، لكن الشعر المغربي جزر لا تتفاعل، والنقد لا يلتفت. كيف تنظر للأمر؟ إن أرخبيلات الشعر المغرب المعاصر آتية من أمرين على الأقل: أولهما: دخولُ هذا الشعر مرحلة الحداثة، مما جعله يتخلى بشكل واضح عن الوظيفة الإعلامية التي كان يعبر بها بطريقة مباشرة عن الضمير الوطني والقومي، ورؤية الجماهير. فأصبح تلقيه مقصورا على صفوة المثقفين والمهتمين بالحركة الشعرية، والمتابعين لها ولتطورها، وذلك لأنه تشكيل موسيقي وتخييلي ومعرفي في الأساس. ثانيهما: تفاوتُ درجات الحضور بين الشعراء، ودرجات انشغالاتهم الفكرية والجمالية، فلكل شاعر حضوره الشعري وقضيته، وقد يرتبط الناس بالقضايا نفسها، وقد يرتبطون بالتعبير عنها شعريا. وهناك من الشعراء من يرتبط الجمهور بأدائهم الصوتي، و آخرون يرتبط بهم لشخصهم، أي أنه يعجب بهم لذاتهم ككائنات آدمية وصورية لاعتبارات لا دخل للشعر فيها. وإلى جانب هذين الأمرين يقف عامل مُضْمَرٌ لا يفصح عنه الشعراء كثيرا، ويتمثل في عقلية الإلغاء و الإقصاء التي تحكم كثيرا من الشعراء. فهم يعملون على أن تكون أمواجهم هي البحر كله، أما غيرها من الأمواج فهي ليست من البحر من شيء خصوصا منها تلك الهادئة وغير المشاغبة. وهذه النرجسية هي التي أدت إلى تباعد جُزُر الشعر عندنا، و على انكماشها على ذاتها، دون الإصغاء إلى سواها من الجزر الأخرى. لقد أصاب الشعر فيروسُ الزعامة فزلزل جغرافيته وحولها إلى جزر قد تتلاقى ظاهرا، ولكنها لا تتفاعل باطنا . وغم كل هذا تبقى القصيدة المغربية المعاصرة تحت ضغط الإقصاء والتنافس خطوة نوعية مضيئة في الشعر العربي المعاصر، فجرت أرض الكتابة العربية، وخلقت فيها إبدالات جديدة وجميلة، لا يمكن للذائقة الشعرية أن تتجاهلها بأي وجه كان، وبخاصة الشعراء النقاد. فسر الشعر الأعلى لا يدركه إلا الشاعر، فهو الذي يستطيع أن يختبر القصيدة، أن يقيم معها علاقة حميمية، علاقة جسدية روحية، لا علاقة رياضية.إن قراءة الشعر وتذوقه تشبه مضاجعة انتهت منذ زمن، لكن روعتها لم ترحل قط، فهي تتجلى في ارتعاش ضوء المستحيل الذي ينادينا، وفي قيمة الفرد التي تفتح وجودنا عليها. ومن هنا أعتقد بجدوى النقد وفعاليته...ولكني لا أخضع لأقانيمه، لأنه أولا قراءة من القراءات ليس إلا،وثانيا يخيل إلي أنه سلطة تتسلل بظلها إلى فضائي لتضعني في قمقمها فأكون لا أنا. ولذا أتحرز منها كثيرا. وإني لجد واثق من أن الناقد لن يكون إلا شاعرا، وإذا كان كذلك، فإن نظرتها لن تقتصر على جزيرة دون أخرى من الجزر التي أشرنا إليها، و إنما ستشمل الأرخبيل لرصد ما يمور فيه من ظواهر، و انفتالات شعرية مائزة، وتحولات في الرؤيا، وتمثلات للوجود. فهو يعرف مضايق الشعر و أحافيره الدلالية، وسرابيل مجهوله.الناقد الشاعر عليه مهمة مؤلمة جدا تتعلق بإصغائه الفائق لكل جمال العالم مكثَّفًا في القصيدة دفعة واحدة، و إصغاؤه هذا لا يزيد الشعر شعرية، وإنما يوسع أفق تلقيه، كما لا يزيد الشاعر رؤيةً بقدر ما يُشعره بمدى رؤيته. وفيما يخصني فأنا لا أشكو من تجاهل النقد أو القراءة، بل إنني لجدُّ معتز بكل من قرأ قصائدي وتناولها بالكتابة، وهم كثيرون، ودون أدنى معرفة شخصية بهم، وهذا أمر بالغ الدلالة بالنسبة إلي. فقراءة رسالة شخصية من قارئ لا أعرفه تُعلق على قصائدي أو ديوان من دواويني تجعل فعل القراءة والنقد أمرا يتجاوز الأعراف التقليدية للنقد، ويجعل من القراءة كتابة منفتحة وجديدة بالفعل. يبدو أن المبدع بهذا البلد لا تأثير له على المشهد الثقافي. فالأمر متروك للمؤسسات على أعطابها. كيف تنظر للمشهد الثقافي المغربي بين الآليات والتصورات؟. المشهد الثقافي مشاهدُ، كلٌّ منها يتغيا وجهةً خاصة به، يُحاول أن يثبتَ بها شرعيته وفعاليته، فهناك المشهدُ الثقافي الرسمي الذي يُنتجُ ذاته بنفس الآليات القديمة، ويسوقها في المرايا بمكْياج الحداثة لا بروحها، وهناك المشهد الثقافي الموازي الذي تضطلع به المؤسسات غير الرسمية، وهو مقيد بإكراهات و انجراحات، وتعليمات خفية ماكرة، لا تترك له حرية الفعل الثقافي الخلاق. وهناك المشهد الثقافي الذي يُمثله المبدعون المهمشون في المدن والأطراف النائية، الذين لم يُلوِّث وعيهم خطاب السلطة وبريقها. فعن أي مشهد سنتحدث؟ وبأي معيار؟ إن كل مشهد من هذه المشاهد الثلاثة إذا ساءلته يجيبك بأنه يتطور باتجاه الحداثة، ولكن أي حداثة هاته؟ أهي حداثة الإرباك والالتباس وحداثة النُّخبة المدينية؟ أم حداثة المجتمع بكل بنياته العضوية العميقة؟ إنها حداثة معطوبة على حد تعبير الشاعر المغربي محمد بنيس، لا يمكنها أن تنتج إلا أعطابا، ما دام السياسي فيها يُعامل الثقافي بعقلية مُعاملة السيد للعبد. نحتاج إلى نظرة ثقافية جذرية تتسم بالجرأة والحياد والصرامة، إذا أردنا أن يكون للمبدع تأثير في الحياة العامة، تأثير مبصرٌ، وبصيرٌ بكل الغايات الكبرى. فتوارِي الفرد الحر المختلف كقيمة أساسية في صناعة الحياة الجميلة هو عطبٌ حياتي يبصِّرنا به الشعرُ، ويلفتنا إلى أن المؤسسة (= باختلاف تمظهراتها) هي أُسُّ هذا العطب، فهي تمارس وجودها في صناعة المعنى الذي يأتلف معها، كما تمارسه في محو المعنى الذي يختلف معها، ومنه المعنى الشعري. و إن وجود خطاب سائد وحيد لهو انتهاك لآليات كل خطاب إبداعي، ومحاولة مستبدة لجعله نسخة منه. أي زمن مستبد هذا الذي تدخلنا فيه المؤسسة؟ ! إن انهمامي بالشعر هو انهمامٌ بالخروج من هذا الزمن، وانهمام بالوجود الأنقى، وبالذات في مجراها الأونطلوجي. فهو يعطيني منحًى تأويليا وتحريريا لذاتي، وذلك لأن تأويل الذات Herméneutique du sujet وتحريرها هو الذي يجعلها ذاتا خلاقة، يمتلك وجودها بُعدا جماليا، هو حقيقتها التي لا تحجبها السلطة المختبئة تحت أقنعة إنسانية. فالفرد في زمن التعولم غدا متَهَوِّسًا ومصابا بفيروس السلطة، فهو في أناه الباطنة the i inside ، حامل لسلطة تلاحقه، وتتعقله في كل حركاته وسكناته، حتى أنه لم يعد بِمُكْنَتِه التخلص منها، فهي تعكس معرفة دقيقة بالذات وجغرافية الجسد الداخلية والخارجية وذلك تحت مظلة الانضباط العقلاني. أليس من الحماقة السياسية أن يمارسَ هذا على الإنسان الذي هو ثمرة العالم وبرنامجه؟ ! فذاته بكل حمولاتها المعرفية والجمالية و الإنسانية والتاريخية لا شرعيةَ لها إلا إذا اعترفت بها السلطة، ومنحتها شارة الوجود. والشعر يقف ضدًّا على هذا، فهو يمنحني، كما يمنح غيري، ميكانيزمات وتقنيات تخييلية وجمالية تستطيع بها ذاتي الانفلاتَ من ضغوطات السلطة المحدِّدة لسلوكاتها وممارساتها. فجسدي المتضَمِّنُ في معناه النفسَ هو ماهيتي، وهذه الماهية هي التي تخلصني من النظرة الأحادية للعالم، فأنفتح على الاختلاف، وعلى المتعدد عبر الإحساس. و إن الجسد الذي يحرره الشعر هو في واقع الأمر تَجَدُّدٌ لا زمنِيٌّ، وتحرر من الأونطولوجيا والكرونولوجيا، ونظرةٌ جمالية للوجود، مجسدة لإبداع مستمر منفتح على الحرية، ولإمكانات جديدة للحياة. فتمجيد الجسد شعريا يأتي باعتباره مركز المعنى في الوجود، واسُّ حضارته.