منذ بضعة عقود، أخذت تَتَبَلْوَر -خصوصا في ٱلمغرب وٱلجزائر- "فِكْرَى" (أي دعوة إلى جُملة من ٱلفِكَر وٱلمعتقدات ٱلتي تُكوِّن، إلَى حدٍّ ما، مذهبًا يُوَجِّه مُمارسة فئة ٱجتماعية مُحددة) تقوم، من بين أشياءٍ أخرى، على أن منطقة شمال أفريقيا تُعَدُّ ٱلموطن ٱلْأصلي لقومٍ مُعَيَّنين، ٱشتهروا باسم "ٱلبربر" ويَحْسُن أن يُسَمَّوْا ب"ٱلْأمازيغ" ؛ وهُم قومٌ متميزون في لُغتهم ونَسَبهم وثقافتهم عن كل ٱلشعوب وٱلأقوام ٱلتي ٱستوطنت أو ٱستعمرت هذه ٱلمنطقة منذ فجر ٱلتاريخ، خُصوصا عن "ٱلعرب" ٱلذين عَمِلُوا منذ أواخر ٱلقرن ٱلسابع ٱلميلادي على نشر ٱلإسلام وٱلعربية بين "ٱلأمازيغ"، ممّا أفقد هؤلاء كثيرا من تُراثهم ٱلثقافي، ٱلعَقَدي وٱللُّغوي. وبِما أن ٱلعالَم ٱلمعاصر قد صار يُقِرُّ حق ٱلشعوب وٱلأقوام في تقرير مصيرها وفي ٱلِانفكاك عن ٱلسيطرة ٱلِاستيطانية ويؤكد، من ثَم، ضرورة حفظ ٱلتنوع ٱلثقافي وٱلتنوع ٱللُّغوي، فإِنّ "ٱلأمازيغ" -بِما هُمْ قَوْم مُتميزون لغويا وثقافيا ومن حيث هم ٱلسكان ٱلأصليُّون في شمال أفريقيا- يُمكنهم، بل يَجب عليهم أن يُؤسسوا كِيانَهم ٱلمستقل لغويا وثقافيا، ولِمَ لا سياسيا أيضا، في وطنهم ٱلذي يُفَضِّلُ بعضُهم أن يُسميه "تَمزغا". وعلى أساس هذه "ٱلفِكْرَى"، ٱلتي تتخذ أشكالا مُختلفةً في ٱلقوة وٱلوضوح حسب ٱلأوضاع وٱلتيارات، يذهب بعض "ٱلأمازيغيِّين"، في ٱلداخل وفي ٱلخارج على السواء، إلى حدِّ ٱتِّهام "ٱلعرب" بكونهم ليسوا سوى "مُستوطنين" عَمِلُوا، عَبْر تاريخِ وُجُودهم بشمال أفريقيا، على مسخ "ٱلهوية ٱلأمازيغية" وطَمْس "ٱلتراث ٱلأمازيغي"، بل لا يتردد بعض ٱلمتطرفين في ٱعتبارهم مجرد "غرباء" و"أجانب" يَجب عليهم ٱلرجوع، عاجلا أو آجلا، من حيث أَتَوْا (إلى مَوْطِنهم ٱلأصلي: ٱلجزيرة ٱلعربية(! وهكذا فإننا، بالفعل، في مُواجهة "فِكْرَى" كَفِيلَة باستقطاب أتباع لها، أتباعٍ تُمْكِن تعبئتُهم فكريا وعَقَديا من أجل خوض نضال سياسي وٱجتماعي يتخذ شعارًا له حفظ "ٱلهوية ٱلأمازيغية" ويستهدف تحرير "ٱلأمازيغ" من ٱلسيطرة ٱلعربية (بالنسبة لبعض "ٱلمُتَمَزِّغِين" أو "ٱلمُتَمازِغين" يتعلق ٱلأمر، حصرا، بسيطرة "عربية-إسلامية")، ٱلتي طالت أكثر من ٱللازم وٱلتي كان "ٱلأمازيغ" ضحيتَها لمدة قرون، حيث فقدوا أرضهم ولغتهم وثقافتهم وحَقَّهم في تدبير شؤونهم وَفْق ما يرتأون من أعراف وٱتفاقات وتقاليد، يرجع بعضها إلى بضعة قرون قبل مجيء ٱلعرب/ٱلمسلمين. لا شك أن هذه "ٱلفِكْرَى"، بكل ما تَتَضَمَّنُه من قضايا ومعتقدات وما تقتضيه من نتائج وتَبِعات، لا يُمكنها إلا أن تَجد ٱستحسانا وقَبُولًا بيْن أقوام عَانَوْا ولا يزالون كثيرًا من مَساوئ مسار تاريخي وٱجتماعي هو ٱلذي هَيَّأَ كل ٱلظروف ٱلمُناسبة لقيام وٱستمرار نظام سياسي عُرِف ولا يزال على ألسن ٱلمغاربة ب"نظام ٱلمخزن"، وهو ٱلنظام ٱلذي عُمِّرَ قرونا طويلة وٱلذي تَميّز بإدارة ٱنقسامية وٱستبدادية للشأن ٱلعام على نحو أدَّى إلى ترسيخ تاريخي وثقافي لآليات ٱجتماعية ومُؤَسَّسية تُمَكِّن من إعادة إنتاج نفس ٱلبنيات ٱلمادية وٱلرمزية بأهم ما صارت تَتَّسم به من تنافُر عملي وهشاشة بنيوية وعدم كِفاية إجرائية. ومن هنا، فإن "ٱلفكرى ٱلأمازيغية" تُمثِّل، بهذا ٱلقدر أو ذاك، نوعا من "ٱلثقافة ٱلمُضادَّة"، من حيث إنها تقوم على مُناهضة أوضاع تجعل قسما كبيرا من ٱلسكان يحتَّل موقع "ٱلدُّونِيّة" ماديا و/أو رمزيا، مما يجعلهم مُهيَّئِين لتلقِّي أي دعوة أو "فِكْرَى" تضمن لهم، على هذا ٱلنحو أو ذاك، إقامة حركة ٱحتجاج ومُطالَبة. ولهذا، فإن أي تناوُل نقدي لهذه "ٱلفِكْرَى" يجب عليه أن يفحصها من أجل تَبَيُّن مدى ٱتِّساقِها ٱلفِكْرِي ومشروعيتها ٱلتاريخية ونجاعتها ٱلفعلية. ولعل أوَّلَ ما يلمسه ٱلمرءُ، بهذا ٱلصدد، هو أن ٱلحديث عن "ٱلأمازيغية" مع إعطائها بُعْدًا لغويا أو قوميا متميزا يُعَدُّ نوعا فِجًّا من ٱلعمل ٱلفكري، حيث إنه لا يتردَّدُ في بناء ما هو تاريخي وٱجتماعي في صورة ما هو طبيعي وبديهي، فينتهي، من ثَم، إلى إنزاله منْزِلةَ ثَابِتٍ بشرِيٍّ يَصِحّ أن يُقَوِّمَ "هُوِيَّة" أو "ماهية" ٱلإنسان في هذا ٱلقسم من ٱلأرض ٱلذي يُسمى "ٱلمغرب ٱلعربي". حَقًّا إن "ٱلأمازيغية" لا تختلف في هذا عن غيرها من ٱلحركات "ٱلتحرُّرية" (ٱلقومية ٱلعربية، حركة ٱلِانفكاك عن ٱلسيطرة ٱلِاستيطانية، ٱلحركة ٱلإسلامية، إلخ.) ٱلتي كثيرا ما تقوم على تبنِّي ما هو ٱعتباطي (ما هو طارئٌ ومُحدَّد بالنسبة إلى شروط معينة، مما يجعله لا يكون ضروريا إلا في مجال وُجُود وفعل هذه ٱلشروط، وبالتالي فهو ليس ثابتا وُجوديا، كُلِّيّا وكَوْنِيّا) وإقامته كما لو كان شيئا لا يُثيرُ أي نقاش ويمتنع على كل نقدٍ ومراجعةٍ. ومن ثَمّ، فحينما يُتَحَدَّثُ عن "ٱلأمازيغية" ك"لُغة" ذات حَقّ في ٱلِاستعمال مُسَاوٍ لحقّ أي لغة أخرى، فإنه يُسلَّم في ٱلغالب بوجود "لسان أمازيغي" بكل ٱلصفات ٱلمُميِّزة ل"ٱللِّسان" (نسق رمزي يَكْفُل فِعْليا أداء كل وظائف ٱلتواصل في جماعة معينة). لكنّ ٱلذين يُصِرُّون على مثل هذا ٱلزعم لا يَملِكُون، في واقع ٱلممارسة ٱلفعلية، أي شواهد حقيقية تُثْبِت وجود "لسان أمازيغي" بهذه ٱلخصائص. ذلك بأن كل ما هو قائم، في واقع ٱلتواصُل ٱلفعلي ٱلمتعلق بفئات ٱلمتخاطِبين بٱلمجتمع ٱلمغربي، إنّما هو طُرُقٌ في ٱلتكلُّم مُتراكبة ومتداخلة، بالغة ٱلتنوُّع ولَصِيقَة بالتغيُّر، على ٱلنحو ٱلذي يجعل إمكان عَزْل نمط تواصُلي، بصفته مُتَّسقا ومنسجما ومستمرا، نوعا من "ٱلِاصطناع" ٱلمُتعالِي على واقع ٱلممارسة وٱلناتج عن تأمّلٍ نظري يُعَدُّ من ٱختصاص ٱلذين يتخذون "ٱللغة" موضوعا مقصورا على ٱلنظر ٱلفكري ٱلمجرد. وهذا بالفعل هو ما قام وما زال يقوم به ٱللُّغويون وٱلنُّحَاة في كل ٱلمجتمعات وفي كل ٱلعصور. إذ أنَّهم يُنْتِجُون، بعد كل أعمال ٱلتحويل وٱلقلب وٱلحذف، ما يُسمى "ٱللِّسان ٱلمعياري" أو "ٱللسان ٱلمُبِين/ٱلفصيح"، ٱلذي يجب في زعمهم أن يفرض نفسه على كل فئات ٱلمتكلمين في مجتمع مُعَيَّن. وكل ٱلألسن، ٱلقائمة في ٱلعالَم ٱليوم، حينما نبحث في تاريخ تكوُّنها، نجدها قد سُوِّيَت ب"كيفية مصطنَعة" على حساب طُرُق ٱلتكلُّم ٱلطبيعية للناس في حياتهم ٱليومية وٱلعادية ؛ وذلك بفعل نوع من ٱلتبادل ٱلتداوُلي وٱلتنازُعي، ٱلذي يخضع لشروط تاريخية وٱجتماعية وٱقتصادية محددة وٱللَّذِي يُعطي، فِي ٱلْحقيقة، ٱلْمشروعية لطريق معيَّنٍ فِي ٱلتكلُّم دون غيره من ٱلطرق ٱلأخرى. لِهَذَا، فإن تقديم "لِسَانٍ" مُعَيَّنٍ بِٱعتباره "ٱللِّسان ٱلمعياري" و"ٱلفصيح"، ٱلذي يجب ٱكتسابه وٱستعماله في مُحيط مُجتمعي معيَّن، عَمَلٌ يُغْفِل أن "ٱللسان" -بصفته كذلك- ليس سوى نِتاج مُصطَنع من جراء سَيْرُورة ٱجتماعية مُحددة بالنسبة لشروطها ٱلخاصة ؛ وأنه لا يَملك، مهما يَدَّعِ ٱلساهرون عليه، أن يصير طبيعيا وبديهيا، إلا بناء على عملية تَطْبِيع وتَسْوِيغ (أي تَشْرِيع) تُعطيه مُبَرِّرَاته في واقع ٱلِاستعمال ؛ وهي ٱلمُبَرِّرات ٱلتي تشتغل، في ٱلآن نفسه وتدريجيا، كأسانيد لإعادة إنتاج ٱلِاعتقاد في جدارة هذا "ٱللِّسان" -دون غيره- بالِاستعمال ؛ ممّا يُشير إلى أن ٱلأمر يتعلق بسَيْرُورة ٱجتماعية وتاريخية لِنَقْل ٱلأشياء ٱلعادية من رُتْبَة "ٱلمُدنَّس" (ما هو طبيعي ومُتَدَنٍّ ومُبتذَل) إلى رُتبة "ٱلمُقدَّس" (ما هو بديهي ومُتَعارَف ومشروع). وهذا يجعلنا نستنتج أن ٱلذين يعملون -في سبيل ٱلتَّمْكِين ل"ٱلأمازيغية- على مُناهَضة ومُهاجَمة "ٱللسان ٱلعربي" (باعتباره "لِسانا مقدسا" يُمارس هيمنة وجودية-لاهوتية على ٱلِاستعمالات ٱللغوية في كل ٱلمجتمعات ٱلتي تُسمَّى "عربية-إسلامية" وٱلتي منها ٱلمجتمع ٱلمغربِي)، إنَّما يقترفون -بوعي أو بدونه- نفس ما يُؤَاخذون به "ٱلعرب ٱلمستوطنين": أَلَا يَقُومون بِتَسْوِية "لسان مُصطنَع" على حساب "لَهجات أمازيغية" تُستعمَل في ٱلتواصل ٱليومي بمُختلِف أنحاء ٱلمغرب؟ ألَا يَسْكُتُون، من ثَمّ، عن ٱلِاعتباطية ٱلمُميِّزة لِمَا يُسَوُّونه ك"لسان معياري"، وهو ٱلسُّكُوت ٱلذي يفضح توجُّهَهُم ٱلمُغْرِض في سوق ٱلإنتاج ٱلرمزي وٱلثقافِي؟ وكيف يستطيعون أن يتجاهلوا ما يُمارِسُونه من عُنف ماديّ و/أو رمزي في سعيهم وإصرارهم على إثبات مشروعية نتاجهم ٱلمصطنَع ذاك؟ وكيف يستطيعون إثبات مشروعية عملهم هذا من دون ٱلوقوع في ممارسةٍ مُتخفِّيَة للتشريع وٱلفرض على غرار ما هو معروف في ٱلممارسة ٱلدينية؟ لذلك، فإن السؤال -الذي يَجدُر طرحُه في هذا المستوى والذي يَغْفُل عنه دُعاة تفصيح وترسيم "الأمازيغية"- هو كيف يُمكن العمل على الانفكاك عما هو اعتباطي في الحياة الاجتماعية للناس بشكل عام، سواء أتعلق الأمر بما هو لغوي أم بما هو ثقافي؟ وهذا السؤال يَؤُولُ، في الحقيقة، إلى التساؤل عن سُبُل الانفكاك عن الضرورة التي يفرض بها ما هو اعتباطي نفسه، أي البحث عن كيفيات واقعية للخروج من حال الإكراه والإلزام إلى حال الاختيار والتحرُّر، خصوصا أن الحديث عما هو اعتباطي يرتبط بفكرة أن الأمور تتم في هذا العالم خارج الضرورة وبعيدا عن الحكمة. لكن الإنسان لا يكون، بالفعل، جديرا بوجوده في هذا العالم إلا إذا كان قادرا على تحمُّل المسؤولية عما يفعل وعما يعيش. ومن هنا فإن كون "اللغة"، بشكل خاص، نِتاجا اعتباطيا (شاهده الأمثل هو هذا التكاثُر اللانهائي للألسن عبر التاريخ وعبر العالم) خاضعا في واقع الممارسة لشروط اقتصادية واجتماعية وثقافية، يجعل التفكير في لسان ما تفكيرا في مُحدِّدات المشروعية اللغوية بمجتمعه الخاص ؛ ومن ثم، التفكير في إمكانات مُقاوَمة العنف الرمزي (المرتبط بسوق معينة للاستعمالات اللغوية)، على النحو الذي يُمَكِّن، في نهاية المطاف، من توسيع عُمُومي ومُؤَسَّسي لوسائل الوصول إلى الكلام المشروع (أي توسيع هامش الحرية والانفكاك النسبي عما هو اعتباطي). وهذا لا يتم إلا بِنَشْر وسائل الوصول إلى ممارسة عملية لتفكير انعكاسي (نقدي) في حدود وإكراهات طُرُق التكلم، وهو النشر الذي يرتبط بإقامة تدبير عقلاني لسوق التداول اللغوي بالمجتمع (إدارة التفاوُت في الموارد اللغوية من دون الخضوع الأُحادي لمورد بعينه ومن دون السقوط في إهدار مَوْرِد ثَبَت، على نحو مؤقت، نفعُه أو نجاعته). والأمر نفسه ينطبق على المُكوِّن الثقافي في "الأمازيغية". إذ لا تَقِلّ الأشكال الثقافية الأخرى (الأساطير، الفنون، المعتقدات والشعائر الدينية، الألبسة، آداب المائدة، إلخ.) اعتباطية في مقارنتها باللغة ؛ وهو الأمر الذي يجعل النزوع نحو الاحتفاء ب"الموروث الثقافي"، أو تجديد الاعتبار لبعض الممارسات الثقافية، نوعا من التقديس المُتَخَفِّي لمُدنَّس نَسِيَ الناس أنه كذلك، بفعل نِسيانهم لشروط تَكوُّنه ومُلابسات تطوره التاريخي. ولذا فإن أي شكل ثقافي لا يكتسي أهميته الفعلية إلا من حيث قوة حضوره في تكريس نمط ما من أنماط السيطرة المادية والرمزية القائمة في المجتمع الخاص حيث يشتغل. وهذا يقود إلى أن قيمة ما هو ثقافي لا تبدو إلا في نهاية ممارسة تقوم على تبيُّن الاشتغال العادي للضرورة التاريخية والاجتماعية كما تتجسد في المؤسسات والآليات التي يُنتِج الناس من خلالها وجودهم في هذا العالم. وبالتالي، فإن الميل الشائع إلى تبجيل "الموروث الثقافي" (باعتباره يُقَوِّم "هوية" الشعب أو الأمة) لا يُعبِّر سوى عن إرادةٍ ل"تطبيعِ" ما هو اعتباطي في الأساس، بحيث يمتنع على أي مُساءَلة منهجية تستهدف اكتشاف الضرورة العملية التي تجعل أعضاء مجتمع ما مُرتَهنين لشروط وجودهم الخاصة. وإن أهم ما يُميِّز هذه الإرادة لَهُو كونُها تنتزع (أي تُجَرِّد) المعيش اليومي للناس من سياقه العملي وتجعله، من ثم، "لَاتَاريخيا"، أي -بالتحديد- "لَاإِنسانيا". وهذا مسعًى لا يُساعِد، إطلاقا، على فهم الفعل الإنساني في هذا العالم ؛ ولا يُمَكِّن، من ثم، من القيام بتأسيس عملي للحرية الإنسانية ؛ وهو التأسيس الذي بإمكانه -وحده- أن يسمح بالحديث عن المعقولية والمسؤولية الجديرتين بالإنسان. ولذلك، فإن "الفِكْرى الأمازيغية" (وما يرتبط بها من "كتابات/خطابات أمازيغية" و"تحرُّك/نشاط أمازيغي") تبدو كاملةً حينما ننظر إليها في إطار تحوُّلات المجتمع المغربي، خصوصا منذ انتهاء الحمايتين الفرنسية والإسبانية (منذ أكثر من خمسة عقود). وهنا، نجد أن كون المجتمع المغربي عَرف ولا يزال نوعا من الاشتغال وَفْق النموذج الانقسامي (القائم على آليات تقليدية أو "تقليدية-مُحْدَثة" في المُوالاة والمُعاداة) يجعل من المحتمل جِدًّا أن تُأَوَّل الصراعات والتمايزات على أساس الانتماء القومي أو اللغوي أو الجهوي ("أمازيغي" مقابل "عربي"، "عامّيّ" مقابل "فصيح"، "شمالي" مقابل "جنوبي")، خصوصا كما حدث خلال الحقبة الاستيطانية. ويُضاف إلى هذا كون "الحركة الوطنية"، في سعيها إلى نيْل الاستقلال، لم تستطع أن تتجاوز حدود الآليات والرهانات التي كان يشتغل بها "نظام المخزن" ؛ مما أدى إلى تعزيز التدبير الانقسامي والاستبدادي للشأن العام وإلى الحدِّ من آفاق الانخراط في سيرورة التأسيس الحديث ل"الدولة-الأمة" (كمجال وَضْعي ونِسْبِيّ لإدارةٍ مَدَنيّة ورَاشِدة لأشكال التفاوُت الاجتماعي والصراع السياسي). ولعل سياسة "التعريب"، بالكيفية التي خُطِّطَت وطُبِّقت (منذ الاستقلال)، تُعَدُّ تعبيرا نموذجيا عن نوع الإعاقة التي يُمثِّلها "نظام المخزن" لتطور المؤسسات والآليات الناتجة عن ترسيخ "الدولة-الأمة" (كإطار حديث ومفتوح لتدبير ديموقراطي لأشكال التعدُّد والتنوُّع في المجتمع المدني). ونجد، على مستوى آخر، أن التحوّل الذي عرفه "اليسار" المغربي، بعد عقود من المُواجهة المفتوحة مع النظام الملكي، هَيّأ لظهور كيفية جديدة في المُمارسة السياسية، بفعل ما تعرَّضت له قُوَى "اليسار" من استنزاف ازدادت حِدَّتُه بعد تهافُت "الفِكْرَى الاشتراكية" بانهيار المعسكر الشرقي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي ؛ مِمَّا ترتب عنه، إلى حد بعيد، تَبَلْوُر نوع من الاستقالة بين كثير من مُناضِلي "اليسار" وإلى تعاوُنِ بعضهم مع النظام القائم، حيث صار من الضروري تجديد "الفِكْرى" الكفيلة بالاستقطاب والتعبئة في مجتمع تسارعت فيه وتيرة التحوُّلات على كل المستويات، من دون أن يتمكن من تجاوُز أهم التناقضات المترتبة، في آن واحد، عن الاختلالات التي أحدثها نظام الحماية وعن التعقيدات التي دخل فيها "نظام المخزن" بعد الاستقلال. وهذا هو السياق الذي هيَّأ المجال (الاجتماعي والسياسي) لقيام "الحركة الإسلامية"، باعتبارها نِتاجا لكل الظروف التي أحاطت، منذ ستينيات القرن الماضي، بالمجتمع المغربي (وليس هو وحده) والتي ليس أقلَّها السياق العالَمي في خِضمّ ما سُمّي "الحرب الباردة" كترجمة للمُواجهة بين الشيوعية (المُلحدة) والرأسمالية (المُستغِلَّة). ولقد ساهمت هذه الحركة، من جهة، في تسريع تراجُع اليسار وأدت، من جهة أخرى، إلى استئناف حركة الاحتجاج والمطالبة، خصوصا بعد اندحار و/أو انقلاب المعارضة اليسارية. ومن هنا، فإن ضرورة مواجهة المدّ "الإسلامي" (كقوة اجتماعية وسياسية) فرضت البحث عن كيفية لإيجاد بديل ل"الفِكْرى الاشتراكية"، ومن ثم العمل على ضمان نوع من التجذُّر الثقافي والاجتماعي للشكل الجديد من "الفِكْرى". وهذا ما نجد "الحركة الأمازيغية" قد انخرطت فيه، بوعي أو من دونه، في سياق عالَمي يقوم على تجديد سُبُل السيطرة (لِلْقُوى النافذة عالميا) من خلال نظام العولمة بفِكْرَاه القائمة على شعارات "الحرية الاقتصادية" و"الحرية السياسية" و"الحرية الثقافية" وبمخططاته في تقوية التقاطبات القومية والصراعات المذهبية لفسح المجال أمام التحكُّم المُنقِذ للشركات العالمية التي تبدو عابرة للتَّقوقُع القومي ومتجردة من الانغلاق المذهبي. وبناء على ذلك كله، تبدو "الفِكْرى الأمازيغية"، كما تم حتى الآن عرضُها وفرضُها، نوعا من التأويل، المُحدَّد تاريخيا واجتماعيا، لِمسار تاريخي وسياسي كان ولا يزال يجعل قِسما كبيرا من السكان المغاربة يُعَاني ماديا و/أو رمزيا في خضم "نظام المخزن" (بكل ما يُميِّزه كنظام مجتمعي ومؤسسي قائم على إدارة انقسامية وتدبير استبدادي للشأن العام). وإنه لَمِن المفارقة أن هذا "النظام المخزني" لا يُفرِّق، في زُبنائه وضحاياه، بين "أمازيغي" و"عربي"، لأن قدرته على إعادة إنتاج المأساة والمعاناة الاجتماعية، التي تحتضن تبلوُر أشكال الاحتجاج والمطالبة، تُعدّ متساوية بالنسبة لكل فئات السكان، بِغَضِّ النظر عن أُصولهم القومية أو اللغوية أو الثقافية (المتعددة والمختلفة بالضرورة). ويترتب على هذا أن أي تركيز قومي أو لغوي أو ثقافي لتلك المأساة أو المُعاناة الاجتماعية باعتبارها شرًّا ينزل بثقله على فئة معينة من الفئات المُكوِّنة للمجتمع المغربي (فئة يمكن تمييزها قوميا أو لغويا أو ثقافيا)، إنما هو تحريف أو مَسخ فِكْرَوِيٌّ يجد تفسيره الكامل بالنسبة لشروطه المُحدِّدة اجتماعيا وسياسيا. ومن هنا فإن الحديث عن "الفِكْرى الأمازيغية"، بصفتها نوعا من "تماسيخت" (أي مَسْخًا مُتمزِّغا)، ليس مجرد لَعِب لُغوي يبتغي حلا افتراضيا لما يصعب نقضُه واقعيا، وإلا لكان الأمر يتعلق بتوهُّم لا يختلف كثيرا عن التوهُّم الذي كان في أصل قيامه والذي يوجد في عمق البناء الفكري والاعتقادي ل"الحركة الأمازيغية"، بمختلف توجهاتها وكما تبلورت في العقود الأخيرة بين "المُتمزِّغين" أو "المُتمازِغين" في الداخل والخارج على السواء. إن كون "الفِكْرى"، عموما، تتضمن وتُلابِس جانبا عاطفيا مُهِمّا في حياة الناس، يجعل أي نقد يتناولُها عُرْضَةً، بنسبة كبيرة جدا، لسوء الفهم، بل لإساءة التأويل ؛ ليس فقط من قِبَل مُعتنِقي "الفِكْرى"، وإنما أيضا من قِبَل بعض أنصاف المثقفين (خاصة بين الصحافيين والإعلاميين) الذين يستسهلون الاشتغال الفكري ويستصعبون التفكير على نحو يُخَيِّب، لا فقط آمال وانتظارات الجمهور المتلقي (أي عامة الناس)، بل كذلك إيمانهم الراسخ بامتيازهم الخاص المتعلق بكونهم أشد الناس تمتُّعا بالحرية تُجاه إكراهات الواقع العملي، الذي يُحيط من كل جانب بممارستنا اليومية (بما فيها تعاطي التأمل حول مشكلات الواقع). ولذا، لا يُستبعَد أن يكون مضمون هذا المقال موضوعا لكل الاحتمالات الممكنة، بما في ذلك احتمال أنه يُعبِّر عن نوع من الفُسُولة الفكرية أو الضغينة الاجتماعية (في العُرف السائد الكراهية العنصرية أو التطرف القومي)! وكم يَهُونُ الأمر لو أن مثل ذلك التخريج كان يُسعف في إيجاد الحلول المنشودة للمشكلات القائمة، بما فيها تلك المتعلقة بإنتاج الخطاب حول مشكلات الواقع! إن ما يسعى كثير من "المتمزغين" أو "المتمازغين" إلى تَفاديه، بكل ثمن، إنما هو الإفصاح عن نوع المصالح التي يقتضيها حديثُهم عن "القضية الأمازيغية" وعملهم من أجلها، تلك المصالح التي تُمثِّل، في الواقع الفعلي، القوة الحافزة لهم. لذا، وبدلا من السقوط في أشكال الإسفاف المألوفة والحديث عن "الخيانة" و"العنصرية" (وهي موجودة، بالتأكيد وعلى الأقل، لدى بعض المُتدخِّلِين في هذا المجال)، ينبغي تَلمُّس طريق -محدَّد بشكل منهجي- لِاكتشاف ذلك النوع من "الإغراض" (في مقابل ما يُعْلَن، عادة، من "إعراض" عن طلب أي مصلحة) الذي تُحدِّده شروط اجتماعية وتاريخية فتجعله، إلى حد بعيد، لصيقا بطبيعة الوجود الإنساني في هذا العالم، من حيث إن التوزيع المُتفاوِت ل"الموارد" الطبيعية يتسبب في تفاوُت اجتماعي على مستوى كل شيء تقريبا، خصوصا في صِيَغ الإدراك والفكر والفعل التي تُقَوِّمُ وُجُود الناس كفاعلين اجتماعيين والتي ليست في الواقع سوى استدخال للبنيات الموضوعية المُكوِّنة للعالَم الاجتماعي. وكل هذا يجب تأكيده للتمكُّن من إدراك الواقع الفعلي بالمجتمع المغربي، بكل تعقُّده الذي يتجلى في التداخل العميق، على المستوى القومي واللغوي والثقافي، بشكل يستعصي نهائيا على الفصل/التمييز (بمعنى التبسيط والاختزال) كما يتصوره كثير من المُتدخلين المُهَرِّجين في المجال العمومي (في حديثهم عن "الأصيل" و"الدخيل" أو عن "المحلّي" و"المستوطن" أو عن "الأمازيغي" و"العربي"). وبالتالي فإن العمل على حلّ المُشكلات المرتبطة بهذا الواقع يستلزم، بالضرورة، تحصيل معرفة حقيقية وعَمَليّة به بما يكفي، على الأقل، لتجاوُز كثير من التوهُّمات والتضليلات الفِكْروية. إنه لمن المؤكد أن هذا الوضع ليس أمرا خاصا بالمجتمع المغربي، إذ لا نكاد نجد أي مجتمع، في العالم المعاصر، لا يعرف تعدُّدا قوميا ولغويا وثقافيا، قد يَبلُغ حدا بعيدا من التعقُّد والتشعُّب بفعل ما يتسم به تاريخه التكويني من عمق وبفعل تداخل الشروط المتحكمة فيه. ولذا قُلْ لنا بربِّك: كيف تستطيع بجرَّة قلمٍ أن تُحدِّد، بكل موثوقية وفي خضم تاريخ قُرُوني طويل مَلِيء بالتداخلات والتناقضات والتعقيدات، هذا "الأمازيغي" الذي هو وحده الجدير بكل أصالة أن يكون "الإنسان المغربي"؟! ألَا إن بعض "المُتمزِّغين" أو "المُتمازغين" يُحِبُّون، مَثَلُهم في هذا كمَثَل كل القَوْمَانيين والهُوِيَّانيين، أن يَرسُموا واقعا يُرضي تَوَهُّمَاتهم المُجَنَّحة. لكنّهم، في الحقيقة، لا يشعرون أو لا يُريدون أن يشعروا بأن الأجنحة، مهما تكن جاذبيتها، لا تستطيع أن تَقْلِب التوهُّم إلى واقعٍ إلا بالنسبة لِلَّذين نَرَاهُم في كل واد يَهِيمون، يَلُوكُون ما لا يفقهون ويقولون ما لا يفعلون! [email protected]