من قال أن الشيعة ليسوا أهل سنّة؟!؟ لو كان عليّ مجرد صحابي لاتبعناه لأنه الأعلم بعد الرسول(ص) بلا منازع ، فكيف إذا كان إمير المؤمنين وإمام المتقين وسيد أئمة أهل البيت(ع) وخير الخلق بعد محمد(ص) طرّا؟! "" ظن البعض أن ما نحن بصدده مدبر مصمم عن سبق إصرار و ترصد. هذا ليس صحيحا وهو من بنيات أفكار ذهنية المؤامرة. والحق أنه أرسل عفو الخاطر. كانت استراحة مقاتل لرد البهتان ودفع التجديف الذي لم يتوقف ضدنا رغم صبر أيوب. أكثر من عشر سنوات والخصوم يتطاولون ويتعدون حدودهم. حتى بات من هبّ ودبّ ينتفخ بإحساس خادع بأنه يملك أن يحسم هذا النقاش. قلنا لهم إننا نتسامى عنه فظنوا أن الأمر يتعلق بخوف أو رعب أو تقية أو عجز. وما درى هؤلاء أنه من الأفضل أن لا يطلبوا مني بسط الحديث في قضايا أخرى مثل موضوع الإمامة أو الصحابة لأنهم إن فتحوا هذه السيرة سيكونون هم الخاسرين والأخسرين. لأن هذا هو أسهل مطب يمكن أن ينفرط فيه عقد مزاعمهم. لقد تحدثنا فيما هو أصعب فأما ما يطلبه المغرر بهم في مثل هذا النزاع فإنه هو أسهل صناعة. وقد رأينا أن الخصم لا يحسن سوى النط من موضوع إلى آخر. لا يحسن البقاء في موضوع واحد. ثم رأينا كيف أزعجهم طول المقالات ويطلبون الاختزال كما تعودوا أن يبنوا أحكامهم على وجه السرعة لا على الأناة. فالذي ينقهر من مقالات نعتبرها مختصرة جدا كيف يزعم أنه يملك الصمود في التفاصيل. ثم غالبا ما يتركون الفكرة و"يتشعبطون" في الشخص. مع أن هذا النوع من الإساءة في مثل هذه الموضوعات لا ينفع بل لا يعبر حتى عن الحد الأدنى من التحدي. ذلك لأن سب شخص من بعيد وتحت مسميات مستعارة، يعكس جبن الشخص لا شجاعته. ولا أدري إن كانوا حقا ليوث السنة وفي مجال سني، فلم يا ترى يخفون أسماءهم ويفضلون إعطاء " الصبع" من وراء حجاب. إذن: لا علم ولا أخلاق. فأما الحوار فهو مستوى لا يمكن أن ينجح فيه كل من يدعي النقاش. الحوار ممارسة مشروطة بقواعد علمية وأخلاقية لا يتوفر منها الفتات عند هذا الطراز العجيب من الخصوم، تجعل لا أحد من هؤلاء الأدعياء مؤهلا لها إطلاقا. وحيث بات واضحا أن هؤلاء يعتقدون أنهم وحدهم يواجهون الكاتب ويتجاهلون ببلادة أن ثمة عقلا ثالثا وربما صامتا، يقارن ويحلل مستوى هؤلاء الذين يحاربون بالسب واللعن خلف الخدور. فإذن : أعترف أنهم هزموني بجاهليتهم " ونصف" ، ليس بعلم لا يحرزونه ولا بأخلاق لا يتحلون بها ، بل برعونتهم وجهلهم ولعناتهم التي طاشت وتفاحشت حتى لم يعد لها معنى. وقد ظن آخرون أننا نخوض نزالا لا يغني عن إصلاح حال الأمة ، وربما كان ذلك تراجعا في حمل رسالة النهضة والإصلاح. وهذا رأي نبيل، لكن لا بد من توضيح قصير. لقد لزم التمييز بين الدفاع عن مدرسة إسلامية قائمة تجر وراءها شعوبا وقبائل، وبين ما يتطلبه واقع الأمة من النهوض بالتجديد والإصلاح ونقد بعض الآراء. وهذا أمر حينما نمارسه فإننا سننطلق من واقع الأمة ككل، لأنها كلها في الهم شرق. فالدفاع عن أصول مدرسة مجملا لا يعني أن هذه المدرسة أو تلك ليست لها مثالب وليست لها أراء تتطلب إصلاحا وحقائق يجب أن يعاد قراءتها. فحظ المسلمين سنة وشيعة من رسالة الإصلاح واحد. لكننا هنا مقيدون بجدل كلامي يرمي إلى أن ندافع عن أصل مقالات ومستند دعوى مدرسة إسلامية يسعى مناوؤوها لإخراجها من الملة. ولا أدري كيف يصبح إدخال شريحة من المسلمين في الأمة فتنة ، والحرص على استئصالها وإخراجها من الملة هو عين العقل والصواب. وقد يصبح الصمت عن أصولها فرصة لتكريس التجديف ضدها ، وهذا ما يتطلب جدلا كلاميا وليس أي شيئ آخر. ومن هنا سأكون مقيدا بجملة من الشروط التي يقتضيها ذلك الأمر. فما أقدمه لن يكون تفصيليا مهما بدت المقالات طويلة. فهو مجرد إشارات تفتح الباب لمزيد من التفصيل. كما أنني لن أطرق الموضوعات التي من شأنها أن تثير بعض المشكلات. فهدفي ليس بيان تفاصيل المعتقد الشيعي، بل الهدف هو دفع التهم والأكاذيب عن مدرسة تنتسب لأهل البيت وتعتز بهذا الانتساب ولا يمكن المزايدة عليها في هذا الخصوص. وأيضا إفشال لعبة التكفير التي لا جدوى منها. إنها محاكمة للتكفيريين وليست دعوة مذهبية. هناك فائض من الاستشكالات الساذجة التي كشف عنها الحجاج التكفيري في هذا العصر ، وهي نابعة من تراجع قدراتهم الحجاجية وليس العكس ، واضمحلال الملكة المنطقية لنقاد المنطق ومكفري أهله. وهي بأي حال من الأحوال لم تكن لتغيب عن سلفهم حتى يبلغها المقلدون من الخلف. وقد "قلقلها" سلفهم ولم يجدوا فيها إلا ما يجلب عليهم سخرية إضافية في الحجاج ضد الشيعة. ووجب أن لا نمنح لأي اعتراض قيمة ما لم يكن وازنا. فما أكثر الاعتراضات الطائشة التي تجود بها بنيات الأفكار. فالاعتراضات الكبرى ذكرت قبل قرون وتم الرد عليها فلم التكرار ولم الإصرار على شبهات تم دحضها قبل قرون وتصويرها كما لو لم يرد عليها من ذي قبل. أليس هذا هو البهتان؟! حينما كتب القاضي عبد الجبار ناقدا عقيدة الإمامة ردّ عليه الشيخ المرتضى في كتاب يقع في مجلدات عنون له بالشافي في الإمامة. نقاش عالي بين كبير المعتزلة وكبير الإمامية. فماذا سيبقى للجهلة من سلف الخصوم أو خلفهم المحترقين؟! وحينما زعم بعض الكذبة أن حديث الغدير الظاهر في إسناد الأمر لعلي، غير متواتر، كتب السيد الأميني موسوعة تقع في أكثر من عشر مجلدات حول الغدير في الكتاب والسنة والأدب. وحينما كتب صاحب فجر الإسلام ما كتب عن الشيعة وسوف يعتذر بعد ذلك للشيخ مغنية حينما أدرك خطأ أخذ الأمور ببساطة وبأن ليس للشيعة مكانة في الأمة ولا في العلم وليست لهم تصنيفات ، كتب آغابزرك الطهراني موسوعة الذريعة إلى تصانيف الشيعة يقع في مجلدات ضخام، كما كتب السيد الصدر في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام . وحينما بدأ اللغط حول نهج البلاغة والحديث عن مصدره كتب السيد هبة الله الشهرستاني موسوعة ضخمة عن مصادر نهج البلاغة. إن أعلام الشيعة منذ قرون كتبوا وردّوا على كل الشبهات والافتراءات التي قالها الخصوم ضدهم. لكن من درى بكل هذا.. ولماذا يحجب التكفيريون كل هذا ولا يظهرون إلا حججا باهتة أكل عليها الدهر وشرب ولم تعد تثير عند الشيعة سوى القرف والتقزز. انظر مثلا هذه العينات فقط بعضا من المقبلات من الحجاج الشيعي في قضايا مثار نقاش من مصادر شيعية، لترى أن الأمر ليس بالبساطة التي يكرسها ضوضاء الخصوم انظر آخر المقال حتى لا يقال أن ليس للشيعة كلام في مثل ذلك ، وما هو السبب الذي يجعلهم لا يقبلون بالنقاش بآراء قديمة مكررة ردّ عليها في وقتها وليس للخصوم الجدد أي جديد إن لم أقل فيها تراجع في العلم وفن الحجاج. وكأن الأمر توقّف حتى ورد أغيلمة التجديف في اعتراضاتهم الكرتونية . وشخصيا لا أرى في احتجاجات خصوم الشيعة من سليفيين صغار أي أهمية إطلاقا ، لأنها لا زالت في نظري من الدرجة الرابعة أو الخامسة من الجدل الذي لا يأبه به العقلاء. وها هم اليوم بدل أن يناقشوا في الأدلة باتوا يتحدثون عن عوامل قناعات الناس وإيمانهم. يشردون في التحليل يمنة ويسرة، كما لو أن الإيمان والاعتقاد جف دونه المداد وطويت الصحف. ولا يدركون مثل البهاليل أن أي تحليل من هذا القبيل يمكن أن ينقلب ضدهم. كما أن الأدنون منهم باتوا يتطاولون في التحليل كما لو كانوا حقا أمام ظاهرة يدرسونها ، ولا أدري بأي دراية وبأي مسافة موضوعية يفعلون ذلك؟! فيما يبدو لي أن لجاجهم ذاك هو ظاهرة نملك أن نحللها ونفككها ونقلبها فوق /تحت ، فنحن أدرى بهذا الفن ، ونملك المضي فيه إلى الأقصى. الشرط العلمي والأخلاقي لتعريف الشيعة هما موقفان لا ثالث لهما: هل نقبل بالشيعة جزءا من المسلمين أم لا؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، وجب كنس تاريخ من التجديف لا يشرف عقل الأمة وأخلاقها. هناك بطبيعة الحال شرذمة أقلية في العالم الإسلامي من التكفيريين ستسعد بطرد الشيعة من ملة الإسلام. وهذا دليل على موت ضميرها وضعف الإحساس بمسؤوليتها فضلا عن رعونتها وجهلها. ولو استنصحنا أي عاقل له إلمام بالموضوع، لنصح بالإعراض عن مثل هذه الدعوة، لأن العالم الإسلامي قديما وحديثا ما كان ليحقق كل هذه المكتسبات العلمية والحضارية من دون الشيعة. علينا أن نتساءل: ماذا سيخسر العالم الإسلامي لو طردنا الشيعة من دائرة الإسلام؟ إن القبول بالشيعة وهضم اختلافهم أهون من البراءة منهم ، على أقل التقادير. وما لا يدخل في الاعتبار ، هو أننا لا نتصور مآلات الأمور. تصور لو أننا أقنعنا الشيعة بأنهم ليسوا مسلمين.. هل يا ترى سيسلم لهم الشيعة بذلك؟ قصاراه أنهم سينشؤون عالمهم الجديد على أنهم هم المسلمون ، وينطلقون في آفاق الدنيا وينشؤون أحلافهم مع العالم كله ، ويتحللون من كل التزاماتهم تجاه من كفّرهم ، فتستبد الأكلة بقصعة ما تبقى من العالم الإسلامي. فالعالم الشيعي اليوم كبير وقوي وقادر أن ينهض لوحده برسالة الإسلام في كل الدنيا. وحده العالم الشيعي يقول : نعم سننتصر.. ووحده العالم الشيعي يقول: نعم ، نحن في غنى عن المساعدات وعن تكنولوجيا الغرب ونؤمن بالاعتماد على الذات.. ووحده العالم الشيعي يقول: نعم لباب الاجتهاد المفتوح والتقدم والرقي والقوة. الشيعة هم القوة الأعظم اليوم في العالم الإسلامي سياسيا وثقافيا وعسكريا...لماذا الإصرار على الدفع بهم إلى خيارات أخرى. والحمد لله أن الشيعة يدركون أن التكفيريين هم في حكم الشاذ الناذر ، ولا يمنحون أقوالهم وفعالهم أية أهمية. باختصار: إن دعوى تكفير الشيعية دعوة ضارة بالعالم الإسلامي كله. بل هي ضرر على خصوم الشيعة أكثر من ضررها على الشيعة أنفسهم. وعليه ، وجب إعادة إنتاج الصلة بهم على أرضية المشترك الإسلامي ونبذ الأسطوانة المشروخة التي لم تعد تجدي ولا تؤدي الغرض ، بقدر ما أصبحت شاهدا على عصور الانحطاط. ويا ما صادفنا تعالما أجوف وتحشيدات مكرورة تتحدث عن الشيعة وما هو من ضروريات مذهبهم وما شابه من أحكام قاصرة عن بلوغ المراد . مع أنني أخجل بدلا عن هؤلاء الذين باتوا أقرب إلى العته منهم إلى التحقيق. ذلك لأن الموقف يقتضي الحكم بأننا لا يمكننا امتلاك المعرفة الحقيقة بالتشيع إلا بأن نتخصص فيه تخصص طالب لا تخصص ناقض ينطلق منذ البداية مكشرا عن أنياب الإساءة. فكثيرون هم الذين ظنوا أن التخصص في التشيع ليس إلا أن تقرأ في بنيات كتب المجدفين وإعادة تحشيدها من دون روية. هؤلاء يخرجون من الخيمة مائلين. ومن كان ذاك هو حاله، يوشك أن يسقط في الخطوات القليلة في طريق الموضوعية. وبالإضافة إلى ذلك، وجب على المعرف بالشيعة أن يكون قد احتك بهم اجتماعيا وشاركهم اليومي والخاص والعام والصريح والضمير.. أدرك مخبرهم كما أدرك مظهرهم.. جالسهم في أوكارهم وكواليسهم كما احتك برأيهم العام.. ولا يوجد من بين كل هؤلاء الخصوم من يزعم أنه عايشهم وعرفهم عن قرب. ولا بد أن يبقى على مسافة منهم لا يدنو منهم في أفضل الحالات، إلا دنوا سطحيا لا يغور في العمق. وإذن، كيف نزعم تعريف الشيعة من خارج التخصص والمعايشة. ومن هذا الذي سيبارزنا بتعريف عن الشيعة وقد تخصصنا في تراثهم و عايشناهم ما يفوق ربع القرن ؟ لا يقول ذلك إلا من سيمر على جثتنا بافتعال تكذيبنا، وتصديق الأغراب. والمضي في حطابة الليل ورمية أعشى. والغريب أن بعضهم بعد أن زعم أننا لا نعلم السنة بات اليوم يزعم أننا لا نعلم التشيع. وسبحان الله على هذا العته الغريب والقول الوقيح ، فلله في خلقه شؤون. كنا قد أوضحنا للبيب أن التشيع المنسوب بهتانا للكائن الخرافي عبد الله بن سبأ ، سواء في تقدير الشخص أو تقدير أدواره ، هو تشيع آخر سكن خيال خصومهم وتمت هندسته بوسائل متقادمة في الزمان حتى بدا عليها بفعل التعرية آثار وظواهر دجل القرون الوسطى. ونحن في عصرنا هذا لا نتشرف بهذا المستوى الهزيل من الوعي كما لسنا مجبرين على القبول بهذا التجديف ، لأن لا مصلحة لنا في تكريسه في وعي كل الأجيال. مشكلات القدامى كانت في الإصرار على طلب السلطان، وقد فعلوا وقد حرفوا كل التراث لأجل هذا الهدف. واليوم لا خوف من الحقيقة طالما أن للسلطة وعلائقها في الأزمنة الحديثة طريقا غير طريق هذه المهزلة. السلطة اليوم تتماهى في وسائل طلبها مع طبيعة ومفهوم الدولة الحديثة. ومهما تطلب الأمر من السياسة اليوم أن تمعن في تكريس حرف الواقعات التاريخية، فإنها لن تملك فعل ذلك بالشدة نفسها والإصرار إياه الذي كانت عليه السياسة في زمانهم. إن هذا الإصرار اليوم يشتغل ويستمر وفق قانون القصور الذاتي وليس بقوة جديدة أو متجددة ، لأن العالم ببساطة آخذ في التطور. وحيث أثبتنا بأن عبد الله بن سبأ لا يملك أن يقدم أوراقا ثبوتية حتى نجعل منه واقعة تاريخية حقيقية. وإذا افترضناه فهو لا يملك تلك العبقرية التي تجعله ينجو بجلده من محاسبة العثمانية وهو الذي كان محرضا جسورا على عثمان. ولو افترضنا كل ذلك، فهو إهانة للصحابة الذين يزعم القوم الدفاع عنهم، لأن عبد الله بن سبأ عاصر جيل الصحابة، فهل يملك يهودي مندس أن يعلمهم الوصية بعلي ويسوق الصحابة سوق الجاهلين .. من هم إذن أصحاب عبد الله بن سبأ؟ هل هم من جيل غير جيل الصحابة.. هل هم من الرعاع .. الا يوجد فيهم من رأى وسمع من الرسول حتى نعرفه صحابيا..هل يملك الرعاع أن يواجهوا بدعوتهم إجماع كبار الصحابة..وإذا اعتبرنا ابن خلدون كما باقي المؤرخين اعتبروا أمثال أبي ذر الغفاري وعمار وغيرهما انساقوا لدعوته فهل هم رعاع أم أنهم ليسوا صحابة ..لو تتبعنا الكاذب إلى باب الدار لأدركنا سوأة هذا التخريف ؟! لن نعود إلى ذلك الموضوع . كما لا ننوي الإطناب في هذا الجدل الذي يطلب في مكانه. ولكننا نريد أن نذكر ولو على شبيل الإشارة بأن مصدر التشيع إسما وعنوانا ونهجا وروحا هي السنة النبوية وعلي وبنوه. بل أعتقد أن التشيع لم يكن مذهبا إلا بعد أن تكاثرت المذاهب وافترقت الفرق ، وإلا كان ضمير الأمة وطليعتها وإظهارا للحق . فالتحيز لأهل البيت مطلب الإسلام بل هو في جوهر دعوته . فالإشكال يعود إلى من نازع وشرد ووجد في السبل الأخرى بديلا . ومن قال أن ذلك ليس صحيحا، وبأن الشيعة تكذب على أهل البيت، فها هي مصادر السنة تفيض بتلك التعاليم والأدلة صريحا وضميرا، بدءا بالكتاب وتثنية بالسنة وتثليثا بشهادات أهل التراجم. وهناك تردد وتناقض في كل ما يدعيه القوم. تارة يقولون إننا نحترم أهل البيت وربما زعموا أن تراثهم هو تراث العامة. وهذه إلى الأضحوكة أقرب ، لأننا نجد أهل البيت غمر مهمشين مقلين في تراث العامة بل أحيانا أشركوا في فضائلهم وصفاتهم وما كان من شأنهم كل من هب ودبّ لتمييع فضائلهم. وتارة يقولون لا قيمة لهم ولا ميزة لهم عن غيرهم، وهذا يناقض كل ما رووا عن تميزهم وتتلمذ جميع أئمتهم عليهم. حكاية لا رأس لها ولا رجل ، ولكن ليس في الإمكان أبدع مما كان . وعليه نقول: إن لكل أمر مقصد فما مقصد هذا السؤال؟ هل لنا أن نتواضع أكثر ونخفف من غلواء الكراهية لتعريف الشيعة كما يعرفون أنفسهم..وحتما لا يوجد تعريف في قواميس الدنيا يقول : الشيعة لعنهم الله يعتقدون بكذا وكذا..هذه أحكام ولعن وليس تعريفا علميا. كثيرون يملكون أن يعرفوا الشيعة بهذه المنتقيات وبالتحشيد وقمش الأخبار.. وهذا أيضا ليس تعريفا..يجب أن تتخصص في تراثهم ويجب أن تعيش في مجتمعاتهم لكي تكون فكرة موضوعية عنهم.. ولا يوجد من خصومهم من امتلك هذا الشرط.. أكابرهم لم يسمعوا عن الشيعة إلا في الكتب وفي الملل والنحل..هل من عاقل يسمح أن يتعرف على الشيعة من خصومهم وممن يسمعون ويقرؤون عنهم من بعيد ويكملون الصورة النمطية من الخيال؟؟ إن التعريف بالتشيع أمر علمي بالدرجة الأولى. علمي لأنه يتعلق بمعرفة الآخر الذي يتقاسم معنا النفوذ على الجغرافيا والتاريخ الاسلاميين. وعلمي من حيث وجب الوقوف على المنهجية الصحيحة في التعرف على المذاهب عبر حراكها وتطورها التاريخي وأصولها المعتبرة. وهو فضلا عن ذلك أمر له غاية تعارفية يتفكك عندها الخلاف ويصبح التقارب ممكنا. إن الجهل بالآخر مرفوض. والقول بعدم جدوى التقارب معه مذموم. والاكتفاء بالصورة النمطية عنه والتفتيش في آثاره القديمة وعدم الدراية بطبقاته ومستجداته في الأصول والفروع لا يجدي نفعا. إن الوسطية والاعتدال الحقيقيين لا يتمّان بالاكتفاء بما لدينا دون حراك. الحراك هو سبيل التواسط والاعتدال. فالبندول لمّا ينطلق من أقصى اليميم يبلغ أقصى اليسار قبل أن يتواسط. أي أن الدعوى قائمة اليوم للاستيعاب. ولا خوف على الجمهور من أن يجري النقاش بين العلماء لأن الجمهور لا يطلب الكمالات المذهبية بقدر ما يكتفي بالعمومات. بل ممارسات الجمهور العام ما يناقض أصول المذهب وفروعه وفي تصوف كثيره ما ينافي التصوف السنّي نفسه. وليس هناك من مذهب يمتاز بتسامحه أو تراخيصه. فلا يوجد مطلّع على المذاهب الفقهية يقول بذلك. ففي كل المذاهب نصيبا من التراخيص و أخرى من التشدّدات. وفي كل عصر سنكشف عن تشدد جديد أو ترخيص جديد. فما كان ترخيصا في الماضي يصبح في زمان ما تضييقا وحرجا على الناس . والعكس صحيح. حصل هذا في المذهب الجعفري كما حصل في سائر المذاهب السنية. وما كان لمدونتنا أن تشهد تطورا وترخيصا إلاّ بعد أن انفتحت على آراء المذاهب الاسلامية الأخرى. ومثله حصل في مصر وفي سائر البلاد. المذاهب تتطور والاجتهاد هو مفتاح الاسترخاص فيها. ولا يحصل التطور فيها إلاّ بالانفتاح على بعضها البعض وتحقق قدر وافي من التعارف بينها. إذن قبل أن ندين التشيع وآراء الشيعة فلنتعرف عليها حتى نعرف كيف نختلف معها دون إسراف في الهجاء. التعريف بالتشيع ينتظر مني القارئ تعريفا للشيعة غير ما هو رائج من تعاريف يستئنس بها خصوم الشيعة فيما بينهم ومن دون إحساس بالجبن وهم يعرّفون مذهبا ليس مذهبهم . يحتاج المرء أن يكون كريما حتى يعرّف مذاهب غيره بقدر من الموضوعية والاحترام. مثل هذا لم يقع، فثمة صورة تروج وتكرر نفسها وهي مثل خرقة بالية لم تعد تصلح إلاّ للتخريف. انبرى بعضهم ومن شاشاتنا يقدم مأدبة فاسدة لتعريف الشيعة والحكم عليهم في غياب الآخر. والآخر موجود بين ظهرانينا لا يحتاج إلاّ إلى شيء من مروءة الاعتراف. فلقد وكّل البرنامج بصغار في النظر أثبتوا أنهم ليسوا على شيء. وإذ وجب أن يعرف التشيع أهله أو من ليس لهم مصلحة في الإساءة ، وجب أيضا القول أن تعريف التشيع تفصيلا غاية لا تدرك. فتراثه مما استفاض. لكننا سنوجز ونختصر. تعريفا على الأقل ينسخ ما أقحمه بعض المسيئين في نظامنا التربوي إساءة للشيعة عزموا أن يربوا من خلالها ناشئتنا. فعرّفوا الشيعة في مقررات الفكر الإسلامي بما لا يشرّف تربوي ولا يشفي غليل متعلم على سبيل نجاة. ليس كلما سعى الشيعي أن يعرف الآخر بنفسه، أرعدت وأزبدت الدنيا. يسعى الشيعي للتعريف عن نفسه ليظهر للآخر أنه ليس بعبعا ولا كافرا ولا ضالا، بل هو ابن البيت السنّي البار والوفي. يعرف الشيعي بنفسه ليقترب من السني ويستضيفه في حاضرة الوحدة والتقارب، ويسعى خصومه إلى تشويهه وطرده من حظيرة الإسلام. ليس المطلوب أن تكون شيعيا لمجرد أن يعرف الشيعي عن نفسه ، بل المطلوب أن تعرف عن الآخر بمنطق التعارف وسنته حتى لا تظلمه وتتعايش في عالم حتى لو لم يكن فيه شيعي في الوجود ستواجه مختلفين من كل حدب وصوب ، وربما لا يقف اختلافهم في حدود تفضيل أهل البيت على الصحابة ، بل ستواجه من يخالفك في التوحيد والنبوة والمعاد. ووجب أن تهيئ نفسك لهذا المنتج الاختلافي الكبير في مجتمع مفتوح وعالم متغير. ليس للشيعة الحق في أن يعرفوا بأنفسهم عن أنفسهم. فرضت عليهم الارتذكسية السنية بالمعنى التاريخي للعبارة أن يستسلموا للصورة النمطية المشوهة والمشيطنة لوجودهم. وهكذا بات من قبيل الجرم أن يقدم الشيعة على التعريف بمدرستهم ، بل ويعد هذا اعتداء منهم على من رسم لهم ذلك البورتريه التقليدي. والحق أن تعريف التشيع لا يسمح به المقام. ففي كل جزئية من جزئيات ما نطرحه هناك من التفاصيل ما يتطلب أسفارا. وهذا حال السيد الأميني مع حديث الغدير حيث ألف فيه أسفارا في وقت حاول خصومهم أن يفرضوا دونه جدارا من الصمت ، وفي كل خبر استند إليه الشيعة في الاحتجاج على عقيدتهم في الإمامة والتفضيل ، ألّفت فيه أسفار وموسوعات لا تردّ بعناد رخيص. لكنني أحببت أن أسلك مسلكا في التعريف بخلاف المتعارف عليه في الاصطلاح، مما يسمح به المقام. إنني أعتقد أن التشيع هو موقف في طول السنة لا خارجها. كلام قلته قبل سنوات وكررته وناديت به حتى بححت. وهذا ليس تعريفا عبثيا، بل هو تعريف تترتب عليه آثار. فكون التشيع في طول التسنن لا في عرضه يكون الخلاف ليس جوهريا، بل عرضيا. ما يجعل التشيع في مقام الشاهد على مسارات السنة مصححا لاعوجاجها المفترض لا هادما لصرحها المستند. هذا هو سر تعايش الإخوة الأعداء، حيث كلاهما يراعي الثاني في بناء نظيمته الكلامية والفقهية والأصولية. أن تعرف التشيع جيدا عليك أن تعرف التسنن جيدا والعكس يصح أيضا. في الحجاج السني الشيعي لا يسمح أحدهما للآخر باحتكار دعواه. فالسني لا يسمح للشيعي بأن يحتكر مودته لأهل البيت وتشيعه لهم كما أن الشيعي لا يسمح للسني بأن يحتكر سنيته. يرى الشيعي أنه على طريق السنة كما يرى السني أنه على طريق المحبة لأهل البيت. المذهبية طارئة. معاوية أطلق عنوان أهل السنة والجماعة في صراعه مع الشيعة. بينما في البدء لم يكن الشيعة يرون أنفسهم خارج السنة. كان أنصار علي علوية كما كان خصومهم حتى حين يسمون عثمانية. افتعال المصطلحات متأخر في التاريخ ، صناعة سياسية أكثر مما هي كلامية أو فقهية. أستطيع أن أبرهن على كل فكرة أو حكم أو أصل شيعي بمدارك سنية. إذا كان حب أهل البيت ومودتهم مما لا خلاف حوله باستثناء ما رامه فلول النصب ، فإن الحب تشكيكي قابل للشدّة والتضعف. سبق وقلت أن هناك من يحب كثيرا وثمة من يحب قليلا ، ومن الحب ما قتل. فالأفق الشيعي مفتوح على المحبة في تشككها حد الجنون، كما في موقف نصير الحسين: حب الحسين قد جنّني. وعليه ، فعلى ممشى هذه الصراطية الممتدة طولا تشاركيا بين السنة والشيعة ليس من مائز سوى ما كان تشككيا يكون الفارق فيه على نحو ما كان به الامتياز هو عينه ما كان به الاشتراك. فيكون هناك من يتشيع قليلا وهناك من يتشيع كثيرا. وليس من بنات أفكاري أن أقول إن التسنن قيمة في التشيع لمقام السنة في المرتبة الثانية من التشريع بعد الكتاب على خلاف في التفاصيل حول طرق إحرازها وآليات تصحيحها واعتبارها وفق إجراءات الدراية وعلم الرجال. وكذلك كان التشيع قيمة في زمن الرسول والصحابة يتقوم بمحبة أهل البيت وبجملة الالتزامات التي تتعلق بإمامة أئمتهم المعينين. فلقد تحدث الرسول (ص) عن فضل من تشيع لأهل البيت (ع) ، وأظهر ميزتهم مما لا يخفى على مطلع على السنة. فإذا كان من مصلحة خصوم الشيعة أن يخفوا ذلك في مقام حجاجهم ضد الشيعة، فليس لي ما يمنعني أو يبعثني على إخفاء ذلك. وقد كان التشيع لعلي وأهل البيت مطلوبا سنيّا كما لا يخفى على عارف مطلع بروح التسنن. وقد كان الرسول (ص) أوّل من استعمل عبارة التشيع لعلي وأهل بيته وحث المسلمين على اتباعهم والاقتداء بهم . ففي كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي وهو من أكبر خصوم الشيعة ، نجد قول الرسول (ص) : " يا علي أنت و أصحابك في الجنة ، أنت و شيعتك في الجنة "[1] . ومثله : " يا علي إن الله قد غفر لك و لذريتك و لولدك و لأهلك و لشيعتك و لمحبي شيعتك فأبشر "[2]. وأخرج الحافظ جمال الدين الذرنذي كما في الصواعق المحرقة لابن حجر ، لما نزلت هذه الآية : ( إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) . قال رسول الله (ص) للإمام علي بن أبي طالب : هذا أنت و شيعتك ، تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين و يأتي عدوك غضاباً مقمحين " [3 مثل هذا كثير في مصادر السنة لا يخفى. وقد أورد منه حفاظها ما انكسر به القلم. وهو يحمل دلالات تقتضي بعدا في النظر. فمع هذه الأخبار ونظائرها يكون الشيعي طالب فوز وقرب ونجات في تشيعه لا طالب أغراض. فكيف يعير بعنوان هو سنّي بامتياز. وهل فعل إلا ما أمرت به السنة وندبت إليه بباعثية لا تضاهى؟! ليس متعذرا على باحث أن يقف على حقيقة سنية التشيع الإثني عشري. فهو يؤسس لأصوله وفروعه على القرآن والسنة، ولا يوجد لديه أصل أو فرع لا يثبت بنص. وهذا الإثبات لا يتم بتأويل خارج منطق الاستيعاب السني بل هو يستند إلى الأدوات نفسها السنية. فإذا عرفت ذلك ، ستعرف تباعا بما يدهش الباحث أنك أمام أناس ارتقوا في التوحيد واعتقدوا بالنبوة والعدل والمعاد ولم يزيدوا أصلا ولا نقصوه، سوى أن أنزلوا الإمامة إلى منزلة الأصل فيما أبقى السنة عليها في منزلة الفرع. الإمامة التي انزلها الشيعة منزلة الأصل ليست هي الخلافة الزمنية وما شابه، بل هي إمامة لها شأنية خاصة تعينت في أشخاص معينين ودلت أدلة على إمامتهم . وآية إمامتهم أنهم يملئون بعلمهم فراغ عصر الانسداد. فبما إن وظيفتها المنوطة بها هي بيان وتأويل الشريعة ، كان لا بد أن تتنزل منزلة الأصل. وهذا لم يكن من اختصاص الخلافة الزمنية ، وهذا يدل عليه السياسة الشرعية وما يعرف بالأدب السلطاني. فكلاهما نصائح للخلفاء والملوك قام بها فقهاء. مقصودي هنا بالشيعة هم الفرقة الكبرى الغالبة المالكة لوسائل الإقناع السنية بأصول عقيدتها وقواعد فقهها. ودفعا للالتباس ، لا بد من بيان أن ثمة خلطا كبيرا وقع فيه خصوم الشيعة من حيث يشعرون أو لا يشعرون، حيث حمّلوهم وزر ما نأى من الفرق المحسوبة على الشيعة وهم في ذلك لا يكلفون أنفسهم عناء التمييز ، مادام " ليس علينا في الأميين سبيل". وهاهنا وجب القول بإيجاز: إن كثيرا من الفرق الشيعية التي سوّد بها كتاب الملل والنحل صفحات تجديفهم ضد هذه المدرسة ، لم تكن إلا عنوانا لفكرة شاردة يتيمة أو موقف معزول بالغوا في الوقوف عنده بقصد مغرض ، ثم أغرى يراعهم أن يسموها فرقة من عند أنفسهم إكثارا غير مبرر وتلبيسا مستهترا. وكما ذكرت قبل قليل: لقد جعلوا ممن قال: ما أهلكنا إلا البقل، فرقة ومذهبا بقليا. ويكفي أننا في واقعنا لم نجد لهذه المسميات/المعميات وجودا بين ظهرانينا. فلو كانت لبانت. غير أنهم تحدثوا عن انقراضها، وهذا دليل على أنها لم تكن تملك ما يسوغ به وجودها وبقاؤها. لكنني أراها من نسج خيال صناع الملل والنحل المسرفين، فهي لم تكن أصلا فكيف نقبل بأكذوبة انقراضها. وأما لو سايرناهم في ما تبقّى من تلكم الفرق، فهذه لا تستطيع أن تدخل في محراب الحجاج والبرهان بوسائل الإقناع السنية. ولقد عاينت من تلك الفرق المسكينة في رحلات استكشافية كثيرة، فلاحظت أن الأمر يحتاج إلى مقاربة أعمق مما يتخيله مريدوا التبسيط وصناع التسطيح. إن المتأمل لجغرافيا هذه الفرق ومعاينة للطوبوغرافيا الاجتماعية لهذه الفرق المنسية المهمشة جبال وعرة ، فقر ، أمية وغياب العلم ( بعضها لا تسمح بالتعليم الديني إلا لمن بلغ 40 سنة من أبنائها) تهميش اجتماعي إلى حد أن بعضها عاش فترة على أكل حشيش الأرض وروث الأغنام سيكتشف أن سبب هذه التراجيديا المللية والطائفية هو بطش الارتذكسية السنية متمثلة في السياسة الطائفية للسلطنة لعثمانية. وهكذا، وجب أن ندرك أن ما انتشر في الحواضر كان بسند من الغلب السياسي وما انتشر في الهامش كان هروبا من البطش وتمسكا حرا بالفكرة . وما حدث هو بفعل الحصار وقطع الطريق بين هذه الفرق ومنابع العلم: لقد فضّل بعضهم أن يتخلّى عن كل شيء إلا جوهر الفكرة تخلوا عن الفروع حفاظا على الأصول . وعليه ، لست هنا في وارد الدفاع عن أصول اعتقاد هذه الفرق الهامشية حيث متى أكره أصحابها على الحجاج إلا واستندوا إلى قواعد ومظان الاعتقاد الإمامي الإثني عشري ، فكل امرئ هو مسؤول عن الدفاع عما يعتقد به. لكن وجب تفهم كل نحلة وكل فكرة تجنبا للشطط وقمعا لغريزة الاستئصال. هذا كما يمكن معرفة وجهة نظر الإمامية بخصوص باقي الفرق الشيعية الأخرى في مصادرها، وهو في الحقيقة يظهر أن موقفهم من الغلاة موقف سنّي بامتياز. في التعريف العقائدي نتحدث عن أن الشيعة يعتقدون بمثل ما يعتقد به السنة مع وجود فوارق في التفاصيل. ولعله من العجب أن الشيعة لا زالوا يؤكدون أنهم يعتقدون بما يعتقد به السنة. فمن ناحية هناك أركان الإسلام الخمسة مما يدين بها الاثنين معا. فالشيعة موحدون يتفوقون كلاميا وفلسفيا عن سواهم في التنزيه، يؤمنون بنبوة محمد (ص) ويتفوّقون على غيرهم بتعظيم البيت النبوي واتباع آله . يؤتون الصلوات الخمس و يتفوّقون على غيرهم في عدد النوافل والسنن. يصومون رمضان ويتفوّقون على غيرهم في عدد المستحبات من الصيام . يحجّون ويتفوّقون على غيرهم في أحكام الحج وسننه ومندوباته. يؤتون الزكاة ويتفوّقون على غيرهم في أنهم يدفعون الخمس وحقوقا أخرى. وفي الاعتقاد، يعتقدون بالأصول الثلاثة التي هي العمدة في إسلامية المعتقد: التوحيد، النبوة، المعاد. وفي مقطع الشراكة مع السنة يعتقدون بالأصول الخمسة: التوحيد ، النبوة ، الإمامة ، العدل ، المعاد. وهي نفسها أصول الاعتقاد السنية ما عدا الإمامة فقد تنزّلت عند السنة منزلة الفرع فيما ارتقت مرقى الأصل عند الشيعة. وهذا أمر تفصيلي للشيعة عليه من الأدلة ما يكفي. الشيعة لا ترى في عدم الاعتقاد بالإمامة خروجا عن الإسلام سبق وقلنا هو يتحدد بموجب الأصول الثلاثة بل ترى فيه مخرجا عن أصول المذهب. ولذا فالشيعة وحدهم لم يبتلوا بمرض تكفير المسلمين ، وليس في فقههم الذي جهله وتجاهله خصومهم عنادا لا يكفي معه فضول السفهاء وإطلالات على سطح منه لا ينفع ما يستباح به دم مسلم أو عرضه أو ماله . فالجنة هي بسعة رحمة الله الواسعة. وأما جنّة خصومهم فهي ضيّقة يكفي أن تستوعبهم شجرة واحدة بظلها من جنس شجرة الخروب المتواجدة في مداشر بؤسائنا يستظل بها المشردون وقطاع الطريق. وبعد ذلك ليت شعري أدرك الغاية من التبجّح بأننا أمة المليار ونصف مسلم التي تنطق بها فضائياتهم وكتاباتهم التبسيطية ، إذا كان أهل التوحيد السلفوي يعدّون ببضعة ألوف لا غير. في الثقافة الشيعية المعاصرة ليس أقبح من أن تكفر مسلما حتى لو كان خصيما مذهبيا ومعتديا طائفيا. ثقافة التكفير لا مكان لها عند من ظلّ ضحية للشطط وقضّى ظلما تحت طائلة جنونها. فحينما يتفرعن خصوم الشيعة ويكفّرون ولا يبالون بشرعة الإنسان ولا برشد العقل ، ليس للشيعة إلا أن يبكون عشقا للعدالة والحرية. في بعض موارد النقاش يتحدث بعض أهل السنة عن الإمامة بمنظور الأصل لا بمنظور الفرع. أنظر ابن تيمية نفسه في السياسة الشرعية كيف ارتقى بالإمامة العظمى إلى منزلة الأصل وهو يقول في استرسال في آخر فصل في منزلة الولاية: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها . فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم » . رواه أبو داود ، من حديث أبي سعيد ، وأبي هريرة . وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم » . فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر ، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع . ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة . وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم . وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ؛ ولهذا روي : « إن السلطان ظل الله في الأرض » ويقال " ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان " . والتجربة تبين ذلك ". أقول: ليس عند الشيعة كلام يرتفع بالإمامة إلى أكثر من ذلك. ولا أريد الإطناب في جملة الأخبار التي يسوقها الشيعة لإثبات الإمامة لعلي والأئمة المعينين من بعده من أهل البيت. ويكفي حديث الغدير الذي صحّ وتواتر حتى ألفت فيه مجلدات تدفع عنه كل المحاولات الفاشلة التي سعى إليها خصوم الشيعة لشدّة صحتها وبيانها. وهي حتى لا نطيل على القارئ تطلب طلبا يسيرا في مظانها ويرجع إليها فهي لا تخفى في مصادر المسلمين سنة قبل الشيعة. للذين زعموا أن هذا النص غير صحيح أو غير متواتر مع أنه مروي في صحاحهم أرشدهم إلى كتاب: الغدير ؛ في الكتاب والسنة والأدب للسيد الأميني ، فقد استقصى آثار هذا الحديث وطرقه ووجوهه في مصادر المسلمين شكل أكثر من إحدى عشر مجلدا. كما أرشد من زعم أن مزاعم الشيعة في أمر الإمامة تأول وليس التزاما بالنص ، إلى كتاب : النص والاجتهاد للسيد شرف الدين.. وعموما لا أريد التكرار ولا الإطناب فيما سبق تسطيره . وسيجد القارئ في نهاية المقالة ، روابط يمكن أن تضعه أمام جملة من المصادر كافية لدحض كل مزاعم خصوم الشيعة ، لتؤكد على أن مصادر عقائد الشيعة انطلقت من داخل النصوص الإسلامية وليست من إلهام ابن سبأ أو المجوس أو الصفويين أو ما إلى ذلك من تخريفات وضعناها قبل فترة في ضوء التحقيق لمن اعتبر.ولشدة هذا الوضوح والتواتر في حديث الغدير ، قال الشاعر العربي أبو تمام: ويوم الغدير استوضح الحق أهله بفيحاء ما فيها حجاب ولا ستر وللشيعة الإثني عشر اعتقاد في أثنا عشر إماما أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي الغائب محمد بن الحسن. مستندهم واقع الوصية وأدلة روائية ثابتة. وأصل الوصية ما جاء في حديث الغدير:"من كنت مولاه فعلي مولاه". وأخبار أخرى مفصلة في مظانها. وأصل العدد خبر " لا يزال هذا الأمر بخير ما وليكم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش". ويؤازرهما حديث الثقلين:" تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي". وهو يخصص حديث:" تكرت فيكم كتاب الله وسنتي". فالأول بحكم حكومة الخاص على العام . مع العلم أن الثاني من مرسلات مالك التي لا ترقى إلى صحة حديث الثقلين ، كما له طرق عند البخاري ومسلم والترمذي وصححوه. وتستطيع الشيعة أن تؤكد على أن الاختلاف لم يحصل في مدرسة أهل البيت بين اثناعشرة إمام يصدق قول بعضهم بعضا، فيما اختلف غيرهم وتنافروا. ويؤكد على أهمية الاثنا عشر إماما أنهم هم حقا أفضل أهل البيت تقى وعلما وريادة. فإذا جعلوا عدلا للقرآن بموجب حديث الثقلين، فمن باب الأولوية أن يكون المقصود الأئمة الاثني عشر للحديث المذكور. وقد سار حفاظ السنة وأهل التراجم في موارد الحديث عن فضائل أهل البيت أن يتحدثوا عن الإثني عشر، ويذكرون حتى الإمام المهدي الغائب. فعل ذلك الشبلنجي الشافعي في "نور الأبصار"، كما فعلها ابن حجر الهيثمي في "الصواعق المحرقة" كما فعلها ابن الصباغ المالكي في "الفصول المهمة" كما فعلها ابن الجوزي السبط في تذكرة الخواص... إذا أضفت ذلك إلى ما جاء في خصائص أمير المؤمنين للنسائي الذي فعل مثل غيره من أعلام السنة في تصحيح أخبار الولاية لعلي والغدير والوصية ووغيرها، كما فعل ابن عبد البر المالكي والمقريزي وابن الجوزي السبط وأخيرا وليس آخرا آل الصديق ، لم يعد شيئ مما يختص به الشيعة لم يوجد في مظان السنة. وليس مطلوبا من السني أن يكون شيعيا إلا أن يعتقد بما جاء في كتاب النسائي: خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وباقي المصنفات التي أتينا على ذكرها على تنوع انتماء أصحابها وقد ذكرنا منهم الحنبلي كابن الجوزي السبط وابن حجر، والشافعي كالشبلنجي ، والمالكي كابن الصباغ وابن عبد البر، وضف عليهم المقريزي في فضل أهل البيت ونظائره. فالبخاري يذكر في ، حدَّثني محمد بن المثنى حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عبد الملك سمعت جابر بن سمرة قال : سمعت النبي (ص) يقول : " يكون اثنا عشر أميراً فقال كلمة لم أسمعها فقال أبى : إنه يقول :" كلهم من قريش "[4].ومثله أورده مسلم في صحيحه ، حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حسين عن جابر بن سمرة قال : قال : سمعت النبي يقول :- ح و حدثنا رفاعة بن الهيثم الواسطي ، و اللفظ له حدثنا خالد يعني ابن عبد الله الطحان عن حصين عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع النبي فسمعته يقول : " ان هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة ثم تكلم بكلام خفي عليَّ فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش"[5] . وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، قوله (ص) : " بعدي إثنا عشر خليفه كلهم من بني هاشم "( و في رواية كلهم من قريش )[6] . وفيه أيضا قوله (ص):: " بعدي إثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل " [7]. كما يروي أحمد بن حنبل حديثا عنه (ص) للحسين بن علي بن أبي طالب : " هذا إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم " [8]. أقول ، أضعاف هذه الأخبار مما يمتنع عن حملها كتاب صغير . ولو شئنا أن نخصص لها وحدها عملا لعرضناها في أسفار. لكن لسنا هنا في وارد الاستقصا ، بل التمثيل بنماذج يطلب تفصيلها في مظانها. وقد بلغت من الطرق ومستويات الاعتبار والصحة ما لا يجوز استسهال تجاوزها. فعلى الأقل هناك أدلة وليست ثمة أهواء.وما ذكره خصوم الشيعة مما يوجب انحراف عقائدهم وشذوذ فقههم ، فمرده إلى الجهل بأصول اعتقادهم وأحكام فقههم. وقد وقفنا على مظانهم ونهلنا من مناهل علومهم وأفنينا شبابنا ومعظم عمرنا تخصصا في فقههم الاكبر والأصغر فوجدنا ما يقال ضدهم إسراف ما بعده إسراف ، وتعمّل دون اعتباره خرط القتاد. وقد ألفنا في ذلك منذ سنين عديدة كتبا فيها دفع لهذا وذاك مما لا يتسع المقام لاستحضاره ، وسأسرد عينات من تلك الخلافيات على سبيل السرعة والاختصار: نظرة موجزة في الاعتقاد من أسوأ جهالات خصوم الشيعة كما أورد ابن عبد ربه في القدامى وتقي الدين الهلالي ونظراءه في المحدثين، حكاية نقمة الشيعة على جبرائيل لأنه أخطأ في تنزيل الرسالة على محمد بدل أن ينزلها على علي. أستغفر الله على كذبة خاست وتعفنت داخل رؤوس لا تحسن قول الصدق وتتراخى في التخريف. كيف ذلك وعظمة أهل البيت هي فرع من عظمة محمد (ص). وأن نبوته مكتوبة على العرش قبل خلق آدم فيما ترويه الشيعة. فعظمة علي بن أبي طالب في العقيدة الشيعية قطرة في بحر محمد بن عبد الله. أتمنى لو يستمر خصوم الشيعة على مثل هذا التجديف الأجرب ليصبحوا أضحوكة زماننا بعد رشد جيلنا وانتشار العلم وسهولة بلوغ المظان. ولو عرف هؤلاء مقام محمد (ص) عند الشيعة ، لأدركوا أن تشيعهم لآل محمد إنما هو تسنن وتشيع لمحمد (ص). وحيث لا قيمة لهذه الأحكام فليست هي ما سنشغل البال بالرد عليه، ونكتفي بأمثلة مما قد تثار حوله الشبهة: عصمة الأئمة زعم خصوم الشيعة أن الشيعة تغلو في القول بعصمة أهل البيت. والحق أن المبالغة في فهم العصمة لا في القول بها. فإذا ما ثبتت العصمة للنبي (ص) بإجماع الطائفتين، إذ لا يعقل التبليغ المانع للتيه إلا بها ، فهي نفسها ذات القيمة الوظيفية التي لا يقوم التأويل المانع للتخبط إلا بها أيضا . فالمسألة تتعلق بالوظيفة المنوطة بالإمام ومن هو الإمام . فلا يعقل أن تنزلق الصفة لتوضع في غير موردها ، اذ وجب استحضار وجهة النظر الشيعية في الإمامة كاملة ، فلا نجزّءها ونسقطها على التصور المخالف لتصورهم للإمامة ووظيفتها وحدود اختصاصها. حينما ارتقى الشيعة بوظيفة الإمامة إلى مرتبة بيان الدين ووظيفة درأ الشبهات عنه وتحقيق التأويل الصحيح كان لا بد أن يثبتوا لهم العصمة. فالمسألة فيها من التناسب ما يبررها . فحينما يعرف أعلام السنة أنفسهم الإمامة بأنها الرئاسة العامة للدين والدنيا خلافة للرسول (ص)، فهذا معناه يفوق كون المسألة تتعلق بشخص ما يختاره الناس لسياسة مدينتهم. فهذا ما ليس موضوع الإمامة وإن كان يتنزل منها تنزيل الفرع. لأنه متى وجد النبي أو الإمام بهذا المعنى المعين ، وجب تقديمه لأن الطريق لثبوت أفضليته يجعل البحث عن غيره خلافا لما حكم به العقل. لأننا في مثل هذه الحالة لا نقول أنه هو الأفضل في حدود الوصف لخصائصه الذاتية ، بل حتى في مقام ضمان المصلحة ، يكون الأفضل مستوعبا لجملة من الصفات منها الأعقل والأعدل والأورع والأصلح و..و..فلا يكون رأيه راجحا وحجة على العلماء أنفسهم وقطعيا كاشفا عن الحكم الواقعي إلا إذا صدر عن المعصوم الذي لا ينتظر منه خطأ في الكشف عن الحكم أوبيانه. وهذه حقيقة ندركها في ذلك الربط القرآني بين دور الأنبياء والأوصياء التبليغي والبياني وخصائصهم. فمن تلك الآيات التي تبرز جانب اللزوم بين العصمة والتبليغ والهداية قوله: ( أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ ان يُتَّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدى ) (يونس ، 10 35). فهي كما ترى دالة على ما نحن فيه واضحة في دلالتها. فالهداية ليست وظيفة لمن هو في حاجة إليها. وقد أرجع الله هداية هؤلاء إليه ، بينما أمر الناس بالاهتداء بهديهم. وأيضا نجده واضحا في قوله تعالى وقوله تعالى : ( والنجم إذا هوى * ما ضلَّ صاحبكم وما غوى ) (النجم ، 53 / 1 2). وقوله :( وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى ) (النجم ، 35 / 3 4). وقوله تعالى: ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ( الاعراف ، 7 181 ). وقوله تعالى :( فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلّنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) (الانعام 4/ 89) . وقوله تعالى: ( من يُطعِ الرسول فقد أطاع الله ) (النساء ، 4/80) . فلا يعقل أن تقرن طاعة الرسول بطاعة الله على هذا الإطلاق إلاّ أن يكون معصوما. وهي عصمة معلّلة قاصدة ، لجنبة الهداية والتبليغ والبيان. فلا تتحقق هذه الأخيرة ولا تكون راجحة إذا احتمل في قوله وسلوكه الخطأ. وقوله تعالى : ( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) (آل عمران ، 3/33). وهو اصطفاء قاصد أيضا وليس جزافي كما في لسان الآية. فهو يبرز جانب الاصطفاء على العالمين الذي لا يتصور إلا بأن يكون من جميع الجهات ومنها العصمة لوجود بعض من خلقه وصفوا بالعصمة وعدم الخطأ فضلا عن أن وظيفة التبليع والهداية غاية هذا الإبراز. فلسان الآية أن هؤلاء بهذا الوصف يستحقون الاتباع والاقتداء. وقوله تعالى:"( سنقرئك فلا تنسى ) (3). و قوله تعالى : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله انّ الله شديد العقاب )[9]. وهكذا في كل مورد تم الحديث فيه عن العصمة والسداد والاصطفاء إنما جاء الوصف للحثّ على اتباعهم والاقتداء بهم في الدين. ورفع الريبة والشك عن قلوب المكلفين. إذ اقتضت الفطرة أن لا يؤخذ الدين عن غير المعصوم أخذ المقطوع المطلق إلا ما كان من شأن الظنون الخاصة التي أمضى الشارع على الأخذ بها دفعا للحيرة وفي غياب الدليل تخفيفا وإبراء للذّمة. وأما ما خصت به الشريعة أئمة أهل البيت وما استلهم منه الشيعة القول بعصمتهم فهو كثير كثير لا يحتمل ها هنا. ولكن يكفي أن الحديث عن شأنيتهم لم يكن جزافيا ، بل كان لا زمه الحث على اتباعهم وترجيح قولهم . وكل المذاهب تحاول أن تروي شهادات على أئمة مذاهبها من قبل أناس مثلهم في العلم أو أقل وأحيانا يروون بتأويل متعسف أخبارا عن الرسول (ص) للإشارة إلى هذا الإمام أو ذاك ، بأخبار مجملة شاذة ومع ذلك لا تفيد إلاّ بتعمل وتأويل غير مقنع. بينما ما ورد في حق أئمة أهل البيت مما لا تحمله عشرات المجلدات واضح المعنى متواتر لا يرده عاقل أو متسنن ، حتى أن كتاب فضائل أهل البيت من حفاظ السنة هم من واضعي الصحيح كالنسائي واحمد بن حنبل او من الحفاظ المعتبرين كسبط بن الجوزي وابن الصباغ المالكي والفيروز آبادي و القندوزي الحنفي والشبلنجي الشافعي والمقريزي والشوكاني وكثير من أمثالهم . وقد ربط بين فضائلهم وسداد فقههم ووجوب اتباعهم ما يفيد أن المسألة تتعلق باتباعهم لا بمجرد إبداء المودة لهم. الاتباع لأئمتهم المعينين على نحو الخصوص والمودة لعامتهم على نحو العموم. والعصمة المذكورة تتجه لخصوص أئمتهم لا لعمومهم، لأن الشيعة لها حديث طويل عريض في فساقهم ومنحرفيهم ، فلا مجال للخلط. والحقيقة أن الشيعة لم تثبت شيئا لم يثبته القرآن والسنة. فأما من الكتاب فقوله تعالى:"إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". وقد علمت أن الرجس هنا لا يحتمل إلا معنيين: الأذران والأوساخ أو الذنوب. وقرينة الحال ترجح معنى الذنوب. والتطهير من الذنوب هو مصداق لمفهوم العصمة. حيث ليست العصمة إلا ما يعني وجود الملكة الناهية عن المنكر الآمر بالمعروف. والشيعة ترى أن الأئمة معصومون وأنهم قادرون على المعصية. وأما دليلهم من السنة فكثير ، يكفي كونهم عدل القرآن كما في حديث الثقلين:" تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي". وقد أشار التفتازاني في شرح المقاصد إلى نكتة هذا الربط حينما علّق على حديث الغدير:"قلنا : نعم لاتصافهم (يعني أهل البيت) بالعلم والتقوى مع شرف النسب. ألا ترى أنه (ص) قرنهم بكتاب الله في كون التمسك بهما منقذا من من الضلال . ولا معنى للتمسك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم والهداية فكذا في العترة "[10]. وعجبي كيف اتهموا الشيعة في قولها بالعصمة وقد أثبتوا العصمة عمليا للصحابة . بل إن التصويب الذي قال به غير الشيعة هو ضرب من العصمة التي خلعوها على اجتهاد علمائهم فيما الشيعة عدت من المخطئة. وقد زاد عجبي أن الشيعة لا تقول إلا بعصمة من عصمه الله ودلّ العقل على ضرورته: إذ لا يمكن أن يقرن بالقرآن إلا المعصوم ولا يمكن أن تأخذ الشريعة والحكم الواقعي إلا من المعصوم. ولكنهم ضيقوا العصمة فيما وسعها غيرهم. فهذا ابن خلدون حينما يدافع عن طهارة إدريس بن عبد الله يقول: " على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان، فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. ففراش إدريس طاهر من الدنس ومنزه عن الرجس بحكم القرآن. ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه وولج الكفر من بابه ". انظر كيف أثبت العصمة لإدريس بينما لسان الآية مخصص بحديث الكساء: أي الخمسة الذين أدخلهم الرسول (ص) في الكساء وقال عنهم كما في التفاسير والأخبار:" اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" وهم محمد وعلي وفاطمة والحسنين. إن الشيعة الإمامية تخصص هذه الآية في مورد أئمة أهل البيت فيما يطلقها ابن خلدون السنّي المالكي لتشمل عموم أهل البيت. ومع ذلك أحب أن أقول: إن العصمة لا تثبت إلاّ لمن كانت له القدرة على المعصية. ولذا فهي خاصية تتعلق بخاصة النوع لا بمطلق الخلق. فكل ما عدا الانسان لا يخطئ ، حتى الجماد. لذا كان أحرى من الناحية الفلسفية القول: أن العصمة لا تعني أن لا تخطئ. ما دام الحيوان نفسه لا يخطئ. بل كافة الكائنات الموصوفة باللاّعقل لا تخطئ. ومن هنا فالعصمة مرتبطة بمقام الكمال النفسي والعقلي والعلمي، حيث الخطأ ناتج عن الجهل والضعف والنقص. وحيثما ارتقى الانسان فيها اكتسب درجة من العصمة . وكل في هذا بحسبه. حتى إذا تعلق الأمر بنبي أو إمام ، كنا أمام مقام في الكمال والعصمة يسمو بهما عن سائر الناس في الانضباط والصفاء الروحي. ويصبح الاختيار الصحيح راجحا برجحان كمال العقل. بتعبير آخر : كلما ارتقى المرء في كمالات العقل اكتسب عصمة . حتى إذا كمل عقله كملت عصمته. فقولنا أن النبي أو الإمام المعيّن معصوم معناه أنه على مرتبة من العصمة بها كان حجة على الخلق بينما عموم الصالحين هم حجج على من دونهم في المرتبة ويظل من فوقهم حجج عليهم. لذا ليس عزيز علينا وضع مفهوم العصمة في إطاره الفلسفي لمزيد من الفهم الموضوعي. حيث نرى أن كل إنسان بموجب الانسانية هو على مرتبة ما من مراتب العصمة. حتى إذا كملت عصمته كان ذلك هو المقام الذي به يكون النبي نبيا والإمام إماما. وقد يتساءل البعض: إذن أليس بين الحجج والمعصومين من أنبياء وأئمة نوع اختلاف في مراتب العصمة أيضا؟ أقول : نعم. فالتفاضل بين مقامات الأنبياء والأوصياء ثابت لا يخفى. والفاضلية هي كذلك من جميع الجهات. فكون محمد (ص) خير الأنبياء يلزم عنه أنه خير في جميع الجهات. والعصمة هنا فرع لكمالاته. وكون علي بن أبي طالب هو خير الأوصياء يلزم عنه أنه أرفع مقاما في المعصومية. فالمعصوم إذن ليس هو من لا يخطئ بل هو من أصبح الحق عنده مطلبا وليس اختيارا. إنه يطلب الحق لأنه يراه مطلبا ضروريا وليس اختيارا ثقيلا وتضحية وتكلفا. وثمة ما يوجب العصمة موضوعيا. فالعلم عاصم من الخطأ. فالذي يعلم الحكم في كل واقعة ويملك أن يتمثل الحكم في كل الأحوال سيكون معصوما لا محالة. فالعصمة في اللغة تأتي بمعنى الحفظ وبمعنى المنع. والعلم جنّة كما قال (ص) . بل إنما ربط المولى تعالى خشيته بالعلم حينما قال:" إنما يخشى الله من عباده العلماء"[11]. فالعالمون بأحكامه العارفون العاملون ، هم من يخشاه . من هنا نجد السيد الطباطبائي يربط بين العلم والعصمة في تفسيره للآية الكريمة من سورة النساء: " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفةٌ منهم بأن يُضلوك وما يُضلّون إلاّ أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً ) . يقول : " ظاهر الآية انّ الاَمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية والخطأ. وبعبارة اُخرى علمٌ مانعٌ عن الضلال. كما ان سائر الاَخلاق كالشجاعة والعفّة والسخاء كلٌّ منها صورة علمية راسخة ، موجبة لتحقق آثارها ، مانعة عن التلبس باضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره ، والبخل ، والتبذير.ومن هنا يظهر ان هذه القوّة المسماة بقوّة العصمة سببٌ شعوري علمي غير مغلوب البتة ، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والاِدراك لتسرّب إليها التخلّف ، وخبطت في أثرها أحياناً. فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والاِدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب... فقد بان من جميع ما قدّمناه انّ هذه الموهبة الالهية التي نسميها قوّة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في انه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة ، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إيّاها ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقاً ". فبمقدار العلم وخصوصيته تحصل درجة من العصمة للخلق. وحيث تميزوا بالعلم والتقى ونوعية العلم ، لزم أن يكونوا كذلك فلا مجال للاستغراب.الشيعة لا تعتبر العصمة أمرا معجزا أسطوريا كما يقول عنها خصومها. بل هي ملكة لا تحجب القدرة على الإتيان. فالاختيار حاصل لكن مع ملكة ترجح الاختيار الصائب عن الاختيار الخاطئ. وما نجده في مقالات الخصوم هو كلامهم وتعريفهم لا يقول به الشيعة العالمون. فلقد عرّفها أعلامهم بوصف معقول مدرك للعموم وليس شاذا في عرف العارفين. وعجبي من هذه الأمية في الفهم والتعسف في الحكم حينما يستنتج خصوم الشيعة من قول الشيعة بالعصمة إنهم يضفون صفة الألوهية على أئمتهم. وما حكم العصمة هنا إلا فرع حكمها في أصل التبليغ والتبيان للشريعة كما تثبت للأنبياء. فهل إثبات العصمة للأنبياء يتفرع عنه القول بألوهيتهم. وما العصمة إلا أن يعصمك الله فتكون العصمة حينئذ بالله وليس بدونه. فهم عبيد لله عند الشيعة حتى في معرض إثبات العصمة في حقهم. لذا نجد في تعريفهم للعصمة قولهم مثلا: "اعلم أنّ العصمة هي : اللّطف الذي يفعله الله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح ، فيقال على هذا انّ الله عصمه بأن فَعَلَ له ما اختار عنده العدول عن القبيح. ويُقال : إنّ العبد معصوم لاَنّهُ اختار عند هذا الداعي الذي فعل له الامتناع من القبيح. وأصل العصمة في موضوع اللغة المنع يقال عصمتُ فلاناً من السوء إذا منعت من حلوله به ، غير أن المتكلمين أجروا هذه اللّفظة على من امتنع باختياره عند اللّطف الذي يفعله الله تعالى به عنده من فعل القبيح ، فقد منعه من القبيح ، فأجروا عليه لفظة المانع قهراً ، وقسراً. وأهل اللّغة يتعارفون ذلك أيضاً ، ويستعملونه لاَنّهم يقولون فيمن أشار على غيره برأي فقبلهُ منه مختاراً ، واحتمى بذلك من ضررٍ يلحقه ، وسوء يناله انّه حماه من ذلك الضرر ، ومنعه وعصمه منه ، وإن كان ذلك على سبيل الاختيار"[12]. فهم إذن عبيد الله وليسوا آلهة. كما أن عصمتهم هنا وظيفية لإرشاد الخلق إلى عبودية الله لا إلى عبوديتهم. فالله اختار لرسالته من يضطلع بها ومن يكون حجة له على عباده. ويظهر من هذا التعريف أن العصمة لا تنفي كون المعصوم غير قادر على ارتكاب المعصية ، بل هو لا يرتكب المعصية مع قدرته على فعلها . وهذا ما يقول به علماء الشيعة المعروفون بل هذا حاصل إجماعهم. وقد أجملها الخواجة نصير الدين الطوسي في التجريد بقوله: " ولا تنافي العصمة القدرة "[13]. ومن هنا عرفها الشيخ المفيد بقوله:" لطفٌ يفعلُهُ اللهُ تعالى بالمكلّف ، بحيث تمنع منه وقوع المعصية ، وترك الطاعة ، مع قدرته عليهم"[14]. وبعد ذلك ليس غريبا أن نجد في السنة ما يفيد هذا المعنى من الخبر الذي صححه الذهبي ، قوله (ص) : " من اطاعني فقد اطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن اطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني "[15]. ويعزز ذلك قوله (ص) فيما صح وتواتر من الأخبار : " إني تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوص"[16]. وقد ظهر أن الحديث يزكي طهارتهم وعصمتهم في القرآن كما يزكي اقترانهم بالقرآن وجعلهم الثقل الاصغر الذي لن يفارق الكتاب. وقد استعمل هنا كلمة "لن" لإفادته الديمومة كما في قوله في نفي الرؤية "لن تراني". وكل الأخبار التي فاضت بها فضائلهم تثبت هذا النوع من الاقتران بالحق والقرآن، وتشهد على أن الله جعلهم طريقا معتبرا يحتج به على ما سوى ذاك الطريق. القول بالبداء