عزا عدد من المؤرخين بدء الحركة الشيعية في بلاد المغرب إلى العهد الفاطمي أو ما يعرف عادة بالدولة العبيدية نسبة إلى مؤسسها عبيد الله الشيعي. فإذا ما تلطفوا بعض الشيء قدّموها في الزمان أكثر من ذلك ، ليكون مبتدؤها مع قدوم إدريس بن عبد الله. وحيث كان لا بد من التساؤل كيف ولماذا وبهذه البساطة نجح إدريس في جعل ابن إسحاق الأورابي زعيم أقوى القبائل المغربية التي استصعب أمرها الغازي الأموي فجر الفتوح المغربية، يتخلى له طوعا عن الإمارة وهو الذي لم يكن يريد سوى المأوى والأمن والحماية كما جاء في خطبته الشهيرة إلى أهالي فولوبليس الأورابية ، وكما تكرس في السردية الإخبارية، يجيبنا المؤرخ المغربي : إنه الاحترام الكبير الذي تدين به الثقافة المغربية للأشراف العلويين. وهنا لا بد أن نتساءل مرة أخرى: من أين جاءت تلك الثقافة إلى مغرب خضع قبل ذلك إلى الغزو الأموي وتشبع بثقافته السياسية الخصيمة والنافرة من البيت العلوي؟ كان لا بد أن نسلم بمسألتين : إما أن الأهالي كانوا على درجة من السذاجة حتى أن التنازل على السلطة في "أوربة" كان ثمرة لهذا الغباء السياسي، وإما أن الأجواء كانت مهيئة تماما وأن ورود إدريس بن عبد الله كان مبنيا على مخطط دقيق ومعرفة مسبقة بالمجال. المجال الذي تمت تهيئته سلفا ليحتضن دعوة العلويين قبل ذلك بكثير. إن الأمر أعقد مما تصوره الاسطوغرافيا المغربية والعربية . فالتاريخ هنا ليس أحجية مبسطة. ففي تقديري يعود الاهتمام بالمغرب من قبل القادة العلويين من المشرق إلى ما قبل ورود إدريس الحسني وأبناء إسماعيل الفاطميين الحسينيين. لقد رأينا الفاطميين يتتبعون الأثر نفسه الذي سلكه إدريس بن عبد الله هاربا متخفيا إلى وليلي قبل أن يستعيد شوكته ويبدأ التفكير في مشروع غزو معقل الخلافة العباسية في المشرق العربي. ومع ذلك ما كان من الإنصاف أن يقال إن المغرب لم يكن سوى استراحة مقاتل بالنسبة للحركات القادمة من الشرق، بل لقد كانت هناك رغبة محلية للتعبير عن طموح الأهالي في تحديد اختياراتهم التي عبروا عنها بواسطة الثورات والاحتجاجات التي ظهرت في مناسبات عديدة. وأحسب أن ثمة رأي وجيه للعروي أيضا فيما يخص طبيعة وماهية هذه الاحتجاجات المحلية. فالنظر إلى ما كان يجري حينما يتم من الخارج سيوقعنا في تلك النظرة التبسيطية التي عبر عنها أمثال "كامبس" الذي يعزوا ما جرى الى فعل الدخلاء. غير أن النظرة من خلال الأهالي تثبت أنها كانت تعبيرا غير مباشر من الأهالي عن طموحاتهم. فحينما يمنعون من التعبير الايجابي يلجئون إلى التعبير العكسي. يضيف العروي متسائلا:" ما هي صيغ هذا التعبير العكسي؟ اجتماعيا: تقهقر مقصود أو محبب للنفوس؛ سياسيا : إعادة بناء الإمارات المنهارة ؛ دينيا : اتباع الفرق المنشقة؛ جغرافيا : تعمير معاقل الصحراء" (1). "" كانت للأهالي إذن ، أجندتهم كما كانت للوافدين تصوراتهم التي استقطبتها غواية استعادة الشوكة للإجهاز على الشرق. وهذا ما يجعلنا نرفض المقاربة التبسيطية لتاريخ الوقائع التي شهدها المغرب الوسيط ؛ التبسيط الذي يجعلنا ننظر إلى رموز وقيادات الأهالي كما لو كانوا يعيشون حالة من الفراغ السياسي ولا يتمتعون إلا بقدر من الذكاء يسمح لهم بأن يكونوا مجرد منفذين أوفياء لمخططات قادتهم الوافدين: أتحدث هنا عن أمثال المولى راشد الذي رافق ادريس من الشرق حتى وليلي، كما أتحدث عن طارق بن زياد الذي رافق موسى بن نصير قبل ذلك في فتوحه المغربية وغيرهما . كان المغرب بالنسبة لهؤلاء الوافدين هو الهامش الأكثر نقاء وعذرية زاء تعقيدات المركز. ولهذا سرعان ما يأسرهم المجال و وبالإضافة إلى العجز عن التقدم شرقا يغريهم بتعديل مخططاتهم الموجهة للشرق إلى الاهتمام ببناء دولتهم المستقلة بالمغرب. إنه أي المغرب في نظر هؤلاء بتعبير آخر أرض بور لم تحرث بعد. بهذا المعنى كان الإمام السادس للشيعة الإثني عشرية(83ه 148ه) أول من أطلق هذا الوصف على المغرب وأول من شجع بعض قادة حركته على الهجرة إلى المغرب. كان الإمام جعفر بن محمد الصادق متزوجا من امرأة أمازيغية إسمها حميدة ، وتعرف بحميدة المغربية تارة وبالأندلسية والبربرية تارة أخرى. أبوها هو صاعد البربري. وقد عرفت بالصلاح حتى أن الإمام الصادق كان يمدحها ويصرح برضاه عنها، كما روى المحدثون الشيعة ومنهم الشيخ الكليني قول الصادق عن حميدة المغربية:" إن حميدة مصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب، وما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلى كرامة الله تعالى لي وللحجة من بعدي". وروي عن الإمام الباقر قوله عنها :" حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة"(2). ولا أدل على مكانتها المميزة عند الإمام أنها كانت أمّا للإمام من بعده: الإمام موسى بن جعفر الكاظم، الإمام السابع لدى الإمامية الإثني عشرية. وللإمام الصادق في وصف المرأة الأمازيغية وحسن تبعلها ما هو جدير بالاهتمام. قلت إن نهج الأئمة من أهل البيت كسر العنصرية العربية والمصاهرة مع الموالي، لعله ما جعل دعوتهم ناجحة في بلاد العجم كفارس والبربر والديلم وماشابه. وسوف ندرك سر المعارك والانقلابات التي خاضتها قبائل البربر في المغرب ضد الأمويين وكيف أن الولاء لأهل البيت كان ثقافة راسخة قبل ورود إدريس نفسه. لقد دأب الحجيج المغاربة على الاتصال والتواصل مع العلويين بالمشرق ثم البدار بإنباء قومهم بذلك إذا رجعوا. فلن يفاجأ "الأورابي" زعيم أوربة بأهمية الدعوة التي نهض بها ادريس بن عبد الله وحوادث معركة فخ ، حيث كان الأمازيغ المغاربة ليس فقط يدركون قيمة وشأنية الدعوة العلوية بالمشرق بل كانوا على معرفة بالحوادث والمعارك التي حدثت ، وبعض المغاربة أخبر الأورابي بما كان من بلاء حسن أبلاه إدريس في معركة فخ. يكفي ما جاء ما ورد في أخبار المؤرخين عن دعوة إدريس: " ولما دعا في المغرب عرفه رجال من أهل المغرب حجوا سنة قتل الفخي عليه السلام ، فقالوا: نعم ، هذا إدريس ، رأيناه يقاتل وقد انصبغ قميصه دما ، فقلنا من هذا ؟ فقالوا إدريس بن عبد الله" (3). وقد كان حميد الأورابي على معرفة بمجريات المشرق ومتعاطفا مع العلويين قبل ورود إدريس نفسه لما كان يقول:"والله لو أتاني واحد من أولاد فاطمة لفطمته وكرمته ولنزلت له عن كرسي مملكتي ولكنت له خادما (4) . عاصر جعفر الصادق الإمام مالك بن أنس وكذا عبد الله المعروف بالكامل أبو ادريس بن عبد الله. وقد كان من أئمة المذاهب الأربعة كمالك بن أنس وأبي حنيفة من تتلمذ عليه وأخذ عنه العلم. وآخرون من مذاهب أخرى انقرضت كسفيان الثوري ويحيى بن سعيد وابن عيينة وغيرهم . وفيه قال أبو حنيفة : لولا السنتان لهلك النعمان. وقوله ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد. وفيه قال الإمام مالك بن أنس :"ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا". يذكر المزي في تهذيب الكمال : قال عبد الرحمن بن أبى حاتم : سمعت أبا زرعة و سئل عن جعفر بن محمد عن ابيه ، و سهيل عن أبيه ، و العلاء عن أبيه : أيها أصح ؟ قال : لا يقرن جعفر إلى هؤلاء ، و قال : سمعت أبى يقول : جعفر بن محمد ثقة ، لا يسأل عن مثله . و قال أبو أحمد بن عدى : و لجعفر حديث كثير ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبى (ص) ، و عن أبيه عن آبائه ، و نسخ لأهل البيت ، و قد حدث عنه من الأئمة مثل ابن جريج و شعبة و غيرهما ، و هو من ثقات الناس كما قال يحيى ابن معين . و قال أبو العباس بن عقدة : حدثنا جعفر بن محمد بن هشام قال : حدثنا محمد بن حفص بن راشد ، قال : حدثنا أبى ، عن عمرو بن أبى المقدام ، قال : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين . و قال أيضا : حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن قتيبة ، قال : حدثنا محمد بن حماد ابن زيد الحارثى ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، قال : رأيت جعفر بن محمد واقفا عند الجمرة العظمى ، و هو يقول : سلونى ، سلونى. و قال أيضا : حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدى ، عن يحيى بن سالم ، عن صالح بن أبى الأسود ، قال : سمعت جعفر بن محمد ، يقول : سلونى قبل أن تفقدونى ، فإنه لا يحدثكم أحد بعدى بمثل حديثى . و قال أيضا : حدثنا جعفر بن محمد بن حسين بن حازم ، قال : حدثنى إبراهيم بن محمد الرمانى ، أبو نجيح قال : سمعت حسن بن زياد يقول : سمعت أبا حنيفة و سئل : من أفقه من رأيت ؟ فقال : ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد ، لما أقدمه المنصور الحيرة ، بعث إلى فقال : يا أبا حنيفة ، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيىء له من مسائلك الصعاب ، قال : فهيأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إلى أبو جعفر فأتيته بالحيرة ، فدخلت عليه و جعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت بهما دخلنى لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبى جعفر ، فسلمت ، و أذن لى ، فجلست ، ثم التفت إلى جعفر ، فقال : يا أبا عبد الله تعرف هذا ؟ قال : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثم أتبعها : قد أتانا ، ثم قال : يا أبا حنيفة ، هات من مسائلك ، نسأل أبا عبد الله ، و ابتدأت أسأله ، و كان يقول فى المسألة : أنتم تقولون فيها كذا و كذا ، و أهل المدينة يقولون كذا و كذا ، و نحن نقول كذا و كذا ، فربما تابعنا و ربما تابع أهل المدينة ، و ربما خالفنا جميعا حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة ، ثم قال أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس ؟ قال الحافظ في تهذيب التهذيب : و ذكره ابن حبان فى " الثقات " ، و قال : كان من سادات أهل البيت فقها و علما و فضلا ، يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه ، و قد اعتبرت حديث الثقاة عنه ، فرأيت أحاديث مستقيمة ليس فيها شىء يخالف حديث الأثبات ، و من المحال أن يلصق به ما جناه غيره . و قال الساجى : كان صدوقا مأمونا ، إذا حدث عنه الثقاة فحديثه مستقيم . قال أبو موسى : كان عبد الرحمن بن مهدى لا يحدث عن سفيان عنه، و كان يحيى بن سعيد يحدث عنه . و قال النسائى فى " الجرح و التعديل " : ثقة .و قال مالك : اختلفت إليه زمانا ، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصل ، و إما صائم ، و إما يقرأ القرآن ، و ما رأيته يحدث إلا على طهارة . وهو الإمام الذي على إسمه سمي مذهب الشيعة الإمامية بالمذهب الجعفري، لما كان قد تهيّأ له من فرص ممارسة التعليم والتحديث، حتى أنه كان ملهم كيمياء جابر بن حيان ، وصاحب الصيت الكبير على يده تخرج كبار المحدثين . وقد كان له صلة قوية بثورة عمّه زيد بن علي ، واهتم بها أيما اهتمام مسندا إياها معنويا. وحيث كان أبو حنيفة النعمان ممن ناصروا حركة زيد ، اعترف له الامام الصادق بهذا الوفاء حينما قال:" إن أبا حنيفة قد تحققت مودته لنا في نصرته لزيد بن علي". ما لا يذكره المؤرخون وما لم يقفوا عنده مليا ، ذلك الدور الكبير الذي أولاه الإمام الصادق للمغرب، اذ الوثائق هنا تكاد تكون معدومة. غير أن صيرورة الأحداث تجري باضطراد منطقي كلما استحضرنا طبيعة الدعوة العلوية وأجواء الكتمان التي أحاطت بها. وقد ظل الصادق يوصي أصحابه بها طلبا لتحقق ونجاح دعوته. حيث سندرك بعد ذلك أن حركة ادريس بن عبد الله هي ثمرة لهذا المخطط الصادقي الذي هيأ الأجواء وأوجد الشروط توقعا لمجريات الأحداث بعد ذلك كما سنرى. ففي سنة 145 أرسل الإمام الصادق قبل هجرة ادريس وعبيد الله بكل من الحلواني وأبي سفياني إلى بلاد المغرب قائلا لهما فيما يرويه جماعة من أهل الأخبار منهم المقريزي :" إنكما تدخلان أرضا بورا لم تحرث قط فاحرثاها واكرباها وذللاها حتى يأتي صاحب البذر ويضع حبه فيها". ولا يكاد يخفى ما تلخصه هذه العبارة ، ليس من حيث تأكيدها على أن الإمام الصادق كان على دراية بما يروج من تفاصيل في الجغرافيا الإسلامية الممتدة عارفا بأحوال رعاياها وطبائع أهلها. فلقد أوجز وأبلغ لرسوليه بأن هذا البلد لم تتجذر فيه دعوة الإسلام برسم السياسة الأموية الظالمة وأن دعوة أهل البيت وجب أن تكون ممهدا لإكساب أهلها ما يصلح بديلا لهم عن دعوة بني أمية. وبالفعل كان هذا ما حصل يوم انتقل إليها إدريس بن عبد الله وبعده عبيد الله الفاطمي، فلقد وجدا أهالي المغرب على وعي بمكانة أهل البيت ومطلعين على الظلم الذي لحق بهم في المشرق ، فلقيت دعوتهم هناك قبولا حسنا . ولا مجال للخوض فيمن يكون صاحب البذر كما هو مجمل في خطاب الإمام الصادق لموفديه الحلواني وأبي سفياني. فهناك من يرى أن المقصود هنا هو إدريس بن عبد الله وهناك من يعتقد أنه عبيد الله الفاطمي. وكلاهما يرجح رأيه بناء على قرائن معينة. والحال عندي أنهما معا مصداق لصاحب البذر. فلقد خلّف الاثنين معا معالم نهضة دينية وحضارية في المغارب لا يضير معها سقوط دولتيهما بعد ذلك. حيث كان لهما الفضل الكبير في تكريس ثقافة المحبة لأهل البيت ودعوتهم كما لا يخفى. ولا أستبعد أن يكون صاحب البذر غيرهما مما كان له فضل الدعوة إلى أهل البيت في هذا الربوع على امتداد الأزمان. غير أنه إن كان المغزى من قول الصادق يدور مدار الملك ، فإنه بقدر ما أشار إلى أن صاحب البذر هو من يملك ، يكون قد أشار إلى أن لأبناء الحسن في المغرب شأن في الملك ، وهو ما شجّع إدريس وإخوته على المضيّ إلى المغرب. بتعبير آخر ليس الأمر محض صدفة أن يتوجهوا إلى المغرب ، ولا كان ذلك رأيا من راشد ، بل رأيي أنهم اتبعوا نبوءة الإمام الصادق في أن ملكهم في المغرب وليس في سواه. وهذا تؤكده نبوءة الإمام الصادق في شأن محمد الملقب بالنفس الزكية أخو إدريس بن عبد الله . فقد جاء في مقاتل الطالبيين، أن محمد النفس الزكية كان قد "بايعه رجال من بني هاشم جميعاً، من آل أبي طالب، وآل العباس، وساير بني هاشم؛ ثم ظهر من جعفر بن محمد قول في أنه لا يملك، وأن الملك يكون في بني العباس، فانتبهوا من ذلك لأمر لم يكونوا يطمعون فيه" (5) وبالفعل لقد تحقق نبوءة جعفر بن محمد الصادق(ع)، وكان يا ماكان. وبدا واضحا أن الامام الصادق كان ممن عاصر عبد الله الكامل أبو إدريس الأكبر. ومن الطبيعي أن يكون عاصر الإمام الصادق وجاوره في المدينة وارتبط بالأجواء العلوية التي كان الصادق رمزا موقرا لدعوتها، ثم كونه عالما جليلا لهذا نعت بالكامل. أوليس من الطبيعي أن يكون قد اختلف إلى درس الإمام الصادق. فهذا زيد بن علي نفسه وهو عم الإمام الصادق يقول في حقه فيما يرويه صاحب المناقب بن شهر أشوب: " في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه ، وحجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه".(6). وإذا كان الأمر كذلك، فإن علاقة العائلة الادريسبة بالإمام الصادق تضفي على ما نحن بصدده سرا آخر لم يقف على حقيقته تاريخنا المفترى عليه. وهكذا نجد أن الدول الشيعية التي نشأت في المغرب حتى بعد إدريس الأكبر تحمل هذا العنوان المنسوب إلى جعفر بن محمد الصادق. والحق أن دولة الأدارسة هي أجدر بأن تنسب للدولة الجعفرية العلوية لأنها تعتبر لحظة تأسيسية لكل الدعوات العلوية التي جاءت بعد ذلك. يصف ابن خلدون دولة الفاطميين العبيدية بهذا الوصف، لما قال:" فظهرت دولة لبني جعفر الصادق بالمغرب، وهم العبيديون بنو عبيد الله المهدي بن محمد ، قام بها كتامة وقبائل البربر واستولوا على المغرب ومصر ودولة بني العلوي بطبرستان قام بها الديلم واخوانهم الجيل"(7). وسوف أذكر فيما بعد أن يحيى أخا إدريس كان ممن يروي عن الإمام الصادق ويجلّه ويصفه بالحبيب. ويعود الفضل لقول المالكية بالسدل في الصلاة إلى عبد الله الكامل أبو إدريس ويحيى. فقد أورد الأصفهاني عن أحمد " بن محمد بن سعيد " ، قال: حدثنا يحيى " بن الحسن " ؛ قال: حدثنا علي بن أحمد الباهلي، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله، قال: سئل مالك عن السدل، فقال: رأيت من يرضى بفعله، عبد الله بن الحسن يفعله"(8). ومعلوم أن الإمام جعفر الصادق يقول بالسدل لا القبض في الصلاة . وكان يسمي القبض بالتكفير. فيقول: ذلك التكفير فلا تفعل. لم تكن هجرتا عبد الله بن علي بن أحمد المعروف بالحلواني ورفيقه الحسن بن القاسم المعروف بالسفياني وحدها التي جاءت بالدعوة العلوية الى المغرب ، بل حسب مؤرخين أمثال بن زرعة ، يتحدثون عن إيفاد محمد النفس الزكية أخاه سليمان إلى المغرب للغرض نفسه ، حيث هناك دعا الى الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بعد وفاة محمد النفس الزكية. وقد عاد سليمان للمشرق للمشاركة في ثورة الحسين. وحسب المؤرخين أنفسهم خلفه إدريس في تلمسان يدعو الدعوة نفسها. وسوف يعود سليمان مرة أخرى للدعوة إلى يحيى بن عبد الله بعد معركة فخ، وقد لحق به إدريس مرة ثانية إلى تلمسان ليدعو إلى أخيه يحيى الذي نجح في إقامة دولة علوية بطبرستان، قبل أن يدعو لنفسه بعد وصول خبر قضاء يحيى. داوود بن القاسم بن اسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى أفريقيا (9). بهذا نفهم أن لإدريس هجرة أولى إلى المغرب وأن هجرته الثانية هي الحاسمة في تأسيس الدولة العلوية بالمغرب(10) اتجه إدريس بن عبد الله إلى المغرب مكملا مشواره برفقة راشد الذي لعب دورا تنسيقيا كبيرا، بحثا عما يسند حركة إدريس من عصبة ما كان أفضل من عصبة الاورابي التي هي من اكبر القبائل التي لها تاريخ كبير منذ الفتح الإسلامي. وابتعاده عن طنجة التي كانت بمحاذاة مع الأندلس . فتحصنه بأوربة التي ينتسب لها راشد مولاه البربري شديد الولاء للبيت العلوي ، وتحصنه بالجغرافيا الوعرة بين جبال زرهون إمعانا في البعاد عن نفوذ وعيون هارون الرشيد العباسي. وهو أمر كان مدبرا بعناية. المولى راشد الذي ساهم في تهريب إدريس بن عبد الله كان شخصية أمازيغية شديدة الولاء للعلويين ودعوتهم كما يبدو من خطبه وكلماته. وكما يبدو من حرصه على أن لا يخلف أحد إدريس إلا ابنه إدريس الأصغر الذي تولى رعايته وتعليمه علوم الشرع وتدريبه على فنون القتال. حركة إدريس الشيعية لا ننوي الإغراق في تفاصيل الوقائع التي عرفتها مرحلة ما قبل تأسيس دولة الأدارسة وما بعد التأسيس، حيث الغرض هو بيان خلفيتها العلوية الشيعية. لقد اعترض البعض عبثا على شيعية إدريس بن عبد الله مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب. وذهبوا في ذلك مذاهب شتى وتخبطو وتاهوا يمينا وشمالا عبثا. فلقد ورطهم هذا الجزء المفصلي من التاريخي الشيعي المغربي فراموا إلى تحريف حقائق التاريخ لصالح تأويلات فاسدة وضارة بعلم التاريخ المغربي. والميتافورة التي تتيحها الاسطوغرافيا المغربية عن هذا الجزء المفصلي من تاريخ المغرب ، تكتفي بالعمومات التي يتيحها صنعة التناسب والتنميط التاريخي الذي يجعل هذه التجربة الأساسية في تاريخنا كما لو كانت تجربة عابرة. هذا على الرغم من أنها كانت حدثا كبيرا فيما لو تحقق النجاح لحركة إدريس بن عبد الله للاستيلاء على مصر. هل كان أحدنا أو أولئك الذين أرخوا لحركة إدريس بن عبد الله على استحياء، يتوقع ماذا كان سيحدث لو أمكنه حقا بلوغ مصر. إن المقام لا يتسع للإطناب في هذا التاريخ، غير أن ثمة فكرة لا بد من أخذها بعين الاعتبار، هو أن الدولة الأدريسية ما كان لها أن تصبح مغربية خالصة إلا في زمن إدريس الأزهر وبعد أن تمكن هارون الرشيد من سمّ إدريس الأكبر. على هذا الأساس يمكننا تفهم من اعتبر المؤسس الحقيقي للدولة هو إدريس الأزهر دفين فاس وليس إدريس الأكبر دفين زرهون. المتوقع كان كبيرا: إن إدريس جعل المغرب أول مرة محطة للإجهاز على الخلافة في الشرق. وهذا طبيعي فإدريس قائد علوي مشرقي عايش كل تعقيدات الثورة ضد العباسيين ، وليس مثل ابنه المتولد بالمغرب من كنزة الأمازيغية ، فارتبط مصيره بالمغرب قلبا وقالبا دون أن يلفته الاهتمام بالمشرق. وحسب أندري جوليان:" وقد بيت النية كما فعل الفاطميون فيما بعد لجعل المغرب نقطة انطلاق لاسترجاع إرث آبائه" (11) من هنا كان السؤال: ماذا إذن لو نجح إدريس في مشواره ذاك. ألم يكن في أقل التقادير أن العالم الإسلامي كله كان سيصبح تحت إمامة إدريس وربما تحولت الخلافة من بغداد إلى زرهون؟ نقد تعمّل من نفى شيعية إدريس بن عبد الله لطالما سعى البعض إلى إنكار شيعية المولى إدريس بن عبد الله دون أن يكلف نفسه سوى ترديد أحكام اجترها من يزعجه شيعية هذا القائد العلوي الذي حتى لو جارينا افتراضهم بأنه ليس كذلك ، فالأقرب من ادعاء سنيته هو ادعاء زيديته أو اعتزاليته . لكن لا هذا صحيح ولا ذاك. إذ مستند المنكر لشيعية ادريس بن عبد الله ، هو خطاب مذهبي مهلهل ، يحتج في أرقى محاولاته العبثية بالقول : إن ادريس لم يؤمن بالعصمة ولا بالرجعة ولا بالتقية. وهذا استدلال ضعيف إن لم أقل مغالط لأسباب منهجية وأخرى تاريخية. لأننا نختزل التشيع في هذا التسلسل النماطي من العقائد كما تتموقع في خطاب الخصم التقليدي للشيعة وليس كما تحضر بصورتها العلمية عند الشيعة أنفسهم. فهذا الخطاب لا يكفيه أن يستدل على شيعية إدريس بن عبد الله من خلال اعتقاده بأحقية أهل البيت في الإمامة وعليها قامت ثورة العلويين ضد الأمويين. ففي كل خطابات العلويين يوجد ما يوحي أنهم دعوا إلى إمامتهم بوصفها حقا شرعيا . وهذا نصيبهم من التشيع بالجملة. وأما التقية كما أقحمها البعض معيارا في هذا المجال ، فإن لادريس بن عبد الله نصيبا كبيرا من التقية منذ جاء مستترا من المشرق إذ جعل من راشد سيدا وتمثل هو دور المولى ، واستمر في الاستتار حتى بلغ وليلي. ثم إن إدريس بن عبد الله أخفى كل برنامجه العلوي كما دان به وأصحابه قبل واقعة فخ ، ولم يتحدث في خطبته في وليلي إلا بخطاب إسلامي مجمل. ثم عجبا لأولئك الذين يجعلون من بعض المفاهيم الاعتقادية معيارا على عدم شيعية ادريس بن عبد الله. وقد غاب عنهم أن مثل هذه المفاهيم ذات الدلالات المذهبية لم تكن على وضعها في زمن ادريس. فلو اختبرنا هل كان ادريس يؤمن بالكلام النفسي الاشعري وكذا استقلال الصفات عن الذات وجواز إمامة المفضول وجواز عدم العصمة على الأنبياء وغيرها من المفاهيم العقائدية التي انتظمت في الاسلام السني فيما بعد ، لما وجدنا ثمة جوابا. إن هذه المفاهيم في زمن إدريس لم تكن نسقية ولا اختصت بمذهب دون آخر. فهذا من موحيات عصر انتظام المذاهب وتناسقها واكتمال قواعدها ومعاييرها . ففي زمن إدريس وما قبله كان الانسان يمارس التقية كمبدء فقهي تحت عناوين وأحكام مختلفة دون أن ينظر إليها كاختصاص شيعي أو سني. وكان من المعتاد أن تتقاطع العقائد بين من ينتسب إلى هذا أو ذاك من التيارات دون تميّز. ومثله حدث في الفقه . وهكذا كانت هذه العقائد موجودة بعناوين مختلفة ومن دون تناسق مذهبي عند جميع المسلمين قبل أن تنتظم المذاهب وتتراكم ويصبح كل منها يسيج نفسه بسياج ويمعن في تضخيم الاختلاف لمزيد من التّميز. لذا كان أسهل على الشيعة أن يستدلوا على أصولهم وفروعهم من التراث المفتوح المعتبر سنيّا خلال القرون الثلاثة قبل انتظام المذاهب واختصاصها. ولذا كان من الغلط أن نضع معيارا مذهبيا لدفع شيعية إدريس قبل أن تصبح تلك المعتقدات مفاهيم مخصوصة ومصطلحة. في زمن ادريس لا أحد ينظر إلى مفهوم التقية والرجعة والعصمة بمعناها الكلامي والمذهبي والاصطلاحي ، فأنت تجد فيما بعد إدريس لا يكاد الكتاب الواحد في الأصول أو الكلام يتعدّى الرسالة الصغيرة . لكنهم عرفوها بعناوين متداولة غير منظومة ولا مصطلحة وانطلاقا من أدلة روائية هم من رواها وهم من عمل بها. الذي يتحدث عن اعتقادات مصطلحة في أزمنة متأخرة في زمن إدريس ، يمارس تغليطا تاريخيا ويقع في خطأ منهجي واضح البطلان. بين يدي كتاب جماعي حول المولى إدريس شارك فيه عدد من الباحثين والمؤرخين. ولا نكتفي بهذا الوصف، فهم خيرة المؤرخين المغاربة بدءا بمؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصور ومرورا بالتازي وعلال الفاسي والفقيه المنوني ... إنني في الحقيقة أجدني أمام تكملة لتلك الميتافورة التي أبدعها المخيال الاسطوغرافي المغربي، حيث لم يكن من داعي لهذا النوع من الإصرار على الغلط. ثمة قضايا مهمة في هذا الكتاب تصلح مادة أولى لإعادة تشكيل هذا التاريخ خارج منطق الايدولوجيا المتحكمة في الكتابة التاريخية والجاثمة على صدر الخطاب التاريخي المغربي. وأعني بذلك محاولة بعضهم على الأقل أن ينسب إدريس إلى مذاهب أخرى غير المذهب الشيعي الذي بسببه رمت به الأقدار إلى مغربنا العزيز.ويمكن أن نضيف إلى ذلك الكتاب الجماعي محاولة للمؤرخ المصري محمود إسماعيل، الذي سعى من خلال كتابه الذي هو في الأصل محاضرات ألقاها بالمغرب حول الأدارسة، إلى أن ينسب دعوتهم إلى الزيدية والاعتزال. وعلى الرغم من أنني أثمن الكثير من آرائه التاريخية المهمة والجريئة إلا أنني وجدت في ذلك تكلفا لا يستقيم مع واقع ومجريات الأحداث. فالتركيبة المعتزلية الزيدية تستند إلى أقوال البكري والبلخي وابن الفقيه، حول وجود حركة معتزلية بالمغرب وحول انتساب حميد بن إسحاق الاورابي إلى الاعتزال. وهي دعوى بعيدة المنال عسيرة الهضم ، وأبعد منها وأعسر محاولة الأستاذ محمود تعليل سبب وجود أكثر أنصار إدريس الأصغر بطنجة لوجود هذه الحركة التي ذكرها ابن الفقيه من أن الغالب على طنجة الاعتزال. وهذا مردود. لأن الحديث عن طنجة لا صلة له بقبيلة الاورابي بزرهون. وقد حل إدريس الأول أول ما حل بطنجة ولكنه سرعان ما تحول عنها إلى وليلي وبها أقام. وأما محاولة تأويل خطبة إدريس لأهالي اوربة من أنها اشتملت على العدل والتوحيد، فهذا منتهى التعمل، لأن مثل ذلك الخطاب نابع من فكر الثوار العلويين، وليس غريبا أن يصدر عن قائد علوي مثل إدريس حديثا عن التوحيد والعدل بمعناهما العام الذي لا يشتم منه خصوص أصول وقواعد الاعتزال، هذا ناهيك عن أن فكر الاعتزال لم يكن له قاعدة اجتماعية ونفوذ قبلي في المشرق بله أن يكون له ذلك بقبيلة مغربية نائية. وقد رأينا كيف أن الاعتزال كان تيارا نخبويا لا علاقة لها بالعصبية السياسية. هذا ناهيك عن أن أصول الاعتقاد الشيعية تشارك الاعتزال في كثير من أصوله ، هذا إن لم أقل أن أصول الاعتزال تستمد الكثير من أصولها وتعاليمها من الفكر والعقيدة الشيعية على عكس ما تراءى للبعض(12). ومثله ما ذهب إليه علال الفاسي من نسبة إدريس إلى السنة بالمعنى المذهبي للعبارة. وهو تكلف أيضا. فتأمل خطبة إدريس ليس دليلا على أنه كان كذلك، حيث كل ما ورد فيها لا يوحي برجحان تسننه على تشيعه. فالحديث عن التوحيد والعدل والصلاح وغيرها من الأمور هي دعوة شيعية أيضا. بل إن إدريس ذكرهم عبر الخطبة المذكورة بنسبه وعدد لهم أسماء ذويه محمد وعلي وحمزة وجعفر وخديجة وفاطمة بنت محمد وفاطمة بنت الحسين والحسن والحسين وغيرهما. فالذين استبدت بهم الصورة النمطية عن الشيعة من أن لهم خطابا شاذا عن أصول الاعتقاد الدينية السليمة هم من وقعوا ضحية ذلك النوع من الترجيح بلا مرجح. يقول علال الفاسي بعد سرده محتوى الخطبة:" ومن هنا نستدل على أن إدريس ووالده وإخوته كانوا أبعد الناس عن مذهب التشيع ، فيحيى الذي دعا له ادريس أولا كان سنيا سليم العقيدة، يقول عنه أبو الفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيين ( وكان حسن المذهب والهدى مقدما في أهل بيته بعيدا مما يعاب عليه مثله) وحدث إسماعيل ابن موسى الفزازي قال: رأيت يحيى بن عبد الله بن الحسن جاء إلى مالك بن أنس بالمدينة فقام عن مجلسه وأجلسه إلى جنبه ولا يفعل مالك هذا مع شيعي ولا مع معتزلي"(13). وإذا كنا ندعم رد علال الفاسي لدعوى البعض بأن يكون المولى إدريس معتزليا، فإن دعواه بأنه كان سنيا لمجرد حديثه عن التوحيد وما شابه في خطبته الشهيرة، فليس إلا من تأثير الصورة النمطية التي يحملها عن التشيع. وهي الصورة التقليدية السائدة عند أغيارهم. وذلك لأن أدلته ليست متينة من حيث أن شهادة أبي الفرج الأصفهاني بحسن مذهبه، لا تفيد خصوص السنة. فأولا، لم يكن مذهب أهل السنة بالمعنى الصناعي للعبارة قائما في زمن إدريس الأكبر كما ذكرنا. حتى أنه كان من الصعوبة أن ننسب شخصا لمذهب التشيع أو التسنن يومئذ إلا من خلال مواقفه السياسية والولائية العامة وليس الفقهية. أي يمكن أن يكون بعض المحسوبين على السنة ممن شاركوا الشيعة في الكثير من عقائدهم وفروعهم أيضا. ناهيك عن أن حسن المذهب في مثل هذه الحالة هو عام فضفاض فيه من التسامح في مقام المدح والتعديل. والشيعة تقول الكلام نفسه عن أصحابها. وأبو الفرج الأصفهاني لا سيما في مقاتل الطالبيين هو إلى التشيع أنسب منه إلى التسنن.. فالتنوخي يؤكد على شيعيته حينما يقول: «ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني". والذهبي في ميزان الاعتدال يصفه بأنه الأموي، صاحب كتاب الأغاني،" شيعي، وهذا نادر في أموي، كان إليه المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس، والشعر، والغناء والمحاضرات.يأتي بأعاجيب بحدثنا وأخبرنا". prefix = u1 وقد كان صاحبا للوزير المهلبي وزير معز الدولة البويهي منقطعا إليه حسب الثعالبي في يتيمة الدهر حتى قبل استوزاره. ويؤكد على المسألة نفسها أغا بزرك الطهراني في «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» أنه قال متغزلاً: أنت - يا ذا الخال في الوجنة - مما بي خالي لا تبالي بي ولا تخطرني منك ببال لا ولا تفكر في حالي وقد تعرف حالي! أنا في الناس إمامي وفي حبك غالي! فهو يتشيع في الأبيات إلى الأمويين، ولعل هذا يرجع إلى أنه كان من سلالة الأمويين وورث التشيع عن أسرة أمه، وكانت من الرافضة أو الزيدية، كما أن الفترة التي قضاها أبو الفرج في الكوفة زادت في شعوره نحو الشيعة والتحمس لهم. وظهر أثر هذا التشيع واضحاً في كتاب "مقاتل الطالبيين". ولذا وصفه الحافظ بن الجوزي في المنتظم وهو من أقطاب السنة بأنه "كان يتشيّع ومثله لا يوثق بروايته، فإنّه يصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق, وتُهّون شرب الخمر وربّما حكى ذلك عن نفسه ومن تأمّل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر". أقول: هذا رأي أعلام السنة الكبار في أبي الفرج الأصفهاني تمتد من الذهبي والخطيب البغدادي وابن تيمية وابن الجوزي إلى آخر أعلامهم. وهم من خلال مقاتل الطالبيين وكتاب الأغاني فسقوه واعتبروه فاسد المذهب ومن أهل الأهواء، فكيف يجعله علال الفاسي شاهدا على حسن مذهب غيره، ومن يقول أن حسن المذهب عند الأصفهاني يعني به السنة؟ هذا مع أنني لا أثق في أحكام أولئك الأعلام في حق الأصفهاني الأديب، وما نقموا عليه إلاّ لأنه فضح تاريخا أريد له أن يكون طهرانيا فيما هو في واقع الأمر تاريخ مجون بامتياز كما صوره الأصفهاني من خلال كتاب الأغاني، وهو أيضا تاريخ مقاتل ومحن ودموع واستبداد كما صوره الأصفهاني من خلال كتاب " مقاتل الطالبيين ". ولمزيد من التوضيح أقول: إن وصف الأصفهاني ليحيى بحسن المذهب لا يقصد منه الوصف المذهبي الذي يعبر عن المتخيل النمطي للثقافة الطائفية. فمثلا نجد الأصفهاني في مفتتح مقاتل الطالبيين يقول:" ومقتصرون في ذكر أخبارهم على من كان محمود الطريقة، سديد المذهب، لا من كان بخلاف ذلك، أو عدل عن سبيل أهله ومذاهب أسلافه، أو كان خروجه على سبيل عيث وإفساد". ولو كان مقصوده بسداد المذهب ومحمودية الطريقة هي الكون على مذهب السنة والجماعة، إذن لبان ذلك في أسانيده حيث اعتمد على رواة شيعة. فمثلا وجدنا أن الأصفهاني الذي اعتبر نفسه لا يروي في مقاتله إلا عن من كان سديد ومحمود المذهب وحسنه كما وصف يحيى بالوصف نفسه، يروي عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الحافظ أبو العباس، محدث الكوفة. وهو الرجل الذي ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال على أنه "شيعي متوسط". وقال عنه أنه ضعفه غير واحد، وقواه آخرون. قال ابن عدى: صاحب معرفة وحفظ وتقدم في الصنعة. رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه، ثم قوى ابن عدى أمره، وقال: لولا أني شرطت أن أذكر كل من تكلم فيه - يعنى ولا أحابى - لم أذكره للفضل الذى كان فيه من الفضل والمعرفة، ثم لم يسبق ابن عدى له شيئا منكرا. وروى حمزة بن محمد بن طاهر عن الدارقطني، قال: كان رجل سوء، يشير إلى الرفض. قال أبو عمر بن حيويه: كان ابن عقدة يملى مثالب الصحابة - أو قال: مثالب / الشيخين - فتركت حديثه. وقال ابن عدى: رأيت فيه مجازفات، حتى كان يقول: حدثتني فلانة، قالت: هذا كتاب فلان قرأت فيه: قال: حدثنا فلان - قال: وكان مقدما في الشيعة(14). ولم يلتفت علال الفاسي إلى أن الأصفهاني في ذيل الوصف إياه بحسن المذهب، ذكر أن يحيى روى عن جعفر الصادق وهو إمام الشيعة الجعفرية. كما روى عن أبان بن تغلب من أصحاب الإمام الصادق وقد وصفه الذهبي في ميزان الاعتدال بأنه شيعي جلد. يقول الأصفهاني عن يحيى:" وقد روى الحديث وأكثر الرواية عن جعفر بن محمد. وروى عن أبيه، وعن أخيه محمد، وعن أبان بن تغلب". وقد ربّاه الإمام الصادق، فكيف يقال ما يقال. علما أنّ من ربّاه الإمام الصادق لا يمكن أن تكون حركته في غفلة عنه. وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الإمام جعفر الصادق كان الزعيم الروحي لحركة العلويين ولحركة يحيى وإدريس. يقول الأصفهاني عن هذه الصلة بين يحيى وجعفر الصادق:" حدثنا علي بن العباس، قال: حدثنا الحسن بن علي بن هاشم، قال: حدثني علي بن حسان عن عمه عبد الرحمن بن كثير، قال: كان جعفر بن محمد قد ربى يحيى بن عبد الله بن الحسن، فكان يحيى يسميه حبيبي، وكان إذا حدث عنه قال: حدثني حبيبي جعفر بن محمد"(15). هذا بالنسبة لشهادة أبي الفرج التي استدل بها الأستاذ علال الفاسي على سنية إدريس بن عبد الله. أما ما يتعلق بقيام مالك بن أنس لأخيه يحيى وبيعته له، فهذا أيضا لا يكفي دليلا ما دام أن له نظائر من مواقف مالك بن أنس رحمه الله. فلقد كانت له مواقف شبيهة مع الإمام جعفر بن محمد الصادق الإمام الشيعي. وقد كان دأب مالك مخالفا لهذا الادعاء، فمن جهة كان صاحب توازنات. وهو الذي بعث برسالة النصيحة إلى هارون الرشيد ويحيى البرمكي اللذان سمّا إدريس بن عبد الله وحاربا يحيى أخاه أيضا، بعد ذلك. وتحدث فيها مالك عن كل صغيرة وكبيرة فيما يعد من السياسة الشرعية والأخلاق الشخصية وتفاصيل الفروع ولم يحدثه عن المقاتل ولا نهاه عما كان يقترفه هذا الأخير في حق العلويين. حيث موقف إدريس من هارون هو نفسه موقف يحيى أخيه من هارون. ولا عليك من هذا الدليل، فمنحى مالك التوازني الغارق في التقية أيضا لا يخفى، فضلا عن أنه كان رغم هواه الأموي ميّالا محبا لأهل البيت. بل لعله أوضح سبب هذا الميل حتى وإن كان من هؤلاء من خالفه الرأي والمعتقد. وهذا حاله مع الإمام جعفر الصادق إذ على الرغم من المودة التي كانت بينهما وتتلمذه عليه ومدحه إياه وتفضيل علمه عليه، سلك مسلكا فقهيا وكلاميا وغن اشترك معه في بعض الفروع الا انه خالفه في أمور ليس ها هنا محل تفصيلها. لكنه ورد عليه تبجيل وتوقير أهل البيت مهما كانت آراؤهم، ولو على طريق الاعتزال فرضا. وثمة حكاية طريفة يوردها الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار نقلا عن الشيخ عبد الرحمن الأجهوري المالكي عن المغربي الذي عزم عليه التوجه إلى الحج بمائة دينار، طالبا منه أن يسأل فور وصوله إلى المدينة عن أحد من الأشراف يدفعها له قربة وطمعا في الوصل مع جدّه.فلما وصل المبعوث إلى المدينة سأل عن الأشراف، فقيل له: إن نسبهم صحيح غير أنهم شيعة. فكره المبعوث أن يدفع لهم ذلك المبلغ. ولما جلس إليه أحدهم وعلم منه أنه شيعي قال له: لو كنت من أهل السنة لدفعت إليك مبلغا عندي. فشكا الشيعي فاقته وشدّة حاجته وأصرّ على الرجل أن يعطيه بعضا منها لكن عبثا. يقول الراوي: لمّا نمت تلك الليلة رأيت أن القيامة قد قامت، والناس يجوزون على الصراط، فأردت أن أجوز، فأمرت فاطمة بمنعي، فمنعت، فصرت أستغيث فلم أجد مغيثا حتى أقبل رسول الله (ص) فاستغثت به وقلت: يا رسول الله، فاطمة منعتني الجواز على الصراط، فالتفت إليها وقال: لم منعت هذا، فقالت: لأنه منع ولدي رزقه، قال: فالتفت (ص)وقال: قد قالت إنك منعت ولدها رزقه، فقلت: والله يا رسول الله ما منعته إلاّ لأنه يسبّ الشيخين، قال: فالتفتت فاطمة وقالت لهما: أتؤاخذان ولدي بذلك؟ فقالا: لا، بل سامحناه بذلك. قال: فالتفتت إلي وقالت: فما دخلك بين ولدي وبين الشيخين؟ فانتبهت فزعا، فأخذت المبلغ ودفعته إلى الشريف. (16). قلت هذا هو منحى مالك بن أنس رحمه الله في توقير واحترام أهل البيت مهما كان أمرهم. يؤكد ذلك ما ورد عن مالك في حق جعفر بن سليمان الذي ضربه حتى غشي عليه، فقال مالك: أشهدكم أنّي قد جعلت ضاربي في حلّ، فقيل لم؟ قال: خفت أن أموت فألقى رسول الله (ص) فأستحي أن يدخل أحد من آله النار بسببي. وكذلك قال للمنصور لمّا عزم هذا الأخير على الانتقام لمالك من جعفر(17). وكان إدريس الثاني قد عيّن عامر بن محمد بن سعيد القيسي قاضيا. وقد اختاره من بين جملة الوفود التي جاءته من أفريقيا والأندلس. وما يميز عامر بن محمد هو ما كان يتمتع به هذا الأخير من صلاح وورع وعلم، فقد كان ممن سمع من مالك وسفيان الثوري، وكان يقضي على مذهب مالك(18). بعد هذا ليس لعلال الفاسي أن يستدل بالدليل أعلاه. وقد علمت كيف أن دأب مالك أن يقف إجلالا لأهل البيت حتى لو كانوا يخالفونه المذهب للنكتة التي جئنا على ذكرها في المقام. وهناك من المؤرخين المغاربة من ناقضوا بصراحة هذا التغليط في حق ما كان يدين به إدريس بن عبد الله. لأننا حقيقة لم نرد أن نسمو في مقاربتنا إلى شموخ التجربة الإدريسية وتعقيداتها، كي ندرك أننا أمام حركة ناضجة لقيادي علوي استطاع أن يحتوي كل الاختلاف الحاصل على صعيد المذاهب الكلامية والتركيز على المحتوى الأساسي والمجمل الذي كان محوره الدعوة لقيادة أهل البيت كضامن لاستمرار الدعوة والدولة. فهل سيكون انفتاح إدريس على المذاهب الاعتزالية والسنية وغيرها مما لم يكن مطية لتخريب الدولة دليلا على أنه كان منتميا لها؟ هذا التبسيط يرده مؤرخ مغربي هو إبراهبم حركات بقوله: " إذا كان إدريس الأول ومن خلفه سنيين، فإنه لا يوجد أي نص أو رواية تاريخية تثبت أنهم دعوا إلى مذهب مالك رسميا ولا أن مؤسس الدولة الإدريسية أخذ بالمذهب المالكي. وعلى العكس من ذلك فلا غرابة مطلقا في أن يكون الأدارسة شيعيين وهم جاؤوا بالذات إلى المغرب لا مجرد لاجئين بل لتأسيس دولة من سلالة البيت النبوي"(19). ومثل هذا نجده عند كل من أرّخ لدولة الأدارسة بحياد وموضوعية. حتى أن باحثا مثل د. سعدون عباس نصر الله يوقل متعجّبا في كتابه (دولة الأدارسة في المغرب):" ومما يثير الاستغراب أن الأدارسة كانوا علويين شيعة والقضاء في دولتهم على المذهب المالكي، لقد كان الأئمة الأدارسة يعتبرون أنفسهم أئمة المسلمين بصرف النظر عن هوياتهم المذهبية إذ كانوا يؤمنون بالإسلام بدون مذاهب..." (20) . إنني أعتقد أنه إذا غمّ علينا الموضوع ولم نجد بين أيدينا ما يصلح وثيقة دالّة على ذلك، أن نتتبع حركة إدريس بن عبد الله من المشرق وصولا إلى المغرب. ثم نقرأ المطالب التي تضمنتها أجندة الحركة العلوية التي كان إدريس أحد رموزها وأخ شهيد من شهدائها الذين كان من المتوقع أن تعقد له البيعة على أنقاض دولة بني العباس؛ أعني محمد بن عبد الله. لنقرأ في الخلفية السياسية والعقدية لمعركة فخ والأدب الذي خلفته الواقعة المذكورة تعبيراتها ورموزها. فالتاريخ ليس أحجية بل تأمل وتحقيق. إذا كانت حجة من أنكر شيعية إدريس ابن عبد الله المتجلية كالشمس في رائعة النهار لمجرد أنه لم يذكر الوصية، فإنني أذكر هؤلاء بأن خطبته ذات النفس السياسي المتفهم للبيئة المستقبلة والمجال الجديد أيضا لم تحضر فيها الشعارات العلوية التي كانت ترفع بشكل جليّ في المشرق. مقارنة بسيطة بين إدريس وأخيه يحيى مثلا من نفس التنظيم العلوي والثقافة الشيعية تكشف عن أن السياسة كانت تحدد نوعية الخطاب. إن أئمة أهل البيت وقيادات الحركة العلوية اكتفوا منذ فخ بقبول الحد الأدنى من الولاء، وفي كثير من الأحيان قبلوا بالموجود حتى لا يعرضوا أنفسهم للمخاطر المحدقة. ولست أدري ما هو نوع الوثائق التي يجب الاستناد عليها لإثبات شيعية إدريس بن عبد الله أكثر مما في يدنا. المشكلة هنا أننا لا زلنا مدينين لخلط غير مبرر بين المعتزلة والزيدية كما لا زلنا مدينين لتفريق متعسف بين رموز الحركة العلوية. وإذا كان من المستبعد نسبة إدريس وأبيه عبد الله الكامل ولا حتى زيد بن علي إلى الاعتزال، لأسباب لا تحتاج إلى تكلّف في التّأويل لشدّة وضوحها، فإننا نرى أن زيدا نفسه أكد على إمامة جعفر الصادق وأشار إليه بوصفه الحجة. وهذا كافي لتعيين معنى الإمامة بالاصطلاح الشيعي. فهو القائل عن ابن أخيه: " في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه"(21). إن وقفة سريعة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك تشيع الزيدية الكامل بخلاف ما حاول محمود إسماعيل البناء على شروح كتاب الملل والنحل من مخالفيهم أو حتى متأخري الزيود، من أن المسألة تتعلق بالحل والعقد وتقديم المفضول على الفاضل. فذلك لم يحدث في التاريخ قط حيث خصوم الإمامية أنفسهم وقعوا في منطق الوصية والتوريث بعد أن نقضوهما. هذا ناهيك عن أن المراد بالإمامة هنا الحجة التي هي أبعد مدى وأوسع من مدلولها السياسي الذي هو مختلف موضوعا عن ذلك. فوجود حجة في كل زمان يحتج به الله على خلقه تلخص المضمون الإمامي كله وتنطوي على تفاصيله الكلامية كلها. وليس أدل على ذلك من أمر الحسين زعيم معركة فخ التي لم ينج منها سوى إدريس وأخيه يحيى؛ ذاك اتجه ناحية طبرستان وهذا اتجه إلى المغرب الأقصى. فقد طلب الحسين صاحب فخّ من بني هاشم ذات مرّة أن يجتمعوا، فدعى عبد الله بن الحسن الأفطس أن يؤذّن المؤذّن ويذكر: حيّ على خير العمل، وهي مسقوطة من الآذان الذي ورد عن الرسول (ص). حينئذ قام الحسين بن علي خطيبا قائلا:" أيها الناس أتطلبون آثار رسول الله في الحجر السعود وتتمسحون بذلك وتضعون بضعة منه؟ فأقبل الناس على مبايعته على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد"(22). إننا لم نجد إدريس يحدّث المغاربة بذلك رغم إيمانه به ورغم أن" حي على خير العمل" كانت شعار العلويين في ثورتهم ضد العباسيين. وهي تحيل كما رأينا مع الحسين إلى مقطع من الآذان الشرعي السني الذي تم التخلي عنه بلا دليل. وللفاطميين حكاية أخرى مع مقطع "حي على خير العمل" لسنا في واردها هنا(23). ومما يؤكد على شيعية الزيود وتبنيهم لمذهبه في الأصول والفروع، ما دلّ عليه الخبر الذي أورده ابن كثير في مورد غسل الرجلين والخلاف حول مفاد الآية ما بين قائل بالغسل وقائل بالمسح. فقد أورد ابن كثير في معرض الآية الكريمة (وامسحوا برؤسكم وأرجلكم) من تفسيره، وجهات النظر المختلفة. حيث رجّح الغسل مستدلاّ بخطبة للحجاج بن يوسف الثقفي.واستطرادا أورد بن كثير قصة عن أصحاب زيد بن علي (رض) قال: " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا إسماعيل ابن موسى أخبرنا شريك عن يحيى بن الحرث التيمي يعني الخابر قال نظرت في قتلى أصحاب زيد فوجدت الكعب فوق ظهر القدم وهده عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه وهكذا قتلوا في المعركة ومسخت جثتهم"، حيث انقلبت أكعابهم إلى ظهر الرجل(24). يؤكّد هذا أن الزيود في تصنيف القدامى هم شيعة روافض كانوا على اعتقاد الجعفرية في الفروع والأصول. فيفترض بهذا المعنى أن جيش زيد أو الحسين الفخّي أو يحيى أو إدريس بن عبد الله تنطبق عليهم حكاية ابن كثير تلك، فهم بهذا المعنى شيعة روافض. إن علاقة زيد والحسين ويحيى وحوادث من ثورة زيد وفخ مع أئمة أهل البيت كالصادق وابنه الكاظم وإبنه الرضا وأيضا الجواد تؤكد على وحدة الدعوة والمصير وتكامل المسار لا يفرق بينهم سوى متعمل فاسد التأويل. يقول الإمام الكاظم:"لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ"(25). وقال الإمام الرضا أيضا:" ادريس بن عبد الله الكامل من شجعان أهل البيت وساداتهم ووجهائهم وله فضل كبير في نشر الدين والعلم في المغرب"(26) . كما ذكرت قبل قليل أن الإحالة على الخلفية السياسية والتاريخية لحركة إدريس بن عبد الله وحدها تضعنا في الطريق الصحيح. وهذا ما فعله كل من أرخ لهذه الدولة، آخرهم صاحب الاستقصا، حينما يعود بالقضية إلى أول نزاع في الإسلام حول من هو حقيق بخلافة الرسول (ص). ويبدو من صيرورة الأحداث أن ثورة العلويين على حلفائهم بني العباس الغادرين بدعوتهم، هي استمرار لهذا المطلب التاريخي كما لا يخفى. إن ثورة العلويين على العباسيين تقع في سياق ارتداد بني العباس عن دعوة شاركوا جميعا لتحقيقها كما جسدها شعار ثورتهم ضدّ دولة بني أمية: الرضا من آل محمد. والحق أن هذا الإجمال الذي اقتضته صيرورة المعركة الشرسة التي ستنتهي بالإطاحة بدولة الأمويين، هو ما جعل العباسيين يطمعون بها ثم ينقلبون على حلفائهم شر انقلاب. صاحب الاستقصا لما يشرح الحوادث السابقة سرعان ما يدخلنا في التصميم المذهبي المعتاد، هربا من شيعية إدريس ابن عبد الله وتعويضها بغيرها في حالة هروبية واضحة ومفضوحة. وأما رد القول بشيعية إدريس لأنه لم يكن شيعيا على الطريقة الإيرانية، فهو تغليط آخر، وتبلّد في الفهم والاستيعاب. المغالطة التاريخية هنا دفعتها مرارا وتكرار بأن التشيع المغربي سابق في الزمان على التشيع الإيراني. ولأنني كرّرت مرارا أنني أتحدث عن مرحلة من التشيع قبل أن يدخل التشيع إلى فارس وفي مرحلة كان التشيع فيها على مستوى معين من التطور، لأنه في زمن لم يكتمل فيه نصاب الأئمة الإثني عشر ولم تنكشف تعاليمهم وبيانهم كله حيث كانت تتناسب مع كل مرحلة وتتصل بظروف وموضوعات خاصة. وقد ذكرت شهادة بعض من هؤلاء الأئمة الإثنا عشر في حق الإدريسين الأول والثاني. فهذا كلامي كيف يردّ عليّ: ألا يحسنون القراءة؟! وأما القول إنه كان تشيعا لا يتجاوز كونه تمردا على الأمويين، فإن مرددي هذا الكلام لم يقفوا عند حديثي عن بعض الحقائق التي تتعدى هذه الأحكام التي نعرفها قبلهم وجيّدا، لكننا لم نقبل بها لسذاجتها وتكلّفها. لأن التشيع ليس مجرد محاربة الأمويين. فلقد فعلها العباسيون وهم من بني هاشم فلم يعتبر تشيعهم. وكثيرون حاربوا الأمويين أوالعباسيين من أمثال أبي حنيفة ولم يعتبروا شيعة. لكن البعض يرى أن تشيع اليوم احتضنه الفرس وأضفوا عليه سبغة مشتقة من العقلية الفارسية ممزوجا بالتصوف الفارسي وما إليها من محفوظات الأسطوانة المشروخة ونسوا أن الجنيد هو نفسه من أصول فارسية/تركية من نهاوند بهمدان. وأن أبا الحسن علي بن هند القرشي أحد أبرز علماء بلاد فارس هو أحد أفضل أصحاب الجنيد والغزالي خراساني حتى النخاع ولم تمتد فارسيتهم إلى التسنن: كما لو أن تأثير الفارسية لا يجوز إلاّ على التشيع لا التسنن. وتفريس التشّيع كلام ينقله بعض المغرضين وأحيانا بعض المقلدين القشريين محفوظا من دون إعمال عقل وروية. وما يخفى على المغالط الذي يبدو أنه يجهل التاريخ جهلا فاضحا، أن تشيع اليوم هو تشيع عربي بامتياز. وحسبي أن أذكر بأن هذا التشيع بحذافيره انتقل إلى فارس الصفوية المتشيّعة بفضل العرب. وليس ثمة من زائد سوى مظاهر الاحتفال وهو معروف وله حدوده التي يدركها العلماء الشيعة الذين يميزون بين المظاهر الاحتفالية والشعبية وبين الآراء العلمية. فالولاية والوصية لعلي أثبتها ابن خلدون في حقّ الصحابي الجليل عمار بن ياسر. غير أن المدعي يحاكم التراث العلمي الشيعي من خلال الطقوس الشعبية التي يتفرج عليها من التلفزيون مثل باقي العوام وليس من مجالس العلم والنخب ومن المظان العلمية وما استقر عليه اجماع واعتراف المدرسة. وكان من المفترض أن لا ننسى بأن التسنن الشعبي هو أيضا أفرز طقوسه الشعبية والفولكلورية. ومع ذلك لا أحد يعتبر أن التسنن هو ما نجده في المواسم والاحتفالات والطقوس الشعبية. تعريف التشيع من خلال المظاهر الاحتفالية الفولكلورية مغالطة أشبه بأن نعرف التسنن من خلال طقوس موسم بويا عمر أو سيدي علي بن حمدوش أو سيدي الهادي بن عيسى. وعجبا كيف تضخّم العدسة من حفنة من المطبرين وهم في كل مسيرات الاحتفال الشيعي العاشورائي لا يزيدون على رؤوس الأصابع وبالضغط على ال "zoom" ليبدو للمغفلين وكأنّ المشهد كله دم في دم. دون أن يعلموا أن الكثير من الممارسات الشعبية هي غير معتبرة في الفقه الشيعي ولا يندب إليها ولا حتى تعتبر من الشعائر. ولكن ديمقراطية الشيعة لا تمنع بالحديد والنار ما يتشبت به العوام. ماذا لو استعملنا لعبة ال"zoom" على عينات وبؤر في إحدى مسيرات سيدي علي بن حمدوش وما شابه، ثم يسمح الضمير الفاسد لنقول هذه طقوس السنة؟! وهي كما لا يخفى لو قورنت بالفولكلور الشيعي تجدها غارقة في المفارقة. فأن يلطم الشيعي على صدره تعبيرا عن الحزن في حق حادثة تاريخية حقيقية أمر آخر عمّن يفترس الأكباش بأمعائها وصوفها في مناسبة المولد النبوي. لكنني لا أدري كيف يكون التسنن الفارسي غير متلبس بالعقلية الإيرانية فيما نقبل بأن يكون التشيع الفارسي هو خليط من تلك التصورات. وهل كان ابو حامد الغزّالي الخرساني الفارسي رائد السنة فقها وأصولا وكلاما وتصوفا يحمل من أثر إيرانيته هذا القدر. وكذا سائر الفرس من بنات السنة ومأصّلي علومها. وقد جاء التشيّع متأخرا عن السنة في إيران وبنى عليها. فالصفويون والايرانيون هم متشيّعون بفضل الشيعة العرب الذين أسسوا في العصر الصفوي لهذه العلوم وجمعوا الأخبار ودوّنوها وأصّلوا الأصول. فهم قبل أن يكونوا شيعة كانوا سنة. فهل إنهم لمجرد أن تشيعوا عادوا الى ما قبل التسنن؟! تاريخ تشيع إيران الصفوية أعقد من هذا التوصيف الساذج المكرور الذي يزيف الحقائق وتتشقلب عنده الأزمنة التاريخية. لقد أوضحت من القرائن ما يكفي لإثبات شيعية ادريس ابن عبد الله، غير أن البعض فضّل النطّ والإغضاء عن النصّ كاملا. وهكذا نحلل حوادث تاريخية بوعي لاتاريخي حينما نفسر بعض مفاصل الصراع بين الفاطميين وبقايا دولة الأدارسة انطلاقا من خلاف عقائدي. أليس أقرب للنزاع السياسي ذلك الخلاف منه إلى الخلافات العقائدية ذات الوظيفة السياسية. وكيف قبلنا أن يكون الخلاف هنا عقائدي ليس سياسيا ثم نقبل أن نختزل التشيع الإدريسي في مجرد ولاء سياسي. فالمقاربة السياسية تحضر حينما نريد ووجب أن تغيب حينما نريد. إننا نمسك العصى من الوسط ونعلنها ببهلوانية: بائي تجرّ وباؤك لا تجرّ. قد تملك إقناعي بأن المغرب ليس شيعيا بالمعنى المذهبي للعبارة. لكن بما أنك لا تملك أن تنفي أن ادريس بن عبد الله هو شيعي ولو بالمعنى السياسي، فإن ما لا تملك اقناع العامة به قبل اقناعي، هو أن المغرب مهما ادعى من سنيته هو على تشيع سياسي وثقافي، تماما كالصورة التي لا يملك أن ينكرها من أخرج ادريس من التشيع المذهبي المتأخر إلى التشيع السياسي المقبول. انظر هنا، ففي منتهى ما يمكن فعله، وجب الاعتراف أن التشيع برسم السياسة والولاء العام وما شابه لا يملك أحد نكرانه عن هذا البلد. فإذا أدركت ذلك، لم يبق أمام تكلف المتكلفين بنكران شيعية إدريس بن عبد الله ما يدعوا للاعتبار.لأننا قلنا وكررنا حتى بححنا أن ليس التشيع إلاّ الحب المميز حدّ الولاء لأهل البيت (ع). وما عدا هذا الجوهر هي أمور المعول فيها على الدليل وليس إلاّ الدليل. وإنّ إنكار شيعية إدريس بن عبد الله، بعد الذي ذكرنا، دونه خرط القتاد. هوامش 1 عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، ص 151 ط 2 2004، المركز الثقافي العربي/ بيروت 2 انساب العترة الطاهرة لبيب بيضون ص94 95مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت ط1 2004م. 3 انظر المنوني ادريس جماعي ص 69 4 حسن الأمين: دائرة المعارف الإسلامية، ص 7 ج1، دار التعارف، بيروت 5 المصدر نفسه، ج1 ص 63 6 ابن شهرآشوب:مناقب آل أبي طالب، ص 147ج 2، تحقيق محمد باقر البهبودي، 1992، دار الأضواء/بيروت 7 تاريخ ابن خلدون، ص 614 ج 7 دار الكتب العلمية ط 1 1992 بيروت 8 أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيين ج1 ص 51، انظر موقع الوراق 9 محمود إسماعيل: الأدارسة: حقائق جديدة، ص 48، ط1 1991، مكتبة مدبولي، القاهرة 10 لم أقف على ما يدل في كتب المؤرخين على زيارة لإدريس بن عبد الله سابقة لأفريقيا أو المغرب قبل هجرته الأخيرة. وما أورده محمود إسماعيل هنا يحتاج إلى بعض التّأمل. 11 انظر المنوني 64: الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، ص 64، كتاب جماعي، مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن الاسلامي، الرباط 1988، شركة بابل. 12 محمود اسماعيل، المصدر نفسه، ص 49 58 13 الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، المصدر السابق، ص 24 25 14 الذهبي، ميزان الاعتدال، ج1، ص 136 137 138، انظر موقع يعسوب 15 أبو الفرج الأصبهاني: مقاتل الطالبيين، ج1 ص 122، انظر موقع الوراق 16 الشيخ الشبلنجي: نور الأبصار، ص 454 455، ج 1 ط1 انتشارات ذوي القربى، قم 17 المصدر نفسه، ص 450 18 سعدون عباس نصر الله: دولة الأدارسة في المغرب؛ العصر الذهبي، ص 125، ط1 1987، دار النهضة العربية، بيروت 19 إبراهيم حركات: المغرب عبر التاريخ ص 121، ط1، دار السلمي 1965، الدارالبيضاء 20 د. سعدون عباس نصر الله: دولة الأدارسة في المغرب؛ العصر الذّهبي، ص 126 دار النهضة العربية، بيروت، ط 1 1987م 21 ابن شهر اشوب: المناقب ج2ص147، المصدر نفسه 22 انظر الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ص 197 ج 8، دار التعارف، القاهرة 1968 وانظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، ص 447، ط 1987، بيروت مؤسسة الأعلمي 23 يذكر التفتزاني في حاشية شرح عضد الدين على المختصر في الأصول أن حيّ على خير العمل كانت على عهد الرسول (ص) وإنما أمر بالكفّ عنها عمر مخافة أن تثبط الناس عن الجهاد، انظر المذاهب الاسلامية الخمسة، كتاب جماعي، ص 43، ط1 1998، مركز الغدير، بيروت 24 سورة المائدة (آية 28) ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وإنه لا بد منه، (تفسير القرآن العظيم الجزء الثاني لابن كثير) دار بيروت لبنان 25 أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 448 26 انظر كتاب الأنوار في ذكر آل النبي المختار لمحمد الفيزازي، ص 55، دار الفرقان ط 1985 المغرب/الدارالبيضاء [email protected] 1 عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، ص 151 ط 2 2004، المركز الثقافي العربي/ بيروت 2 انساب العترة الطاهرة لبيب بيضون ص94 95مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت ط1 2004م. 3 انظر المنوني ادريس جماعي ص 69 4 حسن الأمين: دائرة المعارف الإسلامية، ص 7 ج1، دار التعارف، بيروت 5 المصدر نفسه، ج1 ص 63 6 ابن شهرآشوب:مناقب آل أبي طالب، ص 147ج 2، تحقيق محمد باقر البهبودي، 1992، دار الأضواء/بيروت 7 تاريخ ابن خلدون، ص 614 ج 7 دار الكتب العلمية ط 1 1992 بيروت 8 أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيين ج1 ص 51، انظر موقع الوراق 9 محمود إسماعيل: الأدارسة: حقائق جديدة، ص 48، ط1 1991، مكتبة مدبولي، القاهرة 10 لم أقف على ما يدل في كتب المؤرخين على زيارة لإدريس بن عبد الله سابقة لأفريقيا أو المغرب قبل هجرته الأخيرة. وما أورده محمود إسماعيل هنا يحتاج إلى بعض التّأمل. 11 انظر المنوني 64: الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، ص 64، كتاب جماعي، مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن الاسلامي، الرباط 1988، شركة بابل. 12 محمود اسماعيل، المصدر نفسه، ص 49 58 13 الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، المصدر السابق، ص 24 25 14 الذهبي، ميزان الاعتدال، ج1، ص 136 137 138، انظر موقع يعسوب 15 أبو الفرج الأصبهاني: مقاتل الطالبيين، ج1 ص 122، انظر موقع الوراق 16 الشيخ الشبلنجي: نور الأبصار، ص 454 455، ج 1 ط1 انتشارات ذوي القربى، قم 17 المصدر نفسه، ص 450 18 سعدون عباس نصر الله: دولة الأدارسة في المغرب؛ العصر الذهبي، ص 125، ط1 1987، دار النهضة العربية، بيروت 19 إبراهيم حركات: المغرب عبر التاريخ ص 121، ط1، دار السلمي 1965، الدارالبيضاء 20 د. سعدون عباس نصر الله: دولة الأدارسة في المغرب؛ العصر الذّهبي، ص 126 دار النهضة العربية، بيروت، ط 1 1987م 21 ابن شهر اشوب: المناقب ج2ص147، المصدر نفسه 22 انظر الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ص 197 ج 8، دار التعارف، القاهرة 1968 وانظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، ص 447، ط 1987، بيروت مؤسسة الأعلمي 23 يذكر التفتزاني في حاشية شرح عضد الدين على المختصر في الأصول أن حيّ على خير العمل كانت على عهد الرسول (ص) وإنما أمر بالكفّ عنها عمر مخافة أن تثبط الناس عن الجهاد، انظر المذاهب الاسلامية الخمسة، كتاب جماعي، ص 43، ط1 1998، مركز الغدير، بيروت 24 سورة المائدة (آية 28) ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وإنه لا بد منه، (تفسير القرآن العظيم الجزء الثاني لابن كثير) دار بيروت لبنان 25 أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 448 26 انظر كتاب الأنوار في ذكر آل النبي المختار لمحمد الفيزازي، ص 55، دار الفرقان ط 1985 المغرب/الدارالبيضاء [email protected]