الفاطميون ضحية تاريخ كتبه الغالب "" لم نشهد تشويها و تحاملا وتحيزا مقرفا ضد دولة أو دعوة ما، بلغ حد الإسفاف ، مثلما شهدناه في حق الفاطميين . الاسطوغرافيا العربية عموما بالغت وأثخنت في محو أثر هذه الدولة التي عمرت قرنين ، لكنها حققت إنجازات لو تسنى للمؤرخ المنصف الوقوف عليها لأدرك مهزلة الخطاب التاريخي العربي . فحينما يحاول المؤرخ أن يدين تاريخ قرنين من الانجاز بحكايات وأحجيات تتعلق باختزال السياسة الفاطمية في موقف المعز لدين الله أو الحاكم بأمر الله أو غيرهما تجاه حالة من الحالات ، يريد أن يغالط نفسه قبل أن يغالط المتلقي بأن تاريخا آخر كان إجماعيا وليس متغلبا وبالتالي الإيحاء بأن تاريخنا كتب خارج منطق الغلب ظل مثالا للحرية والتقدم العلمي والاستقرار وما شابه ذلك. والحال أن كل ما روي زورا عن أئمة الدولة الفاطمية يمكن أن تجد له نظائر وحالات أشد في كل مفصل من مفاصل تاريخنا السلطاني، الذي لم يكن تاريخا نقيا من الغلب والقتل على الهوية والتسلط العاري . ومع ذلك كيف استطاعت دولة كهذه اتهمت بالتسلط والانحراف والإلحاد أن يعيش في كنفها فقهاء كبار من شتى المذاهب الإسلامية واستشركت واستوزرت قادة من شتى الطوائف والأديان وقد استغل المتأمرون عليها تسامح حكامهم وأنجزت معالم حضارية لو كانت قاهرة المعز والأزهر وحدهما شاهدين على ذلك لكفتا. كنا تحدثنا فيما سبق عن الكلمة التي قالها الإمام جعفر بن محمد الصادق لموفديه أبو سفيان والحلواني: إن المغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يأتي صاحب الزرع. وقلنا حينها أن خلافا قد يذكيه ذلك الإجمال: من يكون يا ترى صاحب الزرع ، هل هو إدريس أم عبيد الله. والحق أن صاحب الزرع هنا مطلقة تفيد نوع الزارع وليس خصوصه. فقد تحتمل أن يكون كل هؤلاء الذين جاؤوا بعد أبي سفيان والحلواني مصاديق لهذا الإطلاق. وقد رأينا أن الحركة الفاطمية ركزت أكثر من غيرها على هذه العبارة ، ليس عند من أرخ لدولتهم من المتأخرين، بل هم أنفسهم كانوا على تمام الوعي بها. فهذا ابن حوشب داعيتهم حينما همّ بإرسال أبو عبد الله إلى المغرب ، وذلك بعد وفاة أبو سفيان والحلواني، يذكره بقولة الإمام الصادق ويوحي له بأن دوره الآن هو دور الزارع بعد أن كان دور أبي سفيان والحلواني دور الحارث. ولك أن تدرك قيمة هذا الإيحاء بالنسبة للدعوة الناشئة حينئذ. قال ابن حوشب لأبي عبد الله:"إن أرض كتامة من بلاد المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك فبادر فإنها موطّأة ممهّدة لك"[1] . كان الحجاج المغاربة لا سيما الكتاميين على تواصل مع الدعواة الشيعية. لذا يصفهم ابن خلدون بقوله: " وإلى الشيعة الرافضة من كتامة "[2] . كان حسب عدد من المؤرخين وغيرهم انظر الفريد بل مثلا أن بعض أفراد قبيلة كتامة كانت قد التقت بالداعي الشيعي أبو عبد الله وأخذوه معهم إلى المغرب قصد تفقيههم وتعليمهم مذهب الشيعة[3] . وحسب المؤرخين أيضا فإن أبا عبد الله حينما بلغ مع الوفد المغربي المرافق له من الحج إلى الديار المصرية ودعهم أبو عبد الله. فلما سألوه إن كان له حاجة بمصر، فلما نفى أن تكون له حاجة بها سوى طلب العلم قالوا له:" فأما إن كنت تقصد هذا ، فإن بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك ونحن أعرف بحقك"[4] . وهكذا استمرت رحلة أبي عبد الله الذي كان له فضل التمهيد لعبيد الله المهدي الذي سيلحق به متخفيا من الأغالبة لكنه سيحتجز من قبل أمراء الخوارج من بني مدرار المتحالفين مع العباسيين ، قبل أن يحرره أبو عبد الله الشيعي الذي نجح في بسط سلطته الأغالبة والرستميين[5] . وخلافا لغيرها من الدول الشيعية في المغرب لا خلاف بين المؤرخين في شيعية الدولة الفاطمية. ولذلك لا حاجة لإثبات شيعيتها ، لكن يهمنا دفع التشويه الكبير الذي لحق بتاريخ الفاطميين من قبل خصومهم الذين لم يراعوا في سيرتهم إلا ولا ذمة. والحقيقة أن من بين المؤرخين لا سيما المعاصرين من كانوا منصفين إلى الحدود القصوى. فقد بالغ خصوم الفاطميين في اتهامهم بالانحراف والإلحاد وإرادة نسف الإسلام وعدم مواجهة الصليبيين وانعدام الآثار العلمية أو على الأقل السكوت عن انجازاتهم في هذا المجال والقمع الديني والتشدد المذهبي تجاه المخالفين. وكل هذا مردود لمجرد أن نتأمل تاريخ الفاطميين ونقترب من إنجازات دولتهم وخطابات قادتهم وحقيقة دعوتهم. لكن قبل دفع مثالبهم من مظان خصومهم ، كان لابد من الإشارة إلى أن امتداد التأثير الفاطمي إلى المغرب الأقصى ، كان أمرا طبيعيا ، لا ، بل حتميا ، نظرا للتداخل الذي عرفته مختلف المناطق والقبائل. فالاختصاص السياسي بمنطقة دون أخرى أو طلب الشوكة بقبيلة دون أخرى لا يعني أن حراكا ثقافيا وتجاريا كان يصل بين كل الأطراف ويؤمن معه انتقالا للثقافات والتقاليد والمظاهر الاجتماعية الأخرى. لقد استمر هذا التبادل التجاري وظلت الطرق مفتوحة بين هذه المبادلات بين المغرب ومصر في العهد الفاطمي، لم يؤثر عليها حتى ذلك الشكل من أشكال الحصار الذي كان يحاوله خصوم الفطمييهن ضد تداول العملة الفاطمية ، وهو أمر أقدم عليه حتى أحد عمالهم في أفريقيا، أعني المعز بن باديس. لقد تداخلت المنطقة بشكل عجيب تجاريا واجتماعيا وثقافيا وإن ساد فيها النزاع السياسي (6). ولا أدل على التأثير الفاطمي على المغرب الأقصى من ظهور دعوات تمت باسم الفاطميين حتى بعد زوال دولتهم. ويكفي ما ذكره ابن أبي زرع في روض القرطاس حول محمد بن عبد الله الذي أعلن دعوته بجبال ورغة شمال فاس ، لما أعلن أنه ابن الخليفة العاضد العبيدي آخر الخلفاء الفاطميين بمصر. وقد بعث له محمد الناصر. وقد استجاب له خلق كثير من أهل الجبال والبوادي وتسمى بالمهدي. وقد لقي حتفه. ومثله أيضا ما أخبر عنه ابن خلدون من أمر دعوة رجل من غمارة يدعى العباس ويزعم أنه الفاطمي. قلت وهذا إن دلّ فإنما يدل على تزلزل فكرة شيعية الموحدي، فلو كان حقّا شيعيا لما حدث مثل ذلك . يقول أحد الباحثين تعليقا على هذه الحادثة: "وتعتبر ثورة ابن العضد أول ثورة باسم آل البيت في العصر الموحدي" (7). قلت إن عددا من المظاهر الثقافية للعهد الفاطمي كانت قد انساحت على باقي الجوار ، وذلك بفعل تداخل وذهاب وإياب نشط بين أهالي المنطقة ، ليبلغ ذلك منتهاه مع الغزوة الهلالية التي حملت معها كل تلك المظاهر من مصر الفاطمية . ومن تلك المظاهر ما استمر حتى يومنا هذه. التسامح الديني والمذهبي سمة السياسة الفاطمية على الرغم من حملة التشويه الكبرى لتاريخ الفاطميين التي اضطلع بها خصومهم لا سيما فيما يتعلق بمظاهر القمع تجاه المخالف نلاحظ ثمة الكثير من المفارقات في تلك الأحكام التاريخية. فتارة يصفونهم بأنهم لا دين لهم وأنهم ملاحدة، إنما غايتهم تدمير الدين وأنهم أصحاب انحلال ومجون وفسوق. وتارة يصفونهم بأنهم أهل تشدد في تفاصيل الاعتقاد. وهذا يكفي لبيان تطوّح الطريقة التي تعاطى بها المؤرخ مع هذا المفصل التاريخي الهام. والحال أن مظاهر التسامح ظلت بادية في السياسة الدينية الفاطمية. لا بل لو تأملنا كل السياسات الدينية الشيعية مغربا ومشرقا سنجدها غاية في التسامح مع المخالف. فالبويهيون أبقوا على العباسيين وتسامحوا مع معتقدات الأهالي ولم يقعوا في الشطط في استعمال السلطة تجاه الأقليات. ومثله فعل الأدارسة كما فعل الفاطميون. كل الأخبار التي تحدثت عن مواقف صارمة تجاه المخالفين هي مواقف فردية يمكن أن نجد لها أمثلة كثيرة في كل مراحل وأشكال السلط على مر تاريخنا العربي والإسلامي. وأما ما قيل حول ما لقيه الفقيه المالكي أبي العرب على يد المهدي الشيعي، فهو مما له صلة بموقف سياسي وليس دينيا. وما حمل المهدي على أبي العرب إلا لأن هذا الأخير ما فتئ يؤلب على الخليفة، ويدعوا لاستئصال الفاطميين. فاللاّتسامح انطلق من خطاب أبي العرب. فهو ممن روى حديثا طبقه على الفاطميين:" سيأتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة إن أصبتموهم فاقتلوهم لأنهم كفار". ولكن الفاطميين بعد أن أخمدوا الثورة التي فجرها أبو يزيد وكان لأبي العرب أثر في تحريض الناس على الثورة ، لم يفعل الفاطميون أكثر من أن زجّو به في السجن ولم يقتلوه(8) . فالذي ضاق بالمختلف هو أبو العرب وليس الفاطمي. وانظر مثلا إلى الطريقة التي تصرف بها أحد عمالهم الغادرين المعروف بالمعز بن باديس حينما استقل ببلاده. فقد وضع على غلاف المصحف الذي هداه إلى مسجد القيروان عبارة جاء فيها:" يا إلهي العن بني عبيد أعداءك وأعداء رسولك ليجعلنا الله نستفيد من الحقد الذي نكنه لهم..." (9). وطبيعي إذا ما انبرى فقيه يكفر الحاكم والدولة ويخرجها من الإسلام ويؤلب عليها الدهماء أن يلقى المصير نفسه في كل دولة وفي كل جيل. يؤكد "الفريد بل" على ذلك التسامح من خلال قوله:" هكذا كانوا (الفاطميون) متسامحين إلى حد معقول مع أهل السنة وخصوصا من كانوا على مذهب أبي حنيفة (...) وكثير من الزهاد والعلماء المالكية عاشوا تحت حكمهم في القيروان وغيرها متبعين مذهب أهل السنة بل وكانوا يدرسونه أحيانا دون عائق جدي" (10). فلم نر تجاه عموم الفقهاء من مختلف المذاهب من واجه مضايقة من قبل الفاطميين. وفي اعتقادي أن الدولة متى ما فكرت في أن تحل محل الخلافة في الشرق كانت أكثر تسامحا مع المخالفين لها في المذاهب ومتى ما أصبحت منزوية على حدودها التقليدية فإنها تتشدد تبعا لذلك في أمر المذهب. وهكذا ذكروا أنه كان للمالكية في الأزهر في العهد الفاطمي خمس عشر حلقة كما للشافعية مثلها وللحنفية ثلاث حلقات. فضلا عن تعيين شيخين من أهل السنة في دار العلم في عهد الحاكم بأمر الله، أحدهما أبو بكر الأنطاكي(11). يكفي ما جاء في قول الشاعر الذي كان يجهر بخلاف اعتقادهم مثل عمارة اليمني وهو صاحب البيت: مذاهبهم في الجود مذهب سنة وإن خالفوني في اعتقاد التشيع بل ومن عظيم شأن هذا الشاعر السني الكثير الوفاء للدولة الفاطمية وهو ليس من جنس الشعراء المتملقين وإلا لما حافظ على مذهبه وجاهر به. فلقد قتل بسبب رثاءه دولة الفاطمي في قصيدته الرائعة حيث جاء فيها: لهفي ولهف بني الأمال قاطبة على فجيعتها في أكرم الدول مررت بالقصر والأركان خالية من وفوذ وكانت قبلة القبل فملت عنها بوجهي خوف منتقد من الأعادي ووجه الود لم يحل أسلت من أسف دممي غداة خلت رحابكم وغدت مهجورة السبل أبكي على ما تراءت من مكارمكم حال الزمان عليها وهي لم تحل دار الضيافة كانت أنس وافدكم واليوم أوحش من رسم ومن طلل ويختمها عمارة اليمني بقوله: والله ما زلت عن حبي لهم أبدا ما أخر الله لي في مدة الأجل ولقد قتل حسب المقريزي في خططه بسبب هذه القصيدة(12). وعموما لقد كانت حالات الاعتدال والتطرف شخصية في ردود الفعل من قبل الدعاة. حتى أن منهم من لم يكن سلوك بعض الدعاة محل رضى منه. ولم يكن حتما ذلك سياسة للدولة وخلفائها الفاطميين الذين رفع فيهم الداعي شعار:"إن دولتنا دولة حجة وبيان وليست دولة قهر واستطالة" (13). وتعود حكاية هذا الشعار إلى منع ابي عبد الله أخاه أبا العباس أن يستغل السلطة في إكراه الناس على اتباع مذهبه. وكما ينقل النويري:" ولما وصل أبو العباس ، أراد أن ينفي عن القيروان من يخالف مذهبه، فقال أبو عبد الله: إن دولتنا دولة حجة وبيان، وليست دولة قهر واستطالة، فاترك الناس على مذاهبهم"(14). وهذا يدل دلالة جلية على مدى تسامح الدولة الفاطمية مع المخالف سواء في المذهب كما ذكرنا أو حتى في الدين لما بلغنا من حسن سيرتهم مع الأقباط في مصر. حيث شاركتهم دولة المعز لدين الله الفاطمي وغيره أعيادهم ، كيوم الغطّاس وخميس الجسد وعيد الميلاد(15) ، ومثل هذا الموقف لم نر له مثيلا في التاريخ السياسي الإسلامي. ولم يكن تشييع الأهالي مطلبا للفاطميين، فلقد أصدر المهدي فيما يورد المقريزي في اتعاظ الحنفا، للدعاة أمرا بالكف عن طلب التشيع من العامة(16). وما عليك مما جاء من مبالغات من أرخ لهم من الخصوم ولا من تلك الصور التي نقلها أمثال ابن العذاري. وحتى لا نطنب في ذلك يكفي ردود المنصفين ، كما يكفي ما عالجه العقاد من أشكال التحامل الرخيص على تلك الدول. وأما ما بدا من مظاهر التسامح الديني في مستوى القضاء والفقه فإن ذلك مرده إلى اختصاص الفقه الشيعي بكثير من الآراء الفقهية الميسرة والعقلانية فضلا عن بعض ما كان يصدر عن الدعاة والخلفاء الفاطميين من آراء فقهية إزاء بعض النوازل. ومن ذلك مثلا ما عبر عنه ب:" سقوط الحنث عمن طلق البتة، وإحاطة البنات بالميراث"(17). وعجبي أن هذا الإنصاف الفاطمي للمرأة والتقدم في فقهها هو ما أزعج بعض الفقهاء ممن زعموا الإصلاح في وضع المرأة مثل صاحب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي . فلقد تضاربت مواقفه حتى لم تعد تقف عنده على ميزان لفهم ما جرى. فهو تارة يعتبر ما حصل في القرن الثاني والثالث من أمر صراع المذاهب وتنافسها بمثابة داهية دهياء. ثم يعود ليتحدث عن داهية دهماء تتعلق بانتشار الشيعة في المغرب خلال القرن الرابع الهجري معتبرا أن فشل القضاء على المذهب المالكي راجع إلى أن الانتصار لا يتم بالقمع بل :" وهكذا كل شيء تلقته الأمة عن كره لا يكون له دوام ولا قرار ، فالانتصار والانتشار إنما هو في حرية الأفكار" . غير أن الحجوي الثعالبي لا يطبق هذا الشعار على ما كان من أمر الإبادة التي تعرّض لها المخالفون للمذاهب الغالبة الجديدة. وشاهدنا في كل هذا ما كان أزعج الحجوي من أمر الفاطميين الشيعة الذين قرروا موقف فقهيا من أحوال المرأة لا يزال يشكل مطلب الحركة النسائية المغربية حتى اليوم، وقد كان مقررا في زمان الفاطميين. يقول الحجوي:" وانظر في مدارك عياض ترجمة أبي بكر بن هذيل وأبي إسحاق بن البرذون ومن عاصروهما كيف قتلا وسحبا في آذان الدواب لعدم إفتائهما بمذهب جعفر بن محمد الذي سموه مذهب أهل البيت كسقوط طلاق البتة وإحاطة البنات بالميراث من أجل أن تكون سيدتنا فاطمة أحاطت بإرث أبيها مولانا رسول الله(ص) "(18). ويبدو هنا أن الدارسين وقعوا في خلط كبير وقد خانهم الاصطلاح أيضا. إننا نعتبر أهم مدونة فقهية للدولة الفاطمية هي ما كان من وضع القاضي النعمان المغربي الذي شغل في دولتهم منصب قاضي القضاة. وأعني بذلك كتاب دعائم الإسلام الذي شرح فيه قضايا تتعلق بأصول الاعتقاد وفروع الفقه من العبادات والمعاملات وفقه الجهاد وحتى ما يتصل بالسياسة الشرعية وقضايا هي أقرب إلى الآداب السلطانية. والناظر في هذه المدونة يلاحظ أنها في الأعم الأغلب تقترب من الفقه الشيعي الإمامي. وفي قضايا يسيرة تقترب من الفقه الحنفي. وفيما يتصل بالطلاق ، فإن المقرر في الفقه الشيعي أن الطلاق السني بخلاف البدعي لا يتحقق في جملة أمور كتطليق المرأة في حالة حيض أو في غياب الشهود، حيث يوجب الفقه الشيعي الشهود في الطلاق ولا يوجبه في الزواج. والأهم أنه لا يرى التطليق بالثلاث في المجلس الواحد إلا تطليقة واحدة. وعنهم أخذ ذلك ابن تيمية دون أن يحيل على مصدره. وأما ما يتصل بإحاطة الفتيات بالميراث فالظاهر ما عليه رأي الإمامية في رفضهم التعصيب وقولهم بحق المرأة في الإرث كله في حال عدم وجود وارث غيرها (19). ويكفي من صلاح دولتهم أن الخليفة الفاطمي حارب القرامطة وأنكر عليهم ما بدر منهم بلسان أخلاقي وديني مبين كما خلدت مواقفه وخطبه ورسائله بهذا الشأن. وأما موقفه من المجون فلا يخفى. يكفي ما ذكره العقاد دفعا لهذه التهمة الرخيصة في حق الخليفة الفاطمي، إذ يقول: " وعلى خلاف ما قيل عن إباحة المحرمات في المذهب الفاطمي، ثبت من نصائح أئمة فيهم أنهم كانوا يقصدون في الحلال المباح ويأمرون أتباعهم ومريديهم بالقصد فيه. وقد أوصى المعز أتباعه من زعماء كتامة بالمغرب فقال عن الزوجات:" الزموا الواحدة التي تكون لكم ولا تشرهوا إلى التّكثر منهن والرغبة فيهن فيتنغص عيشكم وتعود المضرة عليكم وتنهكوا أبدانكم وتذهب قوتكم وتضعف نحائزكم ، فحسب الرجل الواحد الواحدة" (20). إن تاريخ قيام وسقوط هذه الدولة يحتاج إلى مزيد دراسة. وأما الخيال الفقير الذي ابتلي به خصومها حتى قالوا فيها ما علموا وما لم يعلموا كدأب المتعصبين مع تاريخ من يخالفهم المذهب، فإن ذلك مما لا يشرف الدراسات التاريخية. إن دور الفاطميين في الدفاع عن تخوم الأمة لا يخفى على مؤرخ منصف. وقد كانت لهم في رد القواة البيزنطية ومقارعة فلولهم وبلوغهم في الفتوح إلى تخوم إيطاليا ما هو محفوظ في ذاكرة التاريخ. وأما ما يحكى في يوميات المواجهة مع الصليبيين التي حاول الكثير أن يقحم إسم الفاطميين في هزائمهم فهو مردود لسبب بسيط أن تلك الحروب جرت بعد انهيار دولة الفاطمي. وأما ما حيك من أساطير حول صلاح الدين في مواجهة الصليبيين فهو مما لا يتسع له المقام لبيان هشاشة مستنده التاريخي. بل نترقب فرصة سانحة للحديث عن دوره في هزائم المسلمين بل وتواطئه في مواقع كثيرة مع الصليبيين. والخيانة قديمة في شخص صلاح الدين الأيوبي، يكفي أنه غدر بمقربيه وعض اليد التي امتدت له بالإحسان لما خان الأمانة وتآمر على الفاطميين الذين صنعوه وقربوه قائدا عسكريا في دولتهم بعد مقتل عمه أسد الدين شيركوه. وقد جاء عهد العاضد لصلاح الدين وهو آخر عهد قبل استقلال هذا الأخير بالسلطنة غدرا: " هذا عهد أمير المؤمنين إليك ، وحجته عند الله تعالى عليك ، فأوف بعهدك ويمينك ، وخذ كتاب أمير المؤمنين بيمينك ، ولمن مضى بجدنا رسول الله ص أحسن أسوة ، ولمن بقي بقربنا سلوة " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين" (21). لقد خان صلاح الدين الأمانة ونكث العهد واستغل تسامح الفاطميين مع المخالفين ليغدر بدولتهم التي لم يشهد لها في تاريخ المنطقة مثيل في التسامح الديني وفي التنمية والتدبير و الاقتدار الحربي. ثم في المقابل رفعوه إلى مقام الأسطورة في تصوير مبالغ فيه مردوا عليه في حق كل من بطش بالشيعة وإن كان لهم دور كبير في مواجهة الصليبيين ولها السبب استوزروا صلاح الدين كقائد عسكري متمرس قبل أن يغدر بهم . إنهم حاكموا الفاطميين زورا على حالات تكاد تكون فردية غير ممنهجة في حين تسامحوا بل هللوا واستأنسوا بالتطهير الجماعي الممنهج والذبح والإرهاب الذي قام به الأيوبيون في حق الفاطميين من دون أدنى تأنيب الضمير. وذلك يكفي لفضح سيرة خصومهم الذين يعتبرون الفتك والقتل بالمختلف أمرا شرعيا ومقبولا وحتى أنه لا يستحق الوقوف عنده . وقد كنّا في المقال السابق تحدثنا عن موقف العقاد من هذا التاريخ المزيف ضد سمعة الفاطميين . وتحت وطأة هذا التجديف الأعمى كتب رائعته الموسومة ب"فاطمة والفاطميون". ---------------------------------- 1-حسن الامين: صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين، ص11 ، دار الجديد ط1 ، 1995 بيروت 2- تاريخ ابن خلدون ، ص 17 ج 6 ، ط1 1992 ، دار الكتب العلمية ، بيروت