في ما ذكر الأستاذ الغنوشي بعض التأمل لا أنوي في هذه المقالة النيل من وجهة النظر التي عبر عنها الأستاذ الغنوشي حول ظاهرة التشيع وسعيه إلى تقويض وهم الدور الإيراني فيه. بل تنوي تسليط الضوء على بعض الجوانب التي أغفلتها مقالته أو تعاطت معها بأسلوب استدعاء النمط التقليدي نفسه المتحرش بالمختلف. يؤكد مقال الشيخ الغنوشي على أن خطاب الحركة الإسلامية في المنطقة السنية لم يتطور كفاية لاكتساب طولة البال والصبر على الآخر واعتبار النهضة حدث لا يمكن أن يقوم على فكر الجماعة الأوحد أو سلطة المذهب الواحد. ومع أنه كان من المفترض أن تأتي مقالة الشيخ متطورة أبعد من كل نظائرها في الحركة الإسلامية نظرا للخطوات التي قطعتها في تطوير خطابها لا سيما التعددي والديمقراطي. فالوحدة التي يتحدث عنها الغنوشي تتناسى التعددية المذهبية ، والحرية التي أصل لها في كنانيشه الحركية لا تستحضر حقا طبيعيا للاختلاف في كل العناوين والمصاديق التي تعتبر موضوعا لحق الاختلاف وحرية التعبير ومشروعيته. شخصيا لا يزعجني وجود تيار وهابي مهما بالغ في الحملة ضد الشيعة شريطة أن تضمن حقوق النقاش الحر ونضج الاجتماع السياسي الذي وحده كفيل بتهذيب شكل ومضمون نقاشاتنا. اليوم يأخذ الجدل الشيعي السني نمطا تقليديا لأنه يستند إلى الحجاج التقليدي ويتغذى على الأنماط نفسها في تجريم وتكفير الآخر. لكن حينما يصبح المجال أكثر ديمقراطية فإننا سنضطر معا إلى تجاوز الكثير من الأنماط والأساليب والمنظورات والأهداف التي واكبت الجدل المذهبي العقيم. يحدث هذا حتما لأننا في الأجواء الديمقراطية للنقاش الحر نصبح أكثر مسؤولية وأقل شقاوة ، لأننا سنوجد في الفضاء العمومي وليس وراء حجاب. "" مقالة الشيخ الغنوشي متحررة بعض الشيء من ذلك الهاجس الذي انتهى إلى إحدى أهم ابتكارات ذات متأسلمة مرضية: الشيعوفوبيا وغريمتها الإيرانوفوبيا. وإذن من يملك وصفة غير الاستئصال؟! هل يريدون من إيران أن لا تكون شيعية حتى يرتاحوا؟! أم يطلبون منها عدم التدخل؟! لكن من يحدد معنى التدخل وما معنى أن يصبح التشيع خطرا لمجرد أن يقدم وجهة نظره ويبسطها ضمن مختلف الآراء المبسوطة في عالمنا اليوم ؟! ما يختفي داخل ثنايا هذا الخطاب ، هو أن العقل نفسه يحاول وسعه التحرر من أنماطه القديمة. لكنه لا يقوى على الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن أفكاره. الغنوشي يعتبر ويختزل الحكاية في جملة من القضايا التي تبدو له في حكم ما عفا عنه الزمان. الظاهر في كلام الغنوشي أنه يحاول أفضل من غيره أن يتحرر من عقدة الملل والنحل. لكنه في ظني لا زال الطريق أمامه طويلا. فهو يستهين بالفكر الشيعي ويحاكمه ويصنفه ويحاكمه برموز ومواقف يصدرها على أنها منتهى الحق . يقول:"ورغم أن التشيع أوسع من أي دولة، فإنه لأسباب واقعية كاد يتحول عنوانا من عناوين الجمهورية الإسلامية، بما جعل كل شيعي مظنة شبهة ولاء لإيران المتهمة بالتدخل في الشؤون الداخلية للمجتمعات السنية عبر إحداث اختراقات في بنائها المذهبي من طريق ما ينسب لبعثاتها الثقافية من نشر لمطبوعات تنال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثير خلافات عفا عليها الزمن، وهو ما حدا بالشيخ البوطي –حسبما نقل عنه بعض العارفين- أن يتقدم بملف موثق بنشاطات شيعية في سوريا تسهر عليها السفارة الإيرانية، مما أفضى إلى تغيير السفير". الشيخ الغنوشي يتحدث بأحجيات لا بحقائق. ولا أدري ما مصدر هذه المعلومة . وشخصيا لم أسمع بهذا وقد عشت ردحا من الزمان في الشام. ولو أنه تأمل قليلا لأدرك زيف هذا الكلام. للشيخ البوطي وغيره حكايات من هذا القبيل ومحاولات لم تكن دقيقة. لكن لم نعرف أن سفيرا إيرانيا قد تغير في الشام لهذا السبب تحديدا. وحتى أذكر شيخنا ، فإن سفراء إيران في دمشق قليلا ما يتغيرون وقد كان أطولهم مكثا الشيخ أختري وشاهدا على الفترات الديبلوماسية الكبرى بين البلدين وقد عاد سفيرا بعد أن ترك الديبلوماسية فترة من الزمان لأسباب لا صلة لها بحكاية صاحبنا. يمعن الشيخ الغنوشي في مثل هذه الأحجيات التي تنقل في العادة من أفواه حضّار الديوانيات والجلسات غير المنضبطة بقواعد الإخبار العلمي ، فيقول:" ولقد كان صديقنا الشيخ محمد علي التسخيري قد نبه إلى الضرر الذي ينال مصالح الجمهورية الإسلامية من نشر بعض المطبوعات التي تنال من عقائد أهل البلد مثلما حصل في السودان وأدى إلى إغلاق المكتب الثقافي الإيراني. ولا يزال الشيخ القرضاوي ينبه إلى خطر هذه الاختراقات. ". وقد رأينا كيف أن الشيخ التسخيري نفسه قد تعجب من الجلبة التي أحدثها القرضاوي في مؤتمر التقريب بالدوحة. ولا أدري كيف سلم الغنوشي بما نبه إليه القرضاوي ، حيث ينبغي على شيخ طليعي على رأس حركة إسلامية مهمة، أن لا يمضي على أقاويل حركت الشيخ القرضاوي ولم يفحصها الفحص المطلوب. وقد كان الشيخ المذكور قد بالغ في تنبيهاته حتى كاد يحدث فتنة مراهقة لا تشرف اتحاده العلمائي المنتقى وفق مقاييس أقل حتى من المحاصصة الطائفية التي تستنكرونها. وقد كانت جلبته حول قبر أبي لؤلؤة أشبه بتخريفة القبر نفسه ، لشخص حدّ في الجزيرة العربية وفجأة يصبح دفين ضواحي كاشان. وقد صادف أن قمت في تلك الأثناء برحلة استكشافية لهذا القبر ، فكان أن وجدته قبرا نائيا ، تطلب منّي الأمر إصرارا وصبرا حتى عثرت عليه وهو اليوم مقفل بقرار رسمي. وحول هذا القبر نسجت حكايات عديدة. حكى لي بعض المؤرخين المتخصصين بأن الأمر يتعلق باسم آخر لأحد العارفين . ثم لا حظت أن أغلب علمائهم ونخبهم تجهل هذا القبر وربما ظنوا أنه من نسج الخيال، خلافا لمزاعم أصحاب الجلبة. وقد كان القرضاوي هو من نبه إلى ذلك القبر وهو من أشاع أمره . بينما كان من المفترض أن تتحرك لجنة من اتحاده العلمائي خارج الضوضاء لتنبيه السلطات الإيرانية بذلك وإطلاعهم على موقفهم وتوضيح الأمر بشكل يساعد على وأد الفتنة. هناك بلا شك أفعال وردود أفعال. إذا لم يتم السيطرة على التجديف السلفوي الغالي في الإساءة فلن يملك أحد إقناع شريحة من داخل العالم الشيعي ترى من حقها الدفاع عن عقائدها. وفي ظني ، لنتركهم جميعا يتراشقون بالكلام طالما هو الكلام مقابل الكلام. فحينما تنضج سياساتنا وثقافاتنا ومقاصدنا ستفرض على هذا الضوضاء بعض اللياقة. يتحدث الغنوشي عن ولاية الفقيه باعتبارها مظنة لاختلاف الشيعة. وهذا حق. لكنه سرعان ما يقول إن بعضهم يتحدث عن مقابلها ولاية الأمة عن نفسها، بوصفها مقابل لولاية الفقيه. وإذن لم تعد فكرة ولاية الأمة حكرا على الإسلام السني بل ربما هي منتج للفكر الشيعي نفسه. لأن الفكر السياسي السني يرى ولاية الخليفة والسمع والطاعة لغير العادل. المسألة هنا تحتاج إلى كثير من التأمل. وهناك أخطاء كثيرة يرتكبها من ينظر إلى ولاية الفقيه الشيعية نظرة من خارج قواعد التفكير والفقه الشيعيين. الذين يرفضون من الشيعة ولاية الفقيه كما يحب الغنوشي وغيره أن يتحدثوا ، إنما يرفضون الولاية من جهة الإطلاق والتوسعة . ولذا كان مقابلها هو الولاية المقيدة لا ولاية الأمة على نفسها التي هي خارجة موضوعا عن محل النزاع. لا يوجد شيعي واحد بل لا يوجد متشرع سني واحد يستطيع أن ينكر شرعية ولاية الفقيه بغض النظر عن قيد الإطلاق أو قيد الحصر. في بيئاتنا السنية كالشيعية هناك دائما الفقيه له أولوية القضاء والرجوع إليه في قضايا العقود كالزواج ومسائل الحسبة. لا أحد من الشيعة بمن فيهم من يعتقد بولاية الفقيه المطلقة يرفض أن تتولى الأمة زمام أمرها لتختار ما يصلح أحوالها وفق اختياراتها وقناعاتها. وفيما يخص إيران فإن ولاية الفقيه الموسعة أصبحت أمرا دستوريا بناء على استفتاء حر للأمة. فالأمة هنا اختارت نظامها القائم على ولاية الفقيه. ولاية الفقيه لم تأت هنا فوق ظهر دبابة أو بانقلاب عسكري. بل الأمة هي التي انتفضت واختارت. وعموما هناك تفاصيل في الموضوع لا يتسع لها المقام. لكننا أحببنا هنا أن نوضح بأن مجرد استعمال بعض المفردات وتوظيف بعض الإيحاءات المفاهيمية لا يفيد الحقيقة في شيء. لأننا بإمكاننا أن نسائل الشيخ الغنوشي: ماذا لو رفض الناس في تونس خطاب حزب النهضة وبرنامجها؟! بل ماذا لو رفضوا المشروع الإسلامي برمته؟! إننا ندرك أن مزايدة بعد أقطاب الحركة الإسلامية على الفكر السياسي الشيعي المعاصر لا سيما نظام ولاية الفقيه ، ليست لها مصداقية ، لأنهم في صميم خطابهم الحركي يعتقدون بمفهوم الحاكمية وحكم الشريعة وهي مهما بدت شورية في إيران أيضا هناك نظام شوري بموجبه يختار الشعب الولي الفقيه عبر انتخاب أعضاء مجلس الخبراء ، وهناك برلمان يزاول فرقاءه وظائف اقتراح قوانين والتصويت عليها فهي ستنتهي بنا إلى فكرة الخليفة وسلطاته الموسعة . في النظام السياسي الإيراني هناك ولاية الفقيه والدستور الذي ينظم ويشرح حدود اختصاصاتها وسلطتها. لكن في النظام السياسي الذي تعتقد به الحركات الإسلامية في المجال السني سوف نكون أمام خلفاء عن الرسول (ص) ، الله وحده يعلم كيف سيحددون صلاحية الخليفة. وحتى لو كانوا عدلوا تكتيكيا عن هذه الفكرة التي شكلت عند البعض هدفا مشروعا كما عند حزب التحرير وجماعات الإخوان المسلمين ، فإنهم لا يستطيعون تصور الحاكم إلا كخليفة متى أمكنهم تحقيق ذلك. المزايدة هنا مرفوضة. والحركات الإسلامية في المجال العربي ولا سيما النهضة التونسية التي ترى نفسها متقدمة في طرحاتها لا تفعل أكثر من استدماج مفاهيم عن الشورى والديمقراطية والتعددية لا يمكن أن ندرك مصداقيتها طالما هي مجرد دعوى تقتات على ردود الأفعال التي تثيرها المشاريع المتحققة على الأرض. هؤلاء يستغلون الخطاب النقيض ويقيمون جمهورياتهم المخملية على الكاسيت وفي ثنايا الخطب لأنهم لم ينجحوا في تحقيق مشروعهم ليدركوا خطورة الموقف وأيضا حتى تتم المقارنة بين المشروع الإيراني والمشاريع الأخرى على قدم سواء من الواقعية. إيران تباشر الحكم وتخوض في الواقع بينما بعض الحركات الإسلامية تزايد عليها بالخطاب والتنظير. علما أن ولاية الفقيه كانت هي الصيغة اليتيمة الوحيدة التي حلّت إشكالية القيادة في فكر الحركات الإسلامية المتأثرة بخطاب المودودي وسيد قطب. لقد تحدثوا عن الحاكمية ولكنهم لم يشخصوا الحاكم ، حيث أجّلوا البت في ذلك وعلقوه على المستقبل. حينما طرحت فكرة ولاية الفقيه بصيغتها النهائية في نهاية الستينيات بصورة تكاد تكون مغلقة داخل العالم الشيعي ، وحينما تعرف عليها العالم الإسلامي في ثمانينيات القرن المنصرم ، لم تكن هناك طرحات في الحركة الإسلامية تتعلق بمن يجب أن يحكم. وإذن هناك وفي هذه المرحلة تعين إقامة المقارنة بين التجربتين. وأما النقاش السياسي والفكري الذي يجري اليوم في إيران حول الفكر السياسي هو من التطور الذي يجهله المتلقي العربي. لكن وجب أن نعترف بأن الشيخ الغنوشي كان أفضل من غيره في رصد واقع التشيع العربي وضرورة تجاوز الأحكام الوهمية التي تتحدث عن التشيع كما لو كان أهله اتجاها واحدا وهوى واحدا. يقول:" أتباع المذاهب الشيعية مثل غيرهم موزعون على أوطان شتى، هم جزء منها، يتأثرون بأوضاعها، وقد تبلغ خلافاتهم حد هدر الدماء، كما كان قد حصل في لبنان بين حزب الله وأمل، وفي العراق بين الصدريين وجماعات أخرى وبين سلطة حزب الدعوة والمجلس، فمن التبسيط بمكان اعتبار التشيع السياسي أو الديني شيئا واحدا وكذا الأمر نفسه يصدق على التسنن، فهو متعدد دينا وسياسة، تعددا يصل إلى استباحة الدماء، ففي الجزائر تقاتلت الفصائل المسلحة وانحاز إسلاميون إلى العسكر في القتال ضد جماعات إسلامية أخرى". مثل هذه الحقائق كنا ولا نزال نذكر بها ونتحدث بها عسى أن يفهم الموتورون بأن خطاب الاستئصال لا يفيد أحدا. وبأن الدرس الحقيقي الذي يجب أن نفهمه جميعا سنة وشيعة ، هو أن نؤمن بحق الاختلاف وحق التعبير عن الاختلاف. ولا يجوز لأحد أن يمارس الأستاذية باختزال شديد ضد الشيعة في محاولة مغالطة وترهيبية أيضا: كلما تحدثوا بموجب ما يعتقدون فيه ، زمجر المخالف واعتبر ذلك فتنة. حينما ندخل الكون الحديث كله وليس بعضا من كواته سندرك أن الخلاف كان وسيظل، وإذن لماذا نسعى لقمعه ببلادة ؟! ومرة أخرى يردد الغنوشي حكاية التطهير الديني الذي قام به الفاطميون ضد المذهب السني. وهو يحاول أن يهدئ من روع السنة ولا يهمه أن يأخذ بخاطر الشيعة ثم يطالب بالوحدة. لا أدري هل هي وحدة بين السنة والسنة أم بين السنة والشيعة. لا مكان في كلام الغنوشي لمقام الشيعة كما لو كتب عليهم أن يحاكموا فقط وإن اقتضى الحال أن يبرؤوا نصف براءة تفضلاّ. هذه في نظري وأنا ابن المجال السني غطرسة سنية يجب أن تضمحل لصالح وفاق إسلامي تحترم فيه جميع الحساسيات. وفيما يتعلق بأحوال الدولة الفاطمية، أعتقد أن هذا درس تاريخي يجب النظر فيه بعقل نقدي خارج الممضوغ المتهافت لمؤرخي الغلب. لا أدري لم لا يتحدثون عن الإبادة التي قادها صلاح الدين الأيوبي ضد الفاطميين.. ألا ترون ذلك إبادة وتطهير؟! وإذن الغنوشي يقدم السردية نفسها ، وعلى الشيعة أن يقبلوا بهذه السردية السنية المدللة والمدلعة وإلا فهي الفتنة. هناك مقاربة ساذجة للتاريخ مفادها أن الناس اختارت مذاهبها ، وبأن حكاية الانقلاب على العبيديين إنما هو ثورة مخملية لسواد عين مذهب من المذاهب الإسلامية وليس الأمر له صلة بصراع حول السلطة توظف في طريقه كافة الاختيارات. إن أفضل وسيلة لتكريس الغلب ضد الفاطميين هو هذا التوظيف المذهبي والتباكي على المذهب السني في شمال أفريقا كما فعل المنشق المعز بن باديس علما أن شعار أئمة الفاطميين كان: دعوا الناس لمذاهبها. وبأن دولتهم لم تكن دولة قهر واستطالة. وإذا كان الشيخ الغنوشي لم يطلع على سردية أخرى أكثر منطقية واعتدالا لأدوار الدولة الفاطمية ، فإنني أرشده إلى أقربها وأمتعها: "فاطمة والفاطميون" لعباس محمود العقاد، لعله يدرك أن الأمر يتعلق بقراءة متعسفة لهذا المفصل التاريخي. يقول الغنوشي وهو يتشفى في تاريخ الدولة الفاطمية فيما هو يحاول تجاوز الموقف النمطي البالي عبثا:" وبزوال دولته زال التشيع نهائيا من المنطقة، كما انقطع من مصر نفسها بعد سقوط دولته على يد صلاح الدين. وظلت المنطقة أزيد من ألف سنة خالصة للمذهب السني عدا قلة من الإباضيين تأقلموا مع الأغلبية وتعايشوا معها في أمان، وظل الأمر كذلك حتى أواخر القرن الرابع عشر الهجري حيث بدأت خيوط رفيعة جدا من التشيع الديني تدخل المنطقة على متن التشيع السياسي، مناصرة للثورة الإسلامية ولبطولات حزب الله.". لم يكن الأمر بطبيعة الحال يتعلق باختيارات شعبية حرة كما تزعم السردية التاريخية المرددة بوعي وبلا وعي. لم تفتح دولة الأيوبيين فضاءا للنقاش الحر حتى يختار الناس مدارسهم. فمن ناحية إن انتشار المذهب المالكي في المنطقة ظل جاريا حتى في العصر الفاطمي. وهذا يؤكد على أن الناس ظلوا على مذاهبهم . ليس مذهب الشيعة هو من اختفى فور سقوط الدولة الفاطمية. بل لأنه لم يكن من المتشيعين هناك سوى الدولة . أما الشعب فقد خلي لحاله ما خلى شريحة أبادها الأيوبيون بوحشية عادت ما تحجبها الأدوار الأسطورية لصلاح الدين الأيوبي. ثم لا ننسى أن هذه القراءة غير العلمية للتاريخ تتغاضى عن سياسة القمع والفرض التعسفي الذي قامت به دولة الأيوبيين ، والتطهير المذهبي الذي مارسته بالقهر. اختفى التشيع من المنطقة لأسباب تتعلق بالتطهير وليس بالاختيار. وإلاّ لماذا نجدكم اليوم ينتابكم كل هذا الخوف من تشيع بضعة أفراد في المنطقة؟ بل دعني أسأل فحسب: لماذا تحاولون مصادرة حرية الأفراد في اختيار قناعاتهم ؟ إذا كان الأمر يتطلب كل هذه القرون لكي يتعرف الناس هنا على آراء الشيعة ، فذلك ليس مدعاة للتهوين ، بل هو فضيحة تاريخ ظل يخفي ويقمع ويمنع ويحرف ويغالط. لقد تطلب الأمر ثورة تكنولوجيا وعولمة وانهيار الحدود وانتقال المعارف رغما عن السلط التقليدية الغارقة في الترهيب وقرونا من الزمن المهدور ، حتى يتعرف الناس على الآخر من أمتهم. ترى أين كنتم تسجنون حقيقة الآخر طيلة هذه القرون؟! أم ستقولون أن الأمر يتعلق بظاهرة جزافية. نعم أتفق مع الشيخ الغنوشي في تساؤله الثاني، أي أن الأمر عفوي لا علاقة له بالتخطيط. وأريد أن أستغل المناسبة لأقول: إن الغنوشي وكثير من أمثاله يريدون للشيعة أن لا يتعاطفوا مع المتشيعين في البلاد العربية. نوع من الإرهاب الشعوري ، يسعى إلى بتر نزعة إنسانية مركوزة من الشيعة ليسوا فيها بدعا من خلائق الكون؛ أن لا يتعاطفوا مع من يشاركهم المعتقد. وهذا موقف غير إنساني حتما. بل تراهم يتمنون أن يعادي رموز الشيعة المتشيعين، لأنهم يسببون لهم الحرج. وللأسف بعض الأعلام الشيعة يقعون في الفخ، ويؤكدون على أنه ليس المتشيعين هم مصدر حرج وإزعاج فحسب ، بل يؤكدون أن عقيدتهم أصبحت حرجا عليهم مما يوقعهم في التناقض. نعم ، نحن جميعا مع الوحدة والنهضة والإصلاح والسلم المجتمعي والإيجابية وهلم جرا. ونعتقد أن النقاش المذهبي يجب أن يكون حرّا علمائيا مسؤولا لا يقايض على عقل الأمة بمطالبها التاريخية في التقدم . إننا لا يمكننا أن نمنع أحدا من الاعتقاد ولا من التعبير عن اعتقاده، من منطلق نشداننا للتحرر والديمقراطية والانفتاح والإيجابية والواقعية. في تقديري إن النقاش في المذاهب لا يمكن إيقافه. وحيث لا يمكن إيقافه فلا يمكن تهذيبه إلا بعد أن تنطفئ جوعة الفرقاء من كثرة الجدل . إن الأمة عليها أن تجرب النقاش دون قيد ، قبل أن تجرب النقاش العقلائي و حتى تنضج في أجوائه وتكسب تجاربها في ميادينه. إن العالم الإسلامي الذي تريدونه صامتا لا ينطق إلا بسلطة الفئة الغالبة هو عالم لا يمكن أن يعيش في القرن الواحد والعشرين. وقد تخلف وانحط عالمنا الاسلامي حينما اختار سياسة القمع والرأي الواحد وليس لأنه كان موحدا بالأمس. المسألة أقل تعقيدا وهي أبسط من كل ذلك. دعوا الناس لمذاهبها وارفعوا يدكم عن حراسة الفكر، واهتموا بالأمة ونهضتها في عموماتها وفي دائرة المشترك الذي هو أوسع مما تحجبه النداءات الطائفية الهجينة. كيف يدعوا الغنوشي للتعددية والشورى والحرية وهو مثل غيره يحاولون أن يسوقوا في مشاهد السياسة بضاعة لا يؤمنون بها ، حيث الامتحان الديمقراطي والتحرري والحقوقي هو هنا: دعوا الناس لمذاهبهم ولا تمارسوا ضغوطا من قبيل ما كان من أمر دواوين التفتيش البالية التي سجنتم في أنماطها عقولنا. شخصيا أقول : لا إشكال عندي أن تستمر كل المذاهب الإسلامية . ولا إشكال عندي في وجود التيار الوهابي حتى في أوج حماقاته الاستئصالية. لكن لماذا حينما تصل أفراسكم الجحفاء إلى منعطف التشيع تصبح لها كبوة؟ لا زال الغنوشي كغيره من زعماء الحركة الإسلامية في العالم العربي يحبون تجنب الواقع والهيام داخل أحلام اليقظة. قراءة جادة للتاريخ الإسلامي تجعله كله أهواء وملل ونحل. ولم تكن الوحدة فيه مخملية ، بل كانت مؤسسة ومنظمة ومحكومة بأخلاقيات من القبول بالجميع. لقد كان خلفاء بني أمية وبني العباس يحلمون ويخططون بأن يفرضوا مذاهب محددة على رعاياهم. لكنهم فشلوا. غير أننا في عصرنا الموسوم بالتعددية والديمقراطية وخطاب الحقوق ، حققنا ما كان من جنس أحلامهم وتفوقنا عليهم فطوبى لنا بديمقراطية تبخيس الآخر واستئصاله. المطلوب يا سيدي الغنوشي وأنا على فكرة احترمك جيدا ولك مقام خاص في قلبي، لذا أرجوك أن تتحملني قليلا ليس أن نجعل من أحلام توحدنا الإنصهاري بديلا. بل المطلوب أن نتقدم أكثر على طريق الواقعية لنعلن وضعا أكثر انفتاحا وتحررا وتعددية تفرض علينا جميعا مسؤوليات حضارية في الخلاف. إذن هناك خارطة طريق لحل هذا النزاع ، اسمعوا جيدا : دعنا نتواضع أكثر ونعترف بالواقع أكثر ونقلل من أحلامنا الظلامية الساذجة و نعلن بقرار نهائي انتماءنا إلى عصرنا وفلسفته التواصلية ، حينها فقط تنحل مشكلة مذاهبنا المحروسة! [email protected]