المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنصاف الشيعة من علامات الرشد
نشر في هسبريس يوم 20 - 07 - 2009


مع طه حسين والعقاد وعبد الله العروي... ""
هناك بلا شك حيرة ألمت بخصوم الشيعة جعلتهم يتحولون من الصناعة التاريخية المنمطة بمستوى دقيق من الوعي بوظيفتها الزائفة إلى حالة الهسترة التي أدخلتهم في طور النوبات البسيكوزية التي بموجبها يتم التصديق بما كان مجرد صناعة مدبرة. هكذا أصبح ما يقوله خصوم الشيعة عن الشيعة يبدو لهم يقينا في منتهى الحقيقة. بل أصبح دينا يختبر إيمان المرء من خلاله حسب درجة اعتقاده بكفر الشيعي. وهي الصورة التي لم يتحرر منها إلاّ من شذّ و نذر من الباحثين الذين منحو مساحة كبيرة من المعقولية والموضوعية لعقولهم حتى يميزوا بين الحقيقة والزيف في تاريخنا الموسوم بالتحريف والتزييف والنزعة التفاضلية. وإذا كان حضّ الاستشراق هو الآخر من هذا النمط من التحيز واضحا جدا1 ، فذلك نظرا لاستناده إلى تاريخ الغلب إلا ما استثني من محاولات جريئة ومبدعة كما رأينا مع ماسينيون وإيفانوف وبرنار لويس وهنري كوربان ، ما يدعو الباحث العربي المعاصر إلى الكثير للتسامي فوق هذا النمط المخجل من الفهم والكتابة التاريخية. وحسبي عينات من بين الباحثين العرب أمكنهم الغور أبعد من الوفاء لهذه الصورة النمطية التي تتيحها الاسطوغرافيا العربية: مثل عميد الأدب العربي طه حسين و عباس محمود العقاد ، وثالث حتى لا نطيل، لنقل عنه عميد الفكر التاريخي المغربي عبد الله العروي. دعنا نسمع إلى هؤلاء، وأنا أنصح المثقف العربي أن يأخذ فهمه للتاريخ عن هؤلاء. ويسمو بوعيه التاريخي قدر سموهم. وعلى المتدانين المتسافلين في تجديفهم البليد أن ينظروا في مرآت هؤلاء ليكتشفوا أنهم أشوه قيلا وأسفه رأيا.
العقاد يفضح حكاية تاريخ حروفي
لقد كتب العقاد في سير العظماء حتى أنه لم يترك عظيما في عصره أو قبل جيله إلا وامتد إلى عبقريته يراعه منسدرا سيالا. ولا يسمح المقام هنا للوقوف عند رائعته الموسومة بعبقرية علي بن أبي طالب التي ربّع بها حديثه عن عبقرية الخلفاء الثلاثة، ولا في أبي الشهداء الحسين ، بل دعنا نقف على ما كان برر به حديثه عن "فاطمة الزهراء والفاطميين". فهو هنا يتحدث عن فاطمة انطلاقا من وفائه لثقافته المصرية لأبناء الصعيد الأعلى، حيث "بهذه النزعة الموروثة أطرق باب الكلام في حياة الزهراء"2. إن الملفت للنظر هنا أن العقاد انحاز إلى منتهى الموضوعية في رد مبالغات المشوهين للشيعة الفاطميين بدء بإنكار خصومهم للنّسب الفاطمي لعبيد الله، وانتهاء بتهمة محاولة تخريب الدين ونشر الإباحية. الكلام كثير هاهنا لكن نكتفي بما لفت إليه الانتباه ويصلح درسا كلاسيكيا في علم المذاهب المقارنة، وذلك حينما لفت إلى ظاهرة انفصال علم النفس عن علم التاريخ بخصوص قضية الإسماعيلية والباطنية معلقا بقوله:" ونحسب أن محنة التاريخ هنا أصعب من كل محنة ، لأن المؤرخ هنا يعمل عملين ولا يستقل بعمل واحد: يعمل لمعرفة الحقيقة ويعمل لاستخلاصها من الأباطيل التي تحجبها عن عمد وتدبير. وواحد من هذين العملين كثير على مؤرخي الورق والحروف"3.
وعلى هؤلاء الذين سماهم بمؤرخي الورق والحروف يستنكر تهمة هدم الدين التي نسبها خصوم الشيعة عموما وخصوم الفاطميين خصوصا إليهما بصورة تدعوا للتأمل. لقد أدرك العقاد بحسه التاريخي النقدي ضحالة هذا التجديف. فأحيانا كان العقاد يهيم في التحليل وينسى العبارة ، وينسى حتى أنه يكتب أدبا. فغواية النقد والتفلسف جعلت طه حسين يصفه مرة في حديث الأربعاء بأن عقله أطول من لسانه. والحق معه، انظر هنا كيف أن العقاد يرد على أولئك الذين كالوا التّهم بنوع من الحشو الزائد دون إعمال نظر. يتساءل العقاد قائلا:" وأطرف منه أن يقال عن رجل أنه معطل منكر للمعاد منكر للأديان، منكر للوعود الإلهية ثم يقال عنه أن كراهة دين من الأديان تبعثه إلى الجهاد سرا وعلانية والاستماتة في الجهاد حتى يتعرض للقتل والتشريد أملا في يوم من الأيام يزول فيه هذا الدين ويشهد هو زواله أو لا يشهده بعد سنوات أو بعد أحقاب وقرون.
إنما يعمل هذا العمل لهدم دين من الأديان من يؤمن بدين غيره ويعمل لقيام دولة من أبناء دينه. فأما المنكر المعطل لكل عقيدة فلن يبقى في نفسه من الحماسة الروحية ما يهون عليه المشقة والخطر ويقيمه ويقعده كراهة لدين هو وغيره من الأديان عنده سواء"4
وهكذا يرد العقاد هذا النوع من الفهم إلى القرون الوسطى حينما كان الناس يعتقدون بأن الكافر كان يتشارط مع الشيطان ويبيعه روحه وهذا غير مصدق في عصرنا حيث لا يعقل أن ينكر ملحد كل شيء ثم يتحمل أهوال الدعوة الباطنية لأي شيء كان5.
وهذا رد على من زعم أن هؤلاء الشيعة الفاطمية وعموم الشيعة هم ملاحدة لا دين لهم وإنما جاؤوا لهدم الدين وإشاعة الإباحية. فهذه الدعوة مرفوضة وضعيفة فالتهمة ضعيفة لأنها جاءت من مغرضين غرضهم معروف (...) وفي التهمة من الضعف فوق هذا وذاك أنها لا تجري مجرى المألوف من طبائع النفوس. فان الرجل الذي يكفر بالدين عامة لا تملكه الحماسة لهدم دين ولا تبلغ منه هذه الحماسة ان يصبر للجهاد الطويل ويستهين بالخطر على الروح والراح وهو يحارب السلطان ويحارب اجماع الناس من حوله على اختلاف النحل والأديان"6
وعلى المنحى نفسه صار مؤلف السيرة الفاطمية يستصغر شأن الهجاء المتخبط في اتهام الشيعة عموما بالإلحاد تارة والمجوسية أخرى واليهودية ثالثا، بما يوحي بتناقض التهم وتخالف الأحكام. وأما تهمة الباطنية فهي في نظر العقاد تسري على مذاهب ذلك العصر طرّا. فكلها ولعت بالباطنية بنحو من الأنحاء. ولو لم تقترن الدعوة الفاطمية مثلا بالدعوة إلى قيام دولة محاربة لما دعا وضعها إلى ذلك القدر من الاستغراب. في نظر العقاد ، كانت كل المذاهب في ذلك العصر باطنية بشكل ما سواء أكانت سنية أم شيعية . وقد ضرب مثالا بالغزالي وهو من أقطاب السنة كان يؤلف كتبا للعامة وأخرى للخاصة7.
تعلموا الموضوعية والإنصاف من طه حسين
وبينما كان ذلك رأي الناقد والأديب العربي الكبير عباس محمود العقاد، كان موقف عميد الأدب العربي طه حسين غاية في التسامي عن لغة التنميط الاسطوغرافي . فمنهج الشك المنهجي الذي طبقه طه حسين على الحوادث التاريخية أثمر نتائج ما كان لها إلا أن تؤدي إلى ضرب من الاقتصاد في المعرفة التاريخية وطرح زوائد التزييف والتحريف والتوهيم. من ذلك ما كان من رفضه التسليم بأسطورة عبد الله بن سبأ التي اعتبرها من وضع خصوم الشيعة المغرضين. وقد حلل وضعية ابن السوداء المعروف بعبد الله بن سبأ ، حينما تساءل عن غياب دوره التآمري في أعقد الحروب وهي صفين، كما تساءل عن سرّ عدم حضوره في أمر الخوارج فضلا عن الاضطراب الذي رافق استعمال إسمه ومواقفه. وفي نظر طه حسين ، إن خصوم الشيعة إمعانا في الخصومة والتشويه أرادوا أن يقحموا عنصرا يهوديا في الحركة الشيعية. وعليه فليس ثمة ما يعلل عدم وجود ابن السوداء في حوادث صفين ولا في حزب المحكمة. بل في نظر طه حسين:" أما أنا فلا أعلل الأمرين إلا بعلة واحدة، وهي أن ابن السوداء لم يكن إلا وهما ، وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي يصوره المؤرخون وصوروا نشاطه أيام عثمان وفي العام الأول من خلافة علي. وإنما ادّخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم ولم يدّخروه للخوارج "8. إن خصوم الشيعة لا يكتفون بما يسمعون عن الشيعة بل يضيفون إليهم أكثر مما قالوا وسمعوا. ويظل خصومهم واقفون لهم بالمرصاد يحصون عليهم ما يقولون وما يفعلون9 ويضيفون إلى ذلك أشياء كثيرة ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال ومع مرور الزمن وذهاب أصحاب المقالات يزداد الأمر إشكالا وبعد كل هذا التراكم البغيض تدخل الأمة في "فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلاّ الأقلون"10.
وكما سبق وتحدث العقاد عن كون الفلسفة ظلت شيعية بامتياز ، ضاربا مثالا بالكندي والفارابي وابن سينا ، فإن الإعجاب نفسه نجده الآن حيّا عند طه حسين، لا أدل على ذلك حينما حضر هذا الأخير وقائع الكلمة التي ألقاها آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الزنجاني أحد كبار علماء الشيعة من النجف حين قدومه إلى مصر. لقد أعجب طه حسين بالعلامة عبد الكريم الزنجاني، وبلغت الحفاوة والإعجاب به حدّا جعله يقبّل يده ويقول :هذه أول يد أقبلها في الشرق. وقد قال في حقه عميد الأدب العربي ووزير المعارف المصرية الأسبق: " إذا سمعت محاضرة الإمام الزنجاني نسيت نفسي ورأيتني في حياة غير الحياة التي أعهدها وظننت أن ابن سينا حي يخطب"11.
أقول: ما أشبه هذا الوصف بوصف سبق من المستشرق الفرنسي ارنست رينان بعد الحوار الذي جمعه مع قطب شيعي من أقطاب النهضة العربية ، أعني السيد جمال المعروف بالأفغاني وهو في الحقيقة الإيراني من أسد أباد . فلقد تخيل نفسه وهو يتحدث مع السيد جمال الدين كما لو كان أمام ابن سينا، ولذا سماه فيلسوف الشرق.
عبد الله العروي يستقرئ المعنى الآخر
إذا انتقلنا من المنظور المشرقي واقتربنا في الزمان والمكان من مغربنا ، سنجد نموذجا متجددا من الرؤية مثّلها بعض الباحثين الذين اقتادهم الإنصاف والموضوعية للخروج برؤية أوسع وأعمق وأجدى أيضا لماهية الشيعة والتشيع. في كتابه "السنة والإصلاح" حديث الصدور، يلّمح عبد الله العروي إلى بعض المعاني للماهية الشيعية وحقيقتها التاريخية، كان من الضروري أن تحمل محمل الجدّ. ذلك لأنه قلّ من المغاربة من امتلك مثل هذا العمق في النظر خارج غواية التنميط والتقليد. وإنه بعد طه حسين لم أقف على فهم برّاني للتشيع من هذا الفهم الذي جاء في الكتاب الأخير عبارة عن شذرات حكمية. فتعريفه للشيعة واضح وبسيط لا يحتاج إلى تعمّل كما كان من فري المتحيز بالخصومة إلى تكريس أغراض خاطئة وراء التعريف. ف" من كانوا لا يتصورون أن تورث سلطة النبي وهي واحدة لا تتجزأ ، روحية وسياسية في آن ، إلا كما تورث الطبائع والعادات ، أي داخل البيت وحسب العرف ، فهم الشيعة"12.
وهم ليس كما بالغ خصومهم في حملهم على غير ما يدعون كما رأينا من طه حسين والعقاد وأكثر المؤرخين المنصفين، فليسوا كما وصفهم خصومهم بأنهم يقولون باستمرار النبوة في أئمتهم بل " يقول الشيعي: لا نبي بعد النبي ، لكنه يزيد أن سر الرسالة أورثها النبي لعلي بن أبي طالب إذ نص على خلافته، وعلي أورث ذلك السر ذريته جيلا بعد جيل حسب قانون الطبيعة. ثم يحتج : وخصومنا أنفسهم لا ينكرون أن الحق يورث ، إلا أنهم قدموا الغريب على القريب، الصاحب على ابن العم، أقدموا على تفضيل من اختاره البشر على من ميزه واصطفاه الخالق"13.
إن الشيعة ليسوا خارج منطق السنة، بل هم أصحاب سنة أخرى في عرض سنة السنة، لقد اضطر المخالفون منهم " في النهاية (...) إلى تأسيس سنة موازية، باعتماد الطريقة نفسها التي سار عليها أهل الجماعة، وهو حال الشيعة"14.
إن الخلاف ليس حول السنة بل في تفاصيل السنة، لنقل أن الشيعة بخلاف الخوارج هم أصحاب سنة لكنها سنة تعارض سنة . ف" لا يعارض الشيعة فكرة السنة بقدر ما يتشبثون بسنة مخالفة. أما الخوارج فإنهم لا يرضون بأية سنة، بأي تقليد مستقر ومتراكم".
ومن هنا جاذبية التشيع ونجاحه في أن يستمر ولا ينقرض كما هو شأن الخوارج. الفضل في ذلك لهذه السنة التي مكنته رغم إخفاقاته السياسية من الازدهار والانتشار . وعليه ف" إذا كان حكم المذهب الخارجي منذ البدء أن يتراجع ويضمحل ، فإن المذهب الشيعي عكس ذلك ، لم يفتأ ينتشر ويتقوى ، بل أوشك أحيانا على الفوز بولاء الغالبية. وحتى بعد أن أخفق مشروعه السياسي ، فإنه احتفظ بجاذبية لا تنكر جعلت منه دائما قوى خفية مؤثرة في جل المناطق والمحافل"15.
على الأقل هناك اعتراف من قبل الباحث بمتانة النسق الشيعي النظري وصراطيته الصلبة التي كانت وراء قوّته ، وذلك لأن السر " هو أن المذهب الشيعي يسير دائما إلى أقصى ما يحتمله كل اختيار قالت به الجماعة. وهذا التطرف النظري، هذا الاتساق في المواقف كان باستمرار عامل قوة على المستوى الفكري (الأيديولوجي) وعامل ضعف وتخاذل على المستوى العملي".
الحديث عن السنة والشيعة حسب هذا المنظور تندك معه التمايزات الجوهرية بين المذهبين. فما يحمل على أحدهما يحمل على الآخر غرما وغلبا. حيث " كل ما نقوله عن التراث السني سلبا أو إيجابا ، ينسحب على مقابله الشيعي ، إذ الأصول واحدة والمنهج واحد والمصطلح واحد"16.
إذن إلى أي حد يمكننا القول أن التشيع سيكون بديلا عن التسنن أو العكس في معركة كشف التاريخ عن أنها لم ولن تكون حاسمة ؟ إن التشيع كما التسنن لا يمكن أن يكون بديلا عن الآخر. وعلى "عكس المذهب الخارجي ، لا يمكن للمذهب الشيعي أن يرشح نفسه بديلا على المجتمعات السنية"17.
بل إن هذا التشاكل في جوهر المذهبين أدّى إلى اعتماد السنة أنفسهم فكرة الوراثة ، حيث لا محيد عنها البتة في حجاجياتهم حول الحق الشرعي. إذ من الممكن أن " يدعي الشيعي أنه هو الذي أرغم خصومه بعد ممانعة على الإقرار بأن لا محيد في نطاق التنزيل عن التوريث"18.
إنني لا أطلب من العروي أن يقول أكثر من ذلك فهو حسبه. وأما ما بدا لي من فتوق وثغرات في بعض مستويات الاستيعاب للتشيع فهو ليس ضارّا لمن هو برّاني عن هذا الاعتقاد. فثمة أمور لا يفهمها عن الشيعة والتشيع حقا إلا من كان شيعيا. وأحسب ذلك مفهوما بالبديهة. ولذا فإن مسألة القانون الطبيعي وما شابهها فيها الكثير من التأمل ليس هاهنا مقامه ، بل هي من تعبيرات وتوصيفات خصومهم . وحيث أن المجال في فرز الأفكار وتصنيفها لا يقتضي الغلو في المجاز كما فعل العروي: فكيف نحلّ يا ترى بالمجاز ما ورطنا فيه المجاز ؟!
لا أختلف مع العروي في فهمه العميق وهنا تكمن نباهته التاريخانية في تقييمه لمفهوم وجوهر التشيع التاريخي، في كتابه الذي فضّل أن يصيغه على نمط النيتشويات المنطلقة. وأؤيد فهمه العلمي الذي هو على كل حال أعمق من سواه ، وأذكى بكثير من القراءة الأيديولوجية المستعجلة والمسطحة أيضا للتاريخ، كما فعل الجابري الذي كرّس أسلوب الغلب ونمطية الأسطوغرافيا التقليدية حتى وهو يمزجها ببهارات نقدية مغشوشة. أجل ، أؤيّده في كثير من الحقائق المجملة لسبب بسيط وهو أن هذا هو نفسه ما صرّحت به لوسائل الإعلام العجولة والجموحة والمدمنة على التسطيح ، لسنوات عديدة دون أن أجد آذانا صاغية متأنية وقلوبا عاقلة متأملة . سبق وقلت أنني أرفض الطابع المذهبي للتّشيع الذي هو عندي يأخذ معنيين: عام وخاص. والعام منه مفهوم متشكك يتراوح بين الشدة والتّضعف في الولاء. فثمة من يتشيع كثيرا وهناك من يتشيع قليلا. وكلهم مشمولون في ولاء ليس له أقصيان في التّضعف والشدة. حيث محاكمة الشيعة للسنة يتم استنادا إلى التشيع الثاوي في ثنايا التسنن نفسه.
وبعد : هل محاربة التشيع ممكنة؟
نسمع بين الفينة والأخرى عزما ووعيدا وزمجرة أسد غابوية جائعة خائرة، بأن محاولة ما تدبّر خلف القطبان لمواجهة مدّ شيعي أو بالأحرى أشباح متخيّلة في بلادنا لا وجود لها إلا في رؤوس تورمت بالشيعوفوبيا. ويبدو أن المتحمسين لهذه الأدوار العبثية والوعد ببيع الضمير على خلفية معاوضة جبانة يلبس فيها كل سليفي لباسا أكبر من قامته المتشقلبة في هيئة قروسطوية متكهّفة، كأنه "يوسف يمثل أبيه" ، يعد بما لم يقدر عليه عتاة التكفير وأبالسة الكراهية، تعويضا عن عطالة تنتظرهم خارج الأسلاك ، كما لو كانت محاربة التشيع شغل من لا شغل له ، وكما لو كان ذلك فضيلة أن تحارب ما يدين به الناس ويطلبون به النجاة لا يعتدون به على أحد ولا يطلبون به ما في يد الآخرين؛ حبّابين مسالمين أصحاب دعابة . فالمدار هو جدل الفكر وأخلاقيات الحوار. ومع ذلك أقول إن محاربة التشيع عملية عبثية أثبتت فشلها ، بل أثبتت فضيحتها. لذا كان لا بد من القول:
لقد أكد التشيع على أنه أمتن وأرسخ جذرا من أن يباد. ولعله من الخطأ الكبير الذي سعت ولا تزال تسعى إليه بعض الدوائر التي تفتقر إلى الحكمة والوعي التاريخي، أن تعلن الحرب على الشيعة. ومثل هذه الحرب العبثية يغرق فيها العالم السني بفعل الجماعات المتطرفة التي تحاول الاستيلاء على العالم السني وتحول دون تقدم المجتمعات الإسلامية. لا يمكن للفكر التكفيري والنزعات الاستئصالية أن تفرض واقعها المزري على المجتمعات وتزاحم قيم حقوق الإنسان ومبدأ التعددية وقيم احترام الآخر. والتشيع اليوم يتطور بشكل كبير وبمرونة عالية كما كان دائما ليتواءم من منطق التطور التاريخي واستيعاب القيم الحديثة والمعاصرة، لأسباب عديدة ليس أهونها استمرار فتح باب الاجتهاد والإيمان الفقهي الراسخ بمدخلية الزمان والمكان في عملية الاستنباط الشرعي ومفهوم فلسفة الفقه الذي يكاد يكون البصمة الشيعية المعاوضة لفكرة المقاصد المحاصرة بالوفاء للتقليدانية الفقهية عند السنة. وثمة ما هو أهمّ: إن المظلومية التاريخية لأهل البيت وشيعتهم جعلتهم أكثر من غيرهم أكثر إحساسا للحرية والعدالة وأكثر تفهّما للمختلف والآخر. إنهم يمقتون الطغيان ولا يشرّفهم أن يمارسوه، حتّى غدا التشيع عنوانا للتحرر والعدالة والإنصاف ومقتا للطغيان والاستئصال والجور. كان على أي حكيم أن لا يتذكّر بأن محاربة التشيع تتطلب أربعة أمور في التقدير الطبيعي لمنطق الأشياء أضعها بين يدي خصومهم:
سلطان غاشم يطلق يده من دون رادع لإبادة الشيعة عن بكرة أبيهم
مال ومؤسسات ضخمة توجه لصالح هذه المعركة الكبرى
شخصيات علمية وروحية كاريزمية تتولى مواجهة الفكر الشيعي عبر الجدل والحجاج
فكر وفقه يضاهي التطور الكبير للفكر والفقه الشيعيين
وعليه لا بد أن نقول:
لا أحسب أن واتت خصوم الشيعة فرصة القيام بالإبادة الكاملة للشيعة أكثر من القرون السابقة. وحيث كان السلطان والدول كاملة تسلط ضرباتها على الجسم الشيعي عبثا، كان لا بد لهذه الدراما أن تصعد مظاهر المعنوية الاستشهادية عند الشيعة حيث مانعوا ضد التعسف بالمعنوية العالية وروح الاستشهاد الكبيرة وبالحزن الذي أحاطوا به حياتهم كلها. حتى كانوا أكثر استيعابا لمعنى العدالة والحرية والكرامة . فالأمويون وبعدهم العباسيون وأضف إلى ذلك العثمانيين ، أمبراطوريات بكاملها لم تستطع هزم التشيع، رغم أنها جاءت في زمن لا حسيب فيه ولا رقيب على محاولات الإبادة الجماعية في حق الشيعة. وإذا كان ذلك لم يؤد الغرض يومها فكيف يمكنه اليوم حيث لا حق لخصم أن يبيد خصمه إلا ويعرّض بذلك نفسه للعنة القانون والتحقيق والملاحقة والمساءلة ودفع الحساب عاجلا أم آجلا.. بل لا حق له في أن يرتب على خلافه معه أثرا للكراهية في عالم وسم بالرّشد وتغيرت قيمه ولم يعد يسمح بالشطط في استعمال السلطة. وبالإضافة إلى هذا وذاك، فإن العالم الشيعي اليوم ليس لقمة سائغة، فهو يملك من القوة والسلطان ما يدافع به عن نفسه ضد أي اعتداء سافر أو محاولة استئصال ما عاد بالإمكان أن تتكرر. بل أصبح الشطر الأكثر نفوذا ونشاطا وممانعة في العالم الإسلامي.
وأما من جهة المال والمؤسسات ، فإنني أحسب أن المستقبل لن يكون أقوى من الأمس حيث وضّفت الملايير من البترودولار على حركات الاستئصال الوهابية ضد الشيعة بمؤسساتها العالمية المتخمة التي يسر لها اجتياح العالم، ولم يجدي ذلك نفعا. فهل تملك هذه الدولة الصغيرة الفقيرة أو تلك ما كان في حوزة الحركة الوهابية خلال السنوات السابقة من إعلان الحرب على الفكر الشيعي. ومن هنا أقدر المبادرات التي عرفتها السعودية حيث أدركت أن سياستها مع أقلياتها لا ينبغي أن تترك لغريزة الاستئصال الوهابية. وهذا التعقيل للسياسات من شأنه أن يسدل الستار على عبثية صراع بلغ منتهى اللاّمعنى.
وأما ما يتصل بوجود أعلام ينذرون أنفسهم لمحاربة التشيع ، فلا أحسب أن الحاضر ولا المستقبل سيجود على خصوم الشيعة بشخصيات مثل صلاح الدين أو ابن تيمية أو صدام فعلوا كل شيء وقالوا كل شيء في حق الشيعة، ولكن دائما عبثا ومن دون جدوى.
فالذين يحسبون أنه بمجرد التجديف ضد التشيع التجديف الذي لم يعد بإمكانهم ابتكاره لأنه محفوظ ومكرور عبر قرون واهمون، لأنهم لم يملكوا سلطان بني أمية وبني العباس وبني عثمان وصلاح الدين وصدام، ولا هم يملكون الثروة النفطية المدرارة التي باتت في نضوب يعد بعودة الفقر إلى هذه الدعوة، ولا يملكون شخصية في مستوى ابن تيمية ، عنادا ومشاكسة وتعصبا. فحينما اجتمعت لخصوم الشيعة كل تلك العناصر لم يستطيعوا شيئا أمام جاذبية التشيع التاريخية ، فكيف إذا لم يعد ذلك في مستطاعهم اليوم وغدا.
وأما من جهة التراث الفكري فأحسب أن الشيعة قطعوا مشوارا تاريخيا في الاجتهاد الفكري والفقهي طيلة المدة التي اعتزلوا فيها السياسة وعانقوا سلطان الفكر والفقه. فالحركة الشيعية لا سيما الإثني عشرية هي أكثر عمقا واعتدالا في تدبيرها لمصيرها والأكثر تكيّفا ومرونة أو حسب محمود إسماعيل :" الواقع أن الاثنا عشرية كانوا أكثر فرق الشيعة اعتدالا إلى حد أن أحد شيوخ الأزهر المعاصرين اعتبر هذا المذهب مذهبا سنيا خامسا(...)وخططه الرزينة الإيجابية المسايرة لطبيعة الظروف والملابسات العامة والخاصة التي أحاطت بنشأة المذهب وتطوره (...) وتلك لعمري سياسة حكيمة أفضت إلى الحفاظ على المذهب وتراثه من ناحية ، كذا استمراريته وسط ظروف صعبة وفق نظرة ثاقبة أسفر عنها ابتكار منهج جديد في العمل السياسي المستنير "19 .
بل الأمر يصبح مع كارين آرمسترونغ أبعد مدى في تصور ضرب من العلمانية الشيعية التي فرضها الواقع بفعل الإحساس الذي جعل الشيعة لا يتوقعون شيئا من الحكام الدنيويين. لهذا ومن أجل البقاء فقط عليهم أن يتعاونوا مع القوى القائمة. ذلك يبدو رصيدهم من الواقعية السياسية الذي يجعل ارمسترونغ تقول:" لقد تغاضى الشيعة بكل براعة عن علمنة تامة للسياسة التي ربما بدت لهم خرقا للمبدأ الإسلامي الحاسم ألا وهو التوحيد الذي منع أي فصل للدين عن الدولة. بيد أن ميثولوجيا العلمنة نبعت من رؤية دينية(...) فالحياة السياسية التي تنتمي إلى اللوغوس يجب أن تنظر إلى الأمام ، وبراغماتية وقادرة على المساومة ، وأن تضع الخطط ، وأن تنظم المجتمع على أسس عقلانية ، كما ينبغي عليها أن توازن بين مطالب الدين المطلقة وبين حقيقة الحياة القاسية على الأرض"20. ومع أن التشيع بدا لأرمسترونغ إيمانا ميثولوجيا إلا أنه لا يعني أنه غير عقلاني. لا بل ، هو اليوم نسخة إسلامية أكثر عقلانية وثقافة من السنة21. وسبب ذلك أن "معتقد الغيبة المعقلن سمح للعلماء الشيعة بحرية أكبر كي يمارسوا قدراتهم العقلية في شؤون العالم البراغماتية أكثر من العلماء السنة. كان عليهم الاعتماد على قدراتهم العقلية لأن الإمام الغائب لم يعد موجودا بينهم . لم يعلن إقفال أبواب الاجتهاد أبدا في التشيع ، كما حدث في السنة (...) في أغلب الأحيان كان الشيعة مفكرين نقديين"22.
وقد أجاد هشام جعيط الحكم وهو يقول:" ومن هنا التعويض الجبار داخل الوعي الإسلامي الذي سيؤسس التشيع كعقيدة ، كتنويعة من تنويعات الإسلام" 23.
وعليه، فلا مخرج من هذا الحصر التاريخي إلاّ بالعودة إلى نداء العقل: كيف نتحاور بدل أن نكفر.. كيف نعترف بدل أن نكابر.. كيف نتعايش بدل أن ننزوي.. كيف نتقارب بدل أن نتباعد.. كيف نحترم الآخر بدل استئصاله.. كيف نعرض ما في يدنا من سلعة دون بخس الآخر وتشويه سلعته .. في يدنا من قيم العصر ما يمكّننا من ذلك، وإلاّ فإننا سنواصل أسوء سيناريوهاتنا التي ستحدد مكانتنا الأسوء في العالم، وطبعا لا أقصد الخوف من الفتنة ، لأن العالم الإسلامي جرّب الفتن كلها وليس ثمة ما بقي منها لم يجربه، ولكن أقصد أننا لن نستطيع الدخول إلى العصر الحديث ولا يزال منّا من يكفر الآخر لمجرد الخلاف في تأويل الإسلام في طريق الله وطلب النجاة التي هي مقصدنا جميعا.
إذن وجب أن أوضح أمرا عجزت عن بيانه في صحافتنا العجولة والمفتونة: إنني لم أسع إلاّ لأبيّن محتوى الفكرة نفسها التي سيعبر عنها العروي وقبله طه حسين وكذلك اتضحت عند باحثين ومؤرخين عرب أمثال محمد أركون ومحمود إسماعيل وآخرون مستشرقون منصفون كماسينيون وإيفانوف وهنري كوربان وربما آخرهم كارين آرمسترونغ. وهي أننا مطالبون بالآتي:
أن نحرر الاسطوغرافيا العربية من تقليدها والدعوة إلى تجديد الكتابة التاريخية
أن أوضح وأبرهن على أن الشيعة هم السنة بصورة ما
وقبل ذلك ، أن أبرهن بأن الشيعة مسلمون وآدميون
هذا ما اعتبره البعض دعوة لتشييع المغاربة. وهذا ما لم يفهموه.
ليس غريبا أن نسمع بوجود قناعة شيعية تنتشر في كل مكان. الغريب أننا مع وجود كل هذا الفكر وكل هذه الانجازات نستكثر أن يتساءل فرد هنا أو هناك عن حقيقة هذا الذي يسمى بالتشيع. وحينئذ وجب أن نكبر قليلا ولا نصغر كثيرا في تناول ظاهرة ليس المغرب استثناء فيها. لقد تنبّأ الحسن الثاني منذ قيام الثورة الإيرانية بمآلات الأحداث التي ألمّت بمنطقة الخليج الفارسي24، حينما سئل في لقاء مع جريدة الجزيرة(23 ماي 1979): كيف تقيمون الوضع القادم في منطقة الخليج إثر الأحداث الإيرانية. أجاب الملك بأن الأثر سيكون في المنطقة أثرا أيديولوجيا... وبأن العملية ليست منحصرة في عدد صغير بل في ملايين. وهذا سيؤدّي إلى تأثيرات قريبة المدى وبعيدة المدى على المنطقة.
إن المسألة لا ينفع معها أي إجراء أو مقاربة ما دام أن القضية ليست مشكلة كما يحاول البعض تصويرها. وليس أدل على أنها ليست بحجم الخطورة التي يصورها بها خصومها أنهم متى تحدثوا عنها اضطروا إلى تضخيمها وتبشيعها وشيطنتها وصبّ فائض من الكراهية عليها للإقناع بخطورتها. لانهم يدركون أن التعامل معها كما هي بحجمها الطبيعي لا يثير كل هذا الهجّاس. إنهم لكي يبرروا حجم كراهيتهم وخوافهم يقدمون صورة عن التشيع توجد في الخيال المريض ولا توجد في الواقع . نحتاج إلى إجراء واحد للقضاء على مثل هذه الظاهرة وغيرها مما ينتمي لعالم الأفكار والثقافات والقناعات: أن نحول المجتمع إلى كهف كبير تسكنه الخفافيش ، وحيث يجب أن نتعلّم شيئا واحد في المبتدأ ولا نتعلّم بعده شيئا آخر: أن لا نرى، أن لا نسمع أن لا نتكلم. أقول: حتى في مثل هذا الوضع ستداهمنا جاذبية التشيع.
إن المغرب أكبر من تلك القيود المفتعلة. إننا نحترم بل نعتز بالمذهب المالكي الذي عاش معنا واستأنسنا به طيلة هذه القرون ولا نفكر في الفراق بعد الوصال. وقد كان بإمكان المغرب أو أي بلد آخر أن يكون حنفيا فقط أو شافعيا فقط أو لا شيء فقط ! حيث الوحدة المذهبية وأحجية تمزيق الخريطة المذهبية كما في الرياضة الكلامية الهوجاء لبعض النوكى ليست عبقرية خاصة بالمذهب. إن تاريخ المغرب وعمق ثقافته وتجربته الضاربة في عمق الزمان والمكان ومستقبله المليء بالتحدي أكبر من هذا الاختزال. فالمغرب شمخ واستمر بالمالكية ودونها . وثمة دول توحدت على المذهب المالكي لم يحل بينها ذلك وتمزق البلاد وافتتانها مثل السودان الموعود بالتمزق وموريتانيا المعرضة للانقلابات والجزائر التي شهدت حمام دم طال سنوات والمغرب الذي تتوعده قبليات وعرقيات وأهواء وتيارات بالتمزق والفتنة. والمطلوب اليوم ليس أن تسألني إن كنت مالكيا أم لا ، بل المطلوب أن نسأل المالكية هل هي قريبة من أهل البيت كما كانت وكما دخلت إلى المغرب أم أنها عقدت قرانا مسياريا مع الوهّابية الدخيلة وباسم المالكية "تتسيّف " السلفوية لتصفية حسابها التاريخي مع الولاية لأهل البيت(ع). فهناك معركة باردة توظّف فيها المالكية عبثا. إن المقدس في بلادنا واضح معلوم لا يحتاج إلى إكثار: إسلام ووحدة ترابية وملك هو رمز هذا البلد الآمن. والزيادة في المقدس تمييع لا يؤدي الغرض. وقد ختمنا بها نشيدنا الوطني ورفع العلم ، وتقررت في دستور بلادنا. فالزيادة من رأس الأحمق.
أجل هذا تاريخ المغرب ، فلقد سقطت دول وقامت أخرى مكانها. ففي منطق السياسة الخلف يمعن في محو أثر السلف. وهذا ما حاولوه تباعا. لكن في منطق الثقافة لا أحد يملك محو آثار أحد. التشيع الذي أتحدث عنه هو أعمق وأبعد مدى في غور ثقافتنا المركبة وليس ذلك الذي تمضغه وسائل إعلامنا الخرافية المتسلفنة المريضة : حكاية تبشير. إن التشيع كان ولا يزال برهانيا. وما كان كذلك لا يحتاج إلى تبشير. هناك قناعات شيعية وليس ثمة تبشير شيعي إلا في الرؤوس المريضة. فالمطلوب من المغاربة ليس أن يتشيعوا هذا تحصيل حاصل بل عليهم أن يتسننوا أكثر ليصبحوا شيعة على منهج آل الصدّيق ممن تواسط في التسنن فتشيع . لقد تموجت ظلال هذه الثقافات وتكيفت وتداخلت وامتزجت وشكلت خليطا عبقريا لثقافة مزجية كانت وراء تشكل وتكامل الهوية المغربية المركبة التي تستطيع أن تقرأ في مراياها المقعرة أثر الأدارسة والفاطميين مثلما تستطيع أن تقرأ على صفحاتها آثار المرابطين والموحدين. لكن يظل للمؤسس الأثر الأول الذي تقوم معه بنية البنى في مخبر الهوية المركبة، لتجعل تسنن مغربنا العزيز لا يجد كماله إلا في تعبير تشيعه الرمزي، طورا في هواه العلوي الأصيل وطورا في مظاهره الاحتفالية العارضة وطورا آخر في "قربلته" السوسيو ثقافية. فليس بعد هذا إلاّ أن نقول: غاية القول أن حذاري أن تكفّر من يقاسمك الدليل في صميم مظانك.. ولا يطلب من السنّي اليوم أن يتشيع بقدر ما المطلوب منه أن يتكايس ويتفهم ويحترم الآخر كما يطلب منه أن يفعل ذلك أيضا. فحينما نكون عقلانيين نستعين بموقم وجودنا الإنساني عقلا وروحا ومشاعر ، سندرك أن الآخر ليس بالضرورة عدوا ولا شرّيرا ولا جاهلا ولا متآمرا ولا طامعا ولا.. ولا.. بل قد يكون بكل بساطة إنسان نظر وتأمّل وخالفك الرؤية دون أن يخالفك الإنسانية. وقديما قال علي بن أبي طالب :" الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" .. كما قال :" وطنك ما حملك" .. وكما قال:" الفقر في الوطن غربة"! وبالتأكيد ليس المعنى محصورا في الفقر المادي فحسب ، بل الإفتقار إلى حقوقك الإنسانية في عالم لا يكف أن يذكر أصحابه ، بأنه عالم الثقافات والعالمية وفي عصر لم يفتأ يذكر دعاته بأنه عصر التسامح والتواصل والاحترام: صدّق أو لا تصدّق!
------------------------------
1 عالجنا ذلك بصورة كافية في كتابنا : محنة التراث الآخر ، ط1 ، الغدير للطباعة والنشر، بيروت 1998
2 عباس محمود العقاد : فاطمة والفاطميون ، ص5
3 المصدر نفسه ، ص 76
4 المصدر نفسه ، ص 76.
5 المصد ر نفسه ، ص 76
6 المصدر نفسه ، ص 96
7 المصدر نفسه ، ص 96
8 طه حسين : الفتنة الكبرى ص91 الجزء2 علي وبنوه،ط 12 دار المعارف القاهرة1994.
9 المصدر نفسه ، ص173
10 المصدر نفسه
11 الدفتر ، محمد هادي ، صفحة من رحلة الامام الزنجاني وخطبه ، 2 220 عن الشيعة في مصر ، جاسم عثمان مرغي ، ط 1 ، 2003 مؤسسة البلاغ ، بيروت
12 عبد الله العروي : السنة والإصلاح ، ص130 ، المركز الثقافي العربي ، ط 1 2008 ، بيروت
13 المصدر نفسه ، ص 151
14 المصدر نفسه ، ص 130
15 المصدر نفسه ، ص131
16 المصدر نفسه ، ص132
17 المصدر نفسه ، ص 132
18 المصدر نفسه ، ص 154
19 محمود إسماعيل : فرق الشيعة ، ص 93 ، ط 1 1995 ، سينا للنشر/ القاهرة.
20 كارين ارمسترونغ : النزعات الأصولية / ص 67 ت: محمد الجورا ، ط 1 2005 دار الكلمة للنشر والتوزيع ، دمشق
21 المصدر نفسه ، ص 68
22 المصدر نفسه ، 68
23 هشام جعيط : الفتنة ، ص 372 دار الطليعة ، ط 5 2005 ت: خليل أحمد خليل
24 إنني أتعمّد أن أسميه باسمه التاريخي لا كما يقال: الخليج العربي. ولقد عثرت في مكتبة مرعشي نجفي على مخطوط يعود إلى الحقبة العثمانية يستعمل فيه إسم الخليج الفارسي. وقد قيل لي أن ولايتي مرّة استند إلى ذلك في ترجيح وجهة النظر الإيرانية. وأقول إن الأمر أقدم من هذا الكتاب، فلقد وقفت على إسم الخليج الفارسي في كتب أقدم من ذلك ليس استثناء منها تاريخ ابن خلدون نفسه.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.