مقال في نقد نظرية العروي عن الأيديولوجيا والأدب في المجتمع العربي المعاصر (4) ثالثاً وأخيراً: مرحلة واقعية اتحدت فيها أساليب التعبير الأدبي من رواية وقصة ومسرح وسيطرت عليها سيطرة كاملة شخصية نجيب محفوظ. وبرأي العروي فإن هذه المرحلة مرتبطة بالبرجوازية الصغيرة ودليله على ذلك تشخيص نجيب محفوظ لسلامة موسى في ثلاثيته تحت اسم "عدلي كريم" المثقف الجريء في أفكاره والمعتز بنفسه مدير المجلة وزعيم الشباب التقدمي. ويرى العروي أن كل التيارات التي ميزت العصر الليبرالي انحلت في المدرسة الواقعية كما أن الدولة الليبرالية انحلت في الدولة القومية. يتحدث العروي عن النقد الذي رافق الأدب العربي الحديث وأهمية هذا النقد عنده أنه يشير إلى ما كان المجتمع ينتظره من أدبائه وفنانيه، فيمر أولاً على النقد الجامعي الذي يحكم سلبياً على النتاج الأدبي العربي ويراه ضعيفاً لأسباب موضوعية اجتماعية مثل الفقر والأمية وضمور دور المرأة وفنية ناتجة عن ضعف الخبرة في الأشكال التعبيرية الدخيلة التي هي لم تكن نتاج تطور طبيعي لأشكالنا المحلية ولغوية ناتجة عن استيقاظ اللغة العربية بعد الرقاد على عالم لم تعرف بعد كيف تصفه. العروي يرى أن هذا النقد الجامعي يؤول إلى تفسير واحد لضعف النتاج الأدبي هو أن المجتمع العربي لم يبلغ بعد حداً كافياً من التبرجز وهو يرى أن هذا التحليل لا يكشف عن "الأصل الأصيل" للمشكلة و"دليله" على ذلك هو أنه بعد قرن من الإصلاح على النمط الغربي في روسيا وجدنا شاعراً مثل بوشكين على حين وجدنا في مصر شوقي ويقول :"الفرق بين الرجلين واضح، لا يشك فيه أي ناقد مطلع ومتذوق" (ص221) فيبقى إذا السؤال عن السبب قائماً. السيد العروي وتلاميذه في المشرق والجيل الثالث الحالي من هؤلاء التلاميذ أيضاً لا يزالون يتحفوننا بالمصادرة تلو المصادرة أو بتعبير العروي "بالتلميح تلو التلميح" عن التخلف العربي الذي برهانه الواضح البديهي الذي لا يستلزم أكثر من مد الأصبع للمسه هو واقعة الاختلاف. لا ريب أن شوقي يختلف عن بوشكين هذا كل ما تقدمه لنا النظرة المباشرة، و "الناقد المطلع والمتذوق" سيلاحظ طبعاً الفرق وحتى لولم يكن مطلعاً ومتذوقاً فإن الفرق كبير لا بد له أن يلاحظه!السؤال هو فقط:هل يجب علينا أن نضع وراء كل فرق قيمة متناقضة تعطى درجتها العليا لواحد والسفلى لآخر "فينجح"الأول في الامتحان و"يرسب"الآخر؟ لا يستطيع صاحب النظرة الأحادية الخطية لتطور المجتمعات البشرية،النظرة التي ترى أن مجتمعات بعينها تمثل المعيار والقيمة بحيث ينزل في درجة الاعتبار كل مجتمع آخر يختلف عنها أن يفهم أن الاختلاف هو اختلاف فحسب أما القيمة فيمكن أن تكون واحدة مع الاختلاف كما يمكن لوردتين مختلفتين أن يكونا بنفس الجمال! ثمة فرق بين شاعر روسي معجب بالثورة الفرنسية ناقم على القيصرية ونظامها الاجتماعي والسياسي ولكنه من جهة أخرى منغرس في لغتها الروسية محب لها- وكان في جملة صفاته بالمناسبة رجلاً تجري في عروقه دماء عربية وقد قرأ ترجمة للقرآن وله عنه كتابة- وبين شاعر عربي مسلم هو أيضاً معجب بالغرب على أنه لم يكن ثورياً وكان ذا صلة بالخديوي الأخير الذي لم ينصبه الإنكليز وقد اهتم بالمسرح على حين اهتم بوشكين بالرواية الشعرية والنثرية. باختصار هناك "فرق كبير" ولكن لماذا يريدنا العروي أن نقتنع بأن هذا "الفرق" الذي لا يعني أكثر من "الاختلاف" هو في الحقيقة فرق في "القيمة"؟- لاحقاً يفسر لنا العروي الفرق في القيمة بين الرجلين بأنه ناتج عن أن بوشكين قلد مرحلة غربية فتية على حين قلد شوقي غرباً شائخاً فقد حرية الاختيار وصدق التعبير وصفاء الوعي (ص248)وهذا لا يحل المشكلة بل يزيدها تناقضاً هو من صفات فكر العروي إذ يستبدل المصادرة بمصادرة لا تزيد عليها في كونها غير مبنية على برهان ويعود فيعتبر المصادرة حقيقة ثابتة هي والاستنتاج الذي هو حتى لم يبن عليها بصورة ضرورية منطقياً بل بارتباط محض حدسي يقوده "أسلوب التلميح" الغامض الذي خلب العقول المستلبة في المشرق "فآمنت وصدقت" بأطروحات العروي وادعت أنها فهمتها وأتحدى أياً من هؤلاء أن يريني كتابة واحدة له في ذلك الزمان الذي صدرت فيه النسحة الأولى المترجمة لكتاب "الأيديولوجيا.." في ذلك الزمان الذي انهالت فيه التقريظات التي تدعي ضمناً أنها "فهمت"العروي،كتابة واحدة تسأل عن التناقض المنطقي والغموض الذي يعلنه لنا العروي الآن حين يخبرنا كيف قلب المترجم بعض معانيه وجعل بعضها غير مفهوم!كلا بل كانوا كلهم يؤكدون فهمهم لمقاصد الكاتب ويتعلم متواضعوهم-مثل المرحوم ياسين الحافظ- منه! كان ميخائيل نعيمة في مطلع القرن العشرين قد صادر مصادرة مماثلة لمصادرة العروي عن شوقي وبوشكين في كتاب "الغربال"-انظر الطبعة13-1983-بيروت-ص48- فقال إنه "لا يظننا ظالمين" إلى حد أن نرفع عنترة و امرأالقيس وجرير و المتنبي وابن سينا وابن رشد و شوقي وحافظ والمطران إلخ إلى مصاف هوميروس وفرجيل ودانت وشكسبير وملتون وبيرن وهيجو وزولا وغوته وهينه وتولستوي!. أسوأ ما في عقدة النقص أنها "عقدة مصادرات" إن صح التعبير فلا نعيمة ولا العروي يخطر ببالهم خاطر الشك في التفوق المطلق لما يراه الغرب متفوقاً- المؤرخون الجدد للأدب في الغرب لا ينسبون هوميروس وبوشكين أيضاً ومن كل بد إلى "الغرب" أكثر من "الشرق"- شوقي مختلف عن بوشكين لأسباب جماعية تتعلق بانتمائهما إلى قوميتين ولغتين وثقافتين مختلفتين وفردية تتعلق بكونهما ببساطة إنسانيين مختلفين! أما الذين يريدون أن يجعلوننا نرى في كل اختلاف علامة تغاير في القيمة المطلقة فإن هؤلاء هم دعاة النظرة العنصرية في أكثر أشكالها بدائية وكما قلنا يقدم العروي نفسه في "تلميحاته" في كتاب "الأيديولوجيا..." التي لم تزل بعد منضبطة وفي كتاب "العرب.." حيث انفلت فيه من كل قيد واعتبار واضعاً نفسه تحت هيمنة النزعة النفعية المبتذلة المتطرفة محارباً لا يشق له غبار ضد دعاة التعددية الحضارية في العالم واختلاف الطرق الحضارية التي تستطيع المجتمعات المختلفة سلوكها. بعد هذا الانتقاد لما يسميه "النقد الجامعي" يذهب العروي إلى نقد من نوع آخر هو على رأيه أكبر دلالة فكرياً واجتماعياً من السابق وهذا النقد يتكون دائماً من عنصرين: أحدهما موضوعي يستهدف رصد الأسباب التاريخية والاجتماعية التي فرضت قيوداً منعت الكاتب من النبوغ والتبريز والعنصر الثاني يبحث في الأسباب الذاتية لذلك الإخفاق ويربطها بعدم التزام الكاتب بقضايا الطبقات الفقيرة التي هي في نظر أولئك النقاد الملتزمين منبع كل محاسن الأخلاق. (ص221) لنترك مسألة دقة استعمال العروي لمصطلح "محاسن الأخلاق" جانباً رغم أنه يغرينا بمعاودة التعليق على الطريقة التي سبقت وصار يعرفها القارئ. بدون رابط منطقي ينقلنا العروي إلى الحديث عن مراحل ثلاث في النقد في المرحلة الأولى التي طغت عليها شخصيات المازني والعقاد وهيكل جرى النقد تحت شعار الحرية الفردية المطلقة وأخذ على الشعراء محافظتهم على الشكل التقليدي المألوف مما جعل الشكل الجامد يطغى على مضمون إنتاجهم ويزعم العروي أنهم كانوا يطلبون من الشعراء التخلص من العروض والقافية ليستطيع الشاعر أن يعبر بصدق عن خلجات قلبه،لعمري لا يدعي هذا الادعاء إلا شخص هو بالتأكيد لم يقرأ شعر العقاد والمازني الموزون المقفى! ولم يدع إلى التخلص من العروض والقافية بصورة جذرية إلا حداثيو الستينات فشعراء التفعيلة أبقوا كما يعلم القارئ على التفعيلة وعلى شكل من القافية أيضاًً. قلت أن هذه الفقرة لم ترتبط منطقياً بمقدمتها لأننا هنا لم نجد العنصر الموضوعي الذي يستهدف رصد الأسباب التاريخية والاجتماعية التي قيدت نبوغ الكاتب وتبريزه ولا فيها البحث في الأسباب الذاتية لذلك الإخفاق مع الربط بعدم التزام الكاتب بقضايا الطبقات الفقيرة وهذه القفزات فوق الارتباط المنطقي سمة ثابتة من سمات "تلميحات" العروي. على كل حال هذه الحقبة الأولى ارتبطت بالوعي الليبرالي الخاضع كلياً للتأثير الغربي وكان الكتاب مرتبطين حتى شخصياً بزعماء السياسة. وفي الحقبة الثانية المتأثرة على رأي العروي بمنظور البرجوازية الصغيرة تم نقد الإنتاج الأدبي باسم الفاعلية والالتزام وبلغ هذا الاتجاه ذروته بعد الحرب العالمية الثانية مما ساعد على نجاح الحركة الواقعية واكتساحها الساحة الأدبية. وفي الحقبة الثالثة والأخيرة وهي وحدها التي تستحق منطقياً أن تأتي بعد المقدمة التي قلنا أنها لا رابطة منطقية بينها وبين ما جاء بعدها مباشرة استعار النقد الملتزم كما يقول المؤلف أسلحته من الماركسية الوضعانية عاقداً العزم على أن يكون بنّاء فأظهر أن واقعية ما بعد الحرب كانت خطوة عظيمة إلى الأمام لولا نقص الوعي الاجتماعي فيها. مثلاً واقعية نجيب محفوظ كانت محدودة المضمون إذ اختصت بإبراز أزمات البرجوازية الصغيرة في النظام الليبرالي، مآسيها وثوراتها الفوضوية. ميز الكتابة لغة مبسطة لكنها وفية لقواعد الإعراب كحال أنصاف المثقفين الناطقين بها، وميزتها كآبة لا بريق فيها متشائمة ناتجة على رأي أحد نقاد هذه المرحلة وهو عبد العظيم أنيس عن إصرار محفوظ على عدم تجاوز حدود البرجوازية الصغيرة فهو لم يرد أن يرى نمو طبقة جديدة هي عمال الصناعة تحمل دواعي الأمل. طالب النقاد الجدد بإبراز البطل الواقعي الذي تحدث عنه غوركي ومن جهة أخرى بالتخلي عن العربية المعربة ورحب النقاد برواية الشرقاوي "الأرض" لأنه كتب الحوار بالعامية ولأنه وصف الفلاح بما هو عليه من جهل وقسوة ووسخ وطيبة فطرية أيضاً ولأنه أخيراً أنهى الرواية بنبرة متفائلة. وبعد هذا الاستعراض يعود العروي إلى نظريته العامة في الأيديولوجيا العربية المعاصرة ويقول إن النقد الجامعي ظن أن مشكلة تخلف التعبير العربي عائدة إلى عدم اكتمال المجتمع غافلاً عن أول واجبات مثقف البلدان المتخلفة وهو وعي ذلك التخلف ومحاولة إدراكه والتسامي عليه أثناء العملية الإبداعية نفسها. وأما النقد الأيديولوجي فهو أعمق دلالة إذ يحرص على تمييز الظروف الموضوعية والذاتية التي يخضع لها بالضرورة كل إنجاز أدبي. العروي يرى في مراحل النقد الثلاث التي سبق ذكرها عكساً لأشكال الوعي الثلاثة التي انبنت عليها وفق نظريته الأيديولوجيا العربية المعاصرة فالليبراليون دافعوا عن حقوق الفرد في وجه قيود التقليد الموروث فكانوا مقلدين للمرحلة الليبرالية الغربية. رواية زينب كررت رواية روسو "هلوييز الجديدة" والعقاد يذكرنا كما يزعم العروي بالضفدعة التي حاولت تقليد الثور!. وحين جاء الواقعيون- نجيب محفوظ- رأينا أنفسنا نسأل إلى أي مرحلة من مراحل الرواية في الغرب ينتمي محفوظ؟ إلى مرحلة بلزاك أم زولا أم درايزر أم أوهارا؟ ممن استوحى فكرته الأولى؟وفي ملاحظة هامة يقول العروي "أياً كان الكاتب الذي تمثله محفوظ أول الأمر فإنه لا يستلهم منه فقط قواعد الصناعة الروائية وإنما يتشبع أيضاً بنظرته إلى الكون والمجتمع. نظرة يسحبها من بعد تلقائياً على مجتمعه هو فلا بد أن نأخذها في الاعتبار كقراء ونقاد" (ص229) بوجه عام يرى العروي أن "الناقد الهادف"-أي المنتمي إلى المدرسة التي يسميها هو"النقد الهادف"- لا يأخذ دافع النقد من الواقع بل مما يمليه عليه نقد نشأ في مكان آخر- الغرب، تمثله واتخذه كأنموذج، فمرجع النقد الليبرالي هو الأدب التحليلي النفساني - مصطلح للعروي مشكوك في دقته عندي- وهو روسو بالنسبة لهيكل وديدرو بالنسبة لطه حسين وتورغينيف بالنسبة للمازني. ومرجع النقد الواقعي هو إنتاج الطبيعيين الفرنسيين والأميركيين زولا و درايزر ومرجع النقد التقدمي هو الرواية الواقعية الروسية تشيخوف وغوركي. يقول العروي: " لا نناقش هل يمكن أو لا يمكن الاستغناء عن النموذج، نقرر هنا فقط أن الأشكال التعبيرية التي يدافع عنها هؤلاء أو أولئك ليست مرايا صقيلة لا تلون ولا تشوه ما ينعكس فيها، وهو ما قد يسبق إلى وهم القارئ. لا يليق بنا إذاً أن نكون من السذاجة إلى حد الاعتقاد أننا نمسك مباشرة بواقع المجتمع بمجرد أننا ننظر في الأعمال الأدبية. الواقع الذي نمسكه بدون منازع ليس الريف المصري كما يصوره هيكل، إذ هو لوحة مستوحاة كلياً من فكرة روسو عن الطبيعة الفطرية، بل كون محمد حسين هيكل المصري تعاطف عفوياً مع تصورات روسو الريفية المائعة. كما أن الأمر الذي يحمل دلالة قطعية ليس ما يصفه محفوظ، إذ لا أحد يستطيع أن يضمن لنا مطابقة الموصوف للواقع، وإنما كون محفوظ، الكاتب الشاب التواق إلى شكل روائي يلائمه، اختار بعد التدبر والتروي أسلوب الطبيعيين بما فيه من تشاؤم وتشبث بعلوم المادة. لأجل الكشف عن الواقع في هذا الدب لا مفر إذاً من اعتبار النموذج- المرجع. وهكذا نصل إلى خلاصة لها أهميتها وهو أنه يجب فحص فنون التعبير الأدبي من رواية و قصة قصيرة ودراما إلى آخره والتساؤل عن جدواها بصفتها أشكالاً وصوراً" (ص230) كلمة "جدوى"لا أظنها-كالعادة-تعبر بدقة عما يريده المؤلف، ولكن رأي العروي هذا هو بالفعل جديد ومجدد في الفكر العربي الحديث فهو يرى أن العلاقة بين الواقع والنص الأدبي ليست مباشرة بل يمكن رسمها كالتالي:الواقع العربي-المؤلف-الأنموذج الغربي المستعار-النص. النص-إذا بدأنا من النهاية تحدده رؤية الكون التي أنتجت النص الأنموذج ولكن اختيار هذه الرؤيا جاء بتأثير من المرحلة التي يمر بها المجتمع الذي ينتمي إليه المؤلف وهذا ما يذكرنا طبعاً بنظرية العروي العامة عن العناصر التي استعارتها الأيديولوجيا العربية ،هذه العناصر التي تحتفظ "بوسم الأصل" وهي ليست بعد استعارتها لا داخلية ولا خارجية وهي تساعد على تكوين المجتمع العربي وتعميق التمايز الطبقي فيه وفقاً لأنموذجها.وكما في حالة وصفه لما يراه "الحظات الثلاث للأيديولوجيا العربية المعاصرة" ثمة حتمية في النسخ العربي للأشكال الأدبية الغربية لا يفسره العروي مما يجعلنا نعتقد أنه يرى فيه نوعاً من الحتمية التاريخية بحيث لا يمكن تصور مسار آخر كان يمكن أن تجري عليه هذه الصيرورة . يرى العروي أن لويس عوض وحده أوحى باستحياء بعد أن تابع الدراسات المستجدة لشكسبير أن الشكل قد يحمل في ذاته فلسفة ونظرة إلى العالم بصرف النظر عن المادة المروية. يرى النقد الهادف كما يقول العروي أن الأدب صناعة تحتاج إلى تدريب ومتى امتلك الأديب ناصية هذه الصناعة أبدع عملاً متكاملاً يعبر بصدق عن الواقع. ولكن هذا الاعتقاد لا يصح إلا لو كانت الأشكال غير خاضعة لتغيرات التاريخ أما إذا اتضح أن لكل شكل بصفته شكلاً أكان رواية أم قصة أم مسرحية يحتوي على مضمون تاريخي وطبقي معين فإنه ما عاد هناك من ضمانة لصدق التعبير وأمانته فنحن لن نصل إلى هذا الصدق بمجرد تحكمنا في شكل يقال إنه مشترك بين البشر أو بوصفنا المتسع للمجال الاجتماعي أو بتنويعنا وتدقيقنا في أساليبنا البلاغية. كل ما سنحصل عليه بعد الجهد هو صورة مغرضة من نوع آخر لواقع محجوب عنا باستمرار فمدرسة التحليل النفساني عند طه حسين أو مدرسة الواقعية الطبيعية عند محفوظ أو مدرسة الواقعية التقدمية عند الشرقاوي كانت كلها غير أصيلة لأنها وصفت المجتمع العربي بأساليب تعبيرية وتشكيلية مستعارة. إن الأشكال التي يطبقها أدباؤنا على مادتهم تطوع رغماً عنهم تلك المادة وتغيرها بتأثير خفي مما علق بها من موضوعاتها السابقة فتشاؤم محفوظ مثلاً يرتبط بالشكل الروائي الطبعاني أكثر من ارتباطه بالموصوف أو بموقف المؤلف بالحياة. والتجارب التاريخية لا تدل على إمكانية ظهور أدب أصيل بعد فترة من التلمذة والتدريب على أشكال صالحة للجميع فالنبوغ يسبق النقد- في هذه النقطة بالمناسبة يتدخل سوء الصياغة المألوف عند العروي ليقلب المعنى إذ يقول: "سبق النبوغ، ويضع فتحة على الغين، حركة نقدية" ومقصوده الذي استنتجته بعد تأمل طويل العكس أي أن النبوغ هو الفاعل لا المفعول به وكان الله في عون التلامذة في المشرق الذين "اضطروا" لفك الطلاسم العرويّة التي زادت الترجمة طينها بلة!- ويسخر العروي من مسيري الدولة القومية ذوي الذهنية العملية الذين يودون أن يولد الكتاب بالتدريب والتأهيل مثل صناع الحديد والفولاذ. "النقد الهادف" عند العروي يستخدم مفهوم الطبقة ليحكم على الكاتب والقارئ والمضمون واللغة ولكنه لا يضع الشكل الأدبي شكل الرواية أو القصة القصيرة أو المأساة قيد البحث إذ يعتبره سابقاً على الطبقات وهذا ما يفسر عنده انتشار الكتب التعليمية مثل "فن الشعر" و "علم المسرح" التي تبنى على الاعتقاد أن الكاتب لا ينقصه للكتابة إلا التدريب. وهذا ما يفسر أيضاً الإعراض عن الأدب العربي القديم الذي رموه بالعقم والتفاهة لأنه لم يكتشف الأشكال التعبيرية الغربية الكونية الصالحة لكل زمان ومكان في اعتقادهم وهم لم ينظروا إلى الأشكال العربية القديمة على أنها مطابقة لظروفها بل على أنها محاولات مبتسرة أو مجهضة فالقصيدة ملحمة ناقصة والمقامة رواية مختزلة والسيرة الشعبية أول خطوة على اكتشاف التعبير المسرحي- لم أفهم لماذا لا تكون هذه السيرة بالأحرىخطوة على طريق القصة لا على اكتشاف التعبير المسرحي؟ إذ ليس فيها ما يذكر بالمسرح خصوصاً عند قراءتها ككتاب، وخصوصاً أن العروي يقول بعد هذا مباشرة إن محمود تيمور اعترف بأنه سارع إلى الإنكار على الأدب العربي أنه فيه قصة فالحديث إذن عن السوابق العربية في القصة- اختصم النقاد العرب على أشياء كثيرة ولكنهم قبلوا الأشكال التعبيرية الغربية كأشكال فوق الزمان والمجتمع بلا نقاش. النقاد تكلموا كثيراً على سوسيولوجيا المضمون ولم يبحثوا في سوسيولوجيا الشكل. والعروي يريد أن يقوم بهذا البحث: 1. سوسيولوجيا المسرح: ما سر إخفاق تجربتي أحمد شوقي وتوفيق الحكيم؟ يقول العروي إن المجتمع الذي لا يعرف أو يحارب الوعي المأسوي لا يمكن أن يكتب مأساة حقيقية. لا بد من أن ينشطر الوعي الجماعي بحيث يرى المشاهد أن على الخشبة حكمين أخلاقيين متعارضين ومتلازمين. النقطة بالنسبة للمسرح العربي هي: هل يمكن أن يوضع القدر بين قوسين؟ هل يجوز التشكيك بمقاصده؟ هذا أمر غير ممكن على رأيه لأن العرب يريدون الثقة بالمستقبل. والمجتمعات التي استطاعت اقتباس المسرح الإغريقي بنجاح أنجزت ذلك في جو تاريخي واجتماعي ملائم يستدعي الشك والتساؤل في شرعية ما يجسد الحق المطلق. هذا هو السر في كون مسرحيات شوقي لا تزيد عن كونها غناء تعليمياً لأن المجتمع و شوقي نفسه لم يكونا على استعداد لتناول مسائل الحق والتاريخ تناولاً إشكالياً إذ الماضي بأمجاده هو وحده السد الواقي من الضياع. و أما الحكيم الليبرالي فأخفق لأنه لم يلتزم بعصر معين بل اعتقد أن مجال فنه هو كل ما يمت إلى الإنسان عامة. 2. الرواية: يتساءل العروي: هل يوجد بالفعل في مجتمعنا موضوع روائي؟ إن الوسط الملائم للرواية الحديثة هو الوسط البرجوازي وطبقتنا البرجوازية قليلة العدد وغير متجانسة فلم يبق للكاتب ما يصفه إلا ضواحي المدينة وليس قلبها. ما يجاور الكاتب العربي ويقع تحت أنظاره هو البرجوازي الصغير، إنه يحاول أن يصف الأطراف بشكل سردي أبدع أصلاً لوصف المركز لذلك يستنتج العروي أن الأقصوصة هي الشكل الأدبي المطابق لمجتمعنا المفتت المحروم من أي وعي جماعي. 3-الأقصوصة: عندما تذوب الرؤية البرجوازية في رؤية البرجوازية الصغيرة ينتهي طور الرواية الواقعية، تضمر روح الحركة والنشاط والإبداع، يتفتت الواقع، ينحل الحدث الروائي في الرمز وتتحول الرواية إلى سلسلة من اللقطات اللحظية. الأقصوصة فصل ختامي لرواية استغنى الكاتب عن سردها. إنها لا تفصح عن الواقع بل تكتفي بالإشارة والتلويح إليه وتلقي على القارئ مهمة استدعائه ومن هنا نزعتها الرمزية وإيجازها واختزالها وبعد هذا كله يعود العروي ليخبرنا أن الأقصوصة أيضاً تحتفظ بمغزى اجتماعي محدد ورثته عن منشئها في أحضان المجتمع الغربي. ثم يعود العروي و "يلمح لنا" أن المجتمعات التي مارست الأقصوصة فحصت بعمق أصولها الفنية وهذا هو الذي فتح باب الإبداع بالكشف عن محتوى جديد ملائم لمنطقها الضمني على حين يعتقد القصاصون العرب أن كتابة القصة القصيرة مجرد تمهيد لكتابة الرواية: "هل يختفي المضمون الفكري والأخلاقي الكامن في شكل الأقصوصة؟ لا بالتأكيد إن الأقاصيص العربية تحمل ذلك المضمون كظل ملازم لا تعي به ولا تفحصه لذا نجدها تتماثل وتتساوى في الغالب. تمر الأعوام يتكاثر الإنتاج دون تحسن أو امتياز نواجه من قصة إلى أخرى نفس النساء يتخاصمن باليد واللسان نفس الحراس والبوابين يعجبون لعبث الأقدار(...) لا فرق في هذا الباب بين إنتاج مصري مستوحى من الواقعية الأوروبية وإنتاج عربي مستوحى من التأليف المصري..أسباب واحدة ونتائج متماثلة" (ص246) إذاً فهذه القصص قدلا تعكس كآبة الواقع العربي بقدر ما تعكس يأس موباسان وتشيخوف. الأستاذ العروي متجهم الأسارير أما نحن فلنا أن نضحك لهذه النكتة القوية غير المقصودة التي تصيب هدفها بشكل غريب و جاءتنا ليس من عدو للغزو الفكري بل من واحد من منظريه الكبار والمدافعين عنه والهازئين من خصومه دعاة الأصالة التي هي في رأيه "دعوة فارغة" الواقعية اليائسة في الأقصوصة كانت على رأي العروي تناسب عهد التبعية أما بعد قيام الدولة القومية فإن هذا الشكل صار يمنع إدراك ما يحدث في الواقع ومن هنا تكرار نجيب محفوظ لنفسه مثلاً في أحد كتبه الأخيرة وقت كتابة الكتاب وهو كما يخبر العروي قراءه ذو عنوان دال "أرض الله" -الصواب "دنيا الله!"- حيث يقدم لنا صورة ثابتة شبه راكدة عن مجتمع نعلم أنه في غليان، إنه الشكل ينتقم من كاتب غفل عما يحمله من محتوى طبقي. ثانياً-في تقييم نظرية العروي عن تكون الأشكال الأدبية العربية المعاصرة: والآن لنأت إلى السؤال عما قدمه العروي إلى نظرية الأدب العربية-وهنا أفترض كما يرى القارئ أن لكل لغة نظرية أدب خاصة بها، وإن كان هذا لا يمنع في المستقبل محاولة التعميم ووضع نظرية عامة للأدب.تماماً كما أن علم اللغة يبتدئ بفهم كل لغة على حدة وبعد ذلك فقط يمكن محاولة وضع علم لغة عام وهذه الطريقة في التفكير هي التي تميز النظرة الإنسانية العميقة التي نؤيدها على النظرة الإنسانوية الساذجة السائدة التي تريد أن تفبرك نظريات تعميمية على الثقافة الإنسانية عموماً قبل أن تدرس الاختلافات أولاً والنتيجة كما قلنا في أمكنة أخرى تكون عادة نظرية عنصرية أنانية تجعل من ثقافة واحدة نموذجاً ومعياراً ولا تستطيع فهم الثقافات الأخرى إلا بصفتها "انحرافات عن الطبيعي". بنظري فإن لدى العروي ما يقدمه- خلافاً لرغبته!- لدعاة الأصالة فملاحظاته الصحيحة في موضوع الترابط بين الأشكال الأدبية المستعارة ورؤى الكون التي أنتجتها تجعلنا نتبنى هذه النظرة ولكننا نستنتج منها ما لا يستنتجه هو واستنتاجنا هو أن على الأدب العربي ابتكار الأشكال التي تعبر عن ذاتنا الحقيقية ورؤيتنا نحن للكون. العروي متناقض فهو يؤكد تارة أن الأقصوصة-مثلاً- تعبر عن مجتمعنا المفتت ذي البرجوازية التابعة وهو من جهة أخرى يؤكد أن الأقصوصة تعبير عن ظروف غربية ولكننا نحن نستطيع أن نرى بالفعل أن الرؤى المخزونة في الأقصوصة العربية لا تعبر عن روح المجتمع الأهلي بل هي روح مستوردة غريبة،من هنا كان اغتراب الأديب العربي عن واقعه اغتراباً عميقاً لا شفاء له. برأيي فإن الشيء الأساسي الذي ميز اغتراب الأدب العربي المعاصر لم يكن "استيراد الشكل" وحسب،بل كان استيراد كل شيء.وللتأكد من ذلك ما علينا إلا الخروج من دائرة التجريد النظري العام ودراسة التاريخ الملموس لأشكال أدبية محددة:خذوا المسرح مثلاً وانظروا بداياته في مصر التي كانت تعريب مسرحيات فرنسية و"تمصيرها"- كما يخبرنا توفيق الحكيم في "سجن العمر"- والحكيم يخبرنا أنه فوجئ حين ذهب إلى فرنسا أن بعض المؤلفين الذين كان يعرب مسرحياتهم ويظنهم من الكتاب الكبار للمسرح ما كانوا في الحقيقة في فرنسا إلا كتاباً ثانويين وقد كان التمصير يقتضي بعض التغيير في الأحداث لتتناسب مع التقاليد المحلية مثل منع الاختلاط في المدينة المصرية آنذاك.إن أحداث الروايات والمسرحيات والنقاط التي يراها الأبطال مهمة تختلف في الروايات عنها في المجتمع الأهلي اختلافاً مبيناً،وإذا كان نجيب محفوظ يفرد للبعد الجنسي في حياة أبطاله حيزاً جوهرياً فإنه لم يفعل ذلك بسبب رغبته في عكس الواقع بل لتأثره بالنظريات السائدة آنذاك في أوروبا-وأهمها الفرويدية-بل كانت له محاولة أجمع النقاد على إخفاقها لكتابة رواية كاملة موضوعها نفسي وهي رواية"السراب". ما تم استعارته كان كل شيء،إن الحياة لغة مفرداتها هي الذات و الناس و الأشياء المحيطة ولها قواعد لربط هذه المفردات في كلام هي قواعد تعامل البشر مع ذواتهم ومع بعضهم ومع هذه الأشياء وقد استعار الأدب العربي الحديث الحياة-اللغة من الغرب فنحن نجد في الأدب المعاصر ليس الحياة-اللغة الخاصة بنا بل الحياة-اللغة المستوردة وهذا النقل ناتج عن الانبهار الاستلابي المطلق بحيث لم يعد الأديب راغباًً في غمار هذه الحالة في تذكر لغته الخاصة.وكما كنت في القسم الأول من هذا المقال أرى أن مفهوم "الاستلاب" هو المفهوم الذي يفسر تكوين الأيديولوجيا العربية المعاصرة ها أنا ذا هنا أرى أن الاستلاب هو الذي يفسر تشكل الأشكال الأدبية العربية المعاصرة وفي الحالتين تشكل أطروحة "التثاقف" وكما يرى العروي محقاً تفسيراً سطحياً زائفاً لبنية التعبير العربي المعاصر-بكافة أشكاله من فكر وأدب وفن. ولكن الحل لمسألة تأصيل الأدب والفن بمعنى جعل الأشكال الأدبية معبراً عن المجتمع الذي ظهرت فيه لا يأتي فقط بالتوعية والتنظير والنقد-على أهمية كل هذا البالغة-ولكنه يأتي أساساً بانقلاب موازين القوى داخل المجتمع لصالح قوى المجتمع الأهلى وضد النخب المسيطرة المغتربة والمعزولة عن السكان. هذا الانقلاب يشكل عند حدوثه النهاية الواقعية لعصر الاستلاب.قلت في أماكن أخرى أن المجتمع الأهلي منذ "عصر النهضة"هو ساكت أو أخرس فالتعبير العربي منذ ذلك العصر قد احتكرته تلك النخب المغتربة عن المجتمع التي تعبيراتها هي تعبيرات الذات المستلبة،تعبيرات لها حركة مزدوجة:موجبة تهدف إلى الاندماج بالمرجع الاستلابي وسالبة تهدف إلى نفي الذات الحقيقية والتملص منها ولنا أن نتوقع أن الأدب التأصيلي يقوم أيضاَ على أساس من حركتين متناقضتين مرتبطتين جدلياً:اجتثاث النزعة اللا شعورية للاندماج بالمرجع الاستلابي وإعادة اجتياف الذات الحقيقية.لا بد من إيقاف الانبهار الذي قد نعذر فيه نعيمة وشبلي شميل ولكننا ما عاد بإمكاننا بعد هذا الزمن أن نعذر فيه الأديب العربي الجديدهذا الجتثاث مسعى جوهري مرتبط بالحركة الأولى في العملية التأصيلية وإعادة الاعتبار لشعبنا ومفاهيمه وتجربته الحضارية سمة أساسية من سمات الحركة الثانية. 1- ياسين الحافظ -"الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة"-دار الحصاد للنشر والتوزيع -دمشق-الأعمال الكاملة (4)-ط2-ص46. 2- عبد الله العروي- "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"-المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء-بيروت-1995 كافة الاستشهادات في هذا المقال هي من هذه الطبعة. 3- وبالمناسبة، ومن باب "الشيء بالشيء يذكر"، لا ارى أن الدخول الواسع للكتابات الفلسفية المغربية التي جل عملها نسخ وتلخيص آخر صرعات الفلسفة الفرنسية ونقلها إلى الساحة العربية كان شيئاً إيجابياً من ناحية المضمون فما هو في نظري إلا تشجيع على مزيد من الاستلاب الثقافي ولكنه من ناحية تعزيز الروابط الثقافية بين جناحي الأمة إيجابي بلا شك. 4- الدليل أنه يعرفه بهذا المعنى هو ذكره له مراراً في كتاب قديم أصدره قبل هذه "الصياغة الجديدة"لكتاب"الأيديولوجيا.." انظر:"العرب والفكر التاريخي"-المركز الثقافي العربي ودار التنوير-الدارالبيضاء-بيروت-1983يقول مثلاًًًً"الاغتراب بمعنى التغريب أو التفرنج استلاب لكن الاعتراب -من العروبة-استلاب أكبر"ص207.وانظر لمفهومنا عن الاستلاب:محمد شاويش والدكتور حسين شاويش-"الحب والاستلاب -دراسات في علم الشخصية المستلبة-دار الكنوز الأدبية-بيروت- 1995لقد تغيرت وجهات نظر المؤلفين منذ تأليف الكتاب ولكن إيماني- وعلى حد علمي إيمان المؤلف الآخر أيضاً- بجوهر نظرية الاستلاب لم يزل موجوداً. 5- التعبير"تلميحات" له،يستخدمه في الواقع لتبرير جملة من المقولات والمصادرات التي لا يسوق لها تبريراً كافياًً وأسلوب"التلميحات" له جذر في الفلسفة الفرنسية الجديدة التي تحولت بفضله إلى كتابات غامضة قابلة للتأويل المتعدد والمقلد العربي على عادته يفتح فمه انبهاراً بهذا الأسلوب ولا يخطر له ولا في المنام أن هذا الأسلوب فيه أشياء مشتركة مع أسلوب البهلوانات والنصابين-. محمد شاويش-برلين