الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    وفد شيلي يثمن طفرة التنمية بالداخلة    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    أوزين: الأمازيغية لغة 70 في المائة من المغاربة .. وعلمانية المملكة متفردة    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات    مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    كيوسك السبت | أول دواء جنيس مغربي من القنب الهندي لتعزيز السيادة الصحية    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التشيع كمكون سوسيو ثقافي مغربي
نشر في هسبريس يوم 02 - 09 - 2009


محاولة في توسيع المجال السوسيولوجي المغربي ""
"لقد حسمت الحقيقة: فالرعب يستاء منها والجهل يسخر منها
والحقد يحرفها..ومع ذلك تظل موجودة"
ونستون تشرتشل
إننا لا نروم هنا تأسيس سوسيولوجيا شيعية مغربية إلاّ بالقدر الذي يساعد على توسيع مجال السوسيولوجيا المغربية نفسها. إن التأويل الانتروبولوجي لم يأخذ مداه خارج ما تقرر في المحاولات السوسيولوجية التي تنتمي إلى التراث الكولونيالي على أهميته في جوانب شتى. أجل ، لن نقبل ولن نرفض ، بل نعيد المحاولة والتأسيس على طريقة باسكون ، كما نزاوج النقد على طريقة الخطيبي. هذا المدى من التفكير ظل بعيدا عن اهتمام السوسيولوجيا المغربية بمعناه الجدّي. وفي جعبة أهل التخصص وإمكاناتهم ما يجعلهم أقدر على المضي فيه إلى ما يغني المكتبة السوسيولوجية المغربية. هناك سوسيولوجيا التصوف وسوسيولوجيا الحركات الدينية وسوسيولوجيا المقدس والمدنس والشيخ والمريد والسلطة والرعية وغيرها من الأبحاث التي باتت في عداد الأعمال الكلاسيكية المغربية . كل هذا لا يمنع من بل يشجع على وجود سوسيولوجيا شيعية تتناول الحدث من هذه الجنبة ولا تغرق في مقولات سياسوية مسطحة ، تلعب فيها الإثارة وأحكام القيمة ونزعات الاستئصال وهيستيريا الطائفية لعبتها القذرة. وفي مثل هذه المحاولة ستواجهنا معيقات وتحديات ، ستتضاعف لا محالة حينما يصبح صاحبها والداعي إليها في مربع الإتهام. كيف نستطيع الظفر بذلك الإسهام إذا كان الطريق مفروشا بالأشواك؟! وحتى في مثل هذه الحالة ، لا يبدو الأمر مهما، لأن طريق السوسيولوجيا وعر وهو أصلا طريق ذات الشوكة. كما أن هذا وحده لا يهم ، مادام في وسعنا أن نمشي حفاة فوق الأشواك وإن شئت الجمر وقد نستمتع على الأقل كما استمتع أجدادنا الذين جعلوا من طقس شرب الماء في حال الغليان وأكل الشوك والزجاج وليس فقط المشي عليه ، ممارسة للسمو الروحي والإشباع الطقوسي والتحدّي التعبيري وليس محنة. لكن ما يشكل عائقا حقيقيا هنا ، هو : هل في وسع الباحث أن يحرز القدر المعقول من الموضوعية أثناء البحث في هذه السوسيولوجيا وفي الوقت نفسه الدفاع عنها؟ قد يكون هذا ممكنا حيث جل الباحثين في حقل السوسيولوجيا الدينية لهم وفاء أو ميل أو قناعة بما يبحثون فيه. لأن الموضوعية ليست تفتيشا في القناعات والضمائر بل الموضوعية هي ما تقرؤه في السطور وتعكسه المحاولة. فالموضوعية حينما تأتي من المنتمي تصبح أكثر أهمية، لأن غير المنتمي لا يمارس اجتهادا مزدوجا: أن يبحث في الظاهرة وأن يحافظ على موضوعيته على طول الطريق. بل إن غير المنتمي قد يخفي نزعاته وميوله بينما المنتمي يعرض رصيده من الانتماء ويفعل رقابة المتلقي على كل ما يقوله ويستنتجه. وهو دائما في امتحان! ومن هنا وجب أن نتساءل في البدء، ماذا يعني أن يكون المغرب شيعيا بالتاريخ والثقافة؟
في أكثر من مناسبة عبرت عن وجهة نظري التأريخية والاجتماعية من خلال الصحافة عبثا حينما قلت بعفوية بالغة: إن المغرب بلد شيعي. ولم أكن حينئذ أعني أكثر من كون الهوية المغربية هي هذه الحصيلة السوسيو تاريخية والثقافية المركبة إلى أقصى ما يمكن أن يلفت نظر الباحث في تاريخ المغرب الوسيط كما يلفت نظر الباحث في التراث الثقافي والأنتروبولوجيا الدينية في هذه المنطقة . آخرون نقلوا من دون تثبت فرية اختزالية وضعت على لساني مفادها أن التشيع هو الأصل والسنة استثناء كما جاء في حوار مع كاتب السطور في وسائل الإعلام . والحال أنني فوق أن أتحدث بهذا الشكل من المجاز الرخيص. فتاريخ المغرب بقدر ما اتسع للتشيع اتسع للتسنن. وحديثي دائما كان يجري في بعده السوسيولوجي والثقافي والتاريخي. حيث في المجال الثقافي لا مجال للاحتكام إلى الارتذكسيات المذهبية بترسيماتها العالمة وتقنياتها العقلية الكلامية والفلسفية والفقهية. وعلى الرغم من المخاضات التي شهدها المغرب الوسيط بهذا الخصوص، فإن الحصيلة في ما تظهره رموز وتعبيرات ومظاهر التدين المغربي، هي هذه الهوية الدينية المركبة التي آل أمرها لأن يكون التسنن المغربي تسننا شيعيا بامتياز. وحتى لا أطنب كثيرا في شرح وجهة النظر هذه أقول: إن ما فهموه لم أقصده وما قصدته لم يفهموه. وإذا كان من واجب الكاتب أن يتوقع قارئه، فإن ما أتوقعه من خلال هذا العرض الموجز مهما بدى مطولا نظرا لكثافة إشكالياته هو قارئ خاص ملم إلى حد ما بصيرورة الأحداث التاريخية وتطور الذهنيات في هذا الربوع الذي تشكلت هويته عبر مفاصل مكثفة وصيرورة طويلة تداخلت فيها النظم والعادات وفعلت فيها الوقائع فعلها الطبيعي والغريب. فالهويات المركبة بطبيعتها تتشكل فوق الأرض بجدل متراكم شديد التعقيد ولا تسقط جاهزة فوق الرؤوس كجلمود صخر حطّه السيل من عل. إن حديثي عن الهوية المركبة لا يناقض أصالة الهوية الشيعية الغائرة للمغرب. ذلك لأن تركب الهويات لا يلغي بنية البنى الناظمة لمكوناتها الأخرى والأكثر فاعلية في مجمل ثقافتها ومعتقداتها. قصدت بذلك القول: أن التسنن نفسه في المغرب حينما يعبر عن نفسه سوسيوثقافيا، فلا يسعه إلاّ أن يعبر عنها برموز التشيع ومظاهره وطقوسه . إذ يصل الأمر بهذا التعبير حدّ المفارقة أحيانا بما لا نظير له في ما مضى وفيما تلا من تجارب الدعوات والدول في التاريخ الإسلامي مشرقا ومغربا. وهذا سيتضح جليا مع تجربة ابن تومرت صاحب الدعوة الموحدية. وحدها دعوته السنية من بين كل الدعوات التي شاهدنا في تاريخنا كانت كلما تشددت في تسننها عبرت عن نفسها شيعيا من خلال مفاهيم لا تستقيم إلا بالاستناد إلى الكلام الشيعي ونظيمته العقائدية. إن الدعوة الموحدية هي نموذج فريد يعكس ما ذهبنا إليه: أن قدر التسنن المغربي أن يعبر عن نفسه شيعيا. وهذا النمط يستمر في عصرنا ويتجلّى في الخصوصية الدستورانية المغربية . إذ لا أحد ينفي استنادها إلى الإسلام السني ، غير أنها تعبر عن نفسها شيعيا من الناحية الشكلانية. وهنا لا بد من القول أن استعارة رموز التشيع وشكلانيته في التعبيرات الوظيفية لا يعني أن المحتوى هو حتما وفيّ للتصور الشيعي . إن التشيع هنا حاضر بوصفه احتياط يتم اللجوء إليه متى لم يعد في مكنة الإسلام السني أن يفي بالغرض. فداخل الإسلام السني يصبح للتعبيرية الشيعية خصوصية وظيفية محض.
فهل يا ترى سأنجح مرة أخرى في توقع قارئي الخاص وليس دهماء الإعلام الذي خاب فيه ظني وشربنا من كأس ظلامته حتى الثمالة. من هنا لا بد أن أعيّن قارئي ابتداء: إنني لا أتوقعه متحيزا مذهبيا أو مهسترا طائفيا أو شوفينيا كئيبا أو متنكرا لأدوات البحث التاريخي وآليات التقريب المفاهيمي والنقدي. أي لا أتوقعه متراخيا في أحكام القيمة ، ضيقا صدره حرجا كأنّما يصّعد في السماء ، متى تعلق الأمر بفهم الأمور خارج صخب من لهم غايات خارج سلطان العلم. إنني وبكل بساطة أقدم فكرا ولا أقدم دينا. وسوف يكون الأمر أكثر إثارة إذا ما حصل تعديل في طبيعة المنظور التاريخي متى تحرر الباحث من الضغط المتولد من ذهان الأسطوغرافيا المغربية التي يدرك أهلها قبل الأغراب، أنها في حالة انتظار قصوى لمخلص قدير ينفض عنها الغبار ويبيد الأرضة من ثنايا فهومها وليس فقط من مخطوط خزائنها، ومؤرخ بارع يدخلها في دورة نقد الخطاب التاريخي. وهذا لم يحصل وإن بقيت الدعوة إليه قائمة ومفتوحة على أفق موسوم بثقافة تقمع السؤال وتحاصر الوعي وتحول التاريخ إلى دين وتحل الإجماع محل نقد الخطاب التاريخي في تشكيل الوعي التاريخي. فإذن نحن أمام سياسة تاريخية ولسنا أمام علم التاريخ. آية ذلك أننا لم يعد من حقنا امتلاك فهم للتاريخ غير ما فهّمونا إياه: حكايات للتسلية ومادة للإستغباء لم تعد تنفع الدارسين ولا تشفي غليل أهل الفضول. هذا في حين لم يكن التاريخ يوما ولن يكون أبدا ، إلا تعبير يتأطر بالوثيقة بوصفها معطى يحدد أفق القراءة والتحليل. وفي المغرب تحديدا كنا أمام محاولات جريئة لكنها غير كافية مادامت لم تكلل بجهد جماعي ومؤسسي يدعم ويحرر الكتابة التاريخية من غوايتها السردية الموروثة عن أرباب جيل الاسطوغرافيا الكلاسيكية. لم يجانب العروي الحقيقة حينما أشار إلى أهمية الوثيقة ووضعيتها في مختبر الكتابة التاريخية. فقد "يتغير نوع الوثيقة أي الرمز الشاهد فيتغير مفهوم الحدث، وبالتالي يتغير النقد والتأليف، أي تتغير ذهنية المؤرخ"(1).
وحيث لست في وارد الإطناب حول سوء الفهم الذي لا يزال هو سيد الموقف كلما عاد الحديث عن الشيعة والتشيع في بلادنا، في أزلية صراع لا يزال شاهدا على انحطاط العقل المتأسلم، الذي لم يستطع أدعياؤه حتى اليوم الانفلات من تبعية تاريخ ملؤه الفتن و"بلاء الوجود" كما عنون المرحوم رشدي فكار مرة لإحدى أعماله القيمة ، فإنني لا أفكر حتى في أن أضيف بيانا شافيا فيما صدر مني يومها ، بقدر ما يهمني تحديد إطار حديثي في عرض محطات في التاريخ الشيعي في المغرب، حيث أقصد بذلك ثقافته الوفية لهذا الجزء المفصلي من موروثه بالمعنى السوسيولوجي والثقافي للعبارة. محطات تمتد من القرون الوسطى حتى لحظتنا الراهنة في عجلة توجز المطلوب وتحاول أن توفّي دون إطناب.
وهنا أحب أن أعود إلى عبارة عبد الله العروي مفادها : ما أن يتغير فهمنا للوثيقة حتى يتغير وعينا التاريخي. وأعني بذلك تحديدا ، أنني أتحدث عن ضرب من التوسيع للوثيقة بما يدعم البحث التاريخي في المغرب . أي لا أقف موقف السلب تجاه ما تكشف عنه الأركيولوجيا والثقافة الشعبية، والنزول بالبحث التاريخي إلى حيز السوسيولوجيا فقط ، بل إن المهمة الجدير بها أن تسبق هذه الأخيرة ، هو البدار إلى انتهاك الأحياز اللاّمفكر فيها وخرم المحروس من فهومنا الزائفة داخل الطقس الاسطوغرافي المغربي وليسمح لي أهل الصناعة على هذا الإستعمال، لأنني لا زلت أرى مؤرخنا يمارس الكتابة التاريخي كما لو كان يزاول طقسا من الطقوس الدينية. لكن من دون خشوع . إن التاريخ العربي عموما والمغربي خصوصا خرج من رهانات المعرفة وموضوعيتها لصالح التهريج. التهريج الذي تحرسه إرادات التنميط التاريخي، وحتى أكون واضحا لا أقصد إرادة السلطة بوصفها هي نفسها مكرهة على مجاراة باقي الإرادات في سياسة التزييف الوظيفي للتاريخ، بل أقصد بذلك المتسلطون على تأويل التاريخ المغربي وحرّاس أكذوبة الهوية البسيطة والإجماع التاريخي كبديل غير منطقي عن حقيقة الهوية المركبة والوعي التاريخي الذي لا يفتأ يكمل معناه في صيرورة لا تنقطع وتركبات لا تتوقف. إننا بصدد تشخيص ما رامه أمين معلوف وسبق أن سارت به آراء ما بعد الهويات المحروسة، أقصد فكرة الهويات القاتلة. ثمة الكثير مما يروقني في تلك المقاربة حول مسألة الانتماء العقلاني والهوية المتسامحة لصاحب رواية ليون الأفريقي وسلاليم الشرق. لأن من عاقر مختلف الهويات واتسعت مداركه عن الآخر وجرّب التعايش مع المختلف وانتابته لوعة النوستالجيا خارج الاحتكاك الجسدي بالمكان الهوياتي ، لن يعود إلى أشباح الهويات القاتلة ولن يسمح لنفسه أن يبخس الآخرين لمزيد من النفخ البليد في الذّات. أجمل عبارة لمعلوف تذكرنا بهذا الضرب من الانتماء العقلاني لهوياتنا المركبة ، قولته : " لقد علََّمتْني حياةُ الكتابةِ أنْ أرتابَ من الكلمات، فأكثرها شفافيةً غالبًا ما يكونُ أكثرها خيانة ً. وإحدى هذه الكلمات المُضلِّلة هي كلمةُ هوية تحديدًا." (2)
تضليل الكلمات وضلال التخيّلات/ التهيّؤات الشقية، هو من يدفع باتجاه انتفاخ الذّات وتضخّم الثبات إلى درجة لا نحسن أن ننظر إلى هوياتنا كمركبات غير بسيطة،ومتحولات غير ثابتة. وأنا شخصيا أرفض الثبات وأرفض ثنائية الثابت والمتحول، حيث أومن بالثابت المتحول من دون واو العطف ، لأننا قد لا نرى التحوّلات العميقة والتغيرات اللطيفة التي تشهدها الكثير من الثوابت ، التي هي متحركة في الواقع. كالجبال تحسبها ثابتة وهي تمر مرّ السحاب. ولا أريد الإطناب كثيرا في هذه الفكرة التي عالجتها في كثير من أعمالي، إذ ليس همّنا هنا سوى أن نوضّح أمرا لا يتحمّل الخوض فيه أعمق من هذا القدر(3).
فالهويات ليست بسائط بل هي تراكيب.. وهي ليست متفردة في مخفر الأنا بل هي هويات مدمجة بعناية دقيقة لا تدرك إلاّ بمنطق وآليات اللاوعي الجمعي . تنحفظ كهويات مضمرة نائمة تؤثر بقدر ما تتأثر في ثنايا الغالب منها المستدعى بموجب الضرورة والمصلحة . تتطور بقدر ما تترسخ. فكيف ياترى بإمكان أصوليي الهوية البسيطة الخرافية أن يقنعونا بفكرتهم عن الهويات النازلة كصاعقة من السماء خارج منطق الجدل التاريخي والاجتماعي .. وكيف يتحقق هذا الإقناع مع المؤرخ التقليداني ، فارم البصل على رؤوس المتعبدين في محراب أحجياته التي لم تعانق حقائق السوسيولوجيا وفعل انتشار وإعادة انتشار جنود الهوية المعلن منها وغير المعلن، حيث (ولا يعلم جنود ربك إلا هو)؟!
أجل، عودا إلى ما ابتدأت به هذا المقال، أن المغرب هو بلد شيعي ، أي نعم . لكن بأي معنى هو كذلك؟ إنه في تقديري: سنيّ في النظر شيعي في العمل.. سني في الترسيمة المذهبية ، شيعي في التعبير عنها.. سني في الصورة، شيعي في الجوهر.. سنيّ في المذهب، شيعي في الثقافة.. سنيّ في الجغرافيا ، شيعي في التاريخ.. سنّي في الأحكام ، شيعي في الامتثال.. سنّي في الوعي ، شيعي في اللاوعي.. سنّي المدعى ، شيعي المتخيّل ... هناك ما لم يسلم للإسلام السني في عموم المغارب من تلك الطقوس والسلوكات الثقافية التي لا تتطلب من الباحث الموضوعي كثير التفات. فدائما هناك شيء ما ظل يتعايش إلى جانب الإسلام السني ، متحايلا ضد سطوته الارتذكسية . أي ما دام هناك الكثير مما سلّم به الإسلام السني أو سكت عنه أو امتنع عن التفكير فيه وإن لم يقبله ، فعلينا أن لا نتحدث عن الهوية الخالصة الطهرانية. تلك هي ميزة الهوية المغربية الواضحة وإن كانت حقا سمة كافة الثقافات وذاك قدرنها الاجتماعي . إذ حتى لمّا يريد أن يدافع عن سنيته ويحارب الشيعة يستند إلى شيعيته، فتراه في مواقع الحجاج السني الشيعي يزايد على الشيعة بشيعيته(4) . باختصار: إنّه شيعي رغما عنه !
وحينما يحاول المغرب أن يواجه التشيع ، فإنه لن يجد مستنده في الإسلام الظاهري، بل سيضطر إلى استنهاض الإسلام المغربي الأصيل: إسلام طرقي صوفي تحتل فيه ثقافة الأضرحة والطقوس مكانة خاصة؛ طقوس في مواجهة طقوس.. شكل من التشيع مقابل آخر... وقبل قرون، كان بنو مرين على ذكاء كبير في محاربة آثار الدعوة الموحدية الظاهرية/الباطنية ، وحتى لا يكرروا خطأ الدعوة المرابطية بالدعوة إلى مالكية سلفية تحرق إحياء علوم الدين ، عملوا على الدعوة إلى مالكية متصوفة أشعرية رقيقة ، فأحيوا الطقوس.
ليس المذهب في نهاية المطاف هو الذي يحدد هوية المجتمع ، بل هناك شيء آخر يؤثر في الهوية حتى لو تمّ إقصاؤه بالعنف: ليس كل ما يؤثر في الهوية معترف به. وكثير مما نعترف به لا يفعل في الهوية سوى أن يلامس سطحها في تغلّب غصبي تفرضه مصلحة الغالب. لكن للهوية معاقرات أخرى ، تعانق فيها ذاتها وتستسلم للمقصي منها في رحابة اللاّوعي كثيف الحضور شديد الغياب. الهاربون من هذه الحقيقة هم في حكم المستلب. وفي الاستيلاب بمدلوله الفاوستي تظل الصورة التي فرطنا فيها في صفقة مع الشيطان تتربص بنا. أن نهرب منها لا يعني أنها لن تلاحقنا.. أن نتعاعقد حولها لا يعني أنها لن تحاصرنا لتقتلنا؛ لتأخذ منا ما تبقى لنا. الجزء الأساسي الذي نقتلعه منا يلاحقنا لطلب ما تبقى: الهوية القاتلة الحقيقية هي تلك التي نفرط فيها ونهرب منها ونبيعها للشيطان، فيما الشيطان يعبر من خلالها إلى طلبات أخرى. إن حكاية الهوية الشيعية للمغارب هي حكاية فاوست في إحدى تجلياتها. أقولها بكل بساطة: من أراد أن يتنكر لهذه الهوية المغربية المركبة ولجوهرها المتشيع تاريخيا، أقول له: اهدم ضريح إدريس بن عبد الله وانزع من لسان المغاربة كلمة "قربالة" وامح كل أصل يشدهم شدّا شديدا مميزا بالأشراف العلويين. فإن لم تفعل ، فاعلم أنه لا مجال للمغالطة مع قوانين الثقافة والاجتماع حتى لو حرفنا التاريخ، كما فعلنا ولا زلنا نفعل بلا كلل ولا ملل!؟
مظاهر تدين سوسيو ثقافي متشيع
للتدين أبعاد شتى. ولا يهمنا هنا الحديث عن الدين بالمعنى الفقهي والكلامي الذي يتقيد بقوانين ومفاهيم تخاطب الوعي، بوصفها جملة من التكاليف ، وإنما أتحدث هنا عن الدين من وجهة نظر طقوسية رمزية تخاطب اللاّوعي وتتعدى في تعبيريتها مجال الفقه والتكليف ؛ أي الدين كممارسة اجتماعية. فذاك مجاله علم الكلام وهذا مجاله السوسيولوجيا الدينية والأنتروبولوجيا الدينية. ما يهمنا نحن هنا حتى من هذا الجانب ليس التوسع في تأويل هذه التعبيرات الرمزية للطقس وهو مجال واسع ومهم نهض به لفيف من رواد السوسيولوجيا والانتروبولوجيا الدينية في المغرب بشتى صنوفها الانغلوساكسونية والفرنسية والمغاربة ( من كيلنر وإيكلمان و دوطي حتى عبد الله حمودي ) ، ولكن همنا أن نحفر في تلك الآثار لأسباب أخرى غير التأويل. يتعلق الأمر بحقائق التاريخ حينما تطمس وتمحى، لكنها في الوقت نفسه لا تستسلم للبطش التاريخي ولا تباد، بل تعيد إنتاج نفسها في حقل الرمزي و تحتال على هذه الرقابة فتجد لها تعبيرات مزركشة تخفي بقدر ما تظهر . حينما يستبد التاريخ وجب التحرر منه لصالح السوسيولوجيا. وحينما تغيب الوثيقة التاريخية، يتعين استدراكها في الحفريات الشفهية والتعبيرات الاجتماعية والدينية. قد يكون المؤرخ كما قال العروي عدوا للسياسي لأنه يذكر ويتذكر ، لكننا نتساءل بدورنا : من هو عدو التاريخ حينما لا يصبح مجالا حتى للتذكر والتذكير ، بل يصبح دينا زائفا أو رومانسية شعرية للمديح والهجاء لا تنفع للحقيقة.. أجل ، إن عدو المؤرخ حينئذ هو السوسيولوجي.. وعدو الإسطوغرافيا هنا هو التأويل الانتروبولوجي.. السوسيولوجيا إذن هي عدو التاريخ لأنها تكشف وتؤول.. لأنها تبدأ تأريخها الفعلي من الشفهي إلى الكتابي .. ومن الحاضر إلى الماضي .. إنها أيضا تساءل التاريخ وتحرجه! فهي هنا تؤشر على أن وضعا ما مرّ من ها هنا لا يجدي محوه. كان فرويد يتحدث عن اللاوعي بمستوى رفيع يصلح أن يتعدى من اللاّوعي النفسي إلى مجال اللاّوعي الجمعي . وأعني بذلك أن كل ما يحدث داخل اللاّوعي يوشك أن يتجلى يوما على صفحة الوعي. لا يهم ، متى يحدث ذلك وكيف . فإن للّاوعي قواعده وأساليبه ومفاجئاته وخداعه وحساباته الدقيقة التي نجهل منها الكثير ولا نتنبّأ بنشاطها المفعم بالأسرار. ومن هنا بات هدفنا هنا واضحا: فهو ليس الدين من حيث علاقته بالله والسمو الروحي كما هو بيّن واضح أنه من مهمات علم الكلام وإن كان الهاربون في مثل هذه التعريفات الساذجة لا يتحقق فيهم حتى هذا القدر من السمو الروحي كما تظهر تفاهة نقوضهم العارية والفاضحة ، بل الدين هنا من حيث أنه طقوس اجتماعية تعبر عن نفسها من خلال عدد من الرموز والقداسات التي تحكي عن حقيقة تفوق كونها مجرد طقوس اعتباطية. لأننا نتساءل : إذا قالوا إن التشيع هنا لا أثر له وقد أبيد عن آخره، فهل يوجد سوسيولوجي أو أنتروبولوجي عاقل يستطيع أن ينكر انتشار هذا المكون ضمن باقي المكونات الثقافية ويحتل قاع الرمزي بالشدة نفسها الذي يتعرض فيها لقهر المحو وجبروت الإبادة ؟! ولكنني وجدت أن الهستيريا الطائفية لا تقف عند حدّها بل تحاول حتى كسر قواعد السوسيولوجيا لتحاكم التعبيرات الرمزية داخل الممارسات الطقوسية ، لتنفي عنها كونها شيعية. وإذا استسلمت بعض الشيء، حاكمتها بعلم الكلام الذي لا تفقه فيه شيئا وليس بقواعد السوسيولوجيا. وهنا تكمن قمّة البلادة وسوء الفهم الكبير!
ثمة في تقاليد المغاربة ما يحيل إلى هذه الهوية المركبة التي تحتلّ فيها الثقافة الشيعية بنية البنى. أي البنية المحركة والقادرة على منح التأويل المعقول في مجمل هذه المفارقات الطقوسية شديدة الغموض أحيانا وشديدة التماثل والانتقال أحيانا أخرى. أقصد أن كل التأويلات التي تمنح لتلك الطقوس المتداخلة المعنى لا يمكنها أن تضفي بأساطيرها فهما يعانق في سرية تامة حقيقته التاريخية ، ما تضفيه التأويلات المرتبطة والوفية للرموز الشيعية. وإلا فالباقي لا يبرح وضعيته الأسطورية شديدة الغموض والمفارقة ، بقدر ما يجد أصوله في تمثلات طقوسية قديمة. دعني أوضح أكثر: إنني أستطيع أن أفهم لماذا تتحول بعض الطقوس العاشورائية في بعض المناطق المغربية إلى مناسبة لتمثلات درامية وكيف يكون الحزن فيها سيد الموقف. لكنني لن أستطيع أن أفهم ما معنى أن تتحول مناسبة المولد النبوي في مثل هذه المناطق إلى تمثلات درامية تصل إلى حد افتراس الأكباش بصوفها وشحمها ولحمها والضرب على الرؤوس وأكل الزجاج والشوك في طقس شديد الغرابة. ولا تذهب بك المذاهب بعيدا ، فتستهين بالحفر الإثنولوجي والتأويل الانتربولوجي في هذا المضمار الذي لم يجد المؤسسون لكبرى المدارس الاجتماعية وصناع مفاهيمها الكبرى دونه خيارا ، حيث لا يوجد من الحفر إلا ما هو نافع ، حتى بات الحديث في الاجتماع الديني من دون حفر بلادة تفوق كل البلادات. وإلاّ ما الجدوى من قيام علوم نظير علم الاجتماع الديني والانتربولوجيا الدينية وما شابه. أم أننا سنمارس ظاهريتنا وسلفويتنا وتجديفنا حتى من داخل حقول لا تحمل سموم الطائفية البغيضة ولا عقلها الأجوف؟!
ووجب قبل ذلك أن نميّز بين ما هو مقبول وما هو مرفوض فيما بين التشيّع العالم و التشيع العامّي. فما أتحدث عنه هنا وما أحفر فيه هناك لا يحيل إلى التشيع العالم الممدرس الذي له آلياته في الفهم والتفهيم ليست موضوعنا في هذه المحاولة. وليس هو التدين الروحي النقي الذي يمتح من أصول دينية ويجسر علاقة روحية خاصة بين الإنسان وربه مما لا يخفى علينا ونحن نعدد في مقارباتنا ونحترم الأطر التي تناسب أحكامنا. بل المقصود هنا مظاهر تدين سوسيولوجي متلبس بخبرات سوسيوثقافية ، تحمل دلالات وقرائن خفية تفضح فرية استسلام التاريخ للهوية الدينية البسيطة. ففي إيران كما في العراق كما في البحرين كما في أذربيجان كما في أي مجتمع شيعي آخر، هناك ثقافة شيعية تلتقي مع الثقافة الشيعية المغربية قليلا أو كثيرا. وإن لم يكن لها أصل في التشيّع العالم. لا نجد لذلك نظيرا إلاّ في المغارب بدء من مصر حتى المغرب الجوّاني. كان المغاربة يضعون على الأبواب قطعة من حديد منحوتة على شكل يد ، يسمونها يد فاطمة الزهراء. وهي في اعتقادهم تدفع عن البيت وعن ساكنيه كل صنوف الأذى و خطر العين. وكذلك مثلها الخميسة التي تتخللها قلادة توضع حول عنق الصبيّ للغرض نفسه. والخميسة هنا ليس ما ترمز إليه اليد في مجمل تاريخ المغرب القديم. فقد وجدت لليد دلالات خاصة في حضارة الإنسان المغربي القديم ، أي الحضارة الليبية القديمة بالتعبير الاسطرغرافي الإغريقي كما خلدتها الرسوم والآثار على صفحات الصخور ولوحات القبور. وهذا لا يعنينا هنا . لأن الطقوس في نظري لا تبدع وإنما يعاد تركيبها شأن الهوية المركبة. فقد يفقد طقس ما دلالاته وجذوره المرجعية ومحتواه العقائدي ، لكنه يبقي على أشكالها ويمنحها من ثقافته المستحدثة روحا جديدا وتأويلا مختلفا. فكما عند لا فوازييه في قوانين الفيزياء ، هنا أيضا في مجال الثقافة لا شيء يكتسب ولا شيء يخسر ولكن الكل يتحول. يبدو ثمة الكثير من الفوضى يوحي بأن الثقافة تخبط خبط عشواء. غير أن التأويل يفك كل هذه الرموز ليقبض على منطقها الخفي... هنا فقط تجد عنوان الحزن في ما يبدو أهازيج وأفراح.. والعكس يصحّ. وعموما لقد سماها المغاربة يد فاطمة ، مما منحها معنى إسلاميا، وليس مجرد معنى أحفوري منبعث من رماد تاريخ غير مكتوب. كما منحوها معنى شيعيا ، لأن فاطمة في التراث السني الأرتذكسي تكاد تكون على مكانتها مهملة ، إذ لا يروى عنها إلا الناذر في المدونات الأخبارية المعتبرة، ولا يقام لها طقس. هنا نجد أم المؤمنين عائشة في التراث السني تغطي على السيدة فاطمة. بينما لفاطمة حظور في التراث الشيعي يغطي على عائشة . وهو كذلك في الاسلام الشعبي المغربي ، فلفاطمة هنا حضور أشد . ولا شك أن ترميز فاطمة لم يكن في يوم من الأيام إلا ترميزا شيعيا . لقد منح المغاربة ل " لخميسة " في بعض التعبيرات إسم " يد لالة فاطمة الزهراء" . وحينئذ لم يعد من الممكن أن يغالط البعض فيقول إن الأوربيين سمّوها (la main de fatima) ، كما يرمز إسم فاطمة على الأقل في التراث المسيحي. إن يد فاطمة الزهراء أو الخميسة لها دلالة أخرى ، تتماهى ميتافوريا مع التعاليم الإسلامية الجديدة ولا تحتفظ بوفائها الأزلي للحفريات الثقافية ما قبل الاسلامية ، وثنية رومانية أو فينيقية. هناك دائما الجديد الذي يمنح روحا للقديم وأحيانا يستبدل مضمومنا بآخر مع الاحتفاظ بالهيكل الطقسي نفسه. تحيل الخمسة إلى عدد أهل الكساء الذين نزلت فيهم الآية الكريمة :" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" (الأحزاب / 33). أورد ابن كثير بخصوص هذه الآية طرقا لحديث الكساء. منها عن الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها، فأتته فاطمة، رضي الله عنها، ببرمة فيها خَزيرة، فدخلت بها عليه فقال لها: "ادعي زوجك وابنيك". قالت: فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامةٍ له على دكان . تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . قالت: فأخذ فضل الكساء فغطاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"، قالت: فأدخلت رأسي البيت، فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ فقال: "إنك إلى خير، إنك إلى خير" . في إسناده من لم يسم ، وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات(5).
وتكون فاطمة هي محور الخمسة وملتقى الكساء. من هنا ليس غريبا أن تكون دارها هي المصداق الأعظم لهذه الآية الكريمة. فقد ذكر ابن كثير أيضا خبرالإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: "الصلاة يا أهل البيت، ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )" (6). أقول استطرادا على ما توحي بها الخمسة والخميسة وعلاقة الخمسة بأهل الكساء في جملة ما أدركه المغرب من التراث الفاطمي ، أن لفاطمة مكانة خاصة في التراث الشعبي المغربي. وهي تحضر في هذا الوجدان حظورا ملفتا بسرّه وقدسيته الخاصة. فلقد حلف المغاربة ودعوا على أعدائهم كما أقسموا بجاه لالة فاطمة الزهراء. وفي الأمداح المغربية نحفظ بذوق صوفي رقيق كلمات من قبيل:
اسعدي يا ربي.. بولاد للاّ فاطم الزهرا .. هما عنايتي
فاطمة في الوجدان الشيعي هي سيدة نساء العالمين مكرمة معصومة عالمة غير معلمة الطاهرة البتول ، استطاعت كما في تجربة ماسينيون أن تحتل المكانة العظيمة. وهي من أهم ما غمر ماسينيون في رحلته إلى النجف حيث "تقربل" مزاجه ، قبل اكتشاف الحلاّج والسفر في عوالم نفيه الصوفي. وكان لماسينيون تأثّر بالغ بمجد وشرف فاطمة لا يوجد إلاّ عند الشيعة وفي المغارب، وحده يعقلن الأسطورة ويجعلها ممكنة.
للاّ فاطمة الزهرا في تجربة ماسينيون
لقد شغلت فاطمة حيزا مهما فى هذه الخبرة العرفانية التى قد تصل مع ماسينيون إلى حدود الشطح الصوفى. لكنه يجد مضامينه الحقيقية في تراث (الممنوع)! ففاطمة هي هذا الطراز النموذجى لشخص يحمل أبعادا تتسع إلى التشكل المستحيل ما لم نفتح أفقا خارج مدارات الحروف: (فاطمة أمّ أبيها)، وإلى حقائق كبرى تجعلها حقا مثال المرأة الكاملة في روايات أهل السنة أنه لم يكمل إلاّ ثلاث : مريم بنت عمران وخديجة الكبرى وفاطمة وينبوع (الرأفة الكونية)، إنها أخيرا، رهينة (كلام) أبيها، فى محك عرض الاحتكام إلى الله في مواجهة حجة نصارى نجران فى حادثة المباهلة. ففي (الأدعية الشيعية، ترمز فاطمة التي هي نموذج المرأة الكاملة إلى منبع الرأفة الكونية . ونجد ذلك فى الخطبة الشهيرة المنسوبة لنصير الدين الطوسى سنة 1278 (ذات الأحزان): وأنها لكذلك بواقع كنيتها (أم أبيها) خلعها عليها أبوها. وفاطمة هي التعويض عن آمنة، تتحمل آلام المخاض فى كل ذكور سلالتها. فهي في يوم المباهلة، يوم عرض الاحتكام إلى الله ، الذى قدمه محمد لمسيحيي نجران، كانت إحدى الرهائن الخمسة لكلام أبيها. الرهينة الأساسية، كونها فى الوقت نفسه البنت والأم والزوجة ، الصلة الجسدة الواحدة للأربعة الآخرين: بديلتهم. هذا السر النافذ فى قضيه فاطمة، يتجسد بصورة رمزية تنطوى على مغزى تأويلى عميق، هو المغزى الذى يتجاوز فى نجاحه وأهميته تجارب الأنبياء السابقين، كما تحقق فى محك (المباهلة).. إنها، بالتالي، تجربة المرأة التى مثلت، بهذه الكيفية العجيبة، نموذج الرحمة، وحاضنة المستضعفين، والمتمردة على الولاة، وصاحبه السر الخفى.. وهى فوق كل هذا بديل عن خديجة أمها، بدل زوجات النبي العاقرات، وهو سر تعلق العلويين بها.. فصورة (فاطمة التاريخية كما يقدمها (لامنس) فى مهاتراته، حيث يحاول (مطرب الأمويين) أن يقنع قراء (انسكلوبيديا الإسلام) بإشاعات عدائية، كانت قد أشيعت ضدها خلال فترة الخلافة الأموية، عندما كان الفقهاء والمشرعون الموالون لعلى خلال فترة الخلافة الأموية، يلاحقون ويقتلون من قبل أبناء الأعداء اللّدودين لفاطمة وأبيها. إنها شخصية تعيسة غاطسة بالحداد بشكل مستمر. إنها (ظل امرأة..ندابة، تعانى من فقر الدم)، زوجة رجل (أقرع، مكرش وأعمش). والحقيقة أن فاطمة بالنسبة إلى النبي، كانت بديلا لأمها خديجة. آحادية الزواج مثلها، (ربة البيت) ملجأ (المستضعفين). حيث كانت تلجأ صحابة النبي الخاصة والغرباء الذين أسلموا ولم تقبلهم القبيلة العربية كصحبة. وإليها يعود الفضل فى تعلق العلويين عبر القرون بالمؤمنين الفقراء والمحرومين وأصحاب الصنعة والفلاحين. ودفاعا عنهم وليس من أجل الحصول على إقطاعة (حصة) بالميراث: (أنها) صدقة أهل البيت (مثل حفيدها حسن بن الحسن ) .. كان ينبغي لفاطمة، رهينة الضيافة العربية، التى كانت تصلى ليس من أجلها وإنما من أجل الآخرين، أن تموت بشعور التخلي الرباني، مصلوبة فى ثكلها، حامله بيدها لأبيها الميت (البيعة) يمين الولاء، (شباك الرسول)، رهن وعده بالعودة لاصطحابها أولا بعد موتها. فى الواقع، توفيت فاطمه بعده ب (75) يوما، إذ أنها ولدت قبل الأوان طفلا ميتا، محسن، (صاحب السر الخفي). ثم أسيئت معاملتها كمتمردة ، لأنها رفضت الخروج من (بيت الأحزان) والذهاب لتقديم الولاء. فقد (حلت شعرها) وهو التعبير النبيل عن الحزن الأقصى لامرأة حرة ، حزن ستجدده يوم الانبعاث: استنكار المرأة(7). هذا المنظور الماسينيوني عن فاطمة الزهراء بلونها وأفقها الشيعي الثقيل على الاستيعاب السني الأرتذكسي(8) هو منظور مقبول ويسير وموحي للوجدان المغربي ، حيث بذلك السّر وبذلك الثقل الروحي تحضر فاطمة في السوسيوثقافة المغربية. فاطمة التي يكاد يصورها التاريخ العام على هامش الحدث الإسلامي إمعانا في التقليل من دورها وأهميتها، ما جعل اليسوعي لامانس مطرب الأمويين كما سماه ماسينيون ينعتها بأبشع الأوصاف. ولا يقدم التاريخ العام مبررا لهذا النوع من التهميش لشخصية أحاطت بها العظمة من كل الجهات. فهي بنت أعظم نبي وابنة خديجة أفضل زوجات النبي وزوجة أعظم إمام وأمّ لأعظم الأئمة ، بل لقد قرن إسم المخلص المهدي بها كما تذكر عشرات الأخبار السنية الصحيحة أن المهدي من ولد فاطمة. وهي هي نفسها تحمل من السرّ ما جعل أباها يسر لسرورها ويغضب لغضبها. وهي من الخمسة الذين ذكروا في حديث الكساء. كان شريعتي قد عنون لأحدى كتبه "فاطمة هي فاطمة"، أي أن قيمتها ليس فقط مما استمدته من هؤلاء جميعا، بل قيمتها فيها نفسها وفي السّر المستودع فيها : فاطمة!
قيمة الزهراء في التعاليم
تحضر فاطمة في تراث العامة حضورا محتشما يكتنفه الكثير من التهميش. على الرغم من أنها ملتقى الأئمة. لا يعني هذا أنها لا تعرف لها فضائل في خزائن الكتب السنية ، بل المسألة تتعلق بعدم التناسب بين المبثوث هناك وبين المركوز في الوجدان. إنها ما خلا التراث الشيعي وإلى حدّ ما التراث الصوفي والتراث الشعبي المغربي مثلا ، لا تجد الوجدان الذي يستخرجها من مكتوب الفضائل إلى الحضور الفاعل. لا في دائرة العلم ولا في دائرة الطقس. لكن قيمة فاطمة في الوجدان المغربي المتشيع لها روحيا وسوسيو ثقافيا ، تؤكد على أن لهذا الحضور ما يسنده في التعاليم . ما يؤكد على حقيقة الموقف وشرعيته ومعقوليته من هذه الناحية. فالتناسب بين الحضور الوجداني وبين المبثوث في خزائن الكتب واضح ها هنا. يقول (ص):
" مناد من قبل الله يوم القيامة ينادي، غضّوا أبصاركم حتى تمر فاطمة "(9). ومن جملة الأخبار المستفيضة في فضائل الزهراء ، قوله ( ص) : " الله يرضى لرضا فاطمة "(10). وهي حسب قوله قوله (ص): " أول من يدخل الجنة فاطمة "(11) .إنّ افتخار أبيها بها لا حدود له . فهو القائل (ص) : " فاطمة انعقاد نطفتها من ثمار الجنة "(21) . و قوله (ص) : " فاطمة ، الله أمر النبي بمباهلة النصارى بها و بعلي و الحسن والحسين و هم أفضل الخلق (13) وقوله (ص) في تشبيهها: " فاطمة أشبه الناس برسول الله (ص) " (14) .وقوله (ص) في الدفاع عنها : " فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني (51) . و قوله (ص): " فاطمة سيدة نساء العالمين "(16) . وفي رواية:" يا فاطمة ألا يرضيك أن تكوني سيدة نساء المؤمنين"(17). و قوله (ص) : " فاطمة سميت بهذا الاسم لأن الله قد فطمها و محبيها و ذريتها من النار "(81). ومثل هذا كثير في التصنيف لا يناسبه قدر فاطمة في الوجدان السنّي. فهي فيه نسيا منسيا لا تذكر بإسراف إلا من خلال بضعة أخبار بعضها موضوع والآخر فاسد التأويل ، تورد همزا في فاطمة كقوله (ص): يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئا ، أو قوله: لو أن ابنتي فاطمة سرقت لقطعت يدها أو خبر بكاء فاطمة وطلب المعونة من أبيها كي يجد لها خادمة تساعدها ، فيعاوضها إياها بالتسبيحات المعروفة اليوم بتسبيح الزهراء. أو همزا في عليّ مثل نية الزواج عليها. بينما بعيدا عن هذا الاختزال التنميطي لفاطمة القائم على الانتقاء ، نجد كل ما هناك من أخبار صحيحة حولها تؤكد أنها أفضل النساء وحوراء آدمية بتول مطهرة شافعة في أمة جدها محرمة على النار وغيرها مما لا يعد ولا يحصى. لكن فاطمة بتلك الروحية تحضر حضورا ملفتا في الوجدان الشيعي. وكذلك تحضر حضورا مميّزا في الوجدان المغربي، وإن كان حضورا مقموعا بنمطية الارتذكسية الانتقائية ، لتخرج عن التداول العالم إلى الفضاء الشعبي ، حيث حمتها الطقوس والثقافة والوجدان المغربي من التلاشي. ويكفي أن يكون ذلك هو نصيب المغاربة من التشيع لفاطمة وحبها. فليس التشيع إلاّ الحب. التشخيص الاتنولوجي لما سمي بالغلو فقها ، يوقفنا على حقيقة مفادها أن مجموعات ما في لحظات تاريخية ما ، يتراخوا في الفروع إمعانا في حفظ الأصول. وحيث يصعب أيضا حفظ الأصول يعمدون إلى مراوغة الأرتذكسيات الوصية بافتعال راموز يقي من بطش الأرتذكسيات ، سرعان ما تتلاشى مفاتيحه وتتراكم عليه عوائد الثقافات.
وكذلك وجد المغاربة أفضل ما يطلق على التوأمين إسمي: الحسن والحسين. وأفضل الأسماء المباركة التي تسمى بها المولودة: فاطمة الزهراء. والمغاربة لا سيما الأمازيغ منهم يكاد يعدم عندهم التسمية إلا بأسماء أهل البيت من محمد وعلي وفاطمة الزهراء والبتول والحسن والحسين والمهدي وزينب وسكينة وزهرا ... ومن تقاليدهم أنهم يسّيدون إسم محمد وعلي وفاطمة ، وقلّ ما يفعلون في غيرها. وأحيانا جمعوا بين إسم محمد وعلي. وكان من تقاليد المغاربة أنهم إذا ما سموا مولودا بمحمد ، صحفوا الإسم بعض التصحيف ولا يطلقونه كاملا إلاّ إذا صلح أمره عند الكبر إمعانا في تقديس الإسم : الإسم هنا يجب استحقاقه عن جدارة. لذا كان المغاربة الأمازيغ يستعملون إسم: امحند، وهو في الأصل تصحيف لمحمد قبل أن يصبح إسما مستقلا متداولا. وعليه ليس من باب التصحيف إطلاق أسماء من قبيل، فطومة وفاطمة وفاطنة وزهور وحسينة ، فهذه بعض التقاليد التي اندرست وظلت الأسماء الأخيرة أسماء حقيقية وليس تصغيرا للنكتة سابقة الذكر. ويكفي أن المغاربة يسمون أبناءهم تسميات لم يتسمّ بها سوى الشيعة ، وهي أسماء مرفوضة عند خصوم الشيعة وتعتبر بدعية وشركية ، مثل "عبد النبي". وتكثر أسماء أهل البيت وتتكرر في البيت الواحد ولا يصار إلى غيرها من الأسماء الإسلامية الرائجة ، وهي من العوائد المتعارفة عند بعض القبائل والمناطق. ولا نستغرب أن يسمي المغاربة اليد المنحوتة من حديد أو فضة الخميسة "يد فاطمة الزهراء" ، فإنهم استعملوا هذا الإسم في ظواهر طبيعية أخرى ، كأن يسموا البرد التبروري "دموع للاّ فاطم الزهرا" . لقد كانت الروايات المروية عن أهل البيت تكره أن يسمى القوس الذي يظهر في الأفق ويعكس ألوان الطيف في فصل الشتاء: قوس قزح ، باعتبار أن إسم قزح هو إسم الشيطان ، والتأكيد على أن إسمه المناسب هو قوس الرحمن ، كما ذكروا ومنهم الطبرسي في الاحتجاج ، وكما ذكر الفيروز أبادي في القاموس المحيط ، حينما قال :" العامَّةُ تقولُ قَوْسُ قُزَحَ، وقد نُهِيَ أن يقال" ؛ فإن المغاربة سمّوه: "حزام للاّفاطم الزهراء". وهما قرينتان على أن إطلاق يد فاطمة يقصد به هذا المغزى حتى لو كان لهذه الظواهر آثار في قديم الحضارات.. لأن المعول عليه هو رمزيتها الوظيفية في الثقافة اللاحقة لا في الآثار الغابرة. فتأمل!
أمثال موحية
أحيانا يتعين الالتفات ليس إلى الألفاظ والتراكيب التواضعية ، ولا حتى المجازية. يتعين اختبار الوجدان الشعبي من جملة الأمثال الموحية بمفرداتها المماثلة. وهنا يحضر التحليل النفسي للغة إذ لا يوجد ما هو اعتباطي في المواضعات على خلاف ما سار عليه ركب اللغويين منذ (دوسوسو) ومن قبله حتى يومنا هذا. إن ما لا يبدو محسوبا بآليات الوعي هو كذلك وبدقة أكبر بوسائل اللاّوعي. وبتعبير فرويد فإن اللاشعور يحسب جيدا (l inconscient calcule bien). وإذا جرى هذا في التصحيفات التي تطال المعاني الحقيقية، فهو يجري أكثر في التصحيفات التي تطال المجازات. ثمة عبارتان متداولتان في اللسان المغربي ردّدتها العامة قبل الخاصة: الغائب حجته معه. وقولهم لمن لا يكرم الإناء ولا يكمل آخر كسرة خبز: أكمل شهادتك. وقد لفت انتباهي قول أحدهم لي هائما في ضرب من التمثيل التناسبي بين هذه العبارات وبعض حقائق التشيع كمكون لهذه الثقافة المغربية ، حيث ذكر أن الحجة الغائب تحيل إلى المهدي المنتظر و" أكمل شهادتك" تفيد أن إكمال الشهادة لا يتمّ إلا بإعلان الولاية لعلي بن أبي طالب. وقد يكون الأمر هنا لا يحمل هذا المعنى بالضرورة بالمعنى التواضعي التعييني للعبارة ، لكنه قد يكتسب دلالة تعيّنية بحسب الإيحاء المجازي للعبارة . وهو من معتاد التوالدات اللغوية والتّعيّنات اللفظية التي لا تقف عند حدّ. فالتمثيل ليس سوى وسيلة لتحريك المعنى الممكن من داخل اللاوعي المسكون بهذه الرموز. لأن ما يعنيني في الإحالتين المذكورتين، ليس عموم المعنى اللغوي بل خصوص التمثيل اللاواعي لهما من وجهة نظر تحليل نفسية للغة. بمعنى آخر ، إن التصحيف باللفظ كالتصحيف في المعنى يحيل إلى حسابات اللاوعي لا إلى مجرد أخطاء جزافية في اللغة. وهذا ما قصدته من أن هذا التمثيل يكشف عن أن هناك أمرا ما مكبوتا يجد طريقه إلى الوعي عبر التصحيف : أقصد التشيع المكبوت في اللاّوعي وليس بالضرورة التشيع المرفوض والمحارب في السطح. ولذا فليس معنى الغائب حجته معه إلاّ واحدة من تلك الأمثلة التي انتهت إلى سمعي من أفواه بعض المتشيّعة الذين استأنفوا بطريقة لا واعية معنى جديدا لتعبيرات قديمة ، فاستحسنتها من باب التسامح في أدلّة السنن كما يقول المحدثون أو من باب نشوئية المعنى وتوالد الدلالات التعبيرية في الحقل الرمزي من وجهة نظر تأويلية أنتروبولوجية. وكذلك من باب التحليل النفسي للغة حيث السؤال: كيف يفهم منها (x) مغربي هذا المعنى بفرادة، ويحاول إعادة بناء المعنى وفق خلفية أخرى، إلاّ أن يكون وجدانه شيعيا. والعبارة هي للعلم وخلافا لمزاعم البعض ليست مما يخلوا منه معجم الأمثال المغربية ، كما لو أن معجم الأمثال المغربية جفّ دونه المداد وانكسر عنده القلم وبلغ حدّ الاستقصا عند آحادنا . فلا زالت في أفواه المغاربة من الأمثال الناذرة التي لم تجد لها طريقا إلى معجم الأمثال المغربية المدون منها حصرا كما إن كل قبيلة لها ما لها من مخزون الأمثال لا يدركه الأباعد . فهل يا ترى بهذا التعالم الساذج الذي لا يملأ سطرين ولا يدوم بضعة ثواني استقصينا تاريخنا قبل ادعاء استقصاءنا لحفرياتنا. وهل الحفر ينتهي أم هي حكاية حجاج عقيم؟! فحديث خلاص آخر زمان والمهدي ونظائرها مدرجة في تعبيرات المغاربة. وحسبك أن الأقدمين استعملوا كلمة الثلث الناجي وما إليها من عبارات تؤدي نفس الغرض. ناهيك أن المثل الأخير ليس مثلا مصريا كما يزعم البعض بأنه انتقل إلى المغاربة عبر المسلسلات المصرية. فهذا مثل راج ويروج ويكاد ينسبه كل عربي لنفسه من اليمن فالعراق حتى المغرب. يكفي أن يذكره الميداني في مجمع الأمثال ، و الابشهي في المستطرف في كل فن مستظرف والعاملي في الكشكول. وسار عليها لسان علماء المغارب ، انظر ابن عاشور مثلا في تفسير التحرير والتنوير في مورد الآية الكريمة ( أو ليأتيني بسلطان مبين ). يقول : " جعله ثالث الأمور التي جعلها جزاء لغيبته وهو أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول .والسلطان: الحجة. والمبين: المظهر لحق المحتج بها. وهذه الزيادة من النبي سليمان استقصاء للهدهد في حقه لأن الغائب حجته معه". ولسنا بغافلين عن المعنى العام للعبارة. ولا بهذه السذاجة أوردنا ما أوردنا. لكن لا يخفى أن هذا الاستعمال مما انتقل إلى العامة في المغارب من فرط الاستعمال الفقهي لفقهاء وطلبة القرويين له وتردده على الأسماع. فهناك من المغاربة من جيل جدّاتنا من استعمله حين كان أغلب المغاربة لا يمتلكون جهاز التلفاز، لم يشاهدوا لا أفلام مصرية بالأبيض والأسود ولا حتى طالعوا الإشهار ولا أدركوا رقصة "أنا الليمونة". كثيرة هي الألفاظ الفقهية ذات الدلالة العلمية نزلت إلى التداول العام الشعبي. المقصود هو إيحاء مجازي ينحت معناه من صلب الموجود، وهو مما استحسناه من مجازات بعض الآحاد. فلا داعي لأي تكلف استعراضي متعالم حين لا يسعفنا علم التاريخ ولا حتى اللغة في اختزال الأدلة والوقوف عند بضعة صفحات وعدم استحضار باقي القرائن. لأن تركيزي هو على أمثلة محصورة كافية لا يملك أمامها أي ناقد إلا أن يقفز عليها ليتحدث عن أمثلة أخرى لم تكن تحمل سوى دلالات ثانوية ذات طابع استحساني، كما هو الأمر في مثال حزام للافاطم الزهرا أو يد فاطمة الزهرا وما شابه. ولا عجب حينما يحضر هاجس النقد الباتولوجي يصبح النقد "تشعبطا" في (الماتن) بدل تأمّل (المتن). ولا أخال من ينتقد هذه الأمثلة يمكنه رفض وجود الفكرة المهدوية في تاريخ المغرب. فحتى حينما سقطت الدولة الموحدية ظل الوجدان متطلعا إلى عودة المخلص. وطبيعي إن قوانين الثقافة وعوائد الاجتماع تكرس أشكالا من الانزياح من الأحكام العالمة إلى الممارسات الشعبية الطقوسية. ففي (تينملل) حيث قبر المهدي بن تومرت ، يذكر بن خلدون :" وقبر الإمام المهدي بن تومرت بينهم لهذا العهد على حاله من التجلة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحزابا بالغدو والعشي (...) وهم مصممون مع كافة المصامدة أن الأمر سيعود وأن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب ، وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي ، لا يشكون في ذلك ولا يستريبون فيه"(91). فالمغاربة عاشوا فكرة المهدوية والانتظار وغيبة المهدي وخروجه.
عاشوراء المغربية
ولا غرابة فيما يبدو من تقاليد بعض المناطق في المغرب وما يعرف ببا عيشور وغيرها من الحكايات الشعبية. ففي مثل تلك المناطق من المغرب يحتفظ الأطفال بقطعة من الأضحية يوم العيد ، فيلبسون العظم المعتنى به كسوة في صورة دمية ثم يخفونه حتى العاشر من محرم الحرام في يوم عاشوراء، فيقومون بدفنه ويجعلون منه طقس ندبة وبكاء. يشاركهن فيه بعض الأمهات الذين لم يكن يسمح لهنّ بمغادرة البيت بعد غروب الشمس إلا في هذه المناسبة . والتقاليد تقول أن لا سلطة للرجل على المرأة في هذه المناسبة . وهو عند بعضهم يوم حزن لا يطهى فيه طعام ولا يغسل فيه لباس. وبعضهم يتحدث عن أنه يوم قتل فيه ابن النبي(ص)، كما يتحدثون عن كربلا أرض البلا. في مكنز التراث الشعبي المغربي الذي أعده كل من السعدية عزيزي وسعيد آيت يدر وطارق المالكي نقرأ "(الممنوع في عيشورا) : يوظف للممارسات والأعمال التي ينبغي تجنب القيام بها في عاشوراء والأيام الثلاثة التي تليه ، مثل : تنظيف البيت وغسل الثياب والاستحمام والتطبيل والتزمير وإيقاد النار واقتناء فحم أو مكنسة واستعمالها إن وجدت..." (20). ناهيك عن "شعّايلة" وهي إشعال النيران في هذا اليوم ، ما يحيل إلى حدث إضرام النار في الخيام داخل معسكر الإمام الحسين. وهي تشبه مظاهر الاحتفال بالنوروز الذي كان له في شمال أفريقيا أثر قبل أن يقدم الفاطميون أنفسهم على محاربته. وليس هناك إسم مرموز واحد في مثل هذه المناسبة ، بل هناك أسماء أخرى تختص بها منطقة دون أخرى ، مثل الشيخ وهرما وبابا عيشور وغيرها. وقد يظهر أن التمثيلات التي تشهدها عاشوراء في عموم المغارب ، لا تعود فقط إلى تحولات وصيرورات رمزية وثقافية فحسب ، بل هناك ما يوحي بأن هناك عملية إخفاء وتصحيف مقصودين تاريخيا لإخفاء الرموز الحقيقية موضوع الطقس والتعويض ببعض الاستبدالات المقصودة ، الطريق الوحيد لضمان استمرارية الطقوس في ظروف قاهرة موسومة بالرقابة والاستئصال والحرب التي لا هوادة فيها ضد كل ما يحيل إلى تلك الرموز الشيعية المعروفة. وقد انتبه الكثير من الدارسين للطقوس الدينية الاحتفالية في المغارب ، لا سيما في عاشوراء ، واسطاعوا أن يقدموا بعض المقاربات التي لا تخلوا من قيمة. يذكر إدمون دوطي عددا من التمثلات الدرامية التي تميز احتفالات مناسبة عاشوراء في عموم المغارب. وقد رصد أمثلة من المغرب وكذا من الجزائر ، كمثال قرية خنكة سيدي الناجي . هناك حيث " يتنكر الأهالي في يوم عاشوراء بأشكال مختلفة (أثواب تحيل ألوانها إلى الأسد أو الجمل ويصحبهم موسيقيون) وحين سألنا بعض المتعلمين منهم بهذا الصدد ، قالوا لنا بأن أحد ابني علي ، سبط النبي ، حين توفي أراد الناس أن يخفوا عن خصومه مكان دفنه بأن وضعوا على جمل دمية تمثل الجثمان ، يتبعها جمهور من الناس في جنازة "(21).
نلاحظ هنا أن جوهر القضية يحضر بصورة ملتبسة ، تسهل فعل التشارك والتداخل مع معطيات تأويلية غارقة في المفارقة. والمفارقة ليست هنا أمرا شاذا كما هو المطلوب منطقيا ، بل المفارقة في مثل هذه الظواهر هو القاعدة وهو المطلوب وأحيانا هي التي توفر للطقس قدرا من الممانعة للصمود في وجه الارتذكسية ورقابتها على المحتوى الحقيقي للطقوس الدينية . وهو ما يفسر الانزلاق إلى أحياز ثقافية ملتبسة وفي العادة يضيع المحتوى الحقيقي لصالح تماهيات جديدة واستبدالات قلّ ما ندرك لها وجها ، لا سيما حينما يصبح الطقس مناسبة فولكلورية شعبية خارج الرقابة العالمة للمتبني نفسه قبل الخصم. فالمطلوب هو البحث عن المنطقي خلف اللامنطقي باعتماد آلية تفكيك تخرج المعنى من حدود المفارقة إلى فضاء المعنى المنطقي الذي يتنكر ويكاد يغيب وراء صخب الشكل الطقوسي الملتبس. فالأسطوري لا يعوض العقلي ، والمفارق لا يعوض المنطقي ، بل الأسطوري يحمي العقلي كما أن المفارق يضمن استمرارية المنطقي. وأحيانا يخونهما التاريخ ، فيصبح الأسطوري والمفارق كما لو أنهما أصل الحكاية!
وعلى هذا الأساس أعتقد أن المثال الذي قدمه دوطي من قرية خنكة سيدي الناجي ، فيها التباس وخلط بين الوقائع. فليس الحسين السبط هو من توفى وأخفي قبره ، بل كأن الموضوع يتعلق بفاطمة الزهراء ، بنت الرسول (ص) التي لا يعلم المسلمون لها قبرا. بل كما جاء في الخبر أنها أوصت زوجها علي بن أبي طالب أن يخفي قبرها عن الناس وأن يدفنها سرا. هكذا لا يعلم بقبرها نزولا عند وصيتها سوى علي والأئمة من ولده. فانظر كيف تختلط الحقائق في الحادثة الواحدة حينما تتحول الحقائق إلى تمثلات شعبية فولكلورية. ومن ذلك أن يتحول المضمون من عاشوراء إلى باقي الأعياد الأخرى.
وبالعودة إلى دوطي نجد أن من بين ما يسم احتفالات يوم عاشوراء في مراكش المغربية ، طقوس إشعال النار "شعايلة" التي يعتبرها شبيهة بنيران القديس يوحنا وكثيرا ما لجأ دوطي إلى هذا النوع من التشبيه ليتحدث عن وحدة أصول هذه الطقوس ، مع أننا نعتبر أن الشعوب لا سيما البدائية أو من شابهها قلّ ما تبدع في الشكل وإن تغير المضمون وكذا الذهاب إلى المقبرة وإغراقها بالماء. ويشير هنا إلى ملاحظة بالقول :" وثمة أمر أهم من ذلك من منظورنا ، هو أن الشرفاء والمخازنية يقيمون الحداد ، أي أنهم لا يحلقون لحاهم وشواربهم ولا يحلقون شعورهم حتى يوم عاشوراء ، كما أنها فترة أيضا لا يتزوج فيها الناس"(22)
في مثال دوطي نجد الأمر يتعلق بالمخازنية أي السلطة والدولة نفسها تنخرط في هذا الطقس. والأمر في حقيقة الأمر يتعلق أيضا بالأهالي في مناطق مختلفة. هناك من مفارقات الطقس الشعبي في هذه المناسبة ما يحيل إلى جانب الفرح وكذا الحزن في الوقت نفسه. يقول دوطي : " إن المزج بين الفرح والحزن ، وطقوس الحداد والبهجة أمر مميز للقتل العشائري، حيث يتم البكاء على الأضحية في الوقت الذي يتم فيه الاحتفال المرح بانبعاثه"(23). ومثاله في الرحامنة شمال مراكش حيث يذكر دوطي :" وفي عاشوراء يأخذ كل واحد تعريجة (دف من الخزف له شكل قنينة) ويوقع به الأنغام ، وتوقد النيران ويتقافز الناس حولها . كما تغنى أغنية تكون طبعا قديمة جدا ، ولا انسجام فيها ، لكن أحد مقاطعها يحيل إلى موت بابا عاشور وإلى جنازته وإلى الحداد الذي تلا موته"(24) ومن العاداة أيضا أن يكره الكحل والتعطر في مثل هذه المناسبة. وفي بعض المناطق في الجزائر خنكة سيدي الناجي سابقة الذكر يسلم الناس على بعضهم البعض برش الماء ورشق الطين على الوجه، في عاشوراء. وقد ظلت هذه الممارسات في نظر دوطي مكروهة ومحاربة من الإسلام السني أو عل الأقل لا ينظر إليها بعين الرضى(25).
ويعمد دوطي إلى إرجاع هذه الطقوس إلى ما يحدث في بلاد فارس وأيضا إلى بعض طقوس شيعة الهند أيضا. فعاشوراء إذن هي مناسبة لكثير من الحقائق آخرها مقتل الحسين . ومثل هذه الممارسات المنكرة من قبل الإسلام السني في نظر دوطي تقع في مصر ، حيث :" وفي القاهرة تجتمع النساء في مسجد يوم عاشوراء هو حسب لان مسجد سيدنا الحسين ، ويتعاطين فيه لممارسات منكرة من قبل الاسلام السني"(26).
ومع أن دوطي مستسلم للمنهج الذي يجعل الطقس الشعبي مجالا للتعميم على مختلف الثقافات وهذا من وجهة نظري مطلوب لما له من أهمية في ربط هذه الطقوس بفكرة الأنسنة ، فيكون الطقس العاشورائي هو حق الأنسنة في التصرف إزاء معتقداتها دون أن نحاول منح الطقس مداليل تخرج به عن طبيعته الانسانية فإنه لا يغفل أن يحيل إلى الشيعة بهذا الخصوص :" صحيح أن هذه العوائد متطورة جدا لدى الشيعة ، غير أنها من جهة أخرى منتشرة في جميع بلدان المغرب وبانسجام مثير للانتباه "(27).
وإضافة إلى عادة التراشق بالماء أو ما يسمى بالتزمزيم ، هناك عادة أخرى تعرف ب"حكام عاشورا". فالمرأة تجد في مناسبة عاشوراء هامشا للتحرر من سلطة الرجل وكذا الفتيات. وهكذا يرددن كلمات شائعة: ""هذا عاشور ما علينا لحكام أللاّ ، عيد الميلود يتحكموا الرجال أللاّ". وهذا معناه أن الرجال لن يسترجعوا سلطتهم على النساء حتى قدوم شهر ربيع الأول مع حلول موعد الاحتفال بالمولد النبوي(28).وثمة ما تخفيه هذه الطقوس من معاني تحتاج إلى ممارسة تأويلية تتناسب مع النص الكامل. وفي تقديري أنني لا أستبعد أن أصل الحكاية يجب استلهامه من جوهر القضية. إذا اعتبرنا أن تموقع خطاب المصيبة في عاشوراء بوصفها مناسبة تذكر بمقتل الحسين السبط ، فإن التاريخ يحدثنا عن أن ما تبقى من معسكر الحسين ، فضلا عن الأطفال ، هم النساء بقيادة السيدة زينب التي خطبت خطبتها الشهيرة في حضرة يزيد وكانت هي قائدة الموكب العاشورائي بعد استشهاد أخيها. لقد قضى الحسين ومن معه ولم يبق هناك إلا النساء اللائي قدن النضال ضد يزيد بن معاوية. ولم يسمع في هذا المشهد الدرامي سوى صوت زينب أخت الحسين وهي تقول : "يا يزيد كد كيدك ، واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لن تمحو ذكرنا". وحدها المرأة امتلكت الجرأة لكي تقول ذلك. ففي مثل هذه المناسبة وجب أن يتخلّى الرجال عن سلطانهم الذكوري ، فالمرأة هاهنا ليس عليها "حكام". لقد أصبحت المرأة في مناسبة عاشوراء هي صاحبة السلطة ، لأنها هي وحدها من ظلت في الميدان. بعد مقتل الحسين وأصحابه لم يعد للحسين أنصارا سوى النساء ومثالهن الرمز : العقيلة زينب. إذن يحتاج أن تحل ذكرى المولد النبوي لكي يستعيد الرجال سلطتهم بعد أن افتقدوها في عاشوراء.
من جهة أخرى ، سعى الكاتب والمسرحي أحمد الطيب العلج في محاولته لتدوين بعض الأمثال والعادات في المغرب لتسليط الضوء على واحدة من عجائب العادات لا سيما في فاس يعبّر عنها المغاربة ب "شطابة عاشوراء". شطابة مكنسة عاشوراء تستعمل للتطيّر وتستعمل في مورد السباب ؛ "إذا كنت من أهل فاس ، فلا بد أن تكون قد سمعت بهذه السبة: الله يعطيك الخلا والجلا وشطابة عاشوراء"(29). وهذا التعبير هو من عاداة النساء. فإن ذكره رجل فعليه أن يردفه بالقول: كما قالت المرأة. كل ذلك يعود إلى ما تعبر عنه الشطابة في مثل محرم لا سيما في عاشوراء، حيث يحرم تنظيف البيت والغسيل وما شابه . فدخول الشطابية إلى البيت هو نذير شؤم. وإذا أصبح من الضروري إدخالها إلى البيت فلا يتم ذلك من الباب ، بل من السطوح والنوافذ تفاديا لوقوع المصائب . يقول أحمد الطيب لعلج :"فالناس يتطيرون من المكنسة "الشطابة" ويأخذون بكل أسباب الحيطة والحذر ويعلمون كل ما في وسعهم حتى لا تعتب تلج المكنسة الدار خلال شهر العاشور محرم وأعتقد أن لهذا التشاؤم أو التطير صلة ما بكربلاء ومأساة الحسين"(30). والأمر يتعلق أيضا بالجفافة ، فهي أيضا محرمة في شهر محرم . ووجب حينئذ أن تعفى الشطابة والجفافة من العمل طيلة هذا الشهر، لأن تشغيلهما ينذر بالشؤم. لذا قالوا :"الشطابة عروسة والجفافة نفيسة"(31).وهم يقصدون أن العروس والنفساء لا يشتغلان.
ويستعمل المغاربة عبارة "قربلا" وهي تعني مجازا ، شغب وانتفاضة غاضبة مصحوبة بنوع من التحدّي. يقول المغربي متحديا: سأقوم ب"قربلا" أو "راح نقربل الدنيا" أو ما شابه. ف "قربلا" لم تعد مجرد لفظ يطلق على حادثة تاريخية ، بل هو عبارة متداولة في يوميات الناس وترمز إلى التحدي والغضب، ولم أجد في دنيا المجتمعات الشيعية من يستعمل هذا اللفظ بهذا المعنى إلا في المغرب. ولا يهم بعدئذ أن يجهل الناس أصول هذه المظاهر الاحتفالية ، لأن ذلك ليس من شأن الثقافات الشعبية المعنية أكثر بالشكل وصيرورته الاحتفالية حدّ الخروج من المعنى الذي ينزل منه منزلة أسباب النزول. ولا نجد ما يرجح أن يكون الأصل في هذا الاستعمال فعل " كربل" ، الذي يفيد معنى آخر عند ضمه إلى ألفاظ أخرى وسياق آخر. كما حينما يقال: كَرْبَلَ الحِنْطَة بمعنى هَذَّبَهَا مثْل غَرْبَلَها. والكِرْبال المِنْدف الذي يُنْدَف به القُطْن. كما ذكر اللغويون. ذلك لأن أصل كلمة كربلاء نفسها فيما ذهب ياقوت الحموي في معجم البلدان يحتمل أن يكون عربيا. وهذا ليس غريبا متى أدركنا أنها سميت عبر التاريخ ومنذ العصور القديمة بأسماء مختلفة كالنواويس والغاضرية ونينوى. فلا عجب أن يكون الأصل الاشتقاقي لكربلاء في العربية ، من الكربلة، أي حسب ياقوت الحموي هي " رخاوة في القدمَين يقال: جاء يمشي مُكربِلاَ فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رَخْوة فستيت بذلك، ويقال: كربَلْتُ الحنطة إذا هذبتها، ونقيتها وينشد في صفة الحنطة: يحملن حمراء رسوباً للثقل ... قد غربِلَت وكُزبِلَت من القَصْل.
فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض مُتقاة من الحصى والدَغَل فسميت بذلك والكَربَل اسم نبت الحماض، وقال أبو وجرَةَ يصف عُهُونَ الهوْدَج:
وثامر كربل وعميم دِفْلَى ... عليها والندى سبط يمور فيجوز أن يكون هذا الصنف من النبت يكثر نبتُه هناك فسمى به وقد روي أن الحسين رضي الله عنه لما انتهى إلى هذه الأرض، قال لبعض أصحابه: ما تسمَى هذه القرية وأشار إلى العَقر فقال له: اسمها العقر فقال الحسين: نَعُوذ بالله من العَقر ثم قال: فما اسم هذه الأرض التي نحن فيها قالوا كربلاءُ فقال أرضُ كرب وبلاءٍ وأراد الخروج منها فمنع كما هو مذكور في مقتله حتى كان منه ما كان، ورثته زوجتُه عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل فقالت:
واحُسينا فلا نسيتُ حُسيناً ... أقْصدتهُ أسِنْةُ الأعداء
غادروه بكربلاءَ صريعاً ... لاسَقَى الغيثُ بعده كربلاءُ"(32)
وربط بعض الكتّاب بين الاسم والفاجعة التي قُدِّر لها أن تصبغ أرض المدينة بالدم، فهي مركب من كلمتين هما كرب وبلاء، وإلى هذا أشار الشريف الرضيّ في قوله: « كربلا ما زلتِ كرباً وبلا »..هذا أمر معروف ، لكنه ليس راجحا ، لأن المغاربة بمن فيهم أهل الحضر مجمعون على هذا الاستعمال لا يشذ عنهم أحد ، فيما كربل من دون تصحيف القاف لا زال في استعمال بعض الفلاحين في البادية. الذي يستعمل فعل كربل في حرث الأرض هو نفسه يستعمل لفظ قربلة في النزاع. ويكفي أن المتلقي المغربي ابتهج لرجحان نسبتها لكربلاء ، وتناسبا مع الحادثة التاريخية التي خضعت لفعل إنساء تاريخي جد قاسي بالنسبة لمجال حكمه أبناء فاطمة الفاطميون ما يقرب القرنين من الزمان ، ألم يتحدث إدريس بن عبد الله عن كربلاء ولا أحد من أولاده وهم الذين جعلوا مأساة فخّ ثاني المآسي الكبار بعد كربلاء. وفيهم تائية دعبل الخزاعي:
قبور بكوفان وأخرى بطيبة وأخرى بفخ نالها صلوات
ألم يتحدث الفاطميون عن كربلاء طيلة القرنين؟!.. لماذا اختفى ذكر كربلاء رأسا من التعبيرات الواعية في المغارب.. ولماذا نريد أن نستبعد أن يكون الراجح من قربلا المغربية ، ما يخفيه هذا المجاز عن الواقعة التاريخية المشهودة وأحفورا تعبيريا علق باللسان!؟ كلنا أدرك حكاية أجدادنا حينما يريدون وصف شخص ما بقلة الوفاء أو بالفساد قالوا بالمثل المغربي : هذا ولد معاوية. ولم يكن مصير الحسنيين مختلفا عن مصير الحسينيين. وقد كان عبد الله الكامل يجمع الفضلين معا ، حسني من جهة الأب حسيني من جهة الأم . ويقال أن لعبد الله مزارا بالعراق اعتاد العراقيون أن تنطلق مسيرة الموكب الحسيني في كربلاء من هذا المصلى باتجاه الصحن الحسيني الشريف.
ودفعا لبعض الأحكام النقدية الباتولوجية المتوقعة والمستندة إلى التحليل اللغوية ، أقول إنني لا أرى في هذا إشكالا. فمن جملة ما فسر به إسم كربلاء أنها كلمة عربية وليست أعجمية ، لأنها تحيل إلى الكلمة العربية إياها. وكربلاء هي من ذاك الأصل أيضا كما ذكر مؤرخو البلدان. فالقرائن المتظافرة ترجح ما نقول في غياب أي دليل قاطع عن أن المراد هو كلمة بائدة لا زالت تستعمل عند القوم بكافها وليس بقافها، وفي المعنى الحقيقي لها وليس المجازي. فبعض القبائل المغربية لا زالت تحتفظ بتلك الجذور العربية فتستعمل ألفاظا خاصة لا يشاركها فيها كل المغاربة. لكن قربلا، هي إسم يتداوله المغاربة جميعا باختلاف قبائلهم حضرا وبدوا ولا نجد له استعمالا حقيقيا بمثابته أولى بالبقاء من انحصارها في المجاز. فيما لكلمة خلط الشيء وكربل الأرض استعمال حقيقي غير قربلا. المغاربة لم يستعملوا قربلا في المعاني المذكورة. إلاّ في حالة المعركة والنزاع. وكيف نتحدّث عن استعمال مجازي لكلمة حيث اندرس معناها الحقيقي في التداول العام. هل دخلت في الاستعمال العام مجازا دون الحقيقي. فإنّنا لا نجد ما يدعو لاندراسها في في لسان المغارب ، لأن التطور التّعيّني للألفاظ يقتضي استمرارا في تداول اللغة نفسها لا أن تدخل في تراكيب من خارجها كما حدث لانسياح العربية ضمن اللهجات المحلية. وهذا المجاز لم يحصل في التداول المشرقي كله إلاّ في المغرب. لقد كفّت العربية عن التطور في المغرب لأنها دخلت مسارا آخر للاندماج في اللهجة الأمازيغية المحلية. لذا نلاحظ أن الكلمات العربية القديمة التي دخلت المغرب ووجد لها أصل في المعجم اللغوي العربي القديم لا تزال مستعملة على الحقيقة لا المجاز ، حتى لو كفّ المشارقة عن استعمالها. ألا يدلّ ذلك على أن الأمر أبعد من البحث عن المعنى المعجمي السابق على عهد كربلاء نفسها. وإذا كان المقصود أن يمحى ذكر كربلاء حتى من اللاوعي الثقافي المغربي ، فلا يستطيع المتكلف بلوغ ذلك. فلقد عرفت من الجيل السابق شيوخا وجدّات يتحدثن عن عاشوراء وكربلا ومقتل ابن النبي ووجوب الانقطاع عن الأكل والشرب والغسيل في عاشوراء. لذا قلت : كيف مرّ إدريس بن عبد الله والفاطميون من هنا دون أن يعرف المغاربة عن شيء إسمه كربلاء. وإذا كان الأمر واضحا ، فمن أنساهم ذكر كربلاء وبأي وسيلة سلبهم تلك الذّاكرة؟!
إحدى مظاهر النقد/النقض الباتولوجي، المحاولة البهلوانية في الاستناد إلى نقد عينة أو اثنين والتغاضي عن الباقي . أي يمكن أن أناقشك في أن الخميسة تعود إلى أحافير قديمة ، وأعيدها إلى الرومان والفينيقيين ، ولكن أغضي عن تفسير لماذا سمّى المغاربة قوس قزح : حزام للا فاطمة الزهراء. فغاية الناقد الموتور ليس القول بأن هناك خطأ في تقدير الأشياء على نحو السالبة الجزئية بل نلاحظ النطّ بعيدا لجعله حكما عاما ينفي وجود أصل الرموز الدّالة على التشيع السوسيو ثقافي المغربي. علما أنني لم أجعل تلك وحدها الأدلة الدّالة على المراد. وفي إغضاء الناقد على كافة الأمثلة والأدلة الأخرى دليل على الإقرار بها أو تمنعها على الرفضوية المسبقة التي تمارس تقيتها غير المعلنة خلف متاريس التحليل اللغوي أو ما شابه. وإذ يكفي مثالان أو ثلاث على ما ذكرت لا يخدش فيه عدم ثبوت ما تبقى من الأمثلة إن لم تصحّ فرضا. فهي هنا محسنات ليس إلاّ. وهي ليست سالبة حتى يفسد بها التحليل بل قد تكون مع فرض عدم صحّتها دليلا غير كافي في الإثبات لجهة خروجها أو عدم تناسبها مع الموضوع. وهذا واضح لمن أدرك التحليل العلمي والرياضي ولم يخف "لا دقّته" في رخاوة تمنطق العلوم الإنسانية، القابلة لهذا الضرب من التغليط. فإذن دائما وجب النطّ بعيدا في الحفر لأننا مصمّمين على رفض التأويل والحفر حينما يطابق الآثر الشيعي في هذا الربع الذي لا يضير الباحث أن يعترف له بتلك الجذور الشيعية ولو المنقرضة. هل وجب أن نخشى التاريخ والتحليل والحفر لإثبات شيء من تلك الآثار؟! نعم لا أخفي أنني أقدم قرائن وتمثيلات رمزية للاستئناس. وهي عندي ليست كل ما أثبت به المطلوب. بل هي إشارات أود أن تفهم في هذا الكل وضمن كل هذه القرائن المتظافرة . كما أتمنّى لو ينبري لها باحث متخصص ليستقصي كل تلك الآثار الشيعية في ثقافتنا، فحتما سيجد من ذلك الأعاجيب. ويبهت به الذي يعاكس منطق الأشياء.
وهناك ظاهرة أخرى وسمت الثقافة التقليدية المغربية، أعني المكانة الخاصة التي يحتلها علي بن أبي طالب في الوجدان والتراث المغربيين. لا سيما الحكايات التي تنسج حول شجاعته وقتاله وبطولاته في كل المعارك التي خاضها ضدّ الإنس والجن. ألسنا كنّا صغارا نتحدث عن علي قاطع رأس الغول. خلال المواسم وفي الساحات يستعرض الرادود حكايات عن علي بن أبي طالب ومعاركه تتخللها مقاطع موسيقية وتردد بطريقة غنائية تقليدية موحية. يبقى أن صورة هذا التشيع المغربي لأهل البيت يكتسي طابعا فخريا ينعدم فيه النعي بصورة كاملة. إن بطولات وشهامة وشجاعة علي بن أبي طالب لا تضاهى. ويظل الحسن والحسن ينظر إليهما بوصفهما طفلين . إنهما في وجدان المغاربة لم يكبرا أبدا. ولا زلت كمغربي لا أكاد أتخيلهما إلا صبيين في حضن فاطمة أو أبيها (ص). ولذا ، فإن مقتل الحسين في وجدان المغربي يستحضر براءة السبطين ويثير شعورا رحيما. إن يزيد لم يقتل الحسين بسبب النزاع التاريخي المعروف فحسب، بل إنه قتل الطفل البريء المحبب لمحمد وفاطمة. وأما علي بن أبي طالب فهو لا يلوى له ذراع. وعبثا يحاول أيّا كان أن يقنع مغربيا على هذا التشيع المغربي الأصيل لعلي وبنيه ، بأن عليّا إنما غلب على أمره أو هزم أو أكره على شيء. فلن يقبل الوجدان المغربي أن يتخيل عليّا في وضعية المهزوم المكره ولا حتى المقتول. بتعبير آخر: إنه ضرب من التشيع المغربي الممجد للبطولة العلوية. تشيع فخري حماسي بطولي ليس تشيّعا بكّاءا.
إننا كنّا في ثقافتنا المغربية نعتقد أنّ عليّ بن أبي طالب مرفوع في السماء وليس دفين الأرض. ذلك لأنه في إحدى معاركه كان قد ضرب الأرض بسيفه فانشقّت، فآلمها ذلك ووعدته بأن تضمّه ضمّة شديدة لمّا يدخل القبر ، فدعا الله أن لا يدفن في الأرض فاستجاب له فرفع بعد موته. وهذه الحكاية الشعبية لها مثالها في إيران وغيرها من المجتمعات الشيعية، تقول أن جبريل قد انجرح بعد أن استقبل ضربة عليّ بأحد جناحيه حتى لا تنشقّ الأرض(33). بالتأكيد هذه حكايات شعبية تنتمي إلى الأسطورة ولا أصل لها في المظان العلمية الشيعية . لكن هذا من شأنه أن يسند المقاربة الانثربولوجيا الدينية في فهم الكثير من الدلالات بالوقوف على متن هذه الأساطير الدينية عموما. وإن كنا لسنا هنا في وارد الإغراق في المقاربة الانثربولوجية ، فهذا يكفي للوقوف على وجهة نظرنا حول مفهوم الهوية المركبة بمحتواها الشيعي. وكثافة المظاهر السوسيوثقافية الشيعية التي حافظت على وجودها جنبا إلى جنب مع التسنن الارتذكسي الذي يعتبر من الناحية العملية أقلية متى قورن بالسلوك الاجتماعي واليومي والمظاهر والطقوس والعادات الاجتماعية الراسخة والمتغلبة التي قلّما تستجيب لفقه أكبر لأنها قاعدة سوسيولوجية أمية ، ولا إلى فقه أصغر، لأنها في الأعم الأغلب ليست متشرعة ، ولا إلى تصوف مخصوص لأنها طرقية متخالفة الأصول والفروع .
أنقر هنا لتتمة المقال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.