يراهن الزمن السياسي المغربي الجديد على نخبة سياسية قوية قادرة على تفعيل محتويات الدستور الجديد، ونقل نصوصه القانونية إلى حيز التطبيق. لذلك نقول إن المطلوب في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، ليس هو وعي الشعب بأهمية وقوفه ضد المارقين السياسيين والكذبة المراوغين،والفاسدين والمفسدين بالامتناع عن التصويت،فهذا موقف المقاطعة وهو معروف، ونتائجه كانت دائما سلبية على الانتخابات لأن الفاسدين المتسللين إلى المجالس النيابية وجدوا فيها الطريق الأسهل لتحقيق مآربهم، ولكن المطلوب في الوقت الراهن،المجيء إلى صناديق الاقتراع ووضع الورقة الصحيحة في الصندوق الزجاجي لتزكية الشخص الملائم.أقول لمثقفينا من الكتاب والأدباء والصحفيين المؤهلين وذوي الخبرة وأهل المعرفية والكتابة من أساتذة جامعات وباحثين،لا تعتصموا ببروجكم العاجية وتنعزلوا عن المجتمع الذي تقضون العمر في الكتابة والبحث العلمي والإبداع من أجله ومن اجل أبنائه،شاركوا في عملية التصويت وإذا لم تسعفكم الإرادة والتضحية لتكونوا منتخبين فكونوا على الأقل ناخبين..تواضعوا وضعوا أصبعكم في حبر الانتخاب،فإن مستقبل المغرب السياسي يتوقف لمدة 6 سنوات أخرى على قراراتكم من هذه المشاركة،لا تتركوا الفرصة لمن هم أقدر على رسم البرامج التنموية والمشاريع السياسية والاجتماعية الكبرى على ورق الكذب، والخروج من الحكومة للعودة إليها، مدججين بالانتقادات والبيانات السياسية المعارضة لسياسة حكومة كانوا إلى حين قريب يتولون مهام تسييرها وتدبيرها؟ لا تدعوهم يمددون عمر التخلف والفساد ويحقرون ذكاء المغاربة،منتحلين خطاب الإصلاح والتصحيح وتصاريح خطب الزور السياسي والتهريج، إن أكبر ما يطمح إليه هؤلاء الآن، هو العودة بالمغرب إلى عقود الستينات والسبعينات،لأنهم خائفين من نصوص دستور نضح بعلامات لا تطمئنهم،دستور تكلم عن المراقبة والمحاسبة والمسؤولية والجزاء واقتصاد الريع والتجاوز واستغلال النفوذ وتساوي المغاربة أمام القانون. هذا الزخم من القيم الإنسانية الكونية التي تؤسس للديمقراطية والعدالة،تجعل صدر الفاسدين ضيقا حرجا وتصيبهم بالحمى والسهر، وكأنما هي أنفس تتنفس تحت الماء أو تصعد في السماء أو تحترق غيضا على أوضاع مألوفة ومصالح محذوفة وإمكانات ووسائل كانت متاحة بلا قيد أو شرط وبلا حسيب أو رقيب، أهمها المواقع المتوارثة في مؤسسات الدولة العتيدة، حيث الجاه والسلطان والمال والجبروت الذي يسرح في كل اتجاه مثل الدجال ...دجال مسيخ، يفتح أمام الناس بوابة الجنة والنعيم، ويقدم كل مرة كلاما متداولا مألوفا لا يتشابه ولا يختلف كثيرا عن بعضه.خطاب الزيف والزور يجب أن نجبه ونقاومه وأن لا نترك له المساحة الفارغة ليفرخ أجيالا أخرى من الفاسدين ليعبثوا بمستقبل البلاد ويستعبدوا العباد ويكثروا فيها الفساد. لذلك فإن مقاومة تيار الفساد السياسي والمالي والإداري،لن يتأتى بالمقاطعة والتحييد السياسي،بل المشاركة هي نوع من إثبات الوجود والوقوف أمامهم عيني عينك، وقول لا للمهرجين السياسيين الذين ضحكوا على المغاربة لعدة عقود وأهدروا وقت هذه البلاد وحقها في أن تكون دولة المدنية والتقدم والتطور والديمقراطية. إنهم يضحكون على شبابنا ويستهزؤن بقدراتنا الفكرية والثقافية ويعتبرون العلماء حمقى والمثقفين مشعوذين وأساتذة الجامعات مهرجين والبحث العلمي مضيعة للوقت واستنزاف لمالية الدولة ولعل هذا هو الصحيح، إذا تأملنا كم هو نصيب الجامعات ومراكز البحث العلمي من الدعم الحكومي ؟ وكم هو نصيب الخريجين منها من مناصب الشغل ؟ وكم هو مركز المغرب اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا في التصنيف الدولي ؟هؤلاء أفسدوا السياسة والأخلاق وتلاعبوا بالمثل والقيم، وأشاعوا الفاحشة في البلاد ودمروا القدرات المعيشية للمواطنين وفقروا المجتمع ودفعوا أبناءه إلى الجريمة وبناته إلى الفساد والتفسخ الخلقي. ومارسوا الاستعباد والاستغلال في مؤسساتهم التشغيلية ومقاولاتهم وجعلوا من راتب شهري يقدر ب 2000 درهم راتبا يمكن أن يصير نموذجا صالحا لتعويض المغاربة والمغربيات الذين يشقون 12 ساعة في اليوم لينالوه بعد عناء أو تدعي المقاولة أنها غير قادرة على تأدية شهر بشهر وتستدين من الفقراء على خلفية إرغامهم على قبول الأمر الواقع إلى حين ميسرة ؟ هذا هو واقع التشغيل ومجتمع الرفاه الذي يعد به هؤلاء المغاربة في الحملة الانتخابية القادمة ويقيمون من اجل ذلك الحفلات والليالي الساهرة؟ جراء التفقير المتواصل لأبناء الشعب وبناته وجراء تهريب الثروات والممتلكات العامة إلى الأشخاص والمقاولات الأجنبية التي لهم دخل فيها،وسمحوا وسمحوا بتداول قاموس من الكلام الساقط في البلاد جعل المستوى الأخلاقي لأمتنا من أردأ المستويات عالميا ،ونحن أهل الضاد والقرآن نقول كن ابن من شئت واكتسب أدب/ وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت / وإذا القوم أصيبوا في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا. إن فرز نخبة سياسية جيدة وواعية بشروط التغيير وظرفية المرحلة سياسيا قادرة على تفعيل مضمون الدستور الجديد كفيل بأن يشطب على عدة سنوات من الفساد وسوء التدبير،عمل حكومة الدستور الجديد سيمهد الطريق لدمقرطة تدريجية قادرة على تحقيق الانتقال السياسي الفعلي من دولة بمؤسسات دستورية إلى دولة بديمقراطية حقيقية تنعم بسيادة القانون ويتساوى فيها كل الناس. وتنتهي فيها امتيازات الاستثناء، فليس هناك أناس استثنائيون ولا نوابا استثنائيين،ولا قضاة استثنائيين ولا مسؤولين جهويين وإقليميين يفعلون ما بمزاجهم ولا يخشون القانون ويتمتعون بأذرع الحماية المحورية التي تضلل هاماتهم وتمنع عنهم تنفيذ القانون الذي يسري علينا جميعا.لن يسمح المغاربة بعد 25 نونبر أن يتطاول وزير أو عامل أو مدير مؤسسة عمومية أو أي موظف حكومي على المال العام ويضعه في جيبه أو يمارس نفوذا على مواطن ويتقاضى منهم رشوة.لن نقبل بعض بمن سيضحك على ذقوننا من أولئك النواب الذين لا ينوبون إلا على أنفسهم،وأكثرهم حين يقضى مآربه، ينام في قاعة المجلس قرير العين أو يغادر العاصمة إلى غير رجعة.أولئك الذين ينطون في شبه هجرات جماعية متكررة مثل الطيور الدورية، من حزب إلى آخر ومن فريق إلى آخر،متناسين أنهم،فسخوا قانونيا التعاقد الذي يجمعهم مع ناخبيهم،وبالتالي أصبحوا فاقدي شرعية التمثيل النيابي. لعل هذا من عجائب السياسة المغربية ؟ وأعجب منه، هو كيف يسمح لهؤلاء " النطاطة السياسيين " بالاستقالات الجماعية من المجلس النيابي ومن الأحزاب، على خلفية حسابات خاصة وتحقيقا لأهداف شخصية، دون أن يتعرضوا لعقاب أو إقصاء من قبل المجلس الذي ينتمون إليه؟ فمجرد اختلاف بسيط في الرأي يكون رد فعله، هو الانتقال في لمح البصر من خانة سياسية إلى أخرى،حتى صارت العملية مألوفة وباتت تقليدا أعمى في السنين الأخيرة،بل إن هناك من النواب من صار يتبادل الزيارات الخاطفة من وجهة سياسية إلى أخرى في أزمنة قياسية ؟ هذه الظاهرة أفرزتها القوانين التنظيمية الهشة لمجلس النواب وكذلك القوانين المتعلقة بتنظيم الحياة السياسية والأحزاب.والغريب في الأمر أن عمر الحياة النيابية في المغرب تجاوز 50 سنة ولا يتوفر البرلمان المغربي،إلا على قوانين لا تسمن ولا تغني من جوع. فظاهرة الفاغابونداج السياسي، الذي أصبح في السنين الأخيرة من عمر البرلمان، حقا من الحقوق المشروعة لكل نائب محترم،ولعله سار واجبا وطنيا بالنسبة للبعض منهم،حين يتعلق الأمر بالاختلاف السياسي للتيارات الحزبية والأشخاص داخل الحزب الواحد،هو إفراز سلبي للخواء القانوني التنظيمي لهذه المؤسسة. هذه الظاهرة غير الصحية، إذا كان لها ما يبررها في الأوضاع السياسية الحالية، فإنه من العبث التفكير فيها في سياق حكومة ملكية دستورية برلمانية في أفق 2012، إذ لم يعد هناك مبرر وجيه يجيز هذه المعاملة المتسيبة في المشهد السياسي المغربي.لعل القانون التنظيمي للبرلمان الذي تمت الموافقة عليه مؤخرا،حدد بوضوح نصوص المنع المطلق لمثل هذه السلوكيات المشينة،التي لا تمت للممارسة السياسية بصلة،وتبقى خارج التعريف والتنظير لأنها مقتصرة على زمن سياسي استثنائي وأشخاص سياسيين استثنائيين،سينتهون لمجرد تفعيل نصوص الدستور الجديد القانونية. على مر هذه السنين لم تحرك آليات تقنين العمل النيابي داخل أحزاب المعارضة السياسية،أي ساكن لبلورة مشاريع إصلاح المؤسسة قانونيا وسياسيا،مجلس النواب في الفترة الماضية،كاد يستغني عن القوانين التنظيمية الداخلية ولا يفكر فيها إلا عند الحاجة،والفاسدين في الحياة النيابية داخل المؤسسة يرتعون في المجلس ويعيثون فسادا، وكلما برزت ظاهرة من الظواهر المعيقة للعمل السياسي أو تلك التي تستمد مشروعيتها من البلطجة السياسية لبعض فتوة البرلمان الأقوياء،تحركت الآليات المسطرية لتتحدث عن ضرورة مشروع قانون جديد،دون الوصول إلى الحل، وكأن التشريع الدستوري عجز على أن يضع قوانين تنظيمية خاصة بهذه المؤسسة وبممارسة الحياة السياسية في شموليتها الثقافية والاجتماعية والأخلاقية بالبلاد.بل انتظرنا ثلاثة عقود متوالية نمارس فيها الحياة النيابية والسياسية على عواهنها، حتى أتي رجل إلى وزارة الداخلية اسمه الطيب الشرقاوي امتلك جرأة" مصلح سياسي" ووضع بمشقة مشروع قانون لتنظيم الحياة النيابية والانتخابات،انتهى بالموافقة عليه بصعوبة.وهو قانون قاعدة أي قانون سيكتسب قوته من خلال التراكم والتجربة التي ستصقل نصوصه ومضامينه الدستورية،وحيث أنه قانون لم يكن مسبوقا من قبل،فهو خاضع لتجربة القوانين الناشئة التي تتضمن إيجابيات ونقائص،ويتطلب جهود التطوير والتنقيح والتعديل والإضافة والبحث من خلاله عن بدائل تعزز مضامينه القانونية وتفعل مقتضياته التشريعية لحماية الديمقراطية وتأطير الانتخابات وتخليق الحياة السياسية حاضرا ومستقبلا ؟ خلاصة القول،سنعتبر مفعول الدستور الجديد ساريا بعد تنصيب البرلمان المغربي الجديد، الذي سيتيح الفرصة لتكوين حكومة نتمنى أن لا يلعب التحالف فيها الدور الأكبر،نرجو على الأقل أن تكون حكومة قريبة من الانسجام الذي حققته حكومة عبد الرحمان اليوسفي سنة 1998،فعللا الرغم من التجاذب السياسي استطاع الرجل أن يكون حكومة منسجمة وقوية، لكن ظرفية النظام السياسي آنذاك تختلف جملة وتفصيلا عما هي عليه اليوم، الشيء الذي منع اليوسفي من تحقيق برنامج طموح أساسه الإصلاح والتصحيح،وحال تكون تحقيق الانتقال الديمقراطي الذي كان حديث الخاص والعام.أما في الوضع الحالي فإن رئيس الحكومة القادم،لن يجد عذرا في عدم القيام بمسؤولياته الدستورية كوزير أول مسؤول عن حكومته بصفة قانونية، ومسؤولا عن تنفيذ مشاريع الحكومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبدء بتسريع برنامج الإصلاح والتصحيح ووقف كل الممارسات السلبية الخاطئة التي تنتمي لمجتمع ما قبل 20 فبراير، متمنين أن يكون رئيس الحكومة رئيسا مستقلا، مسؤولا له الحق في أن يمارس صلاحياته الدستورية كاملة غير منقوصة بكل استقلالية وثقة في النفس، مستحضرا الصالح العام والمصلحة العليا للشعب وللبلاد، وزير أول قادر على قول لا حين تكون لا لازمة وأكيدة، وقول نعم حين تكون نعم في مكانها الصحيح. *دكتور دولة في الاقتصاد السياسي والتنمية كاتب وروائي وصحافي وباحث جامعي عضو اتحاد كتاب المغرب ومدير مجلة المجتمع المغربي ومركز البحوث العلمية [email protected]