مدخل نظري: المغرب بين زمانين عادة ما يغرينا نحن المغاربة التحدّث بتشبّع تاريخي. ومع ذلك لا أحد منّا أو غيرنا امتلك هذا التاريخ خارج ما تمّ إقراره مدرسانيا. ألم يئن لنا أن نكتشف زوايا نظر ونماذج جديدة ليس بالضرورة أن تكون مبهرة لإنعاش هذا التاريخ خارج قوالب المؤرخين المتحكمين بالصناعة التاريخية المغربية الحديثة؟! ولم هذه الصعوبة في القبض على حقيقة تاريخنا خلف هذا الغموض الذي لا نكاد ندرك إن كان غموضا تفرضه مناعته الذاتية أم هو غموض مفتعل ؛ غموض مؤرخين وليس غموض تاريخ؟! هل لأننا كنّا بعيدين شيئا ما عن الضوضاء التاريخي لعموم الشرق وتمأسسنا كأمة واجتماع سياسي بصمت جوّاني ولحظة تراخي رقابة الخارج بفعل هامشيتنا الجغرافية إزاء الشرق الممركز أم أن زماننا هو استثناء في مشهد الأزمنة المقومة لتاريخ البشرية؟! هل هو إذن غنانا التاريخي المجيد أم الأمر أبعد غورا من ذلك ، يتعلق بالتباس الطريقة التي حدّد بها الإطار التاريخي المغربي منذ أغبر العصور ، وما تبقى كرسه كسل النخب المحلية؟! كلنا يمتلك الاحتجاج على تاريخنا، لكن هل يوجد من يحسن قراءة تاريخنا خارج الأرتذكسية الأسطوغرافية التي يعود الفضل فيها إلى المرحلة الكولونيالية التي لا زالت لم تتزحزح عن أحكامها التقليدية وتعاني أخطر أشكال الحصر المعرفي ، أي بين سكوننا الانتروبولوجي البنيوي أم تقليدانيتنا التاريخية؟! بلا شك ، هناك ثوريون تاريخانيون، لكن لا يوجد تأريخ ثوري. فالفرق بين الأمرين أننا في الأول يغرينا البحث عن الجهة والشخص لنعلق عليه كل إخفاقاتنا التاريخية، بينما في الثاني يغرينا تحميل البنى مسؤولية كل الإخفاقات الممكنة، حيث في البنى تحديدا يغيب منطق الهررشيات التشريفية ولا توجد سوى أدوار وظيفية تكاملية . في الّأول نريد أن نحاكم طرفا ما وفي الثانية نريد أن ننعتق جميعا من بنية ما . ومع ذلك إن أحسنا النظر بعيدا عن تأثير التحيّز الأيديولوجي ، فسنجد أن منطق التاريخانية هو في نهاية المطاف منطق البنية ومكمّل معناه : تاريخ بنية. أي من أي زاوية نظرنا إلى تجربتنا سنكفّ عن اعتبار الخصوصية ميزة فارقة في ذاتها بل هي خصوصية فارقة في نوعها. هكذا نتحدث تاريخانيا عن أمم مرّت من وضعيتنا كما نتحدث بنيويا عن كيانات تشاركنا الوظائف الاجتماعية والثقافية نفسها. وفي كل الحالات ستكون خصوصيتنا كونية ، مادام أن الخاص فيها ليس فريدا ، بل متميّزا عن أصناف من الخصوصيات بقدر اشتراكه مع أخرى إن في مرحلتها التاريخية أو طبيعة اشتغالها الوظيفي. الخصوصية ليست انعتاقا من إكراهات الكوني ، بل هي انتماء لإحدى ممكناته. ما أن يتشخّص الكوني حتى يتخصص. كل واقعي هو خصوصي وكل خصوصي هو واقعي؛ ذكّرنا مرارا أن الكوني في كليّانيته لا يحضر إلاّ في الذّهن ولا يحضر في الواقع الخارجي إلاّ متشخّصا ، أي خاصّا. التاريخاني الحقيقي لا يحمّل جهة ما مسؤولية الحدث التاريخي بل يحمّلها تكوين مرحلة برمتها. تاريخ أشخاصنا دشنه أبو زرع وأضرابه منذ العصر المريني؛ صناعة أتقنّاها وسبقنا إليه الأمم ، لكننا أفسدناها بتحيّزاتنا . هذا ، بينما كان تاريخ بنيتنا قد دشنه ابن خلدون . عند هذا الأخير نقف على بنية اجتماعنا كما نقف على منطق تطورنا التاريخي. ابن خلدون التاريخاني أو البنيوي؟! ليست تلك مشكلته قبل أن تستقل البنية عن التاريخ منهجيا، بل هي مشكلة عهدنا المتخم بالنزعة التجزيئية في قراءة ظواهر الاجتماع البشري. وفي نهاية المطاف تاريخ بنيتنا انتحر على عتبة الاسطوغرافيا الكولونيالية المؤسسة لتأريخنا الحديث على أرضية هذا الفصل التعسفي والاستقلال النزعاتي بين مناهج القراءة ومذاهب التفكير. و لا يعتبر هذا مجرد موقف ، لأننا نعتقد أن هذه الاسطوغرافيا مكنتنا حقّا من الذهاب بعيدا ولكننا لم نملك سيقانا فولاذية لمواصلة الطريق. لأن ما أتى بعد ذلك هو استرجاع للمتون نفسها: عاد مؤرخنا إلى حرفة حفاظ الأخبار ومدوني الحكايات بلباقة مفاهيمية. لا أحد يملك في المغرب أن يكون تاريخانيا أقصى وأقسى من العروي. لقد استبدلت تاريخانيته الأثيرة ثورية نيتشه بثورية ماركس في السياق الخطأ. وهو يرسي باختياره الماركسية مدرسة في التفكير التاريخي وبكثير من ثورية نيتشه التي أظهرت محاولة العروي خطوة متلعلعة على طريق القطيعة الكبرى مع التراث، التي أكد المغرب كنموذج أنها من كبرى المستحيلات. ربما لأن نيتشه لم يحمل همّ هذه التاريخانية ولا أفيون قطائعها الكبرى ، حيث واجه أعتا أشكال الأرتذوكسيات الحداثية أحيانا بمخيال يمتد إلى أكثر الأزمنة نسيانا وربما لأن قلب ماركس كان مسكونا ببعض العاطفة تجاه المهمشين والضعفاء ما لم يكن من شأن نيتشه ولا العروي الذي خشي على التاريخانية الماركسية من عاطفة ماركس الإنسان، في مجال يشكل هامشا برمته ويحوّل الماركسية إلى دين جديد (أفيون) لا طريقة في العمل. هو واقع الماركسية العربية أو الترجمة العربية للماركسية . ماركسية بلا عاطفة أو قلب كما استحسنها العروي . كثيرون أخطئوا تشخيص هذه الصرامة التاريخانية العروية ، لأنهم فتشوا في قالبها اللينيني أو الستاليني أو الديمقراطي الاشتراكي أو النفعي البراغماتي.. لقد شتّت العروي انتباههم ، لأنه ليس سوى مستأنس بماركسية أخفى أنه قرأها برباطة جأش نيتشوية. لذا ما كان يغريه الموقف الأخلاقوي للمناضلين الماركسيين، فلم يرحم ضعف الضعفاء في مسار تاريخاني تعاطفت معه الماركسية نفسها فوجدت لها يوما تخارجات نضالية وشعبوية وحتى قومانية، بل كل سبب هذه القسوة التاريخانية العروية مستعار ، ومن نيتشه بالذات. تاريخنا طويل لكنه متشابه واستعادته أمر سهل لأنه مستمر في المعيش بعنف الرمزي لا بمنطق التاريخ. ذاكرتنا مفعمة لكنها مثل الماء غير ملونة. هناك ما يطبع هذه الخصوصية المغربية، كونها تستعاد بمنطق إعادة انتشار الرمزي وبالبطء الممكن لإعادة تكوينه. هو ذلك التاريخ الساكن أو البطيء الحراك الذي لا يعرف انتقالات كبرى مصحوبة بضجيج النقلة ، لكنه يعرف كنه الاستمرارية. ويا ما عبث باستثناءنا البصّاصون السوسيولوجيون وأغراهم ما نحن فيه واقعون. وضعتنا المقاربة الانقسامية لووتربوري أمام بنية ساكنة وشبه مغلقة في أدوارها السياسية. فالقديم يعاد تمثله في قوالب حديثة مزركشة.. الحزب يؤدي وظيفة القبيلة.. من هنا لعبة المقايسة الانقسامية الجامدة الباردة.. لم يلتفت ووتر بوري إلى أن حظ الحزب هنا من بنية القبيلة ، لم يتعدّ امتحاء عصبيتها وأنانيتها المفرطة واقتتالها على ما نذر في سوق الامتيازات والمكاسب ، وبالتأكيد ليس لها من نبل القبيلة وشرفها أدنى نصيب. وهي نوبة أخرى من نوبات الاختزالية التي تحجب من حقائق الاجتماع أكثر ما تظهره من سطوحها وقببها الخادعة. ذلك لأنّ المعمار الاجتماعي والتاريخي للأمم ينفذ في العمق بينما يتحرك ضمن مسارات تفرض أن تنقل جدل الكوانتوم إلى فضاء السوسيولوجيا؛ فكما هي لا دقّة هيزينبرغ في منطق الكوانتوم : أنّى لك ضبط تاريخ الحركة وموقعها في آن. حدث هذا في الفيزياء التي تنظر في قوانين الجماد التي تمرّ مرّ السحاب ونحسبها جامدة ، لكن الأمر نفسه لم يحدث في الاجتماع الوظيفي الذّي في أوج نزعته الانتربولوجية ابتكر نهجا كسولا إسمه الانقسامية ، لا شك وأنّها لا تعدو كونها هذيانا لباحثين أغراب مقطوعين من شجرة تاريخهم الخاص كما فقدوا كل علاقة بالتاريخ الآخر فيما ذهب إليه عبد الكبير الخطيبي. ففي متن ذاك السكون الذي أوهم من أوهم من الباحثين بدءا من كيلنر وانتهاء بووتربوري، يكمن اعتمال خفيض للغاية و حراك بطيء وبطيء جدا إن جحظت عيناك فلن ترى له طيفا وإن فتّحت سمعك فلن تسمع له ركزا. تاريخ المغرب يزحف على نمط مختلف، لكنه يزحف وينجز ويحقق حتى أنه ولشدّة بطئه الخادع لا يلتفت إلى عمق إنجازاته. كما السلحفاء تزحف بحذر. لكن لا أحد أدرك أن هذا الزحف كما هو من منظور زينون الإيلي ، لا يمكن أن يلحق به أحد البتة. لأنه أكثر من هذا وذاك هو سفر موازي في العمق والسطح، في الماضي والمستقبل.. هذا على الأقل ما لم يلتفت إليه المعجبون بالسكون المغربي ، بينما لا يكاد الرائي يفهم مغزى ، كيف استطاع المغرب أن يهزم كل الإمبراطوريات ويحفظ استقلاله بصمت ، كما لا أحد يدرك كيف أن ثمة كيانات شديدة الخطو والحراك ، لكنها عجزت عن اللّحاق بالزحف المغربي؟! هنا تفضح المقارنات منطق هذا السكون الخادع. وهنا فقط وكمّا حدث جاك بيرك يوما أن التاريخ يعتمل فينا نحن المغاربة من جراء الإكراه الخارجي. مؤكدا على أن عدم وجود الانسجام من شأنه أن يلعب دورا يفوق كونه دورا كاشفا فحسب، بل يبدو دورا خلاّقا أيضا. هكذا يرى وبتعبير هيغل أن التاريخ هنا عندنا يكشف سلبية إيجابية فعّالة. وكان باسكون قد قرر مرة أخرى أن يصفنا بالمجتمع المزيج. ويا له من اكتشاف. مع أن كل المجتمعات مزيجة وكلها مسوّرة بسور ظاهره حداثة وباطنه من قبله التقليد. فإن زاد هذا الزواج حدّ الشطط افتقد التوازن واختل النظام ، وغدا خضراء الدمن بين حدّي الترابية والنباتية وهو ما لا نرضاه لمن اختل لديهم الاعتدال وطغوا في الميزان. وحد خضراء الدمن إن هي صارت عليها ديمقراطيتنا أو حداثتنا فستكون لا هي نباتية ولا هي ترابية ، بل نبتة تشبه العشب المخضرّ والشجر المورق فوق أسوار المدينة العتيقة أو هي مجازا البنت الحسناء في منبت السوء كما اخبر عنها الصادق الأمين. وحسنا فعل باسكون وهو ينفض الغبار عن ملاءة المغرب العميق ويستعيد شرف سوسيولوجيا الفلاّح من طنز السوسيولوجيا المدينية العارضة على العمران، كما استنقذ تاريخا عميقا لمغرب هامشي تناسته عناية تاريخ الغلب. قدرنا في المغرب أن لا نقارب تاريخيا من أحد إن رام التعرّف علينا برسم الوظيفة البرّانية، لكن قدرنا أيضا أن لا نستغني عن التاريخ من أنفسنا نظرا للإحساس العارم والتشبّع التاريخي المذكور آنفا. نحن في صلب التاريخ ولكن ليس أيّ تاريخ! هذه الحقيقة كم دوّخت من قارئ لتاريخ المغرب، من جنس أولئك الذين صدموا بصمت هذا التاريخ ورباطة جأشه عند كل حراك خارجي. لكنه تاريخ تعلّم منه المغاربة أن يحسنوا الجلوس بصبر ونسيان في قاعة انتظار وبشيء من متعة الانتظار. الدخول إلى تفاصيل التاريخ المغربي هو دخول إلى حرم معرفي شديد القداسة وشديد الخطورة. مجمله مغري وتفصيله انتحار. لكنه إذا ما تمّ دخوله بعراء القطيعة العروية يخلق ممانعات تخطّئ التنظير وتصادم الحلم. هنا النيتشية ترتبك ، لأننا لا نكاد ندرك متى ينتهي تاريخ الأقوياء ومتى يبدأ تاريخ الضعفاء.. متى تنتهي أخلاق السادة ومتى تبدأ أخلاق العبيد ؟ وظنّي الشديد أن اختيار العروي التاريخاني والقطائعي إنما هو حيلة تمردية نيتشية بامتياز للانعتاق من داخل منطق برمته ، حيث يصبح المرء عاجزا عن الحكم على هذا التاريخ وهذا الاجتماع . ومثل هذا الانعتاق أغرى الكثير من المثقفين المغاربة ليس آخرهم أحمد ناجي كمّا يحدثنا عنه ريجيس دوبريه وهو يصدّر عمله حول الراعي والرعية؛ أحمد ناجي الذي يوجد اليوم ضمن المجموعة المنتقاة والمخولة لمهمة مراجعة الدستور. وما أسهلها من طريقة لإعلان التمرد عن الخصوصية ومعانقة الكوني حتى من دون معايشة للخصوصي. ولا أحد مع ذلك يملك القبض على جوهر الرمزي المستعاد إذا لم يستجد حقائقه من قلب هذا التاريخ. ولا أحد إن فعل أمكنه الدخول إليه إلا استحياء أو بشروط مستفيضة. ولذا حينما نقول بأن المغرب هو بالفعل بين زمانين ، فلا أحد يملك إلاّ أن يتحدث برسم المجازات وما أكثر مجازاتنا! فالحقيقة الكبرى تكمن في مجازاتنا حتى لو تعلق الأمر بكتابة تاريخنا من أوله ، الذي لا أول له في حساب الزمان التاريخي ، إلى آخره ، حيث لا زلنا نكتب تاريخ مستقبلنا الذي يمكننا استشرافه من الآن كما نكتب تاريخ ماضينا . لأن زماننا المغربي لا يقارب أنتروبولوجيا ولا تاريخانيا ، بل مسلكه طريق ثالث لا زالت الاسطوغرافيا المغربية هي الأخرى في قاعة انتظار نضوجه و في طور استكشافه. ومع ذلك لا نعتقد أنها مهمة سهلة. إنه يتعالى على الزمان بقدر ما يسكن في الجغرافيا بعنف. حتى جغرافيتنا تمتد بامتداد الرمزي. في المغرب أحرى بنا أن نتحدث عن مقولة الرمزي في المكان وليس عن جدلية الزمان والمكان. فالتاريخ والجغرافيا المغربيتان تقيمان في جغرافيا الرمزي. تبدو الخصوصية المغربية التي تنحت مكانتها داخل الاستثناء المنيع، مثير للفضول حينما يتعلق الأمر بالسياحة في ربوعنا وفرجة الآخر على أحوالنا من وراء الشباك. لكن يصعب تقدير الخصوصية والاستثناء حينما يتعلق الأمر بالسلطة. وهنا جرى ويجري النقاش. لخصوصيتنا خصوصية ولاستثنائنا استثناء تشكل عبارة المغرب بين زمانين، مسافة إشكالية في مقاربة تاريخ المغرب. ستظل تفرض تحدي التباس المعنى وصعوبة الاستجابة ما بقي للرمزي تدفقا يتعالى على الزمكان المغربي في عالم متغير يرغمه على محاولة المصالحة مع واقعه . لأنها تفترض مسارا تاريخيا واضح الخطى وليس مسمى تاريخ ينطوي على منطق غير تاريخي. هو مغرب رمزي أكثر مما هو مغرب تاريخي. التاريخ لا يمكر في المغرب مكره خارج المغرب. إنه بالأحرى مكر الرمزي في الزمان لا مكر الزمان في الرمزي. تلك هي خصوصيتنا المغربية. إذا سلمنا بأن لا كونية في الخصوصية إلا مفهومها ، فقد تلعلع مفهوم الخصوصية في المغرب حتى كاد يفقد مغزاه الكوني ؛ هناك يصبح البدار أمرا مؤكّدا لاستعادة التوازن. أي إن الخصوصية المغربية وجب تعريفها تعريفا خاصا يجعلها لا تجادل الكوني فحسب بل تصادمه بلا رجعة. وحينما يجري الحديث عن الأنماط التي احتضنتها هذه الجغرافيا دون تاريخ متجدد ، بل فقط وفقط برمزي مستعاد ومتدفق ، فإننا ندرك أي خطأ نقع فيه حينما نتحدث عن إمكان تصدير الخصوصية المغربية إلى خارج الحدود ، كما لو أن الجغرافيا والتاريخ معا فاضا علينا حتى صارا قابلين للتصدير. وما هو في منتهى العجب أن تصبح خصوصيتنا فقط وفقط ضد الكونية حينما نخشى تدفق الرمزي من الخارج، لكنها تنط كخصوصية/كونية قابلة للتصدير متى تعلق الأمر بالآخر الكوني الذي ينذبح على وضم خصوصيتنا شديدة الغموض. حتى تدهورنا لا يعد كونيا يجلب لنا الحرج بمنطق يدركه النوع ، بل عادة ما تشرعنه الخصوصية التي مردت الانتربولوجية على تمجيدها. لذا كم كان مريحا أن نصبح موضوعا لهذا الفن الذي لا يشغل ذمتنا التاريخية. لقد أدرك العروي خطورة هذه الدعوى الانقسامية فرفضها في الأصول الثقافية والاجتماعية وأصرّ على التاريخ. وهو إذ يدرك أكثر من غيره سبات الزمان المغربي إلا أن التاريخ قد يشكل حرجا شخصانيا ، للسياسي تحديدا ، لأنه يذكّر ويتذكّر. ولنتذكّر ما طاب لنا ولتاريخنا المجازي ، فإنه قصارى ما في الأمر أن نخوض معركة القطيعة في حاضرنا قبل ماضينا ، أو إبداء ذروة اليأس النيتشي كما لا يزال يفعل العروي. قدر الثورة في المغرب تشاركي هناك جانب من مكر التاريخ المغربي. لعلّه ولعراقة تجربته السياسية ووجوده على هامش الضجيج المشرقي ، أمكنه أن يفكر أكثر وبصورة أعمق. ربما استبق تفكير المغاربة سرعة الرياح القادمة من الشرق، وهذا دور تلعبه الجغرافيا. فلا أحد على امتداد هذا التاريخ ولع بالثورة على أصولها الفوضوية والأنانية إلا ارتكس وخسر الرهان. كان قدر الثورة في المغرب أن تكون توافقية. لا السلطان أمكنه الثورة من دون الشعب ولا الروكي أفلح. ومن هنا أمكن للمغرب أن يسلك على منطق من التفاهمات جنبته الكثير من الكوارث السياسية والاجتماعية. وقد اهتدى المغاربة إلى هذا الشكل من التفاهمات منذ زمان غابر من تاريخ صراع جرّبوه وملّوه. الاحتقانات المغربية هي مؤشر موضوعي لإطلاق زخّات مرطّبة لأجواء المغرب السياسية ولم تعد تشكّل اليوم تهديدا. هذا هو سرّ تعايشنا مع الاحتجاجات وسرّ تفضيل المناورة على الصّدام الذي لا يمكن حتى حينما يحدث في المغرب أن يدوم طويلا. إنّنا قد نتهجّي عبارة شيكسبير: لنكن أو لا نكون، من باب المجازات، لكن في مضمار الجدّ لنا عنها بديل يرسم معالم مغرب يكاد في عزّ التّحدّي يقول: سنكون ، وحتما سنكون! لهذا لا يوجد في المغرب ما يمنح فرصة للثورة بمعناها الكامل. لسبب بسيط جدا ، أبسط حتى من المقولات الجاهزة التي تعاوض بها شقاوة الأيديولوجيا الانقلابية فشلها في تمرير ثورات غير توافقية. يتعلق الأمر إذن بقابليات مرنة وإحساس عميق بسلطان الانفتاح السياسي. في هذا المناخ تتعطّل القابلية للثورة ويصبح السلم الجماعي راجحا أيّا كانت النوايا. وبتعبير مورتون كابلان ، إذا كان انتفاء الحاجة إلى اعمال عنف بين الفينة والأخرى في دولة ديمقراطية مجرد رياء ، فذلك رياء ضروري. فالذين اعتقدوا يوما أن المغاربة يخضعون للسلطة خضوع العبيد واهمون، وما أكثرهم بمجرّد ما تتخطى حدود المغرب! فلنسأل إدموند دوتي بعد أن حطت به راحلته في أحواز مراكش. هنا أدرك السوسيولوجي الكولونيالي أن المغاربة أكثر شحّا في استعمال كلمة سيدي ، إذ " لا يقولونها أبدا لمسيحي مهما كان مستواه الرسمي ولو كان سفيرا". كما لم تستعمل حتى في المراسلات مع ممثلي أوربا . وبينما كان الناس في غير المغرب مثل الجزائر التي شكلت المختبر الأول لدوتي في أبحاثه الميدانية ، لا يرون إشكالا في أن ينعتوا الفرنسيين بالسيد فلان ، فإن المغاربة يدركون الأهمية الرمزية للغة التبجيل. المغربي حتى تحت ضغط الاحتلال لا ينادي على المحتل بسيدي أو سيد أو سدي... ويضعنا أدب الرحلة لسفراء مغاربة إلى الديار الأوربية أمام هذه الحقيقة، حيث لم يكونوا ينعتون سلاطنة تلك الديار بأي صفة يفهم منها التبجيل. انظر مثالا على ذلك ، محمد بن عثمان المكناسي و محمد عبد السلام السايح. لا يوجد سلطان في المغرب زهد في عنصر الرضا الشعبي، لأنه العنصر الثابت حينما يتعلق الأمر بغلب الاحتلال أو إكراهات التعديل في القوانين والدساتير. كان الشعب قد استعاد الملك من منفاه بمدغشقر حتى بعد أن فقد كل سلطاته الفعلية في أوج الاستعمار. لم يفقد المغاربة بالتأكيد حسهم السليم أنذاك ، بل مارسوا هذه المرّة أساطيرهم بوعي. إذا كان الاستعمار أنذاك استند إلى أقصى التدبير العقلاني لمؤسسة الحصار والضّبط والإكراه، فلقد اصطنع المغاربة أسطورتهم وأطلقوا سراح الحلم والشعر. ففي هذا الأخير فسحة وسيعة للأمل وفضاء مواتيا للهروب. فالمغاربة ينتظرون ولا يبالون لأنهم يحلمون خلف أسوار اليأس. ما يحلم به المغاربة يجب أن يكون، ولا يمكن إلاّ أن يكون. هذا هو العناد البطيء للمغاربة ، وهو العناد الذي يؤتي أكله ولو بعد حين. كان شيء ما آخر لم تفهمه المؤسسة الاستعمارية يومئذ ، لأنها قلّما استحضرت الثقافة السياسية والوظيفة الرمزية حينما تفتقد السلطة. حينما كتب أوّل دستور في المغرب ، كان المجال شديد الكثافة بعرف وثقافة سياسيين. لفهم الدستور الأول يجب فهم سياق بكامله. وعادة ما فضّل المغرب إنجاز الكثير من المكتسبات السياسية والمؤسسية حتى من دون تعديل دستوري. كان ذلك هو كيمياء الاستقرار والاستمرارية والممانعة. ولكن كان لا بد من خطوات شجاعة بحثا عن التوازن ، وتحقيق التناغم المطلوب بين صيرورة المجتمع ومسطور الدساتير. وهو مطلب مشروع نهضت به القوى الشعبية بأسلوب جديد وفي ظل مناخ جديد يمنح المغرب فرصة للتقدّم يريدها الجميع ولا تشكل عقدة سياسية بعد تشكل الإرادة السياسية المناسبة. الثورة جميلة ولكن.. شيء من التأمل في تاريخ ويوميات الثورات يضعك أمام الكثير من أسرارها وقواعدها. إن الثورة هي جماع كل الاحتقان الاجتماعي والنفسي نتيجة بلوغ الضغط مداه. هنا ، فلننظر مليّا إلى صورة النظم وطبيعتها. فمنها يمكن أن نحكم على إمكان الثورة. بعض الأنظمة تعاني من القابلية للثورة. ولنا في ما حدث في تونس ومصر وليبيا اليوم مثال حيّ. ومع ليبيا يبدو الأمر أخطر. فبقدر عناد النظم في النط بعيدا عن الواقع بقدر ما تكون الثورة شديدة. ومع ذلك لا أحد اعتبر الثورة جميلة إلا بقدر ما يتغنى الشاعر بلمعان السيوف وتغريد الرصاص والرائحة الزكية للدم المسفوح تعويضا عن مشاعر أفسدها الاستعباد. إنه غاية المجاز الذي تنتجه مظاهر الحرب وفيتشية المعركة. الثورة عملية جراحية يستغنى عنها حينما يكون الجسد السياسي والاجتماعي قابلا للتجدد والانفتاح والمرونة والحياة. ومن الحمق أن يصار إلى عملية جراحية لعلاج مرض قابل للعلاج بمجرد تناول حبات من الدواء. إننا لا نعالج دوخة الرأس بالصعقة الكهربائية كما لا نعالج نزلة البرد بالجراحة. هنا تكون الديكتاتورية والشمولية عاملا أساسيا في صناعة الثورة، إذ لولا وجود الاستبداد العاري لما نجحت ثورة قط. إن مجموع الأصوات الاحتجاجية المقموعة في الدول الشمولية ، تساوي في النتيجة صوتا كبيرا متفجرا هو صوت الثورة الهادر. فالديكتاتورية هي التي تجعل من الحركات الاحتجاجية ثورات عارمة. أصبح واضحا أن فضل الثورات ليس راجعا للشعوب، بل أيضا يعود فضلها للديكتاتوريات التي تتآكل بفعل الضربات الصغيرة والكبيرة للمجتمع مثل ما يتآكل الصخر الرابض على شاطئ البحر. الديكتاتورية عامل في تفكيك الدول والنظم ، فخطرها ثاوي في وضعيتها المأزقية وعنفها البنيوي. ولا أحد كان يملك سوى أن يمارس الاعتراض ويحلم بالتغيير وليس له من الموضوعية في كل هذا سوى مراقبة تهاوي واضمحلال هذه النظم. فالثورة تأتي بغتة وتفاجئ الجميع. ويمكننا القول هنا ، إن الثورة هي في نهاية المطاف فنّ ركوب موجة الحدث المتفجّر. ويمكننا حدس هذه الحقيقة التي حدسناها حتى قبل أن نتعرف على رأي (حنا أرندت) وهي تؤكد على أن اندلاع معظم الثورات كان قد فاجأ الجماعات والأحزاب الثورية كما فاجأ غيرها وبأنّ الثورة هي من يحرر الفاعلين الثوريين بعد اندلاعها. وهذا رأيناه في تونس ومصر. وحسب ارندت ، حتى حزب لينين لم يملك إحداث ثورة قبل اندلاعها وكل ما أمكنهم فعله أن يكونوا موجودين. وهذا ما اعتبرناه في التبني الحضاري والتجديد الجذري بأن ما من شيء نملكه سوى أن نعمل ونوسع من دائرة الوعي واليقظة في عملية التغيير. ليس ثمة ما يؤكد على نهاية الثورات ، فستظل الثورة ناجعة ما دام في العالم توجد نظم ديكتاتورية شمولية تكفر بالإصلاحات وبالانفتاح السياسي. لا شيء يقول أن الثورات لن تبقى في عالم الغد ، بل ستكون الثورة شأنا يوميا وليس مناسبة للتفجر العام. ستكون هناك دائما ثورات تحدث دون أن يراها الناس أو يشعر بها أحد ، لأن التغيير سيكون دائميا وسريعا ومتواليا وبالتّقسيط. إن الزمان الثوري بالأمس ليس هو الزمان الثوري غدا. المغرب ورياح الثورة قال أبو الغيط وهو يجيب بديبلوماسية محتضرة عن سؤال يتعلق بمدى استعداد مصر لمواجهة آثار و تداعيات الثورة التونسية ، بأن مصر ليست هي تونس. ولم يحدثنا أبو الغيط عن سبب هذا الاستثناء في تاريخ أو جغرافيا أو طغيان النظام المصري السابق. وبالفعل كذبت الوقائع أبا الغيط وكان يا ما كان. لكن سؤالنا المطروح بإلحاح في المغرب: مالنا ومال مصر وتونس سوى أنهما طالبا بما تحقق جزء مهم منه في المغرب. وطالبا بما لم يكن النظامين مستعدّين للتخلّي عنه مهما طال لسان الاحتجاج. لسنا محكومين بقانون طوارئ ولا أحد يمنعنا من انتقاد أداء الحكومة والسياسات ولا شيء نعاني منه من ذلك سوى أننا راهنا دائما على استكمال مشوار هذا الانتقال الديمقراطي الذي تلكّأنا فيه مرارا. مشكلتنا أننا نريد أن نسرع أكثر. ونريد أن نغيّر من وتيرة الحركة ونخفّف قليلا من منطق العبور المغربي. والاستثناء المغربي يكمن هاهنا ، في أن نسرع بعد أن فتحت الثورات دولا مغلقة. يجب أن نزحف أبعد من ذلك. اليوم لا مجال للتوقف ، علينا أن نستأنف المسير ولا نكذب على بعضنا. لقد كانت الثورات في المغرب تحدث بالتقسيط حينما كانت بعض الدول مرتكنة إلى غلق الأنفاس. فالثورة في المغرب شأن يومي يتجلى في الممارسة الاحتجاجية اليومية وفي النقاش العمومي الآخذ في التنامي وفي تجاوزنا لكثير من تابوهات السياسة. وحيث كنا حتى الأمس القريب تخيفنا كلمة سياسة ، أصبحنا اليوم نطالب الشعب بأن يندفع إلى ممارستها زرافات ويدافع بحيوية عن مصالحه ويشارك في النقاش العمومي. كثيرون تجندوا للحديث عن اجتياح رياح الثورة للمغرب بعد حادثي تونس ومصر. تنقص هذه التحليلات الكثير من البراءة الأيديولوجية والسياسية فيما يغيب الفهم والوعي والخبرة بمنطق الثورات وسيكولوجيا أصحابها فضلا عن تاريخ وجغرافيا المجال المستثور. لا يحتاج المحلل للأوضاع المتتبع للأحدث أن ينفي أن المجال العربي يعرف موجة تغيير هائلة لكنها أيضا محاطة بمناورات إقليمية ولعبة أمم دولية. إذا كان قدر بعض أشكال الثورات التي أخافت منذ زمان أمثال كانط وتوكوفيل خشية انقلابها إلى تسلط ، فإن ما يهدد الثورات العربية اليوم ليس خطر انقلابها إلى تسلط داخلي ، بل الخوف اليوم كامن في التهديد الذي يتربّص بها، ويريد أن يحوّلها عبثا إلى مطالب تحرر اجتماعي يغضي عن مطالب التحرر الوطني. أقول عبثا، لأنّ ما يحدث الآن ليس له علاقة بالاحتقان إزاء القضايا الاجتماعية فحسب بل هو احتقان شامل يتعلق بقضايا الموقف السيادي للأمة. وعبثا ستفعل بعض الأنظمة التي لا زالت تظن أن الموقف السلبي من القضية الفلسطينية سيمنحها صكّ العبور إلى نادي الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. بل يبدو اليوم أن الدول العربية في وضعية حساسة يتطلب منها الأمر حضورا فعّالا في القضايا القومية الكبرى وإبراز الكثير من معالم سيادة قراراتها. أمام لاهذه الحوادث العاصفة ، هناك من تفجرت خصومته السياسية ضد هذا النظام أو ذاك وهناك في الطرف النقيض من يتحدث عن الاستثناء بصورة توحي بأننا نسكن جغرافيا خارج الكوكب أو نتحلى بوضع انطلوجي مختلف. في نظري المتواضع لا هذه ولا تلك إن هي فقدت براءتها من لواعج الأيديولوجيا والحسابات السياسية يمكنها أن تقدم رؤية حقيقية لما يجري على أرض الواقع وتؤكده شروطه التاريخية. أن تكون ثوريا لا يعني أن تكون ثورجيّا. أرى فيمن يكثر من التنبيه بالنموذج المصري والتونسي في سياق صراعه مع أحزاب سياسية ، مجرد مزايدة ثورية ، وهي تدخل عندي في إطار الابتزاز الثوروي الهجين ، لا سيما حينما تصدر من جهات لم تفهم معنى الثورة ولا جربتها في نشأتها الأولى. كما أرى فيمن يغرق في الحديث عن الاستثناء من دون استيعاب لحدود الاستثناء وفلسفته، مجرد تملق سياسي وتحرف فكري. فالفكر يقتضي توازنا في الرؤية، لأن الإغراق في طرف من الفهم قد يحجب عنك الطرف الآخر وهو ما نسعى لتفاديه بتصعيد الوعي بشروط وجغرافيا الثورة نفسها. الاستثناء ممكن دائما، وأحيانا يكون الاستثناء لدى بعض المجتمعات هو القاعدة. وسوف نذكر ما يخرم هذا الاستثناء الموضوعي في المغرب ، حيث معه يمكن أن يخشى على نفسه من هبوب الثورة. تلك الثورة التي لا يمكن أن نتصورها في المغرب ، لأننا لم نأنس بها ولم نربط معها علاقة ثورجية ؛ ستكون إذن قاتلة ، لأننا جميعا لا نملك بديلا حتى بقوة جمال اليوتوبيا. لا نريد إسقاط نظام بل إصلاح نظام ، لأننا في المغرب لن نقبل بسلطة جديدة ندرك كما علّمنا تاريخنا وحدسناه من تكويننا الجماعي أن لا أحد يملك غير المساهمة في الإصلاح وإلاّ فهي الكارثة. تصبح الثورة حتمية حينما تكبر البدائل وتتصاغر النظم ويغرق التسلط في سبات العناد. وتصبح الثورة بلا جدوى في الفضاءات المفتوحة على التغيير على أسس غير تراجيدية. الاحتجاجية تقليد مغربي بامتياز في المغرب لا يمكن أن تصفع شرطية مواطنا كما حصل مع البوعزيزي وإلاّ فهو حدث ناشز عن المناخ الحقوقي الجديد. ولا يكاد يعقل أن يحرق المرء نفسه في المغرب أمام صنيع كهذا وأمامه مندوحة لكسب قضيته بشكل من الأشكال. لأنه يوجد لدينا محاكم إدارية وأيضا ديوان مظالم وأيضا صحافة مشاكسة تتمتع بهامش من الحرية لفضح مثل هذا السلوك . صحافة تواجه نوعا من الصعوبات لكنها تملك أن تصرخ عاليا. وقد يكون من الغريب أن نسمع مثل هذا يقع في الشارع، بينما بات الأمن يتحرج أن يرفع يده في وجه الضنين حتى أثناء الحراسة النظرية. وإن كان ثمة حالات من الخرق للمناخ الحقوقي العام ، فهي مبدئيا مرفوضة وغير مقبولة من القوانين المسطورة لمغرب مصادق على المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان ، ومن الرأي العام شديد الاحتجاج. هل وجب علينا تحت تأثير نزعة التماثل والتمثيل أن نقيس مكتسباتنا السياسية بما كان يحدث في نظام مبارك الميئوس منه تحت طائلة قانون الطوارئ أو نظام بنعلي البوليسي المحض؟! ففي المغرب توجد عندنا حركات احتجاجية. وثمة دراسات وأبحاث وكتب وأطاريح تناولت مظاهر وظواهر الحركات الاحتجاجية في المغرب. إن وجود الحركات الاحتجاجية معناه أننا نعالج أمراضنا بأقراص الدواء لا بعملية جراحية. فالاحتجاجات هي البديل الطبيعي والمنطقي عن الثورات. وليس المغرب هو الذي تفاجئه اليوم رياح الاحتجاجات العربية ، بل منه انتقلت إلى البلاد المجاورة فأحدثت ما أحدثت. من المؤكد أن معظم الانتفاضات التي جرت في بعض البلاد المغاربية إنما استحضرت الممكن المغربي. فحينما تم تدشين عهد الإصلاحات والانفتاح السياسي ، كان لابد أن تبلغ تلك الرياح إلى الجوار. كانت التجربة المغربية حاضرة في جميع هذه الدول. نستطيع أن ننصت إلى كل مطالب الثوار لنعرف أنها مطالب حسمت في المغرب على مستوى الإرادة السياسية وما تبقى هو عوائق التدبير وتعثّر الحكامة والمشكلات الاجتماعية والسياسية التي ترخي بظلها السلبي على المسار الديمقراطي في البلاد. ففي البحرين يرتفع السقف الثوري عاليا للمطالبة بملكية دستورية تشبه ما نحن عليه أو أقلّ. ونحن بلسان إصلاحي نتحدث عن إصلاحات تتجه بالمغرب بعيدا عن الدستورية قريبا من البرلمانية. وفي تونس كما في مصر يتطلعون إلى أن لا يحكمهم الحزب الواحد وأن لا يحكموا بقانون الطوارئ. وفي ليبيا يتمنون أن يكون لهم دستور وأحزاب وحرية تعبير ورأي وحياة منفتحة على كل ألوان الطيف وليس على اللون الأخضر وحده. علما أن الأخضر ليس في عالم اللون لونا أصيلا بل هو نتاج خلطة الأزرق والأصفر. وكل هذه المطالب التي تبدو كبيرة في أعين ثوار مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين ، كنا بعد أن حسمناها مبدئيا في العهد الجديد ، تشكل في نظرنا نحن المغاربة مطالب صغيرة جدّا ومتجاوزة ، إذ لا ينقصنا اليوم سوى إرادة استكمال طريق تنفيذ الإصلاحات التي باتت محلّ وفاق. قلنا أن المغاربة مارسوا الاحتجاجية دائما. والمغربي وحده من يرفع يده منذ نعومة أظفاره تعبيرا عن الاحتجاج. يحتج بالصراخ والعويل والبكاء والحركات البهلوانية. إذا وجدت المغربي ساكتا فحاول أن ترضيه لأنه يفكر في الانتقام. كان المغاربة أول من أحرقوا أنفسهم في قضايا مطلبية. إن ظاهرة الحرق ظاهرة مغربية بامتياز انتقلت إلى تونس فصنعت ثورة مع أنه حرق من أجل مطالب لا من أجل حادثة ظلم شخصي عارضة. في تونس لا يتحمل الوضع القمعي حالة حرق واحدة ، لذا كانت ثورة. والمغاربة يحرقون أنفسهم بالجملة ، كما عرفوا ظاهرة "الحريق" ، وهي الانتقال غير الشرعي إلى الضفة الأخرى للمتوسطي وحرق الأوراق المثبتة للهوية. وقد كانت هذه العملية تشبه ما فعله طارق بن زياد في تاريخ المغرب حينما أحرق السفن من ورائه كي لا يعود. فكان العدو أمامه والبحر وراءه ليس له من مخرج سوى المعركة. بالتّأكيد لم يكن المغاربة مجوسا أو من عبدة النار، لكن كان لهم مع فعل الحرق والاحتراق حالات تقتضي كثيرا من التّأمل. كان هناك دائما هامش للتعبير بشكل أو بآخر. وسنوات الرصاص التي دوخنا بها العالم إن قستها بمعدل ما عانته بعض الشعوب في بضع ليالي في دول عربية أخرى لخجلنا أن نتحدث عنها، على الرغم من أنها أسوأ مرحلة عرفها المغرب. أعني ، لخجلنا أن نتحدث عنها بالأرقام واكتفينا بالحديث عنها بلغة الضمير. هكذا نجد أن حرمة الحياة قد تمّ التعبير عنها قرآنيا بلغة الضمير لا بلغة الأرقام: ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). لا معنى للأرقام في ميزان الجريمة ، فمسيرة الشطط تبدأ بالنفس الواحدة والباقي أرقام تظهر مقدار البشاعة لا خطر الجريمة. لكن المغرب كان سبّاقا حينما اتخذ القرار الشجاع بفتح حوار حول تلك الحقبة وإعادة كتابة ذاكرة المغرب ونهج سياسة الإنصاف والمصالحة وجبر الضرر التي تعرف مدّا وجزرا لكنها شكلت منعطفا في تاريخ المغرب السياسي الراهن. يكفي أن تقرأ في الأكشاك الموزعة على قارعة الطرق في المدن المغرب الكثير من المؤلفات المصنفة في أدب السجون والتي تستعرض أحوال وأوضاع السجون المغربية في سنوات الرصاص. هل هذا يعني أنّنا يئسنا؟ كلا. فمسيرة الإصلاحات لا زالت طويلة. والمطلوب تغييره ليس يسيرا. والحلم بزمان مغربي آخر لم يبرح النفوس. ففي المغرب توجد حالات كثيرة لتجاوزات ورشاوى ومحسوبيات وفساد في التدبير والإدارة وعبث في المال العام وألوان من الشطط في استعمال السلطة... لكن يوجد حراك داخل المجتمع السياسي والمدني والصحافة وإرادات من داخل الدولة لتصحيح الوضع وقطع دابر الفساد. ونحن لا زلنا لا نرى أنفسنا قطعنا المشوار بل نعتبر جميعا أننا نخوض تحديات واستحقاقات الانتقال الديمقراطي. والوعكات التي تصيب هذا المسار المتعثر هي مسألة صراع ايجابي يمنح فرصة عقلانية للتحول والتطور بالمغرب دون حاجة لعملية جراحية لا يتحملها المجتمع المغربي اليوم. حيث أصبح الأمل في تحقيق إصلاحات ثورية من دون ثورة. لا أحد في المغرب يرضيه الوضع الحالي، لكن الجميع لا يزال يحمل الكثير من الأمل. ولا يمكن أن نتحدث عن المغرب اليوم كما نتحدث عنه غدا. جرب المغاربة كل أشكال الاحتجاجات التي بعضها أدى الغرض ، وتحققت بموجبه تحولات ملموسة. كل ما وصل إليه المغرب اليوم هو بفضل الحركات الاحتجاجية. وما تحقق بالحركات الاحتجاجية في المغرب تحقق أقل منه في بلدان أخرى تطلب فيها الأمر قيام ثورات بكسور وندوب. وهنا فقط ندرك السبب الرئيسي خلف الخلاف بين المغرب وقناة الجزيرة. ذلك لأن الإعلام وإن سعى إلى استعمال تقنية الصورة الحديثة في عرض مشاهد الاحتجاجات الدورية في المغرب ، فلا ننسى أن التلفزيون العربي يستند على خلفية ثقافية عربية ، تشتغل في مجال عربي لا يميّز بين الاحتجاج والثورة. هكذا ظنّ البعض أن كل احتجاج هو ثورة وقيامة. وفي مثل هذه الحالات ، لا يكون بالإمكان حدوث غير ثورات نخبوية أو انقلابات. وقد جرب المغرب بعضها لكنها كانت فاشلة وغامضة . وعموما كل ما حصل في المغرب هو نتاج صراع حول السلطة ومن تداعيات تلك المرحلة من الانقلابات التي رفضها الشعب حيث كانت تسعى لفرض نفسها عليه بقوة الحديد والنار. وليس في جعبتها يومئذ أكثر من تكريس الاستبدادية وقهر الحريات ، وهو شأن نظم العساكر. ووحدها تلك المرحلة تؤكد على أن مشكلتنا لم تكن مشكلة قوانين أو دساتير بل كانت في الغالب مشكلة ممارسة للسلطة تتيحها مرونة الدساتير عموما. لا يوجد لدى المغاربة مشكل مع النظام السياسي ، بل مشكلتهم مع أداء الحكومة وفساد بعض السياسيين ونفوذ الانتهازية السياسية. ومن هنا يجب أن ندرك من وراء منح صلاحيات للوزير وحكومته أن يصبحوا أكثر مسؤولية في برامجهم الحكومية وأدائهم الحكومي. ففي المغرب حتى لو اجتاحت الثورات كل الأقطار العربية فلن يكون إلا على ما هو عليه. هنا التاريخ يسعفنا لكي نكون تصورا عن المغرب الذي كان يهتزّ العالم من حوله في أوربا وفي الشرق وهو يعيش على سبيل تجاربه الخاصة. فهذا الاستثناء الذي هو قدر المغرب هو الذي جعله الوحيد الذي يتمنع عن الهيمنة العثمانية ويخوض تجربته الخاصة على هامش كل التجارب وفي صلب كل التجارب. ليس المغرب بلدا ديكتاتوريا ولا هو ديمقراطي بالمعنى المثالي للعبارة.. لا هو ثيوقراطي مهما استشهدنا بمسطور الدساتير والأعراف السياسية ما دام الملك دستوريا هو ممثل أسمى للشعب وليس ممثل أسمى عن الله ولا هو دولة علمانية..أقرؤوا المغرب بين السطور. في مغزى 20 فبراير وقرار الإصلاحات الدستورية حملت حركة 20 فبراير الكثير من المعنى المتوقع عن مشهد سياسي قادم في البلاد. لا يتعلق الأمر بشباب يبتلع العنصر اللّعبي كل أشكال معاقراتهم الاحتجاجية. فلقد تحقق فيها ما لم يتحقق عادة في الحركات الشبابية: عنصر السلم النّاضج وعنصر الوعي السياسي الكبير. وهذا الجانب هو ما يمكن أن نعتبره حدّ تأثر المغرب برياح الثورتين في تونس ومصر. فلقد عزّزتا نجاعة ومصداقية الاحتجاجات السلمية والواعية. ولو كان النظامين: التونسي والمصري لم يغرقا ويختنقا في منطق ومناخ قانون الطوارئ الفاسد، لعرفا كيف يستجيبا بروح رياضية لحركة احتجاجية كان بإمكانها أن تمنح النظامين قوة جديدة وعهدا جيدا ، لكن هذا هو مصير النظم المغلقة والمستغلقة على نفسها. جاءت حركة 20 فبراير سلسة وانسيابية متمتعة بأقصى درجات الروح الرياضية، فجاءت إرادة النظام في الإصلاح أيضا سلسلة ومنسابة وبروح رياضية. إن شباب الفايسبوك هو شباب سياسي ذكي وواعي وواعد جدا. ووحده هذا الشباب الذي عرف كيف يكسر نمطية سياسة الإلهاء التي جاءت بها ثقافة الشبكة العنكبوتية ليجعل من الفايسبوك وسيلة أسطورية للتغيير. وبعد أن صار الحديث عن موت الشباب في مقابر تجنيس الشبكة وتتفيه مهامها ، كنا أمام موعد تغيير هادر خرج من حيزه الافتراضي ليقطع مع ماضي ينوء بالهزيمة واليأس والحصر والسلبية. أصبح جليّا أن هذا الشباب الذي كان يسكن عالمه الافتراضي لم يكن عازفا عن السياسة بل كان يختزن موقفا ويبلور خيارا فاجأ السياسة ولعبتها التقليدية. إنّنا أمام شيء أسماه هربرت ماركوز تكنولوجيا التحرر، شرط أن تصاغ من جديد وفقا لحساسيات جديدة. يجب إذن أن تكبر هذه النظم أكثر لتلائم حلم وتطلع هؤلاء الشباب الذي لن تفعل فيه عناصر الضحالة فعلها في كل أجيالنا التي فطمت عن كل مطالبها بمرارة الأبوية السوسيو سياسية والقمع الممنهج. ولا ننسى أن ما حدث في 20 فبراير هو ثورة ناعمة حققت ما لم تحققه مصر وتونس حتى الآن. وقد وعت تلك الحركة الاستثناء المغربي فعرفت أن تستهدف رموزا محددة تعيق التنمية السياسية والاجتماعية في البلاد وسلكت على تقليد الثورة التوافقية، فكان أن حققت مطالب عجزت الأحزاب السياسية أن تحققها منذ سنوات. ولا أهمية لمن أصبح اليوم يتحدث بلسان ثوري في زمن الانفتاح السياسي بينما كان في زمن القمع وسنوات الرصاص قد ابتلع لسانه وداهن ما شاء له نفاقه السياسي. ففي زمن الإصلاحات لا يتحدث بلسان الثورة إلى جبناء عصر الثورة والتحدّي. إن حركة 20 فبراير استوعبت المطالب المشتركة ولم تغرق في خصوصيات مطلبية ، وتلك هي قوّة نفوذها. تشعر سائر القوى السياسية بضرورة تبرير مدى أهميتها التأطيرية بعد أن تأكد أن جيل 20 فبراير خرج من رماد العزوف والانحصار بحيوية جديدة افتقدتها أكثر الأحزاب السياسية. استفادت الكثير من الأحزاب من مسيرة شباب الفايسبوك بعد أن رفضت الانضمام إلى تلك المسيرة بدعوى أنهم في موقع قاطرة التغيير وليسوا مجرّد عربة. سوف نتساءل خلال السنوات القادمة عن دور الأحزاب في تأطير وقيادة عمليات الإصلاح بعد أن أصبح الشباب قادرين على تأطير أنفسهم وتقرير مصائرهم وقادرين على خلق ملف مطلبي عام ومشترك وفرض ثقافة ومطلب الكتلة التاريخية؟! إن ثورة 20 فبراير هي بالأحرى ثورة على الانتهازية السياسية للأحزاب والتأتأة السياسية لكثير من الوصوليين والنفعيين في المشهد السياسي والحزبي. في مغزى التعديل الدستوري المرتقب ظل مطلب التعديل الدستوري في المغرب مطلبا ملحّا لدى عدد من القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني. وفيما جاءت مطالب بعضها واضحة صريحة ، تميز بعضها الآخر بعدم الوضوح وبكثير من التردد. وحتى قبيل 20 فبراير ، كان الحديث عن تعديل الدستور بصريح العبارة دعوى محتشمة لدى الأحزاب السياسية ، ربما بعضهم جعل من هذا المطلب جزءا من لعبة الابتزاز السياسي. وفي كثير من الأحيان كان قليلون جدّا وربما ممن ليس لهم ما يخسرونه سياسيا ، يرفعون السقف عاليا ، بدافع إحراج الأحزاب السياسية المحظوظة سواء بموقعها الحكومي أو نسبة ممثليها في المجلسين. وطبعا ، حينما نتحدث في المغرب عن التعديل الدستوري ، تتجه الأنظار إلى عدد من المطالب لم يكن المغرب مهيأ كما لا يبدو أنه سيكون مهيّئا على المدى القريب لأخذها مأخذ الجد؛ نعني بذلك مطلب توسيع اختصاصات الوزير الأول وتعديل الفصل 19. وسوف نذكر كيف أن الاستجابة السريعة لمطلب التعديل الدستوري لم يكن جزافا طبخ عشية 20 فبراير، بل لقد كان ذلك مما تم الاستعداد له والتفكير فيه ردحا من الزمان. بل في تقديري أن النظام يملك الكثير من الاستعداد في هذا الإطار قد يفاجئ الجميع ويرفع من إيقاع المبادرات أعلى من سقف المطالب نفسها. فالمغرب لم يتفاجأ بما حدث في بلدان عربية مثل تونس ومصر لأنه كان مختلفا عن نموذجهما. وهو اليوم يجد نفسه وحتى من دون الحاجة إلى ضغط الاحتجاجات ، قادرا على الرفع من إيقاع المبادرات، لأن الاستثناء المغربي هنا أيضا يتجلى في حفظ المسافة بين نموذجه السياسي وباقي النظم الأخرى. وحيث بدأت بعض الدول تحقق بعضا مما تحقق في المغرب، كان لا بد أن تتحرك قطارة الانتقال الديمقراطي إلى مراحل متقدمة. لا ننسى أننا نسبح في بحر عربي ولسنا بدعا في مواجهة عوائق التنمية السياسية والاقتصادية الراسخة في هذا المجال. إن قرار التعديل تم دونما حرج. لهذا السبب أهمل الكثير من هذه القوى مطلب التعديل ، وكثيرا ما برروا ذلك بكونهم لم يجدوا في مطلب التعديل أهمية أولوية مادام المطلوب هو تفعيل بنود الدستور بعد أن رأوا فيها مساحة مهمة غير مستنفذة ، و نظرا لما سار عليه عرف الممارسة السياسية بعد انفتاحها على رهانات كثيرة ورسخت تقاليد سياسية جديدة كما استحدثت مؤسسات مهمة من دون تعديل دستوري. وربما هنا بات من الممكن أن نتحدث عن أن التعديل الدستوري في المغرب أصبح مطلبا حتميا وموضوعيا لأسباب أهمها أن حجم المكتسبات التي تحققت على الأرض وحجم المبادرات والتعديلات في المشهد السياسي المغربي سبقت التعديلات الدستورية بمراتب كثيرة. وما يحدث يدخل في سياسة الملاءمة بين ما أنجز وبين الدستور. فالاستثناء المغربي هنا يجعلنا نعتبر مطلب الدسترة لعدد من القضايا لا يعني بدء تنفيذها في شكل سياسات ، بل هو نوع من الضمانة الحائلة دون عودة المغرب إلى ما قبل مكتسبات العهد الجديد. مع أن الرّدة في النظم السياسية لا تعني إلاّ شيئا واحدا: الإفلاس السياسي. هنا تحمل الدسترة عنصر التطمين وليست عنوانا لإجراء تغييرات لم توجد في ثنايا المبادرات السياسية الكبرى. بينما آخرون كان مرادهم الوصول إلى الفصل 19 بوصفه بيضة القبّان في جوهر الإصلاحات الدستورية. وفي الآونة الأخيرة حصلت الكثير من ضروب السرقات الأدبية ، حينما استشعرت بعض الأحزاب التي ظلت مترددة بخصوص مطلب التعديل الدستوري ، أن ثمة شيئا يحضّر في مطبخ صناعة القرار يتجه بمسار الإصلاحات السياسية نحو إقرار التعديل. فبدأت تلمّح إلى بدء الاهتمام بهذا المطلب لكن دون أن تقدم برنامجها في هذا الصدد. إذا كان ل 20 فبراير من فضل في كل هذا ، فهو أنها جعلت مثل هذا المطلب خارج نطاق التردد والهيبة. وأمر مهم أن لا يصبح هذا المطلب والنقاش حوله بمثابة تابو في مجمل النقاش السياسي ، لسبب مهم، هو أن بقاءه في حيز التابوهات السياسية يجعله عرضة للاستغلال والابتزاز والكسل السياسي داخل المشهد الحزبي والحياة السياسية. ويمكن لفوبيا التعديل الدستوري أن تعالج نهائيا وذلك بتأسيس مجلس دائم للنظر والتعديل في بنود الدستور ، بمثابة ورش دستوري مفتوح يواكب مسار تطور ومتطلبات الإصلاح المغربي، وهو ما يمكن أن يدخل في اختصاصات المجلس الدستوري نفسه بدل حصر مهامه في النظر في مطابقة المشاريع والقوانين لمبادئ الدستور المقررة. يجب أن نخرج من قضية كتابة الدستور وندخل في عهد التعديلات الدستورية الدورية والمواكبة لتطور مسار التنمية. إن عهد التعديلات المستديمة يلائم اختيار التنمية المستدامة. إننا لا نمنح دساتير للأجيال التي تأتي بعدنا ولا نكتب دساتير نهائية وإنما نكتب دساتير تلائم روح العصر وتختزن كل مطالبنا وطموحاتنا الراهنة. فبعد رزمة المبادرات التي تحدث بين الفينة والأخرى يجب أن يوازيها فعل الدسترة بما يجعل الدستور منعكسا للنبوغ المغربي وآفاقه الممكنة. ومن هنا نحن اليوم بالفعل في حاجة إلى تحميل الوزير الأول مسؤوليته الكاملة حتى لا يبقى في وضعية متراخية دون تحمّل الإخفاقات الحكومية. الحاجة إلى حكومة مسؤولة ساهرة على خدمة الشأن العام خارج منطق الزبونية والعوائلية وسائر العصبيات التي من شأن التعديل الدستوري أن يقوضها.. فسلطات جديدة معناها مسؤوليات مضاعفة ومحاسبة قاسية للاختيارات الحكومية.. إنه عصر البرامج الحكومية الجادّة والساخنة.. ربما بدأنا ندخل عصر تحمل الجميع لمسؤولياته. وحتما بدأنا نودع زمانا كانت اختيارات الحكومة والوزير الأول بمنأى عن المحاسبة. لا أحد يريد أن يتحمل مسؤولياته بدعوى أنها حكومة منزوعة السلطة والقرار والصّلاحيات. ونحن في حاجة إلى تمتيع رئيس الجماعة بمسؤوليته الكاملة في التدبير الجماعي في إطار من تفعيل الرقابة حتى تصبح السلطة في مغرب المستقبل تكليفا وليس تشريفا.. وفي حاجة إلى برلمان حقيقي له صلاحيات لكن عليه التزامات.. برلمان يكفّ فيه النّواب عن غواية النّط من فريق إلى آخر فيما يعني الترحال الذي غدا رياضة مفضلة داخل المجلسين.. في حاجة إلى برلمان لا يستعمل في تمرير الصفقات بتقنية التصويت التشريعي.. برلمان مثل هذا مهم للمغرب ، لكن بمقتضى قاعدة: من له الغنم فعليه الغرم ، نتطلع إلى برلمان لا يقصده المرشحون بهدف الاستغناء ، بل المطلوب كما في سائر البلاد المتقدمة أن لا يحصل النائب على رواتب سمينة وامتيازات ، بل فقط يتصرف بموجب قانون التعويض فيما تتطلبه تغطيات مصاريف الخدمات التي يقدمها في إطار نشاطه البرلماني وتحت نظام رقابي فعّال. ولا يعقل أن تصبح الملكية في إطار ما يدعو له دعاة الملكية البرلمانية تحت رحمة برلمان يقصد للاستغناء لا لتمثيل إرادة الشعب. إن برلمانا حقيقيا هو قبل كل شيء ثورة على الكثير من المنتخبين وعلى الثقافة الانتخابية وهو وحده الجدير بأن يمارس وظيفته التشريعية بعيدا عن مناورات الأعيان وديناصورات السياسة. ونحن في حاجة إلى قضاء نزيه ومستقل يكرس دولة العدل والقانون ويرسي أسباب السلم المجتمعي والنهوض الاقتصادي. ولا يتأثر سلبا برياح الداخل ، كبيرها وصغيرها ولا برياح الخارج شرقها وغربها. وكم سيكون من المستحسن أن تقرن الإصلاحات الجديدة بإعادة النظر بجد في ملفات مطروحة بإلحاح ويكون عهد التعديلات والإصلاحات الجديدة قطيعة مع الماضي بقلب سليم ونسيان جميل. مثل ملف مجموعة المعتقلين فيما يعرف بخلية بلعيرج، بعد أن أظهروا من حس الوطنية ونهج السلم المجتمعي وتبرؤهم من رواسب الماضي ما أظهروا في وثائقهم وبياناتهم من وراء القضبان.. أو ملف شيوخ السلفية من أصحاب المراجعات، ممن برء من بدع الإرهاب ما برء وأبدى من الأسف ما أبدى وكل من في ملفه مدخل للمراجعة والنظر.. ولا أحسب أن هؤلاء هم في وضع الخطورة أبلغ حساسية من طارق أو عبود الزمر الذين أطلق سراحهما في مصر ، لتنتهي حكاية خطر شاغل بين عشية وضحاها. فالتّضحيم في السياسات الأمنية قاتل مرعب له انعكاسات سلبية على المدى القريب قبل المتوسط والبعيد. ونحن في حاجة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.. في حاجة إلى النهوض بالهامش المجتمعي الذي لا يراه أحد وبالمغرب العميق حليف النسيان، لكي ندخله في دورة الحياة والتنمية.. في حاجة إلى أن نعلن قانون الطوارئ والتعبئة العامة ضد الفقر.. في حاجة إلى سياسات لقمع الفقر أبعد من السياسة الضريبية التي تتطلب ثورة لا تقل عن الثورات التي مسّت القطاعات الأخرى، وبعيدا بصفة خاصة عن سياسات صندوق المقاصة الاستنزافي ، الذي يكرس التفاوت الطبقي ويخدم الأغنياء منا أكثر من الفقراء.. وعليه، ما أحوج إصلاحاتنا وسياساتنا أن تخفف قليلا من الضغط على صندوق المقاصة وتصرف شطرا منه في شكل أجور داعمة للعوائل الواقعة تحت خط الفقر ، بدل أن يساهم الدعم الحكومي للمحروقات والمواد الأساسية في إقواء الطبقات الميسورة الأكثر استهلاكا لذلك.. فمقتضى السياسة الاجتماعية أن يعاد توزيع الدعم بصورة تبلغ الفقراء لا أن تتراكم لدى الأغنياء. وإن كان المغرب مبتلى بفقر الطاقة فقد وهبه الله من الموارد ما يغنيه إن تحقق حسن التدبير والإنتاج والتوزيع؛ ثرواتنا السمكية والمعدنية والفوسفاط وما يعد به المستقبل من نفط المغرب غير المفكر فيه والطاقة البديلة وغنى الموارد البشرية والكفاءات. ونحن في حاجة إلى إصلاحات عميقة لمنظومة التربية والتكوين ، تقوم على تعزيز إنسان التنمية المغربي ضمن ثقافة نهضوية تنمّي في الفرد روح المسؤولية والإنتاج والإيجابية...كل هذه مطلب مشتركة لكل الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني والقوى الشبابية التي عبرت عن ذلك المشترك الذي هو المطلب الحقيقي والحاسم في نهاية المطاف. مدخل مريح لتعديلات واعدة يجب أن لا نستبق النتائج. فاللّجنة المكلفة بمراجعة الدستور قبل عرضه على الشعب بواسطة الاستفتاء العام هي لجنة متخصصة تراعي متطلبات الاجتماع المغربي والمكتسبات بمعية الشعب. لنتذكر توكوفيل حينما تحدث بقليل من الحماسة عن إرادة الشعب المطلقة، باعتبار أن ثمة ما يفوق سلطة الشعب ، ألا وهو سلطة العقل والمصلحة والمكتسبات السياسية. هنا حينما تغيب الثقة وتختفي النزاهة داخل بيئة سياسية ملوّثة بالانتهازية والنفعية يفقد الشعب كل الثقة ويصبح لا بد من وجود ضامن لعملية الانتقال الديمقراطي. ومع أنه بالفعل لم يكن هناك تناسب حقيقي بين مكتسبات المغرب السياسية ومنطوق الدستور ، كان هناك عدم تناسب بين مكتسبات المغرب وآفاقه الممكنة وبين حجم العبثية السياسية التي صنعت كل أشكال الامتعاض الذي ظهر في الانتخابات التشريعية لعام 2007م وتفجّر في 20 فبراير. قد يجد البعض فيما ذكر من موارد للإصلاح والتعديل الدستوري في الخطاب الملكي الأخير أمرا غير كافي أو مجرد لعبة تقطيع الوقت أو مكرا من مكر المخزن. وكل هذا لا يدخل في الحسبان ما سبق وعرّفنا به المخزن في مورد آخر، باعتباره ثقافة سياسية تفرض إكراهاتها على الملك والمجتمع معا. وبالتالي فالجميع وبالتوافق يستطيع أن ينعتق من هذا الاستحقاق. إن الايجابي في قرار الانفتاح الدستوري ، يتجلّى ابتداء في ما يميّز أعضاء اللجنة المخولة بالنهوض بهذا الورش. لجنة منتقاة بعناية وتمثل طيفا من أهل الخبرة ومختلف الحساسيات. فهم ما بين الأخبر في مجال الفقه الدستوري مثل عبد اللطيف المنوني الذي اختير رئيسا للجنة المذكورة ، وما بين باحثين وأصحاب رأي أكاديمي وسياسي ، ينتمون إلى الصّف التقليدي للحركة النقدية الجريئة مثل محمد ناجي ومحمد الطوزي بالإضافة إلى أسماء أخرى مثل عبد الله ساعف وأحمد حرزني وإدريس اليازمي ومحمد البردوزي. فلهؤلاء مصداقية سياسية وأكاديمية في المغرب الجديد أيّا بلغ الخدش في بعضها لأسباب شتّى ، فلن تجتمع على ضلالة فيما ينسب في العادة من نزوع مخزني للبعض. كما اتضح بصورة جلية أن رزمة الإصلاحات التي وردت في الخطاب الملكي ، جاءت سلسة كما لو كان الأمر يتطلب أقرب فرصة لإطلاقها. وليس مستبعدا في تقديري أن الملك كان يحتاج إلى هذا الجو المفعم بالثورات العربية لكي ينحاز إلى صف الإصلاحات ، حيث ضعف رأي القوى المعارضة للتغيير. لقد استقوى الملك باحتجاجات 20 فبراير ليطرح خياره الثوري في الإصلاحات السياسية. وهذا يؤكد إلى حدّ بعيد أن ضرورات الانعتاق من إكراهات المخزن التاريخية تتطلب لحظات تاريخية مواتية، تجعل ما يحدث من مظاهر التغيير في كثير من البلاد العربية ليس تهديدا للمغرب بل فرصة للنظام قبل المجتمع لتعميق إصلاحاته. من هنا كان لا بد أن نؤكد على أن التعديل الدستوري كان أمرا مفعولا في المغرب لأننا في مرحلة تتطلب من المغرب الرفع من سقف الإصلاحات. ولن تكون الجهوية الموسعة التي أقرها المغرب ، وحدها ما سيفرض بحكم الواقع تعديلا في الدستور، بل إن كل الأوراش المفتوحة اليوم على صعيد إصلاح الاقتصاد والتعليم والقضاء والثقافة يتطلب إطارا دستوريا يؤمن انتقالا سلسا إلى عهد آخر من السياسات وجيل جديد من الإصلاحات. ما حدث اليوم هو أننا اكتسبنا الشجاعة لتحقيق قطيعة مع ثقافة سياسية هيمنت على المشهد برمته. وهي الثقافة التي غرق فيها المغرب كشعب ونظام معا. وكنا أشرنا مرارا إلى أن الملكية في المغرب تتطور بشكل تلقائي كلما تطور المجتمع السياسي والمدني. وعادة ما يتجلّى هذا التطور في مجال الممارسة الفعلية للسلطة وفي حجم ونوع المبادرات. وكما ساهم الخطاب الملكي في حسم موضوع الإصلاحات وأنهى حكاية التحدي الذي تفرضه رياح التغيير الإقليمي على المغرب، فإن الملكية تجد نفسها في وضع مريح ، لأنها تتكيف كما تخضع لقوانين التطور التي تحكم مسار المجتمع المغربي. وما يحدث اليوم هو أن النظام يخفف ما أمكن من تقليدانيته ويسعى لتحديث طقوسه السياسية في أفق تحديث العلاقة الجديدة للسلطة. التعديل الدستوري وعقدة الفصل 19 لا زال المساهمون في النقاش العمومي حول التعديل الدستوري منقسمين حول أهمية وتأويل الفصل 19 من دستور المملكة. لأن النقاش لم يعد يقف عند القراءة النظرية المبنية على خلفية أيديولوجية ما ، بل للأمر صلة أقوى بما ينجز على الأرض. وقد أدّت أكثر المبادرات التي استندت فيها المؤسسة الملكية على هذا الفصل إلى محو صورة ظلت عالقة في الأذهان ، تتعلق باستنادات العهد السابق على الفصل المذكور في معارك سياسية طاحنة. وحيث تأكد أنه من دون الاستناد إلى الفصل 19 ما كان لقضايا مطروحة بإلحاح أن تنحل مثل ملف الأمازيغية والمدونة والقضاء...فحينما تركزت مطالب التعديل الدستوري على الفصل 19 ، اتضح أن الأمر يتوجه إلى آخر ما ينبغي مناقشته من فصول الدستور. فمن الناحية النظرية نستطيع أن نتساءل حول جدوى استمرار هذا الفصل في دستور المملكة؟ لكن يجب أن نبدأ النقاش العمومي بلحاظ المغرب العميق بكل تركباته وتعقيداته. إن المسألة تتعلق بأبعاد عميقة عمق التاريخ والمجتمع المغربيين. لا يخفى أن الفصل 19 لا يحدد بتفصيل ما هي اختصاصات الملك بقدر ما يوحي بأمرين اثنين: أولهما يتعلق بتكريس فصل يعكس ثقافة سياسية تتمحور حول السلطة الفعلية والرمزية لإمارة المؤمنين. ثانيهما يتعلق بتكريس وظيفة أسمى للملك تمنحه سلطة الفصل النهائي أو بتعبير قانوني سلطة الاعتراض والتحكيم. من الناحية الشكلية لا يوجد ما يؤكد أننا أمام بدع من الدساتير الملكية في العالم بما فيها الملكيات الأوربية مثل إسبانياوبلجيكا. فالفصل 19 يؤكد على أن الملك هو أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة. ولنتذكر أن واضعي صفة أمير المؤمنين في أول دستور للمغرب في 1962م هما كل من عبد الكريم الخطيب وعلال الفاسي ، وقد كانا معا من الحركة الوطنية وإن حصل من الاختلاف في مغرب المستقل ما حصل. وإمارة المؤمنين برزت هنا كصفة ذات بعد وظيفي باعتبار أن السلطان في المغرب حاكم فعلي وليس حاكم تشريفي. اعتقد البعض بعد أن تناما الجدل فيما بعد حول هذا الفصل، بأننا إزاء دستور ضمني داخل الدستور المعلن؛ دستور ديني حاكم على الدستور العلماني. وإذا نظرنا إلى هذه الصلاحيات وقارنّاها بصلاحيات الملك طبقا لبعض الدساتير الأوربية سنجدها قريبة الشبه. مع أننا نعتبر أن المقارنات هنا يجب أن تراعي التاريخ والثقافة السياسية للبلدان. ذلك لأن المقارنة بين التاج البريطاني والعرش المغربي ، كما يحلو للبعض الذهاب إليها ، فيها الكثير من النّط التاريخي والجغرافي المؤسس للمغالطة السياسية ، ما دام النموذج الإسباني وتجربته في الإصلاحات هي أكثر قربا من المغرب من النموذج البريطاني. هذا الأخير رغم غناه التاريخي وكثافة تجربته السياسية كان مدينا لكثير من الأوضاع والخصوصيات التي جاء بعضها من وحي التدبير لكنه اكتسب مع مرور الزمن سلطة الواقع وقهر الرسوخ. حتى أن ما تمّ تفويته أو تفويضه من سلطات للوزير الأول في دولة الماغناكارتا ناتج عن غربة الملوك البريطانيين الأوّل وجهلهم باللغة المحلّية للمجتمع. وحين تعلّموها أصبحت للوزير الأول من السلطات ما عزّ استرجاعها. كان الأمر في البداية مجرد تدبير مؤقت لكنه سرعان ما أصبح مطلبا بقوة الواقع ورسوخه. وفي إسبانيا كما جاء في تقرير نادي مادريد حول تجربة التحول الديمقراطي الإسباني، كان الحديث عن توفّر إرادة سياسية تجلت في حدث صياغة الدستور الجديد للمملكة الإسبانية ، إذ يرجع سرّ نجاح التجربة المذكورة إلى التّوافق.فيما اعتبرت الملكية الوارثة لأوسع السلطات عن العهد الديكتاتوري إلى توفير مناخ للانتقال الديمقراطي وحسب النادي المذكور: النقطة المرجعية للتغيير. وتظل الثقافة السياسية هي الأخرى تؤكد على رمزية الملك كممثل أسمى للشعب كما هو في الدستور المغربي وليس الممثل الأسمى عن الله . وفي هذا نكتة ترفع عنه صفة كونه نظاما ثيوقراطيا. وحدث أن تحدث الدستور المغربي عن قدسية الملك وحرمته. مع أن القدسية في الثقافة السياسية المغربية حديثة العهد وهي لا تعني أكثر من المعادل العربي لكلمة (سان) الفرنسية(saint) ، التي تؤدّي معنى الحرمة والإجلال. بينما لنا في العرف السياسي المغربي والعربي ما يفوقها تعبيرا ودلالة. وهي بالتأكيد لا تعني العصمة حتى في لغاتها الأم ، لأنّ الثقافة المسيحية لا تقرّ بالعصمة حتى لأنبيائها. نحن إذن أمام مشكلات تثيرها الألفاظ. ومثل هذا الذي يفهم من الفصل 23 من الدستور المغربي ، يفهم أيضا من المادة 88 من الدستور البلجيكي الذي يتحدث بصريح العبارة كما حول عدم جواز المساس بشخص الملك. وحسب الدستور البلجيكي في مادته 36 نتحدث عن أن السلطة التشريعية الفيدرالية تمارس جماعيا من قبل الملك ومجلس النواب ومجلس الشيوخ. كما أن المادة 37 تؤكد على أن السلطة التنفيذية الفيدرالية هي من صلاحيات الملك كما يحددها الدستور. ويتحدث الفصل الثالث المخصص للملك والحكومة في مادته 85 عن السلطات الدستورية للملك . وهذا كافي لتأكيد طابع الملكية التنفيذية في بلجيكا كما هو حال نظيراتها في المملكات الأوربية. فالمادة 93 تتحدث عن استدعاء المجالس من قبل مجلس الوزراء في حالة تعذر على الملك ممارسة الحكم. ويقر الدستور البلجيكي بأن تعيين الوزراء وإقالتهم يتم من قبل الملك بموجب البند 96. كما تقدم الحكومة استقالتها إلى الملك وهو من يعيّن رئيس الوزراء البديل بعد أن يتم اقتراحه من قبل مجلس النواب . وإذا كان في الدستور البلجيكي طبقا للمادة 98 لا يجوز لأي فرد من العائلة الملكية أن يكون وزيرا ، فإن ذلك لا يحتاج في المغرب إلى دسترة، لأنه راسخ في العوائد السياسية وتقاليد المملكة منذ قرون. وهنا تبدوا الدعوة إلى ملكية تسود ولا تحكم غريبة عن دساتير أوربية تتحدث عن الممارسة التنفيذية والحكم والاختصاصات الدستورية للملك، كما تبدو في متن القسم ، حيث طبقا للمادة 91 يتقلد العرش بعد أداء اليمين الذي يؤكد على بيان طبيعة اختصاصاته ، حيث جاءت صيغة القسم كالتالي: " أقسم بالحفاظ على دستور وقوانين شعب بلجيكا وصيانة الاستقلال الوطني وحماية السلامة التامة لأرضها". وهكذا يفرض علينا الوضع شكلا من المراعات للسياقات والشروط التاريخية لنماذج التغيير كما يتطلب الأمر قدرا من التمييز ليس بين ما كان مطلقا من الملكيات ، بل تمييزا بين أشكال الدستورية وأشكال البرلمانية ليتّضح بالفعل أي النماذج أصلح لا أي النماذج أفضل في مقياس النظر المجرد أن الوقائع المتحدة مع شروطها التاريخية. فثمة كثيرون لا زالوا يخلطون بين الدستورية والبرلمانية. الثقافة السياسية هنا نعود إلى إحدى سمات المغرب السوسيو سياسي المزيج.. وثقافته المركبة.. وهويته المركبة.. وتطلعاته المركبة.. كل شيء مركب في المغرب .. وعليه أن يركب طبقا عن طبق.. فالبساطة في السياسات والهويات قاتلة.. والفصل 19 هو تعبير (عن) وترجمة (ل) صفة دستورية للملك هي صفة إمارة المؤمنين. وهي من موجبات كون دين الدولة هو الإسلام كما أكد عليه الخطاب الملكي الأخير. وهي من الأمور التي تحمل دلالات في المغرب تستند إلى خصوصيات مركبة. فإمارة المؤمنين تحمّل الملك مسؤولية دستورية لحماية حمى الملة والدين وضمان ممارسة الشعائر الدينية للمؤمنين. ومثل هذه الضمانة تتطلب سلطة يمنحها العرف والثقافة السياسية قبل الدستور.. كما أن مفهوم البيعة ذات المدلول التعاقدي في الاجتماع السياسي المغربي تؤكد وجود سلطات من هذا القبيل. ولا يمكن أن يتصور وجود بيعة من دون تمكين الحاكم من سلطات بحجم هذه الأدوار. ويبدو واضحا أن سلطات إمارة المؤمنين تستند إلى الفصل 19 في التعبير عن نفسها في أكثر الأزمات التي تطلبت تحمل الملك لمسؤولياته. ويبدو أن لعراقة النظام الملكي في المغرب دورا في عدم تفصيل مديات هذه الاختصاصات. إن العراقة في الغالب تجد في العرف السياسي ما يغني . ففي بريطانيا التي يدين فيها الدستور إلى العرف ، يؤكد على أن تقاليد الديمقراطية والنظام السياسي البريطاني هي أرسخ من احتياجها للدسترة. إننا في حاجة لدسترة ما التبس علينا وما ليس له رسوخ في العرف السياسي وما كان غير مضمون يحتاج إلى ضمانات. بل إن تطبيق بنود الدستور تتحدد وفق هذا العرف السياسي. هذا في ظني ما جعل الأمور واضحة في العرف السياسي المغربي، إذ الدسترة هنا فيما رسخ في التقليد السياسي يعد تحصيل حاصل. ثمة دستور مكتوب ، وثمة دستور غير مكتوب هو الذي يوجه أكثر مما يفرضه الدستور المكتوب ، اختياراتنا ومواقفنا وإراداتنا السياسية. يؤكد العرف السياسي المغربي على أن سلطة الفصل 19 عادة لا يصار إلى تطبيقها إلا في حالات يحتم فيها العرف نفسه تدخلا حاسما للملك. صحيح إن الدستور لا يتحدث عن مواقيت هذا التدخل بل يعلقها على شروط قابلة للتأويل. والتأويل في مجال الدستور ذي الطبيعة المرنة دائما هو سيف ذو حدّين. فهو قابل للتأويل لكن بشرط الإمكانات والشروط الموضوعية التي يوفرها المناخ السياسي العام. هذا هو تحديدا ما يجعلنا نمنح للمناخ السياسي ومكتسب الانفتاح السياسي أهمية تفوق طقس التعديل الدستوري الذي هو نتيجة مفترضة ومتاحة للانفتاح السياسي وليس العكس. بتعبير أوضح ، فإننا نعتبر التعديل الدستوري الذي شرعنا فيه اليوم أو أي تعديل دستوري في المستقبل هو نتيجة للانفتاح السياسي وليس العكس. فالمطالب تنتصر بمجرد أن تشكلت الإرادة السياسية الإيجابية وفتحت الأوراش ، والباقي هو مرحلة أخرى في مسار الانتقال الديمقراطي. وحينما أدخل عبد الكريم الخطيب وعلال الفاسي في دستور 1962م صفة أمير المؤمنين ، كان كل منهما في الحقيقة يعتبر ذلك تحصيل حاصل استنادا إلى الثقافة السياسية ووظيفة السلطان المغربي آنذاك ومقتضى البيعة الشرعية مستندين في إقرارها إلى مفهوم الفحوى بالمعنى الفقهي. وبالفعل لم يثر الفصل المذكور أي اعتراض أو انتقاد إلاّ بعد أن عملت الظروف السياسية أنذاك فعلها الذي لم يسلم منه الدستور نفسه. فهذه صفة تستند إلى الثقافة السياسية لمجتمع مسلم. ويبدو أن الاستفتاء هو من سيمنح الأمور شرعيتها. لأن المغرب العميق والمتناقض والمتدافع أيديولوجيا وطبقيا ومصالحيا وثقافيا وحده يدرك خطورة استسهال الحديث عن الفصل 19. وإذا كان المغرب قد يستغني يوما ما عن هذا الفصل بصورة لا نكاد نشخصها اليوم ، فإنه لا يزال في وضعية لا تؤهله إلى الاستغناء التّام بلحاظ الشروط الموضوعية لا بلحاظ الممكن المغربي. المغرب الحقيقي الذي نقف عليه ليس بمجرد قطع مسافة تقل عن المسافة الشرعية لتقصير الصلاة من أي مركز حضري كالعاصمة مثلا، لاكتشاف طيف الاختلاف والتنوع وهروب المسافات بين الأزمنة المغربية المتعايشة في مركب اجتماعي وثقافي مزيج، بل لا يتطلب الأمر سوى إطلالة سريعة على هامش المدن والعاصمة لإدراك أن مطالب النخبة أحيانا فيها حجب لحقائق الاجتماع السياسي. ومع أن الفصل 19 يتناغم مع مقتضى سلطات إمارة المؤمنين الضرورية لحفظ الهوية الإسلامية للمغرب، وهي وظيفة تجيب عن شرط تعاقدي في كل أشكال البيعة التاريخية للسلطان المغربي، إلا أن كثيرا ما استفادت منها القوى والشرائح العلمانية. هذا يعني أن إمارة المؤمنين لم تعد كما كانت تحمل وظيفة من وجه واحد هي حماية ممارسة الشعائر الدينية من تهديد القوى غير المتشرعة، بل هي اليوم تقدم نموذجا جديدا يحمي هذه القوى من شطط مجتمع المؤمنين. لقد اعتبر الموقف من الفصل 19 دائما موقفا أيديولوجيا وسياسيا في مرحلة حساسة من تاريخ المغرب. إن وجود مثل هذه الصلاحية لا يعني القدرة على التصرف بموجبها من دون مناخ مشجّع للتّدخل. فمثل هذا اللجوء إلى الفصل 19 لم يعد مغريا ولا مستحسنا في بيئة سياسية أكثر انفتاحا وأكثر إقرارا بدولة القانون والمؤسسات وفي إطار ملكية مستنيرة وتفاهمات سياسية. ثمة متغيّر جديد في المعادلة ، يتعلق باختلاف الشروط والوضعية السياسية . يبقى من الضروري أن نميز بين القوة أو النفوذ وبين السلطة كما ذهب دوفيرجي وهو بديهي في واقع الممارسة السياسية. إن وجود السلطة هو تعاقدي في النهاية يمنح حق ومشروعية الإكراه. بينما القوة قد تكون غير شرعية لكنها إكراهية. بل أبعد من هذا نريد أن نؤكد على أن تمتيع الحاكم بسلطات مزيدة لا يعدو أن يكون مسألة نظرية إذا ما كانت معطيات الوضع القائم لا تسمح بتنفيذها. ولذا ، فإننا نعتقد أن تمتيع رئيس دولة متقدمة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية بسلطة الفيتو ، لا يمكن تصوره بمنطق القوة العارية. فثمة مناخ سياسي عام يحدد إمكانيات استعمال السلطة نفسها المخولة. فهل يا ترى نستطيع أن نتعقّل استعمالا للفصل 19 خارج ما يسمح به النموذج السياسي باختياراته التي سار عليها المغرب وتحققت بموجبها قطيعته مع ظروف مرحلة بكاملها؟! هل المغرب أصبح في غنى عن الفصل 19؟ ليس الأمر ذا صلة بسؤال قد يطرح في سياق الحديث عن الفصل 19، وهو إذا ما كان المغرب في وضعية تجعله في غنى عن الفصل 19 أم أنه لا يزال في حاجة ماسة لهذا الفصل الدستوري؟ هل المطلوب اليوم تحديد اختصاصات أم تهذيب اختصاصات؟ قلنا إن العرف السياسي في المغرب استدخل وجها جديدا من وظائف إمارة المؤمنين ، كونها ضامنة لحق المؤمنين في ممارسة الشعائر الدينية وأيضا وهذا هو الجديد ضامنة لحق غير المتشرعين (اقصد غير الملتزمين بتلك الشعائر) وحامية لهم من شطط المؤمنين. فقد بدا هذا الفصل وتلك الصفة الدستورية كما لو أنهما مانعا من مطلب علمانية الدولة والدستور. بينما في عزّ صعود وغلبة الإسلاميين بات واضحا أن غير الإسلاميين هم أكثر من استفاد من هذا الفصل. وبهذا المعنى يكون هذا الفصل مطلبا علمانيا وإسلاميا في آن واحد. وفي محطات كثيرة كان غير الإسلاميين هم أكثر من يدعو لتفعيل هذا الفصل. وسيكون الأمر مطلبا ملحا أكثر في إطار الانفتاح السياسي الذي سيمكن للإسلاميين من الدخول ليس فقط في العملية السياسية في نطاق التدبير الجماعي والعمل النيابي بل في التدبير الحكومي أيضا. وهو من هذه الناحية مانع من الفتنة والصدام بين الإسلاميين وغير الإسلاميين. وحينما تساءل ريمي لوفو سنة بعد وفاة الملك الراحل، كاتبا: " إذا كان الكل يدفع الملك إلى ارتداء دور ولباس أمير المؤمنين، هناك سؤال يطرح نفسه هل الملك الحالي لديه رغبة للخروج منه"، لم ينتظر كي يدرك بأن عوامل كثيرة تفرض في نهاية المطاف حداثة الصورة التي يتمّ بها ممارسة السلطة ومفهومها الجديد. فبينما ظلّ النظر متّجها إلى ما يمكن أن تقوم به وظيفة إمارة المؤمنين في الحقل الروحي والسياسي المغربي، فإن ما لا يخفى في مجمل منجزات العهد الجديد هو أن وظيفة إمارة المؤمنين كانت وراء تكريس التعددية السياسية وتحقيق مكاسب تصبّ في اتجاه التحديث. صحيح جدّا أن إمارة المؤمنين مفهوم يرتبط بثقافة سياسية خاصة. لكنه مثال عن مساهمة الخصوصي في خدمة قضايا تتّصل بمنظومة قيم عالمية مثل ما حدث في شأن مدوّنة الأسرة. نبحث في الخصوصي عمّا يمكن أن يسند السلطة ، لكن فعالية هذه السلطة ليس بالضرورة أن تكون ذات أفق شديد الخصوصية. الفصل 19 بإخراج جديد قلنا إن الأمر لا يقف عند حد السؤال السابق ، بل المطلوب أن نسأل بكيفية مختلفة وواقعية: كيف نعيد صياغة هذا الفصل ومقاصده بصورة تلاحظ المعطيات السياسية الجديدة وتناسب الوعي السياسي الراهن. من الواضح أن الفصل 19 يتطلب إخراجا جديدا، مادامت لغته وصورته تحيل على ذاكرة مشحونة بصراع سياسي حاد بين الدولة والمعارضة أنذاك. وهو ما لم تستطيع أن تمحيه جل الممارسات الجديدة لسلطته في قضايا ظلت مطلبا حداثيا وفي صالح تلك الأحزاب نفسها. وعليه وكما يقال: لا مشاحة في الاصطلاح. وبما أنه لا بد من وجود سلطة فصل وتحكيم واعتراض، فلا بد من البحث عن عناوين وصيغ جديدة تتوضح فيها الصلاحيات كما تتناسب مع المفهوم الجديد للسلطة. إذ يمكننا الحديث عن مسألة تمتيع الوزير الأول بصلاحيات موسعة أو بكامل صلاحياته في إطار من التفويض لسلطة الملك إلى الوزير الأول . ويكون إذاك محاسبا على برنامجه الحكومي ومسؤولا أمام الملك والشعب. لكن ستكون هناك بنود تفصّل في طبيعة هذه المسؤوليات وطبيعة هذه المحاسبة. أي لا بد من زرمة بنود تحمي وتراقب سير وممارسة السلطة من قبل الحكومة. ويمكن أن نتحدث عن كل تلك الاختصاصات وحق الاستناد إلى الفصل المذكور بناء على الطلب، والمبادرة إليه في حالات يخصّصها الدستور فيما يخص قضايا النظام العام. إن هناك ثقافة سياسية عريقة تتحكم في ذائقة المغاربة السياسية. ولكن هذا لا يمنع من القول أن الثقافة السياسية هي الأخرى تشهد تغيّرا حثيثا. فإذا كنّا نطلب الحلول الواقعية الممكن تنفيذها، فعلينا أن ننهج طريق التناسب بين طرفي المعادلة لمغرب ندرك جميعا أنه مزيج بكيفية خاصة. إن الدساتير لا تمنح بالتأكيد لأن شرط الرضا الشعبي هو الذي يمنحها قوة الشرعية. لكن الدساتير ليست صناعة ورش نخبوي يغضي عن مقتضيات الثقافة السياسية لمجتمع ينتج لنفسه معاني السلطة وعلائقها طبقا لما تقرره أنماطه وإمكاناته ومخياله ومصالحه وقابلياته. إننا نعتقد أن جديدا دخل على الثقافة السياسية بفعل المناخ السياسي العام والمفهوم الجديد للسلطة كما يبدو على الأقل في النقاش العمومي. وبأن ثمة مشكلات أساسية في الدستور تتعلق بلغته قبل مضمونه. وهي فرصة مناسبة للتفصيل فيما يكون فيه التعميم سيّئ الأثر في العقول والنفوس، كما وجب التعميم فيما يكون التفصيل فيه مورطا للسياسات. الدساتير لا تكون ضد منطق الأشياء. التخفيف من التقليدانية والشكلانية أمر مفيد. بينما الرمزية يمكن التعبير عنها بما يناغم بين الأصالة الذكية والمعاصرة الناجعة. وعليه ، فإن عقدة الدستور وهي الفصل 19 يمكن أن تنحلّ بمجرد تعميق المحتوى وتعقيل وتحديث لغته ، ما دام أن المشكلة الدستورية في المغرب هي مشكلة لغة وتطبيق. ما يعني أن مهمة كبيرة سيتطلبها فقط إعادة التوزيع اللغوي لجانب من البنود يمكن أن تهذّب عباراتها. لأننا في الحقيقة نعلق أملا على ما هو أهم من الدستور، ألا وهي الإرادة السياسية للتغيير والإصلاح والانفتاح ، التي معها فقط يكون لفعل الدسترة معنى، ويكون للدستور مردودية حتى لو كان في حدّه الأدنى. نستطيع القول : اعطني انفتاحا سياسيا أعطيك ديمقراطية. بينما هل يصحّ القول : اعطني دستورا مسطورا أعطيك ديمقراطية؟! وبالجملة نقول: في المغرب لا يمكن أن يسبق الشعب الملكية أو تسبقه في تحقيق الثورة. هناك تجاوب وحرص على أن يحدث التطور بصورة متناغمة وموازية وتوافقية وأن يعلم كل طرف الطرف الآخر بإرادة التطور ليستعد لها. الشعب يعبر عن مستوى مطالبه ووعيه السياسي ، والملكية تعبر عن مرونتها وقدرتها على التكيف. شعب يحتج وملكية تبادر، وفي نهاية المطاف يتحدان في تقويض إرادات التخلف التي ترعى على لعبة المسافة بين إرادة الملك وإرادة الشعب. ففي كثير من الحالات ، يجود التاريخ بلحظات حاسمة لالتقاء الإرادتين وموت الإرادات الوسيطة الموحية بالتغليط واستغلال الارتباكات وتعظيم الخواف من البدار. في مثل هذه اللحظة التاريخية ، اختار المغرب الطريق الصحيح. وتقدم في صمت ليسبق في زحفه الهادئ والهادر دولا لا زال يهيمن عليها التردد والارتباك. وحقق في صمت ومن دون ندوب وجروح وكسور ما لم تزل تطمح إليه ثورتان هزتا الإقليم العربي. نراهن على الانفتاح السياسي والإرادة السياسية والايجابية السياسية أكثر من التركيز على ما يتنزّل نتيجة لها. كما نراهن على التغيير السلس والإصلاح التوافقي الذي يجنّب الأمم تراجيديا الثورات التي تفرضها الديكتاتورية بعنادها الكبير وتسلطها المفرط وعدائها للشعوب وهضمها للحقوق وهدرها للكرامة. دعونا إذن نزحف على مقتضى زمان الاجتماع المغربي المزيج، زحفا بمقتضاه لن يلحق بنا أحد في زمن يصنعه النبوغ المغربي. فلا ننسى أن فكرة زينون الإيلي عن زحف السلحفاء لم تعد ترضي علم الطبيعة ، لكنها حينما تكون جادّة ومستديمة ، تكون ملائمة جدّا لعلم السياسة. [email protected]