محمود بلحاج فاعل أمازيغي / هولندا بالرغم من الدراسات الكثيرة التي كتبت حول الحضارة المغربية القديمة، لا تزال بعض الجوانب في هذه الحضارة تحتاج إلى المزيد من الفحص والإيضاح، خاصة في الجانب المتعلق بإسهامات الأمازيغ في بناء وتشيد هذه الحضارة. لكن إعادة قراءة المسار التاريخي للمنطقة بعيون نقدية ومدققة في المعطيات والمعلومات التي تقدمها الكتابات الأجنبية حول الموضوع؛ وخاصة الكتابات العربية، نجد أن جل المعلومات إلي جاءت في كتابات هؤلاء، التي أصبحت من البديهيات بفعل كثرة ترددها، هي معلومات لا أساس لها من الصحة في ظل النتائج التي توصلت إليها الأبحاث والدراسات العلمية الحديثة، في شتى المجالات المتعلقة بحضارة شمال أفريقيا. لقد ساد الاعتقاد طيلة العقود الماضية، لدى الأغلبية الساحقة من المهتمين والباحثين في الحضارة المغربية القديمة، بان وجود الإنسان في المغرب (الوطن التاريخي للشعب الأمازيغي) هو حديث العهد، وبالتالي فلا وجود للحضارة الأمازيغية خارج الحضارة ” العربية الإسلامية” في تصور واعتقاد هؤلاء الباحثين والمهتمين. بل أكثر من ذلك، هناك من يعتبر أن مسالة إعادة كتابة تاريخ المغرب، وخاصة فترة ما قبل الغزو العربي الإسلامي للمنطقة، ماهي ألا محاولة لزرع بذور التعصب والتفرقة.(1) الحضارة التي شكل فيها الإنسان الأمازيغي احد ابرز عناصرها على الإطلاق، فلا يمكن لنا الحديث عن الحضارة المغربية أو المتوسطية (نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط) دون التطرق إلى إسهامات إمازيغن في صياغة هذه الحضارة التي مازال يشوبها الكثير من الغموض والالتباس، بالرغم من المجهودات التي بدلها مؤرخون وباحثون أمازيغ خلال العقود الأخيرة.(2) إن الدور الرئيسي الذي لعبه الإنسان الأمازيغي في تشكيل تقاسيم وتفاصيل الحضارة المغربية. كما تؤكد لنا ذلك العديد من الدراسات الأثرية الحديثة، ليس نابعا من كونه يعتبر من أقدم الشعوب التي عرفها العالم القديم فقط،(3) وإنما لكون كذلك أن بلاده (شمال أفريقيا) هي التي احتضنت الإرهاصات الأولى لظهور هذه الحضارة، وبالتالي كل ما سينتج عنها من تفاعلات حادة، وصراعات متعددة الأطراف. طبعا، هذه النظرية لا أساس لها من الصحة من الناحية العلمية؛ نقصد هنا النظرية التي تقول بان تواجد الإنسان بالمغرب هو تواجد حديث ، فالعلوم الإنسانية الحديثة وعلى رأسها الدراسات الأثرية والانثروبولوجيا، تثبت لنا بالحجة والتحليل المنطقي نقطة في غاية الأهمية فيما نحن بصدد الحديث عنه في هذه المساهمة المتواضعة، وهي أن منطقة شمال أفريقيا عرفت وجود الإنسان مند فجر التاريخ، قبل أن يوجد في العديد من المناطق الأخرى من العالم، ومنها منطقة شبه الجزيرة العربية، واليمن تحديدا، مما يجعل نظرية الأصل العربي للإنسان الأمازيغي بعيدة عن الصواب والحقيقة التاريخية، على الأقل حتى يظهر الجديد في الموضوع. ففي سنة 2001 تم العثور عن بقايا إنسان في صحراء شمال التشاد، التي تعيد التقديرات الأولية عمرها إلى حوالي ستة ملايين سنة(4). بينما تعود أقدم البقايا البشرية التي عثر عليها في اليمن إلى 2400 سنة قبل الميلاد.(5) وفي هذه الحالة فان السؤال البديهي الذي يطرح نفسه بقوة هو: كيف يمكن لنا اعتبار أصل الأمازيغ من اليمن اذا كانت هذه المنطقة (اليمن) قد عرفت ظهور الإنسان في مراحل متأخرة جدا مقارنة مع شمال أفريقيا، وخاصة أذا عرفنا أيضا أن المغرب عرف ظهور الإنسان قبل مليون سنة ومائة وسبعين ألف سنة قبل الميلاد؟.(6) الافتراض الصائب والمنطقي في ظل هذه المعطيات التاريخية والحقائق العلمية الحديثة، في نظر الأستاذة حليمة غازي، هي أن الأمازيغ ربما هاجرو في مرحلة سابقة من تاريخهم إلى الشرق الأدنى،خاصة إلى اليمن، نتيجة التغيرات المناخية التي عرفتها منطقة جنوب الصحراء، وعادوا إليها في مرحلة لاحقة فيما بعد ؟(7). ومن بين المعطيات والحقائق التاريخية أيضا، التي تؤكدها مختلف الدراسات الحديثة حول التاريخ القديم للمغرب، هي أن المغرب من أوائل الدول (المناطق) التي عرفت حضارة مزدهرة ومتطورة في الحقب الزمنية العابرة، وأسست دول وأنظمة سياسية محلية.(8) انطلاقا من هذا، نرى أن محاولة بعض المؤرخين استبعادهم للحضارة الأمازيغية من دائرة الحضارات القديمة، لا يتناقض فقط مع الحقائق التاريخية التي أثبتتها الدراسات الحديثة فحسب، بقدرما أنهم يحاولون أيضا تجاوز العقل والمنطق في معالجتهم للموضوع، نتيجة التزييف الأيديولوجي الذي يمارسه معظم الباحثين والدارسين لتاريخ وحضارة شمال أفريقيا. تماما كما فعل الأستاذ الحسن السايح صاحب كتاب “الحضارة المغربية البداية والاستمرار”(9) الذي يعج بالتناقضات والمغالطات التاريخية الفادحة حول أصل الشعب الأمازيغي أولا. وحول الوجود العربي في شمال أفريقيا ثانيا، التي سنحاول أن شاء الله في الجزء الثاني من هذه الدراسة الكشف عن بعضها (أي المغالطات والتناقضات الموجودة في الكتاب). لعل ما سبق من ملاحظات يؤدى بنا إلى الوضع الإشكالي التالي: وهو كيف سنعيد كتابة تاريخ المغرب في ظل الدولة الراهنة بالمغرب؟. ففي ظل السياقات العامة للمغرب الراهن، وخاصة على المستوي السياسي والديني، حيث مازال توظيف الدين سائدا بقوة في العمل السياسي، وكذلك في كتابة وتدوين التاريخ الوطني، لكن في ظل سياقات متغيرة، حيث حلت محل السيف والرماح في مشروع الغزو العربي لبلاد الأمازيغ مقولة ” العروبة والإسلام”، مما يعني أن هذا المشروع مازال قائما ومستمرا إلى يومنا هذا؛ والغزو هنا هو غزو ثقافي ولغوي بالدرجة الأولى. مازال النقاش العام حول إعادة كتابة تاريخ المغرب، لايزال يدور حول رؤى المؤرخين العرب، ووفق الضرورات السياسية، ومن ثم نجد اننا إزاء خطاب وطني نقدي في ظاهره، وإداري في شكله، وديمقراطي في لغته، ولكن البنيات الذهنية التي تصوغ وتجري فيما وراء هذا الخطاب، هي ذهنيان تقليدية عروبية قومية مشرقية، لهذا فاننا لسنا إزاء خطاب علمي تاريخي نقدي. ويعتبر هذا المعطى احد ابرز إشكاليات النقاش الدائر حول إعادة كتابة التاريخ المغربي، حيث أن هذا المطلب يطرح في بيئة سياسية وثقافية واجتماعية ودينية ملتبسة، وثمة حسابات دقيقة، ومصالح مختلفة تفرض خيارات وتوجهات أخرى. انطلاقا من هذه الخلفية – أي خلفية تزييف التاريخ، يكون تاريخنا العريق في القدم، زاخر بإشكال الزيف والتدليس والتلفيق، حتى صارت الفضيلة في كتابة تاريخ المغرب نبذ النقد العقلاني ودفن الحقيقة التاريخية وسط ركام من الخرافات، والأساطير، والأوهام الإيديولوجية، حتى أصبحنا لا نقرا ولا نرى إلا صورا مشوهة لهذا التاريخ.(10) فهكذا عزيزي القارئ، أذا تجاوزنا مجموعات الأخبار التاريخية المتتابعة، التافهة، التي أنتجها المؤرخون العرب حول ” الفتح” العربي الإسلامي لمنطقة شمال أفريقيا، بكل ما فيها من أساطير للتبرير والتضليل، فثمة تاريخ أخرى، وهو تاريخ التدمير والقتل والنهب.(11) الهوامش 1: التجاني بولعوالي ” الإسلام والأمازيغية نحو فهم وسطي للقضية الأمازيغية” أفريقيا الشرق – الدارالبيضاء المغرب.(ص 62) 2: نشير هنا بالخصوص إلى كتابات محمد شفيق، احمد الطاهري، المرحوم صدقي علي أزيكو، محمد بوكبوط، مصطفي أعشي، عبد السلام بن ميس، حليمة عازي، جامع جغايمي وآخرون. 3:مصطفي أعشي ” جذور بعض مظاهر الحضارة الأمازيغية خلال عصور ما قبل التاريخ، إصدارات مركز طارق بن زياد – 2002 4: المرجع السابق، مصطفي أعشي (ص 11) 5: المرجع السابق، مصطفي أعشي (ص 13) 6: المرجع السابق؛ مصطفي اعشي (12 ) 7: حليمة عازي مجلة نوافذ العدد 17 – 18 2002 ملف خاص حول الأمازيغية (ص 130) 8: محمد بوكبوط ” الممالك الأمازيغية في مواجهة التحديات، صفحات من تاريخ الأمازيغ القديم. إصدارات مركز طارق بن زياد – 2002 (ص34) 9: صدر كتاب ” الحضارة المغربية البداية والاستمرار” للأستاذ الحسن السايح في ثلاثة أجزاء سنة 2004 عن منشورات عكاظ (الطبعة الثانية) . وهو الكتاب الذي سنركز عليه خلال الأجزاء القادمة من هذه المقالة. وذلك من اجل تسليط الضوء على بعض المغالطات التي تشملها الكتابات التي تعالج مسالة أصول الأمازيغ وعلاقة ذلك بالوجود العربي الإسلامي في شمال أفريقيا ، ومنها كتاب الأستاذ السايح. 10: جامع جغايمي ” تاريخ الأمازيغ” الجزء الأول من إشغال الندوة الدولية حول تاريخ الأمازيغ ممن تنظيم جمعية الجامعة الصيفية باكادير- إصدارات دار أبي رقراق للطباعة والنشر – 2002 (ص 25) 11: الحسين الإدريسي ” الأمازيغية: الدين والحداثة بحث في حدود العلاقة ” منشورات الشبكة الأمازيغية من اجل المواطنة - 2009 (ص 19)