بدأ يطرح بإلحاح سؤال ما بعد الاستفتاء على الدستور، فهل ينبغي الولوج فورا لمرحلة تنفيذ بنوده، خاصة تلك المتعلقة بالمؤسسات،و بالدرجة الأولى الحكومة و المجالس المنتخبة وطنيا ومحليا؟ الذين يقدمون أطروحة حل هذه المؤسسات مباشرة بعد الاستفتاء يدفعون بمبرريبدو معقولا، فهذه المؤسسات يجب أن تكون وفق الدستور الجديد أو المعدل. فهل من المعقول أن يشتغل البرلمان على أساس الدستور القديم؟ وهل من المعقول أن تستمر حكومة في عملها وهي مشكلة وفق ضوابط وصلاحيات الدستور القديم؟كلام جميل.. كلام معقول لكن غير واقعي مع الاسف... غير واقعي من منظور آخر واقعي.. بل غير ممكن لأسباب يعرفها أي ممارس للشأن السياسي في الحد الأدنى... وقد استغربت أن تأتي دعوة حل هذه المؤسسات من حزب الاستقلال، ووجدتني أعود لما كتبت قبل أيام، في هذا الموقع، حول المزايدات و النفور من العمل الحزبي في المغرب، لأضيف أن عددا من الفاعلين السياسيين في المغرب يعتقدون، أو يتوهمون، أن قول أو مسايرة مواقف تعجب الناس ، رغم الاقتناع بعدم صحة القول أو الموقف ( لأن المهم هو القول على غرار المهم هو المشاركة..) يتوهمون أن ذلك طريق لكسب الثقة و المصداقية، و الحال أن العكس هو الصحيح، فالحزب السياسي يكتسب مصداقيته، في نظري ، بقول ما يقتنع به وممارسة هذا القول مهما تكن النتائج على المستوى في المدى القريب، لكن الثقة و المصداقية الصعبة المنال في الظروف السياسية الرديئة لمغرب الآن تكتسب بمراكمة المواقف الصائبة مهما بدت غير " شعبية" في شروط معينة ... الحزب السياسي ليس حركة أو منتدى أو شارع... الشارع يرفع شعارات كبيرة و مطالب في حدها الأقصى، و هذا أمر طبيعي وجيد، للضغط على الطبقة السياسية لتحقيق أقصى حد من المطالب. فليس من المطلوب أن يكون الشارع متزنا وواقعيا بالضرورة ، و ليس الشارع قوة إقتراحية ، بل احتجاجية ومطلبية، وقوة ضاغطة في نهاية المطاف... لكن الحزب السياسي شيء آخر، ّلأنه يحاسب على أقواله و أفعاله، و مطلوب منه الانجاز أيضا و ليس القول فقط.. بينما الشارع لا يحاسب بل ولا يمكن محاسبته اصلا... لماذا لا يمكن الحل الفوري لمؤسسة الحكومة و البرلمان مباشرة بعد الاستفتاء؟ هناك اعتبارات تقنية و أخرى سياسية والتي تهم أساسا العمليات الانتخابية و تأطيرها القانوني ( مع الإشارة إلى أن مؤسسة الحكومة يمكن حلها و تشكيل أخرى انتقالية دون صعوبات كبيرة و إن كان ذلك مضرا باقتصاد الزمن).. من خلال المعطيات المتوفرة ( و استنادا بالأساس إلى الخطاب الملكي ل 9 مارس) فإن البرلمان سيعرف تعديلا مهما من خلال مراجعة تركيبة إحدى غرفتيه ( مجلس المستشارين إن تم الاحتفاظ بهذا الاسم)، وهذا يستلزم مراجعة كيفية انتخاب مجلس المستشارين ( النظام الانتخابي) ومراجعة الهيئة الناخبة ( إلغاء الغرف المهنية و ممثلي المأجورين كهيئات ناخبة مع اقرار هيئة ناخبة جديدة هي المجالس الجهوية).. فعلى أساس أي نظام انتخابي سيتم انتخاب الغرفة الثانية في صيغتها الجديدة؟ النظام الانتخابي المعمول به حاليا سوف لن يكون صالحا لأنه يتضمن كيفية انتخاب ممثلي الغرف المهنية وممثلي المأجورين ، وهي هيئات لن تعود قائمة في انتخاب مجلس المستشارين المقبل، وفي نفس الوقت هناك هيئة ناخبة جديدة هي المجالس الجهوية ، و التي لا ينص عليها النظام الانتخابي الحالي لأنها لم تكن هيئة ناخبة قائمة ،. معنى ذلك أنه لا يمكن انتخاب الغرفة الثانية في صيغتها الجديدة دون إقرار قانون انتخابي من طرف البرلمان ومنه الغرفة الثانية نفسها. إن إقرار نظام انتخابي جديد، وبناء على الدستور المعدل بعد التصويت عليه ( ليس اليوم بالتأكيد) يتطلب وقتا ومراحل معروفة في مسطرة التشريع لابد منها ( إعداد المشروع من طرف وزارة الداخلية، تم إيداعه بالأمانة العامة للحكومة، فالمصادقة في المجلس الحكومي ثم المجلس الوزاري، ثم البرلمان للمناقشة والمصادقة، ثم النشر في الجريدة الرسمية ليصبح القانون ساري المفعول.. ) هل يمكن إنجاز ذلك في شهر أو حتى ثلاثة أشهر؟ يحتاج الأمر ، في تقديري، لدورة تشريعية واحدة على الأقل ( دورة الخريف)... ليس فقط انتخاب الغرفة الثانية هو الذي يحتاج ( إجبارا) لنظام إنتخابي جديد بل كذلك الغرفة الأولى( مجلس النواب)، فالإبقاء على النظام الانتخابي الحالي سوف لن يؤدي سوى إلى تكرار التجربة الحالية من حيث الاستحواذ عليها من طرف ما يسمى ( تجاوزا) بالأعيان و أصحاب الأموال القادرين على الفوز في الانتخابات بالوسائل المعلومة، بينما يستبعد هذا النظام ( عمليا) النخب السياسية و أطر الأحزاب من الولوج إلى البرلمان، الذي هو مكان النخب السياسية بامتياز في كل الأنظمة الديمقراطية وحتى غير الديمقراطية، و غياب النخب و الأطر الحزبية يعني ببساطة أن المكاسب الدستورية، مهما كانت متقدمة، ستصطدم بواقع مؤسسات غير قادرة على بلورة هذه المكاسب فعليا وممارسة الصلاحيات، المفروض ان تتوسع، للمؤسسة التشريعية.. فمن المؤكد أن الإصلاح الدستوري سوف لن تكون له أهمية و مردودية بدون إصلاح سياسي عميق، و بالأساس مراجعة قانون الأحزاب و النظام الانتخابي، إصلاح من المفروض أن يكون بعد إقرار الدستور الجديد او المعدل وقبل إجراء الانتخابات. فالسنة السياسية المقبلة ( أكتوبر 2011 يوليوز 2012) هي سنة الإصلاح السياسي، وليست، في نظري، سنة إجراء الانتخابات التي لن تأتي بأي جديد إذا ما تمت وفق التأطير القانوني و السياسي الحالي... إنها سنة نقاش سياسي وطني حول دور الأحزاب السياسية وحول الأنظمة الانتخابية وحول السبل الكفيلة ( سياسيا و قانونيا) بترجمة المكاسب الدستورية على أرض الواقع، إذا ما كانت هناك فعلا إرادة سياسية للتقدم إلى أمام و ليس إعادة إنتاج سلوكات الماضي تحت عناوين جديدة ، و إعادة إنتاج النخب الفاشلة وتهميش الكفاءات السياسية الفعلية للبلاد... وهناك عامل آخر يجعل إجراء العمليات الانتخابية أمر غير ممكن مباشرة بعد الاستفتاء وهو إرتباط إنتخاب مجلس المستشارين بوجود مجالس الجهات ( كهيئة ناخبة) وهذه الأخيرة مرتبطة بالانتخابات الجماعية ( تقترح لجنة الجهوية أن تنتخب هذه المجالس بالتزامن مع الانتخابات الجماعية، وهذا يفرض إعداد النظام الانتخابي لهذه المجالس حسب ما سيقره الدستور( لابد من مرجعية دستورية للنظام الانتخابي و لن تكون هذه المرجعية الدستور الحالي بالتأكيد)..... نلاحظ إذن المهام الكبرى المطروحة في الأجندة السياسية ( تقنية، قانونية ، سياسية)، فلا يمكن تصور إنجاز كل هذه المهام قبل نهاية السنة التشريعية الحالية ( لابد من مرجعية دستورية كما أسلفت).. فلابد إذن من سنة تشريعية أخرى لانجاز هذه المهام بدون تسرع لأن الأمر يتعلق بتصحيح المسار السياسي و بناء أسس جديدة لهذا المسار و للديمقراطية في المغرب.. و للتذكير فإن عمر مجلس النواب الحالي سينتهي في بداية أكتوبر 2012، ومن المفروض إعادة إنتخابه قبل أسابيع من هذا التاريخ، وكذلك الشان بالنسبة لمجلس المستشارين الذي سيحل اجل تجديد ثلثه في نفس التاريخ.. و أظن أن الفاعلين السياسيين الجادين يدركون كل هذه المعطيات الموضوعية و مع ذلك، يتم الدفع بأطروحة إجراء الانتخابات العامة مباشرة بعد المصادقة على الدستور الجديد.. وفي تصوري فأنه عوض الدفع بمثل هذه الشعارات المتسرعة أو المزايدة ،على القوى السياسية أن تقدم تصوراتها لما بعد التعديل الدستوري و كيفية تدبير المرحلة الانتقالية لدخول الدستور الجديد حيز التنفيذ، علما أن أي قانون يتضمن أحكاما إنتقالية .. ولم نقرأ أو نسمع لحد الآن أي مقترحات بهذا الشأن... كاد النقاش حول التعديلات الدستورية أن يستهلك، والمفروض الانتقال إلى مرحلة جديدة في النقاش الوطني العام.. نقاش حول ما بعد هذه التعديلات ... ملاحظة أخيرة: لا أقول بعدم إمكانية إجراء العمليات الانتخابية مباشرة بعد المصادقة على الدستور بشكل مطلق... يمكن ذلك بالتأكيد لكن على أساس أن تصدر القوانين المنظمة لهذه الانتخابات على شكل ظهائر ملكية بمثابة قوانين.. و الأكيد أن القوى الأكثر محافظة ستقبل بهذا الحل " بكل فرح" لكن هل ستقبله القوى الديمقراطية الداعية إلى توسيع مجال التشريع للبرلمان ومن ثمة تقليص مجال تدخل الظهائر الملكية في الحياة السياسية فقط للتجاوب مع شعار يرفع في الشارع و يدعو إلى حل كل شيء ... مجرد سؤال !