تعتبر المراجعة الدستورية التي يعتزم المغرب اعتمادها خلال الأشهر القادمة محطة حاسمة في رسم التوجهات السياسية العامة التي سيسير عليها المغرب للعقود القادمة، كما تمثل مناسبة لإعادة بناء الدولة سياسيا وتدبيريا على أسس جديدة وإعادة النظر في بنية النسق السياسي من حيث علاقات سلطه ودورها ومهامها. فالنص الدستوري عادة ما يميز بين السلط الدستورية والمؤسسات الدستورية التي تمارس هذه السلط كلا أو بعضا، مع تنظيم العلاقات بين المؤسسات في ممارستها للاختصاصات المرتبطة بالسلط الدستورية. وهذا ما يتطلب مناقشة مسألة بقاء المؤسسات الدستورية المنتخبة في ظل الدستور المنتهية صلاحيته بمجرد اعتماد المراجعة الدستورية المرتقبة، بحيث تثار على هذا المستوى مدى الشرعية السياسية لهذه المؤسسات التي يُفترض أن تقوم بالتنزيل القانوني والعملي للإصلاح الدستوري، وهنا بالضبط يثار الإشكال الأساسي. فالمؤسسات المنتخبة الموجودة حاليا والتي ينص عليها دستور 1996، من جماعات محلية وغرف مهنية وبرلمان بغرفتيه، تم تشكيلها في ظل نظام دستوري سيصبح متجاوزا في ظل الظرفية السياسية الجديدة التي حتَّمت اعتماد الإصلاح الدستوري، وبالتالي يصبح لا معنى لتخويل نفس المؤسسات مسؤولية التنزيل القانوني والتنظيمي للإصلاح الدستوري. وإذا كان البعض قد حاول إثارة مجموعة من الإشكالات العملية المرتبطة بالتجديد الشامل للمؤسسات المنتخبة، فإن الرجوع إلى الممارسات الدستورية يمكننا من الجزم في سهولة تجديد جميع المؤسسات المنتخبة بمجرد اعتماد الدستور المراجع، وهو ما يسمح باعتماد آليات دستورية لإنجاح الإصلاح والسماح بالتجديد الشامل للمؤسسات الدستورية في ظل النص الأساسي الجديد. آثار اعتماد الدستور الجديد إن المراجعة الدستورية تبقى مجرد عملية شكلية ومسطرية تبدأ من تقديم مسودة النص المراجع على الشعب للتصويت عليه، وما يضفي عليها روح الإصلاح الدستوري يكمن في الشروط السياسية المتربطة بالممارسة وبآثار المراجعة الدستورية في حد ذاتها. فبمجرد اعتماد الدستور الجديد سنكون مجبرين على اعتماد ترسانة من النصوص التشريعية والتنظيمية التي تبدأ من إقرار أنظمة انتخاب مجلسي البرلمان، إلى القوانين التنظيمية المتعلقة بالجهات المتقدمة وبباقي المؤسسات الدستورية، وصولا إلى نصوص تنظيمية متخذة من قبل الحكومة من أجل تطبيق النصوص القانونية المعتمدة من قبل البرلمان... فهذه العملية ذات حساسية بالغة، لا يمكن منطقيا أن يتم تركها لبرلمان ستنتهي صلاحيته بمجرد إقرارها، خاصة أنها تتعلق بانتخاب برلمان آخر سيخلفه، وهذا وحده يثير إشكالات سياسية تتعلق بملاءمة الإجراءات لأهداف الإصلاح الدستوري. كما أن بقاء الجماعات المحلية والغرف المهنية يصبح بدون معنى في ظل نظام جهوي جديد يتطلب إعادة النظر في الأساس في دور هذه الجماعات وفي مهامها واختصاصاتها وفي نظامها المالي بما يتلاءم مع ضرورة إقرار جهوية تدبيرية وتنموية حقيقية. وعلى هذا الأساس نجد أن الأحكام الختامية والانتقالية التي عادة ما يُختتم بها النص الدستوري ذات أهمية بالغة قد تؤدي لتوقيف تطبيق أحكام دستورية أو تعجل بتنفيذ مضامينها، وهي إما تقرر فترة انتقالية قبل دخول بعض فصول الدستور حيز التطبيق، أو ترتب إعادة شاملة لتركيبة المؤسسات المنتخبة. وهنا يكمن الإشكال الأساسي الذي لا ينتبه الجميع إليه، فالنص الدستوري قد يتضمن مقتضيات تمثل إصلاحات كبرى لكن دون السماح بدخولها حيز التنفيذ إلا في ظل شروط معنية أو بعد آجال قد تطول، وهو ما يفرغ في غالب الأحيان الإصلاح من مضمونه الأساسي. فدستور 1992 مثلا نجده يحدث الجهات كجماعات محلية ولم يقيدها بأية مقتضيات تحد من سلطاتها التنفيذية، ولم يتم إصدار القانون المنظم للجهات إلا سنة 1997، وهنا نجد أن دسترة الجهة لم يكن له أي أثر على أرض الواقع إلى ما بعد دستور 1996 الذي أدخل تعديلات على نفس الفصل بشكل أدى إلى تقييد دور الجهات عبر تخويل العمال السلطة التنفيذية. وبمقابل ذلك نجد أن دستور 1996 قد أحدث المجلس الاقتصادي والاجتماعي وربط دخوله حيز التنفيذ بإصدار القانون التنظيمي الذي لم يتم اعتماده إلا سنة 2010. فهذين النموذجين ينطبقان على باقي المؤسسات الدستورية، فالدستور قد يسمح في أحكامه الختامية ببقاء المؤسسات المنتخبة الحالية لتتم ولاياتها كاملة، بمعنى أن استكمال الإصلاح لن يتم عمليا قبل سنة 2015، أو يتم إقرار مبدأ التجديد الشامل لجميع المؤسسات الدستورية المنتخبة في آجال معقولة تكون الدولة معها قادرة على تنظيم الاستحقاقات المتعلقة بها. فالمنطق يفرض ملاءمة المراجعة الدستورية مع متطلبات الإصلاح السياسي، فالجماعات المحلية الحالية شهدت أكبر نسب من الفساد الانتخابي وتحكم السلطة في عمليات تشكيل الأغلبيات المسيرة لها، وأية انتخابات برلمانية في ظل وجود هذه المؤسسات ستشهد نفس التشكيلة المتحكم فيها عبر آليات وزارة الداخلية وجيش المنتخبين المتواجدين على أرض الواقع. فانتخاب المؤسسات التشريعية الجديدة، التي يُفترض أن تقوك بتنزيل الإصلاح الدستوري والسياسي، سيؤدي في ظل وجود الجماعات المحلية الحالية إلى إفراز نفس الفساد الانتخابي ونفس النخب الفاسدة، وبالتالي يعتبر حل جميع المجالس المنتخبة أساس تنزيل المراجعة الدستورية. حل المجالس المنتخبة أساس استكمال الإصلاح إن من يرسم جزءا كبيرا من خريطة الانتخابات البرلمانية هم المستشارون الجماعيون وأعضاء الغرف المهنية، فالجماعات المحلية تضم جيشا من المنتخبين الذين يملكون اختصاصات تتعلق بالحياة اليومية للمواطنين ويتصرفون في ملايير الدراهم من الميزانيات السنوية، ومستشاروا الغرف المهنية في علاقة مباشرة مع مئات الآلاف من التجار والصناع والحرفيين. كما تمتلك وزارة الداخلية آليات حاسمة في رسم التوجهات العامة للعمليات الانتخابية، خاصة وأن جهات في السلطة حاولت منذ مدة توزيع مجموعة من العمال والولاة على مناطق ذات حساسية انتخابية من أجل تهيئة المجال لاكتساح استحقاقات الانتخابات التشريعية. بالنظر لكل هذه الاعتبارات لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي ودستوري حقيقي مع بقاء النخب المحلية المنتخبة منذ 2009 لتستمر إلى غاية 2015، لأن المجالس الجماعية والإقليمية والمهنية الحالية أفرزتها الكوارث الانتخابية لسنة 2009، وفي ظل هيمنة الداخلية على المجالس وتوجيهها جيش المنتخبين لإعادة تشكيل نفس الخريطة السياسية والحزبية والانتخابية. ولا يمكن عندها إجراء انتخابات تشريعية حقيقية تكون أولى إجراءات تنزيل الإصلاح الدستوري وتؤدي لإفراز ممثلين حقيقيين للشعب من أجل انتخاب حكومة تمثل الشعب بدورها. إن وجود المجالس الجماعية والمهنية الحالية عند حلول موعد الانتخابات لن يؤدي إلا إلى انتخاب نفس النخب الفاسدة "والأعيان وأصحاب الشكارة"، ووزارة الداخلية اعتادت تاريخيا الاعتماد بالكامل على هذه الفئة التي يسهل التحكم فيها وتوجيهها بتعليمات شفوية ومباشرة، وعادة ما يؤدي التقطيع الانتخابي إلى تقوية حظوظ هذه الفئات المفسدة للعمليات الانتخابية. فكيف سيتم تنزيل الإصلاح السياسي والدستوري في ظل مجالس محلية جلها مزور ومتحكم فيه من قبل وزارة الداخلية؟ وهل سيقبل المغاربة بنصف إصلاح (دستوري) نصفه الآخر حاسم في رسم توجه العملية السياسية برمتها؟ فلا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي حقيقي دون إجراءات سياسية على أرض الواقع، كما لا يمكن تصور إصلاح سياسي ودستوري مع بقاء نفس المؤسسات المنتخبة ما بعد محطة 2011، خاصة وأن انتخاب الجماعات والمجالس الإقليمية والجهوية والغرف المهنية سنة 2009 أعاد المغرب إلى عهود التزوير الصريح وصنع الخرائط الانتخابية والتحكم المطلق في نتائج الاقتراع عبر الأموال والفساد السياسي وتدخل السلطة بشبكاتها الواسعة وآلياتها الرهيبة. وقد حاول البعض هنا استباق الدعوات لحل المؤسسات المنتخبة بادعاء وجود عوائق دستورية أو قانونية تتطلب اعتماد محطات انتقالية مستمرة في الزمة، إلا أن تدقيق بعض القواعد والسوابق الدستورية تبين سهولة ويسر اللجوء إلى التجديد الشامل لجميع الهيآت المنتخبة مباشرة بعد المراجعة الدستورية، وفي ظل الاحترام التام لنصوص الدستور عبر إقرار مقتضيات ملاءمة ومتناغمة في نفس النص الأساسي. الحلول الدستورية لانتخاب المؤسسات الجديدة إن اعتماد مبدأ التجديد الشامل لجميع المؤسسات الدستورية المنتخبة يعد هو الأساس وهو القاعدة عند اعتماد المراجعة الشاملة التي تأتي في سياق الإصلاح السياسي، وعلى هذا الأساس لا يمثل الزمن أو التوقيت المتزامن عائقا أمام اللجوء إلى التجديد العام للمؤسسات المنتخبة، بحيث يمكن في هذا السياق اعتماد عدة سيناريوهات تضمينها في النص الدستوري نفسه. فإما يتم حل جميع المؤسسات المنتخبة بموجب فصول الدستور نفسه، وعندها لن نحتاج إلا لنصين تشريعيين يهمان القانون التنظيمي للجهات والقانون التنظيمي لانتخاب مجلسي البرلمان، وفي هذا الصدد يكون الاختصاص التشريعي بيد الملك لوجود فراغ تشريعي، وبمجرد انتخاب البرلمان الجديد يتكلف باعتماد النصوص التشريعية الأخرى، وهي سابقة تمت في ظل دستور 1992 (الفصل 101). وإذا كان هذا الحل الدستوري يثر نقاشات سياسية حول ممارسة الصلاحيات التشريعية في سياق تقوية دور البرلمان، فإن الحلول الأخرى تبقى أكثر فاعلية، خاصة ترك التشريع الآني أو العاجل بيد البرلمان الحالي في فترة استثنائية مباشرة بعد الاستفتاء على أساس أن يتم حله مباشرة بعد انتخاب من يخلفه. ففي هذه الحالة يمكن تنظيم الاستفتاء خلال شهر يوليوز، على أن يتزامن الإعلان الرسمي عن نتائجه مع عيد العرش لهذه السنة، وهو ما يعطي الاحتفالات طابعا خاصا يتميز بأجرأة الإصلاح السياسي. وفي هذه الحالة تتم دعوة البرلمان لدورة استثنائية خلال شهر غشت من أجل اعتماد نظام انتخابي لمجلسي البرلمان، ولا تتناقض هذه الوسيلة مع متطلبات الإصلاح ومنطقه، على أساس دور البرلمان الحالي سيقتصر على إعداد أرضية انتخاب البرلمان القادم الذي سيتكفل بانتخاب الحكومة الجديدة وبإعداد الترسانة القانونية استعدادا لانتخاب الجماعات المحلية والجهات. وقد بدأت وزارة الداخلية مسطرة الإعداد الفعلي وصادق البرلمان خلال الأيام القليلة الماضية على قانون المراجعة الاستثنائية للوائح الانتخابية التي تسبق عادة كل محطة انتخابية، ولن تحتاج المؤسسة التشريعية لكثير جهد في مناقشة النظام الانتخابي الذي يتم بموجبه تشكيل البرلمان بغرفتيه. كما أن المنطق يفرض تنظيم انتخابات محلية وجهوية في يوم واحد منتصف شهر شتنبر القادم لضمان تشكيل نخب منتخَبة في ظل الدستور الجديد وبالنفس السياسي الذي يرافق منطق الإصلاح، وبناء على ذلك يسهل تنظيم الانتخابات التشريعية لغرفتي البرلمان أوائل شهر أكتوبر قبيل افتتاح البرلمان، وهذه الأجندة حتى وإن كانت ستعرف ضغطا زمنيا كبيرا، إلا أن وزارة الداخلية أصبحت معتادة على إجراء سلسلة المحطات الانتخابية في آن واحد. فهذه العملية تعتبر أساسية وأكثر ملاءَمة مع منطق الديمقراطية، ولا يمكن بناء على ذلك أن تتجاوز الفترة الانتقالية الفاصلة بين الانتخابات التشريعية وانتخابات الجهات والجماعات عدة أشهر، بحيث يفرض المنطق أن يكون منتصف سنة 2012 آخر أجل للتجديد الشامل لجميع المؤسسات الدستورية المنتخبة. فالحلول الدستورية لا تُعدم، منطق الإصلاح يفرض انتخاب مؤسسات دستورية جديدة تطبع تجسيد الإصلاح وتنزيل المراجعة الدستورية، فلا يعقل أن تستمر الفترة الانتقالية في ظل الدستور الجديد إلى غاية 2015 أو لما بعدها، فالمغرب يحتاج حاليا لإعادة النظر في بنية الدولة وفي وظائف مؤسساتها الدستورية، ولا يعقل أن نلجأ للحلول الترقيعية لتطبيق نصف إصلاح ونؤجل النصف الآخر لمرحلة لاحقة بشكل قد يؤدي إلى إفراغ العملية من مضمونها. *دكتور في القانون