تحية نضالية وبعد، علينا أن نفتخر، لأننا أضفينا بنضالاتنا وتضحياتنا المشروعية على المطلب الديمقراطي، وجعلنا منه هدفا وطنيا وغاية منشودة. وانتزعنا من الدولة الاعتراف بضرورة التحكيم إلى الديمقراطية في تسيير دواليبها وفي علاقتها مع المجتمع . لكن علينا كذلك أن نفتخر لأننا أنقذنا البلاد من الهاوية، وصالحنا الأمة مع ماضيها، ونظمنا لأول مرة في تاريخ المغرب انتخابات شفافة ونزيهة، ووضعنا البلاد على سكة الديمقراطية والتنمية، وحددنا معالم المشروع الملكي القاضي ببناء مغرب ديمقراطي وحداثي . علينا أن نحزن لأنه بعد أكثر من نصف قرن من النضال وما واكبه من تضحيات جسام نتفرج الآن عن الإسلاميين وهم يسرقون مستقبلنا بالماضي: ويقفزون على التاريخ كما لو أن عجلته لا تدور وأنه بدأ في يثرب و توقف فيها. وكيف بهم يستنطقون الآيات ويعصرون الأحاديث لاستخراج ما يسمونه حلولا للحاضر ويطالبونه بمطاوعتها والتأقلم معها، ومع ذلك تجد داخل المجتمع آذانا صاغية، وكيف لحكومتهم تتلاعب بالسلطة وتتخبط في الانتظارية والارتجال والعشوائية وتدخل البلاد في مسلسل الزيادات في الأسعار والضرائب، وتجميد الأجور وحذف وظائف التشغيل، وبتر ميزانية الاستثمار، واللائحة قد تطول والأسوأ في قاعة الانتظار، وتقدم لنا ذلك على أنه قدر محتوم، لا بديل له سوى السمع والطاعة، وكل من انتقدها واجهه مشايخها بورقة التكفير. علينا كذلك أن نستوعب أنه قد قدر علينا أن نواجه المخزن لفرض حقنا في الوجود داخل النسق السياسي، وتقدر علينا الآن أن نواجه التيارات الإسلامية لفرض حقنا في الحياة داخل المجتمع، لأنهم ضد كل القيم التي تعلل وجودنا، من ديمقراطية، وعلمانية، وحرية التفكير وحرية الضمير والحداثة، إنها معركة حياة أو موت، فإما أن نكون أو لا نكون. لكن علينا أن نتساءل بكل حسرة وأسى، لماذا بقدر ما يتوسع المجال الديمقراطي، بقدر ما يسمو صيت التيارات الإسلامية، وتتراجع جاذبيتنا داخل المجتمع. وكيف للديمقراطية أن تلد نقيضها وتدفع به إلى ممارسة السلطة. لا شك أن العيب ليس في الديمقراطية، بل العيب وكل العيب فينا. لقد فرضنا على الدولة احترام الديمقراطية، إلا أننا تضرعنا بالقيم الإسلامية وبثوابت الأمة، لإعفاء أنفسنا من عبء بث أهم عواملها داخل المجتمع: إنها العلمانية بما تحمله من حرية التفكير وحرية الضمير، وفصل الدين عن السلطة. فلقد أثبتت التجربة التركية في ظل حكم التيار الإسلامي، إن الديمقراطية لا يمكنها أن تتطور إلا في إطار علماني، وأن الدين يمكنه أن يعيش في انسجام تام مع العلمانية ولأنه بقدر ما تتجذر قيم العلمانية بقدر ما تصبح المشروعية الديمقراطية الطريق الوحيد لممارسة السلطة على أنقاض المشروعية الدينية. إننا كنا وما زلنا نعتقد خطأ أن إصلاح الدولة سيؤول حتما إلى إصلاح المجتمع، فتجربة دول الكتلة الشرقية سابقا أثبتت أن قوة الدولة لا تقاس بدرجة هيمنتها داخل المجتمع.بل بدرجة الثقة التي تتمتع بها من طرف مواطنيها، وبدرجة قدرتها على تلبية المطالب الاجتماعية. وأن تطور المجتمع المدني لا يقاس بدرجة استقلاليته على الدولة، بل بدرجة قدرته على امتصاص وتغطية نقائص وإخفاقات الدولة . كما أثبتت تلك التجربة أيضا أنه لا يمكن فرض نظام اقتصادي واجتماعي فقط عن طريق القانون، لأن النظام لا يستند على السلطة بقدر ما يستند على توزيعها داخل المجتمع. كما لا يمكن أن نجعل في نفس الوقت من الدولة موضوع التغيير والمسؤولة عنه وممولته إنها مهمة الجسد الاجتماعي بكامله. كما أثبت مسلسل الانتخابات في المغرب أنه بقدر ما يتراجع تدخل الدولة بقدر ما يسود دور المال في تحديد نتائجها وتواطؤ المواطنين على مقايضتها. إنه بقدر ما يتوسع الحقل الديمقراطي بقدر ما تتفتح شهية المطالب الاجتماعية وتأخذ طابعا محليا وقطاعيا لا وطنيا واقتصاديا واجتماعيا لا سياسيا. وبقدر ما يتقوى المجتمع المدني بقدر ما تتقلص ضرورة المرور بوسيط سياسي للتعبير عن مطالبه وطموحاته. أمام هذه التحولات ما زلنا نفرض على الشعب نوعا من الوصاية. إننا ندعوه أن يتبنى مطالبنا عوض أن نتبنى مطالبه. ونطالبه بأن يستسغي لنا عوض أن نستسغي له. ونريد أن يفهمنا عوض أن نفهمه. إنه بقدر ما يتقوى المجال الديمقراطي بقدر ما تصبح الحاجة ماسة إلى التحكيم لقيم الليبرالية على حساب القيم الاشتراكية، والتي كنا نقدمها على أنها تحمل مشروعا مجتمعيا قوامه التوزيع العادل للثروة والسلطة داخل المجتمع كبديل الليبرالية، فأصبحت في أحسن الأحوال مرجعية لتقويم سلبيات الليبرالية. ولقد أثبتت تجربتنا في تداول السلطة أننا لم نخرج عن هذا الإطار. ومع ذلك ما زلنا متشبثين بها دون تحيين مفهومها، نخيف بها البرجوازية بجانبها التضامني، والنخبة الدينية بجانبها العلماني. إن الديمقراطية عبرت عن عجزها في الفصل في اختلافاتنا والتي غالبا ما تؤول إلى بتر بعض أطرافنا في كل محطة تاريخية وفي كل مؤتمر. لأنه من إيجابيات نضالاتنا أننا عممنا القيم التي كنا ندافع عنها داخل المجتمع وداخل الدولة، ولم تعد لنا قواسم مشتركة تميزنا وتلحم صفوفنا، وأن من سلبيات مذهبنا أن إيديولوجيتنا تآكلت ولم يعد لها مفعول سياسي. فلقد شحت أفكارنا، وانكمشت اجتهاداتنا بسبب الحياد الذي التزمت به النخبة المثقفة تجاه السياسة. لهذه الأسباب أجد نفسي في حيرة من أمري وأعترف بعجزي عن الإجابة عن سؤالين لا شريك لهما، ما معنى أن نكون يساريين في ظل كونية القيم الإنسانية، وما معنى أن نكون اشتراكيين في ظل عولمة القيم اللبرالية؟. وبعبارة أدق من نحن؟ لأن الشعب لم يعد يعرفنا، لقد أصبحنا وردة بدون عطر ولا شوك. لذا فإنني أطلب من أخوتكم التفضل بالإجابة عن تساؤلاتي لتعزيز إيماني بجدوى نضالنا.