من تونس إلى ليبيا، مرورا بمصر وبعض البلدان العربية الأخرى، التي عاشت أو لازالت تعيش مخاضات الانتفاضات العربية، تعالت بعض الأصوات المطالبة بإقرار نظام علماني حقيقي يتعارض ونظام العلمانية الشكلية، التي رفع شعارها طغاة عرب بهدف التمويه والمغالطة. وإلى اليوم لم تخب حدة السجال حول مسألة العلمانية منذ الاستقلال ومنذ أن جعلت الأحزاب الرسمية من العلمانية «رهانا حداثيا» للبرهان على أنها ابنة زمانها، فيما تقوم بنيتها الأيديولوجية على عبودية لاهوتية!. لإضاءة موضوع العلمانيات في بلاد الإسلام، نشأتها، خطاباتها، أقطابها، مستنداتها التاريخية الخفية، يعرض علينا الباحث بيار-جان لويزار دراسة تركيبية تقرب الفهم من أسباب فشلها في أكثر من بلد عربي، على النقيض من إنجازاتها في تركيا التي تعتبر أول بلد علماني إسلامي. مجالات البحث والتنقيب التي يتدخل فيها جان-بيار لويزار، عن دراية، عديدة، فهو مدير أبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي، ومتخصص في التاريخ الحديث للإسلام في الدول العربية للشرق الأوسط. من الاستعمار الجديد- الذي خصه ببحث هام بعنوان «الصدمة الكولونيالية والإسلام. السياسات الدينية للقوى الاستعمارية في البلاد الإسلامية»، الصادر عن منشورات لاديكوفيرت- إلى المسألة الشيعية (مع تخصيصه لدراسة عن «حياة آية الله مهدي الخالصي»، صدرت عن منشورات لامارتينيار، مرورا بالمسألة العراقية، التي يعد أحد متخصصيها المرجعيين. كما أن مسألة العلمانية والسلطوية أو الاستبداد حظيت باهتمامه بصفتها أحد المحاور المركزية التي تغذي النقاش، بل السجال في بلاد الإسلام وفي الغرب. ويعتبر النقاش الواهي الذي خاضته فرنسا مؤخرا، لأغراض أيديولوجية وبإيعاز من الأغلبية الحاكمة، برهانا على ذلك. في هذا البحث يتزاوج التاريخ بالأنثروبولوجيا وبالسياسة بالاتكاء على نماذج لمجتمعات عربية-إسلامية كانت مختبرا للعلمانية مثل تركيا، الجزائر، العراق، تونس، مصر، إيران. مقارنة بأوروبا، لم تر العلمانية النور في بلاد الإسلام كفكرة ولا كواقع إلا بشكل متأخر. بدأت قسماتها في الاتضاح في غضون القرن التاسع عشر في البلدان التي عاشت هيمنة غربية مباشرة. وقد لعبت المحافل الماسونية الإيطالية والفرنسية دورا هاما في نشر المثل العليا اللائكية، وخاصة في أوساط ضباط الأكاديميات العسكرية للإمبراطورية العثمانية. لكن نقطة التحول بدأت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية لما انبثقت العلمانية بطريقة فجائية مع الإصلاحات السريعة، بل الصادمة لمصطفى كمال. بعد ذلك أصبحت «العلمانية الكمالية» مرجعا لمجموع العالم الإسلامي، فتأثير مصطفى كمال واضح على جميع الإصلاحات التي أدخلت في البلدان الإسلامية بصيغ متباينة. رافقت هذه الإصلاحات حركة علمنة شمولية، حسب البلدان والمتطلبات، منها ما نهل من العلمانية على النمط التركي لتنمية نموذج من النوع الغربي، فيما استند البعض الآخر على هذه العلمانية لتحسين وضعية المرأة، وإعادة تنظيم الوقف، أو إعادة النظر في منظومة الزواج، وفي النظام الوراثي، وفي تنظيم العدالة والاقتصاد. وتبعا للنموذج التركي راجت الفكرة القائلة بأنه على الدولة أن تتحكم في الدين، وشاهدنا أيضا انتشار أيديولوجيات وطنية بدأت تشدد على أسبقية العرق، اللغة أو الإرادة الوطنية ومبادئ الوحدة. قد يبدو المشروع، الذي يقوم عليه بحث بيار-جان لويزار، القائم على إبراز «العلمانيات السلطوية» وإيجاد نقاط الالتقاء بين تركيا الكمالية وعراق صدام حسين، مشروعا استفزازيا. ذلك أن تركيا الكمالية تطورت، بالرغم من جميع العراقيل، نحو الديمقراطية، وتطرق اليوم أبواب أوروبا، فيما غرق العراق اليوم كما بدأ في بركة من الدم. غير أن «العلمانية الكمالية» هي اليوم محط مراجعة باسم «العلمانية الحقيقية»، العلمانية المتفتحة، الليبرالية والتعددية. فأي نظام يمكن أن يحمل هذه الصفة؟ هل يوجد ناد للأنظمة العلمانية في بلاد الإسلام؟ ظاهريا يصعب الحسم في هذا الموضوع. فالعلمانية هي قبل كل شيء الكيفية التي يستعملها الفاعلون. لذا يجب الانطلاق من خطاب الفاعلين أنفسهم. لكن إن اقتصرنا على المطالبة الرسمية بالعلمانية والمطالبة بإدراجها في الدستور، فإن البلد الوحيد الذي يعمل بموجب هذا القانون هو تركيا، التي التحقت بها فيما بعد الجمهوريات السوفياتية سابقا والبلدان المتحدرة من إفريقيا الكولونيالية الفرنسية. ثمة أنظمة لم تصرح رسميا بعلمانيتها، لكنها انخرطت في «إصلاحات علمانية» مثل أتباع مصطفى كمال في العالم الإسلامي، من رضا شاه بإيران إلى ملك أفغانستان أمال الله ( 1919-1929)، مرورا بأتباع الإصلاح العسكري في العالم العربي، وأندونيسيا والباكستان. وأخيرا هناك الأنظمة ذات الحزب الوحيد التي نادت بلائكيتها من دون أن تصرح بها علنية مثل حزب الدستور الجديد بتونس، وحزب البعث في سوريا والعراق. ثم لماذا نقر بالبعثية ضمن التيارات العلمانية ونلغي خصمها الكبير، الناصرية، داخل تيار الفكر الوطني العربي؟ العلمانية كدين مدني كانت العلمانية القيمة التي استوردتها الدول العربية الإسلامية من المستعمر. وشكلت فرنسا أولى المرجعيات لذلك لأنها، بلا شك، كانت تمثل نموذجا للقطيعة العنيفة كجواب عن متطلبات النخب الجديدة التي تمكنت من السلطة. وقد نقلت كلمة «لائكية» و«لائكي» من الفرنسية إلى التركية والفارسية. نجد في اللغة التركية كلمة «لائكليك»، و«لائسيست» بالفارسية، التي استغنت بسرعة عن كلمة «لاديني» التي لها نفحة إلحادية. أما اللغة العربية فهي الوحيدة التي ترجمت لائكية بكلمة «علمانية» نسبة إلى العلم والمعرفة. كما تستعمل أيضا كلمة لائكية. والفكرة السائدة هي أن المجتمع الذي يقع تحت هيمنة الدين غالبا ما يدير ظهره إلى التقدم والحداثة، بصفتهما أولى مصادر القوة، فالعلمانية أو الخطابات «المعلمنة» laïcisants تأتي لإضفاء الشرعية على الأمة التي يتم تقديمها كقاعدة أساسية للسيادة وللدولة- الأمة التي كانت إفرازا سياسيا لها. في الأمكنة التي برزت فيها العلمانية بوضوح وبصفتها أحد الأسهم الستة لمصطفى كمال، لعبت دور الدين المدني للدولة الحديثة. ولم يكن زياء غوكالب تركي الجنسية أيديولوجي الأمة، بل كان أيضا أيديولوجي علمانية أتاتورك. وقد عثرت الشبيبة التركية على مرجعيتها في تصور علماني للتاريخ. إذ نهل مصطفى كمال من النموذج الفرنسي الذي اقتبس عنه كلمة «لائيك» من خلال قراءة زياء غوكالب لعالم الاجتماع إميل دوركايهم. فسوسيولوجية هذا الأخير، الذي يضع الحياة الاجتماعية في قلب الحياة الإنسانية، أصبحت في تركيا رمزا للعلمانية. غواية العلمانية في العالم العربي كانت تركيا سباقة إلى تطبيق نظام علماني، فيما كانت مصر أحسن بلد نقل النزعة الأتاتوركية أو الكمالية إلى العالم العربي. لكن يبقى السؤال بعد أن تم إنجاز هذا النقل: ما هي القيم التي تسند هذه العلمانية؟ بالإمكان التعريف ببعضها على ضوء بضعة مقاييس: لا يتوقف مسلسل العلمانية على بلدان دون غيرها. وإلى اليوم لم يعرف ولم يشهد العالم العربي سوى علمانيات استبداد هدفها تبرير هذه السلطة أو تلك. وإن كانت تركيا سباقة إلى إقرار نظام لائكي، فإنه نتيجة المحاكاة، قلدتها على الفور إيران البهلوية، ثم أفغانستان تحت حكم الملك أمان الله، وبعد ربع قرن من الزمن تلتها الجمهوريات العربية الاستبدادية (تونس البورقيبية، مصر الناصرية ثم الأنظمة البعثية في كل من سوريا والعراق). لكن هذا لم يمنع من وجود علمانيات ليبيرالية مثل علمانيات بعض المثقفين والمفكرين المسلمين أو الأحزاب السياسية: حزب الوفد في مصر الذي كان شعاره بين 1920 و1940: «الدين لله والوطن للجميع». لكن التوجه العام والغالب كان لصالح النزعة الاستبدادية. وقد حالت هذه العلمانية الاستبدادية دون انبثاق مجتمعات مدنية. من بورقيبة إلى صدام حسين، مرورا بشاه إيران، راجت عن العلمانية صورة مفادها أن الأفكار العلمانية رديفة للأنظمة الديكتاتورية، أو على أنها امتداد للاستعمار الغربي. البلد الوحيد الذي حصل فيه الإجماع حول العلمانية هو تركيا. إذ بفضل المقاومة العنيدة التي أبداها البلد، نجحت تركيا في الإفلات من الانقسام ومن الاحتلال الأوروبي، النصيب المشترك لبقية الدول الإسلامية. وبنقلها وتطبيقها قيم المحتل (الدولة-الأمة، الإثنية واللائكية)، أحدثت تركيا قطيعة مع ماض كان سيقودها حتما إلى فقدان سيادتها. وقد جاءت العلمانية لتعزيز الهوية والإثنية التركية. هذا النهج مكن العسكر التركي من القيام بدور الدرع الواقي للنظام الذي أسس دعائمه مصطفى كمال. في هذا الإطار لا يمكننا إلا القول بأن تركيا تتقاسم اليوم مع بقية الدول الإسلامية بعض الرهانات ما-بعد الااستعمارية حتى إن لم يعرف هذا البلد يوما الاحتلال الاستعماري. وإحدى النقاط التي يضيئها هذا البحث هي أن الحزب الذي يبدو أنه سليل الإسلاموية هو الذي أصبح الزعيم المنشط للمسلسل الديمقراطي وللعلمانية الحقيقية، فيما النخب العلمانية الكمالية تقدم لنا صورة عمن يدافع عن النظام السلطوي. داخل تشكيلة الأحزاب الأوروبية، وخاصة داخل الأممية الدولية، التي ينتمي إليها حزب الشعب الجمهوري، «الحزب الكمالي»، بدأت تطرح العديد من التساؤلات، أهمها: هل لا يزال هذا الحزب يؤمن بالأفكار الاشتراكية أم تحول إلى حزب وطني شعبوي يتقاسم وأحزاب اليمين نفس المنصة النظرية؟ انحصار المجتمع المدني بتحليله لتاريخ تونس، الجزائر، مصر، سوريا، العراق، إيران وتركيا، طرح بيار-جان لويزار بطريقة نيرة الرهانات الراهنة للمسألة العلمانية في بلاد الإسلام، مع تبيان أن انبثاق هذه الظاهرة، تقليدا للنموذج التركي، لم يسفر في الواقع سوى عن علمانية سلطوية كان من نتائجها المباشرة انحصار المجتمع المدني.
العلمانية غير كافية للجواب عن الرهان الديمقراطي ألم تكن العلمانية التي طالبت بها الدول الإسلامية مجرد مراوغة لتحديث الاستبداد؟ ألم تكن أيضا عاملا من عوامل استقواء الفورة الدينية واستقواء القمع للدين؟ عموما ليست الأنظمة العلمانية ولا المعلمنة régimes laïcisants هي الأنظمة السلطوية الوحيدة التي تجابه معارضة دينية. إن أخذنا نموذج العربية السعودية فإن المعارضة لنظامها تتأتى من قلب أيديولوجيتها ذاتها، فالعلمانية إذن ليست قادرة على الجواب مكان الدين. كما أنه لا يمكن نكران الطاقات الخاصة بالإسلام وتاريخه. من جهة أخرى، فالعلمانية لا تكفي للجواب عن السؤال والرهان الديمقراطي لدولة ما، بل أكثر من ذلك يمكن أن تعرقله. صحيح أن العلمانية في بداياتها الأولى ممارسة من إنتاج الدولة وتتقدم غالبا على شكل سلطوي. غير أنها لما تندرج في مسلسل دينامي، فإن النتيجة الحتمية في نهاية المطاف هي الفصل بين الدين والدولة مثلما حدث في فرنسا عام 1905. وتبعا للاتفاق الذي تم بين العلمانيين والليبراليين، تمت دمقرطة البلاد. هذه الخلاصة أو النتيجة هي ما افتقرت أو تفتقر إليه الدول الإسلامية، حيث تتجابه العديد من المجتمعات المدنية باسم الإسلام وكذلك أنظمة سلطوية علمانية أو هي في طور العلمنة دون أن تنتج حداثة الاستبداد نظاما ديمقراطيا. يتعلق الأمر إذن بتقليد قيم الدول العظمى (القوة الاستعمارية سابقا) حتى يتسنى الإفلات من هيمنتها. القاسم المشترك بين العلمانيات في البلاد الإسلامية هو أنها فرضت فرضا من طرف الدولة دون رافد آخر سوى رافد الجيش. لذا تتقاطع وتتزاوج العلمانية والنظام الاستبدادي في هذه البلدان. والنتيجة هي أن العلمانية الاستبدادية والسلطوية أنتجت مقاومة دينية إلى درجة أن الهوية الدينية أصبحت السلاح المفضل لهذه المجتمعات. وتبقى المطالبة بأنظمة علمانية مطالبة جزئية. إن محاولات العلمنة ساعدت على انبثاق مجتمعات مجزأة، و نخب متشرذمة انتهى بعضها، وخاصة من النخب الشيوعية، ب«اعتناق» الإسلام.