هذه أحوال الطقس لهذا اليوم الأحد بالمملكة    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    وزير الخارجية الأمريكي يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    الجيش الباكستاني يعلن مقتل 16 جنديا و8 مسلحين في اشتباكات شمال غرب البلاد    "سبيس إكس" الأمريكية تطلق 30 قمرا صناعيا جديدا إلى الفضاء    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي        تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري            اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصوات بلا حدود
-2- العلمانية أو فلسفة موت الإنسان؟
نشر في طنجة الأدبية يوم 31 - 12 - 2009


-3- العرب والمسلمين، في المِخْيال الجماعي الغربي
لقد أشرنا في مستهل هذه الدراسة، إلى دور المؤسسة الإستشراقية كخادمة للاستعمار، من حيث الإسقاطات الإستشراقية الخيالية، عن الوثيقة التاريخية من جهة، ومن جهة أخرى، عن ظاهرة الانتحال والسرقات الأدبية، على حساب الحقائق الفعلية. وسنتناول في مستهل هذا الفصل الثاني لهذه الدراسة، ظاهرة أخرى، لا تقل خطورتها هي الأخرى، من حيث المراجع والمصادر التاريخية. ونقصد صورة العرب والمسلمين، في المخيال الجماعي الغربي.
وأول ما نستهل به دراستنا، هو تلك التقسيمات، والترتيبات العشوائية، والاعتباطية، بل والإيديولوجية، الواعية بنواياها، التي استخدمتها المصادر الغربية، بخصوص تصنيف ما سموه ب(العرق العربي). وقاموا بإعادة مصادر ظهور كلمة (عرب)، إلى اللغة الإغريقية (سراكينْوا)، فاللاتينية القديمة، المنحدرة عنها (سَراّسينوس)، ومنحوها تفسيرات متعددة، نسوق منها على سبيل المثال: عبدة الأوثان، أبناء سارة، سكان سقارة، بل ذهب بعض المستشرقين، إلى غاية الوقاحة والابتذال، حين قاس جذر الكلمة اللاتينية، على جذر الكلمة العربية (سَرَقَ)، فكانت النتيجة، الشعب (السّارق)، الناشئ في الصحراء. ثم انتقلوا فيما بعد، إلى الفصل، ما بين العروبة والإسلام. والنية من وراء هذا الفصل،أن العرب كشعب سامي، لا قدرة لهم على التفكير التحليلي (إرنست رينان). بل الفضل يعود في هذا، إلى المعتنقين للإسلام، من الآريين وغيرهم. ثم إن الأبحاث، والاكتشافات العلمية، لا يجب أن تنسب، إلى العرب المسلمين، بل إلى الأقليات المسيحية، واليهودية، والمزدكية، والزرادشتية، التي كانت تقيم بالبلاد الإسلامية. ومن هنا، كان تعنت المستشرقين، في تمييز اصطلاحات لغوية مثل (العربية)، لنسبتها لمن كان من غير المسلمين، في مقابل الإسلامية، التي تخص المسلمين. وعلى سبيل الترتيب اللغوي، فرقوا فيمن ينتسب، إلى العائلة " السامية" العقيمة التفكير، و"الهندو-أوربية" التي تمتاز بالعقل التحليلي السليم. وليس غريبا، والتصنيف العنصري على هذه الشاكلة، أن نجد من المستشرقين، من كان حاملا لراية الترتيب السلالي، والعرقي العنصري، للجنس البشري، واضعين الآريين في القمة، وفي الحضيض، في رتبة الحيوان، وضعوا العرب والساميين بصفة عامة. ونشير بهذا الخصوص، إلى كل من (أرتور جوزيف ڭوبينو 1816-1882)، (غستاف لبون1841-1936)، و(إرنست رينان)، وآخرون لا داعي من ذكرهم. بل حتى في هذه اللحظة التي نحرر فيها هذا البحث، هنالك ضجة جديدة، أثارها مؤخرا كاتبا عنصريا، يعمل كأستاذ محاضر، بجامعة ليون الفرنسية، مجددا عهده بالأطروحات الرينانية، ألا وهو (سلفان ڭوڭنهايم).
لقد بدأت ظاهرة، طمس معالم الحضارة العربية الإسلامية، منذ عهد مبكر، سابق بقرون، لعهد الاستعمار الأوربي الأخير. ففي القرن الثالث عشر مثلا، وحسب الشهادة الوثائقية، التي يسوقها الباحث المتخصص (ألان دي ليبيرا)، خرج القس (بتراك) إلى ساحة روما العمومية، وحرق كتب ابن سينا، على مرأى من الجميع، آمرا بالعودة إلى المصادر الإغريقية واللاتينية. وتتابعت هذه الحرب الغربية على التراث الإسلامي، مرورا بعصر النهضة، فالكارثة الأندلسية، لغاية الاستعمار الأوربي الحديث، الذي كان، قد اتخذ شكله المتفوق سنة 1884م. فحركة الاستعمار الغربي، انطلاقا من هذه الفترة، استطاعت أن تسيطر على مجموع الرقعة العربية الإسلامية، باستثناء بلاد الأفغان، التي، مازال المحللون، والخبراء السياسيون، يسمونها لغاية يومنا هذا، ب(مقبرة الإمبراطوريات)، لأنها كانت تستعصي، على كل من كان ينوي احتلالها. وتوالت الضربات، لغاية ما دخل الجيش البريطاني إلى القدس منتصرا، فراح (جوزيف هنري أَلِنْبي 1861-1936) إلى قبر صلاح الدين، ووضع قدمه عليه قائلا،قولته الشهيرة:" ها نحن قد عدنا أخيرا يا صلاح الدين !"
و إبان هذه المراحل، كان قد تم طمس، وتشويه، وتزوير مجموع التراث العربي الإسلامي. ونحن من جهتنا، نقول، عربي نسبة إلى اللغة العربية، التي كانت جغرافيتها اللّسَنِيّة، تطبق لدى كل الأمم التي اعتنقت السلام، والإسلامي، لأن فضاء التفكير والإبداع، كان يتم داخل دار الإسلام، وفي فضاءها الفكري، ومثلها الحضارية.
و حين كان الاستعمار، في مدرسته الاستعمارية، قد تمكن فعلا من طمس معالم هذه الحضارة، أصبح المخلوق العربي المسلم، الذي كان من وراء هذه العبقرية، مجرد مخلوق بئيس، يمتهن السرقة، والكذب، والنفاق. فأنت حين تطلع على الأدبيات الروائية الفرنسية، عند كل من ( هونوري دي بلزاك 1799-1850)، أو(إميل زولا 1840-1902) مثلا، كثيرا ما تقف في مؤلفاتهم، بين الفينة والأخرى، على مواصفات تتعلق بالمخلوق العربي، كمخلوق جشع وكذاب ومتحايل، عالمه الصحراء، وتراثه، العبودية والفقر. وفي أقصى الحالات، تصطدم بذاك المخيال الغربي الرومانسي، الذي يسوق العربي في ثياب الشبق، المحب للجواري والعبيد. وفي هذه الأجواء الإستشراقية، المغمورة بالمركزية العرقية الأوربية، راح الجيل الأول من المستشرقين من أمثال: (نينو) و(غوبينو) و(إرنست رينان) و(طيوفيل غوتييه) و(غستاف لبون) و(برنارد ليويس) يكشفون، شيئا فشيئا، عن هذا التراث العربي الإسلامي الضخم، وذلك بالرغم من حقدهم عليه. وتلاهم جيل الثاني، من أمثال (جاك بيرك ) و(إيف لاكوست) و(ماكسيم رودنسون) و(ليفي برونسال) و(ريجيه بلاشير) و(هنري ڭوربان) و(فان غرانبوم) و(لوي ماسنيون) و(دومينيك سورديل)، الذين خطوا خطوة جديدة نحو الموضوعية، إلا أن مواقفهم من الإسلام، ظلت في غالب الأحيان معادية ومضادة. بل راحوا في بعض الأحيان، يتصدرون مراكز الإدارة النقدية، انطلاقا من المدارس والمؤسسات الإستشراقية، التي أسسوها في بلادهم، لخدمة مصالح الاستعمار، واضعين المعايير المنهجية الوضعية، التي يجب أن يقرأ من خلالها الإسلام وتراثه، فكانت النتيجة إسقاطات باطلة على هذا التراث، التي يعوزها المتأخرون، حين يسعون إلى تبرير هفواتهم، إلى المنهجية الفقه لغوية (الفيلولوجية) التي كانوا يمارسونها. قلنا، بأنهم قد تناولوا هذا الموروث العربي الإسلامي، على ضوء انفتاح جديد، يعترف نسبيا، لما للعرب من حضارة ومساهمات علمية، إلا أن نتائج دراستهم، قد جاءت مشبوهة، تتخللها فجوات كثيرة، تكشف عن نواياهم الحضارية الاستعلائية عن الآخر.
ولنعد إلى ذاك الخطاب الاستعماري لنرى كيف مارس (محو الصبورة) للتراث العربي الإسلامي، مستبدلا معالمه بمعالم مضادة، هي من وحي تراثه وتصوراته الحضارية. ففي ميدان التراث الفلسفي مثلا، أستبدل كل من الرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، ب(بيير أبيلار) و(توما الأكويني)، و(ألبير الكبير)، و(غيوم دوكام)، و(روجيه بيكون). بل طمست أسماءهم العربية، حتى لا ينتبه إليها، واستبدلت بأسماء لاتينية ك(أفيسْنْ) و(رازِسْ) و(أَفيروييس) وهكذا. أما في مجال العلوم الفلكية والفيزياء، والرياضيات فقد طمست أسماء، كل من جابر ابن حيان، والخوارزمي وابن الأدمي، والفزاري، والفرغاني، إذ استبدلت باسم، (الكاردينال بيير دايلي)، وباسم(جِرْبِرت) الذي اعتلى مقعد البابا، تحت اسم(سلفيستر الثاني). واستبدل العالم الكبير البيروني،في علم الفلك، مثله، مثل البتاني، ب(نيكولا كوبرنيك) و(غاليلي غاليلو). واستبدل في ميدان الأبحاث الطبية، والبصرية، كل من ابن الهيثم، وابن النفيس، وابن البيطار ب(هارفي) الذي نسب لنفسه،اكتشاف الدورة الدموية، التي يعود الفضل في اكتشافها، لابن النفيس. وفي ميدان الأدبيات الخرافية، استبدلت كليلة ودمنة لابن المقفع، ب(خرافات) ل(لافونتين)، والذي سرق قصصا خرافية بكاملها، دونما أن يحيل إلى مراجعها الأصلية. واستبدلت في ميدان الرسالات الأدبية الخيالية، رسالة الغفران لابن المقفع ب(الكوميديا الإلهية)، ل(دانتي). وفي ميدان الرحلات الجغرافية، استبدلت نزهة المشتاق، لابن بطوطة، برحلة (ماركو بولو) إلى الصين، وغُبِّرَ الجغرافي الكبير الشريف الإدريسي، الذي تتواجد بضعة خرائطه، بالمعهد العلمي البلجيكي، وأنه لم يكن قط. واستبدلت قصة حي ابن يقظان الفلسفية، لكل من الفارابي، وابن طفيل، ب(روبنسون كرزويه)، ل(دانييل ديفو)، والتي تحولت في الأخير، إلى فيلم سينمائي، في شخص البطل الأبيض،(طرزان). وأخرجت أفلاما سينمائية أمريكية عن دار "هوليود"، تصور العرب، تارة في أزياء رثة، وطورا في أزياء تجار للعبيد، وخدمة للمستعمرين البيض، وقطاع طرق، إلخ.
وباختصار، في مقابل هذا، نحيلكم على كتب إيجابية هذه المرة ككتب الباحثة الألمانية (سيغريد هونكه)، في كتابها الذي صدر تحت عنوان، "شمس الله تسطع على الغرب". وكتاب علي مزاهري"حياة المسلمين في القرون الوسطى"، وكتاب جلال محمد عبد الحميد موسى " منهج البحث العلمي عند العرب". وكتاب (ألدو ملّلي)، "العلوم عند العرب". وللمزيد من المعلومات، سندرج لكم بهذا الخصوص، في المراجع الملحقة بهذه الدراسة، قائمة مهمة، لأبحاث كل من (جورج سارطون)، و(ألدو ميللّي) وعلي مزاهري، وآخرون الذين جاءوا بالجديد، في هذا الميدان.
-4- إشكالية العلمانية
لقد كان من الطبيعي، أن نمهد، أو نستهل الكلام، في بحثنا هذا، عن إشكالية العلمانية، مخصصين لها دراسة نقدية وافية، تكون بمثابة الخلفية المرجعية. بمعنى آخر، الإطار المرجعي، لكل ما سبق وذكرناه، في سياق هذا البحث الوجيز. إلا أن اختيارنا قد جاء، والحالة هذه، بإدراجها، بعد معالجتنا لظاهرة الاستعمار الأوربي، في ثيابه "المركز-عرقية"، كان اختيارا له ما يبرره، من حيث المقاربة المنهجية. فهذا المخطط الاستعماري، يعود في تجدره، وتصوره الإيديولوجي، إلى مرحلة الاصطدام، والمواجهة، أي مرحلة الحروب الصليبية. وهذا المخطط قد أنشأ له مشروعا استعماريا، يبرره خطاب له دعائمه، ومواقفه التاريخية، عبر مؤسسات معينة، كمؤسسة الإستشراق مثلا، الشيء الذي بيناه، في الفقرات السابقة. إن مخططا كهذا، لا يمكن الكشف عن مشروعه، وتعرية نواياه، إلا بعد معالجة نقدية، تحليلية، هدفها الأساسي، النفوذ إلى الخطاب الحقيقي، المسكوت عنه. أي خفاياه، عبر معاينة تحليلية، تخضع للمنهجية المقارنة، التي اعتمدناها في هذا البحث. أو هذه التي ندعوها، بالمُقارَبَة "المُقارَنِيّة". إن كل ما أفصحنا عنه، وبيناه لغاية الآن، هو في مجمله، ما سكت عنه الخطاب الغربي المركز-عرقي. إلا أن الواقع المعطى، يخول لنا، في هذه الأثناء، حق القراءة التحليلية، التي قدمنا لها، في هذه الدراسة. فعلى سبيل المثال، لا أحد يشك، في أن الحركات الوطنية العربية، أو غيرها، تلك الواقعة داخل الجغرافية الإسلامية، قد خرجت منتصرة، في مواجهتها للاستعمار. غير أننا، نر عكس ذلك، تماما. نرى بأن حركات التحرير الوطنية، الفعلية، أو روادها الحقيقيون، قد وجدوا فعلا، وصنعوا فعلا، تاريخ مقاومة بلادهم، وذلك بروح جهادية خالصة، لا غبار عليها. إلا أن الاستعمار الغربي، قبل خروجه من هذه البلدان، أي قبل انصرافه المجازي، قد عمل على تصفيتهم الجسدية، واستبدال معظمهم، بأشخاص، صنع هو شعبيتهم، وخلفهم على رأس حكومات وأحزاب، قامت بعد انصرافه، في أزيائه العسكرية، كمتممة لسياسته الثقافية الغربية من جهة، وقمع أبناء الشعب، الذين لم يزدادوا إلا أمية، وتهميشا وتفقيرا من جهة أخرى. وإلا كيف بإمكاننا، أن نتفهم مثلا، تلك المصادفة العجيبة، التي جعلت من معظم هذه الحكومات، هذه التي تشكلت، قبل، إبان، ومن بعد رحيل المستعمر، على إدراج في دساتيرها الوضعية، قانون، أو قوانين، تمنع من تشكيلة أحزاب إسلامية، في مجتمعات إسلامية. نستثني في هذه الأثناء، بضعة دول تعد على رؤوس الأصابع، لأسباب استراتيجيه. بل كيف بإمكاننا، أن نفسر مواقف، حكومات عربية إسلامية، كان لها وزنها التاريخي، كمصر، وسوريا، وتركيا، والعراق، وغيرها، بالتخلي عن نظم تشريعها الإسلامي كليا، أو جزئيا، واستبداله بقوانين وضعية، مستقاة إما من، الدستور البلجيكي، كما هو الحال في مصر، أو السويسري، كما هي حال تركيا، أو الفرنسي، في مجمل بلدان المغرب العربي. يقول المستشرق الفرنسي (ج.بلاشيه)، في دراسته الصادرة تحت عنوان "القانون الوضعي في البلدان العربية " عن مجلة "بوفوار - السلطة" العدد 12 سنة 1982:" ونسوق عرضه بتصرف. يقول فيما يخص القانون الوضعي، أنه بإمكاننا تقسيم الدول العربية الإسلامية إلى ثلاثة أقسام:
-1- الدول التي أصبحت قوانينها وضعية مائة في المائة: ويتعلق الأمر بتركيا وألبانيا.
-2- دول تطبق الشريعة الإسلامية على مستوى الدولة، وتحاول في نفس الوقت، توسيع دائرة هذا التطبيق. وهي حال العربية السعودية، فيما يتعلق بالمذهب الحنبلي، والجماهيرية الليبية فيما يتعلق بالمذهب المالكي، والجمهورية الإيرانية فيما يتعلق بالمذهب الشيعي.
-3- أما باقي الدول الأخرى فإنها، تعيش على خلط القوانين الوضعية بالقوانين التشريعية الإسلامية. وكلها تشير في دساتيرها إلى الإسلام، باستثناء الجماهيرية السورية، التي شطبت عن الإسلام كمرجع في دساتيرها، ذلك سنة 1973.
نستنتج من كل هذا، بأن هذه الدول ذات المرجعية الحضارية الإسلامية، لم تحتفظ لها، إلا بالقليل النادر من التشريع الإسلامي، أي ذاك، المتعلق بالأحوال المدنية، كمسألة الزواج، والطلاق، والميراث. ومن المفارقة العجيبة، والحالة هذه، أن تركيا الكمالية، قد أسقطت من دستورها، القانون الإسلامي، مستبدلة إياه، بالقانون الوضعي السويسري، علما بأن (سويسرة) تنص في دستورها عن البروتستنتية كدين للدولة، وأن كل المواطنين السويسريين، يولدون بروتستان. هذا نموذج بسيط، نستقرأ من خلاله، هذه المهزلة التاريخية الكبرى، مهزلة استعباد واسترقاق شعوب إسلامية عن بكرة أبيها، من قبل فآت قليلة، زعمت فيما زعمت، دورها الريادي، في قيادة هذه الأمة. وإذا كانت من محصلة تاريخية بالإمكان استنتاجها اليوم، ونحن على مشارف الألفية الثالثة، بأن الأمة الأكثر تخلفا، والأكثر أمية، والأكثر فقرا وبؤسا، هي الأمة الإسلامية، بالرغم من ثرواتها الطبيعية الضخمة. ولسوف نعود لتوضيح هذه الظاهرة الأخيرة، ببعض الإيضاحات، بعد معالجتنا، لإشكالية العلمانية، ما يتعلق بها، وما يترتب عنها، من نتائج سواء كانت، ماضية، حالية، أو مستقبلية.
إن العلمانية، قد تتبادر إلى ذهن بعض القراء، مصطلحا مقرونا بمفهوم العلم، أو أنها إن لم تكن كذلك، تقع في جواره على الأقل. وهذا هو الخطأ الشاسع، والغرض من المغالطة المقصودة، من قبل أولئك الذين نحتوا هذا المصطلح. فالعَلْمانِيّة هي في بداية الأمر، كانت تعني في الأدبيات الغربية، فصل مؤسسة الكنيسة عن مؤسسة الدولة، الشيء الذي بيناه سابقا. ثم إن هذا المصطلح في الغرب، قد تطور كما تشير دائرة المعارف البريطانية، إلى التعبير عن حركة اجتماعية، تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم، من الاهتمام بالآخرة، إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها. ثم وضعت للعَلْمانية فلسفة ومؤسسات تربوية، ودوائر علمانية تدافع عنها، وتروج لخطاب ثقافتها. وكيما تعمل في المقابل، على محاربة الدين، بل الأديان، بالطعن فيها ودحضها، وتجريدها من قواها الروحية. ومن ناحيتنا، نضع الفلسفة الوضعية، وما لحق بها من فلسفات مادية، الأساس الفلسفي، الذي بنيت عليه كل هذه الترتيبات، و التوجيهات المفاهمية. وليست الحرب المعلنة عن الحجاب اليوم، في أوربا، إلا شكلا بسيطا، من أشكال الحرب على الإسلام الأوربي، التي تحمل دوائر العلمانية رايتها، في الصفوف الأمامية. وفي هذا السياق، ندرك بأن المصطلح، الذي أوجد في اللغة العربية، مشارا إليه ب"العلمانية"، في مقابل نظيره في اللغات الأوربية، قد قصد به، وبشكل متعمد، تداخلا في المفهوم، ولبسا، وتظليلا لفظيا للقارئ العربي. خصوصا من حيث صياغته على مصدر "عَلِمَ" من العِلْم. ولقد جاءت هذه المفارقة الضدية، من باب الاحتيال، بغية تحقيق هدف أيديولوجي، لا يمت إلى العلم بأية صلة تذكر. والمقصود النهائي من كل هذا، فصل دين الإسلام عن دولته، عبر الخطاب العلماني. ومن هنا، قد نتفهم ذاك الاهتمام، الذي كان يوليه المستشرقون، لهذا المصطلح، بغية إدخال الفلسفة الوضعية، في منهجية "فيلولوجية = فقه لغوية" إلى حظيرة العلوم الإنسانية. نعم إدخالها عبر طرق ومناهج ملتوية، كانت تنعت باسم المناهج النقدية العلمية. ولقد أصاب الأستاذ محسن المسيلي، في كتابه الذي صدر له تحت عنوان (العلمانية أو فلسفة موت الإنسان) عن دار النشر والتوزيع بتونس، سنة 1986، حين أشار إلى ظاهرة العلمانية قائلا:" إن الاتجاهات الوضعية العلمانية، تتجاوز العلم إلى الاعتقاد في العلم، ونفي ما سوى العِلم. ومن هنا فهي فلسفة، أو بالأحرى وثوقية جديدة. إنها تريد قلب قفص "الميتافيزيقا = الما ورائيات"، ولكن تستبدله بقفص آخر، ميتافيزيقي أيضا، وهو قفص العلمانية. فهي لم تغادر القفص بل أبقته، قلبته، وأبقت عليه، وبقيت فيه. ولذلك تحولت إلى قفص مغلق، وإقصائي لكل ما يقع خارجه. إن "العِلْمَوِيّة" نفي للعلم، منذ اللحظة التي تحول فيها العلم، إلى معتقد مغلق." كانت هذه شهادة الأستاذ المسيلي، وهي بالنسبة لنا، ليست بعيدة عن تلك التي أدلى بها الأستاذ المهدي المنجرة من كتابه (شمال-جنوب) عن دار تبقال للنشر، سنة 1992. حين نعت العلم بكونه، لا هو محايد، ولا هو موضوعي، ولا هو كوني. وهذه الفقرة الأخيرة، تقودنا إلى تسليط مزيد من الأضواء، على هذا الخلط الرهيب، الذي أريد به ذاك المخلوق الخرافي العجيب، الذي أطلقوا عليه اسم "العَلْمانية". فتكون الخلاصة بعد كل هذه الأدلة، والشهادات التي قدمناها، أن الهدف الرئيسي، الذي يوجه هذه الدراسات، والمروج لها، هو إسقاط لأدبيات الصراع السياسي الذي عاشه المجتمع المدني الغربي، وعاشته دوائره العلمانية بإزاء كنائسها، على واقع اجتماعي، وحضاري إسلامي، لا علاقة له بتاتا بدوافعها الأيديولوجية. تبقى المحصلة إذن، أن المستهدف، هو مسخ روح الأمة الإسلامية ونسفها، بترتيبات فلسفية وضعية، علمانية، أي "عِلْمَوِيّة". وليس من المستغرب، في هذا السياق التاريخي، الذي اختل فيه ميزان القوى، بين المدنية الإسلامية، والمدنية الغربية، لصالح هذه الأخيرة، أن يكون الغرب هو القائد للعبة. لعبة صنع القرارات السياسية، حدود وأشكال الأنظمة الدولية، ودعم كل الخطابات العلمانية، الموجهة إلى البلدان الإسلامية. فسلمان رشدي، كما تسليمة نسرين، كما أفلام الكارتون الأخيرة، عن حياة الرسول، ودعمها اللا مشروط، من قبل كل وسائل الدعم الدعائي، والإعلامي الغربي، والترويج لها، باسم حرية الفكر، تصب كلها في مجرى واحد، ألا وهو الدعم الأيديولوجي، للمؤسسات العلمانية المعادية للإسلام. فالنخبة المتمثلة في، سلمان رشدي، أو المستشار المصري، محمد سعيد العشماوي، أو بعض الأدباء العرب والمسلمين، المنخرطين في مسلسل الحداثة العلمانية، انطلاقا من سعيد عقل إلى أدونيس، ليسوا سوى حصانا طرواديا، تراهن عليه المركز-عرقية الغربية، بل وتدعمه ماديا وإعلاميا، من أجل اختراق ثقافة الجماهير، وإخضاعها لهذه الأخيرة كممثل رسمي لها. وإلا ما بال مثقفين، وأشباه مثقفين، عرب ومسلمين، يتحاملون على الإسلام، على مؤسساته، على اللغة العربية، بل وعلى حضارته بإطلاق، محملين إياها أسباب التخلف. وفي الواقع المزري، نخبة مثل هذه، لم تعمل لحد الآن، إلا على ممارسة التَّسَيُّح في صالونات الغرب، والتشكي من سوء أحوالها المادية، التي لا تملكها من أجل تحقيق ثورتها الحضارية، العلمانية.
فالغرب الذي يمنح شرعيته السياسية، لكل الأحزاب اليمينية المتطرفة، في بلدانه الخاصة، ويمنحها مقاعد برلمانية على المستوى التشكيلة الأوربية، هو نفسه الغرب الذي أقام الدنيا وأقعدها، عقب وصول حزب "الرفاه" الإسلامي، إلى سدة الحكم، بتركيا العلمانية، عبر انتخابات نزيهة. لقد كانت هذه الملاحظة الأخيرة، عبارة عن ملخص وجيز، للحرب الخفية الدائرة رحاها، خلف وقائع الخطابات الرسمية، ومظاهرها الإنسانية المغشوشة. وإننا والحالة هذه، لنتساءل، فيما إذا كانت الجماهير الإسلامية العريضة، وفيما إذا كان الرأي الإسلامي العام، وفيما إذا كانت الحساسية الإسلامية قد قهرت فعلا، ولم يعد لها من وجود؟ الشيء الذي سنعرض له في الفصل اللاحق.
-5- المحنة الإسلامية: حرب المستقبل في أفق الحاضر
يقول (أرتور بليغران) من كتابه السابق الذكر، "الإسلام في العالم"، وذلك في معرض كلامه، عن التوسع الاستعماري الأوربي:" للشعوب الأوربية، موروث ثقافي ضخم، انحدر إليها من قبل اليونان، والرومان، زادت في توسيعه، وإغنائه... وللشعوب الأوربية أخيرا، بالاشتراك مع بعضها، أداة تقنية، لا مثيل لها من حيث القوة، وهذا ما يخول لها السيطرة السياسية الكونية." إن هذه الفقرة البسيطة، إن دلت على شيء، فإنما تدل على حقيقة مركز-ذاتية ملموسة، وجاري بها العمل، على المستوى الفعلي والواقعي، لمجريات الأحداث. وبعبارة أخرى، إن تصريحا دقيقا كهذا، ولئن كان صدر عن لا شعور مؤلفه بحكم سياق الكلام، يفصح في خطابه، عن تصور مركز-عرقي، لهذا الغرب المصاب بفقدان الذاكرة التاريخية. فنحن هنا، أمام تصور وبناء رؤيوي، وبعد فلسفي، يسلم في فرضيته، تفوق العرق الأوربي، على باقي الأعراق البشرية الأخرى. وهذا لوحده يفسر هذه المركز-عرقية التي صار من أهدافها الليبرالية المباشرة، إخضاع العالم البشري ككل، وسوقه كرها، إلى استهلاك نماذج ثقافية، تصنع هنا في الغرب بشقيه، الأوربي والأمريكي.
وهذا الكلام يقودنا إلى مراجعة أفكارنا المكتسبة تلقينا، عن واقع حضارتنا، والعودة إلى معاينة للأوضاع السياسية، في الدول والأقاليم الإسلامية، العربية منها وغيرها. فالشيء الملفت للنظر إذا ما نحن اتخذنا الدول العربية كنموذج، هو تبني لمجمل هذه البلدان، لقوانين دستورية تمنع من تكوين أو تواجد كل حركة حزبية، أو نقابية، ذات اتجاه إسلامي علني، الشيء الذي فصلنا فيه القول سابقا. ونحن نتساءل عن دواعي حظر هذه الأحزاب، في حين كانت الأحزاب الشيوعية العربية تتميز بشرعية مطلقة، في بعض الدول. ولا يخفى على أحد، أن أكبر خطر على حضارة الإسلام، هو هذا المعتقد الشيوعي، الذي جاء ليستخلف روحانية الإسلام، بفلسفة موت الإنسان الحر. فالقراءة الشيوعية للإسلام، لم تأت كخطاب محاور، وإنما جاءت كبديل ديني مادي جديد، يدور في فلك التبعية السوفيتية. ثم إنه ثمة ظاهرة أخرى، تتعلق هذه المرة، بالأحزاب الحاكمة، التي تعوم في فلك الديمقراطية التبعية، أو في مشروعها السياسي. فهذه الأخيرة تطبل للغرب، صبح، مساء، مجددة ولائها له، ورعاية مؤسساته الدستورية، وحمايتها، والسهر على سلامتها. ومن هنا تأسست، في هذه المجتمعات المدنية العربية الإسلامية، ظاهرة الإقصاء. إقصاء الجماهير من المشاركة في نهضتها، وبنائها الحضاري. إقصائها عن طريق ما يمكن أن نسميه، بالتبني، التبني لها، لأنها منظورا إليها من فوق، من شرفات السلطات المتحكمة فيها، ليس لها، أي لهذه الأخيرة، لا النضج، ولا الثقافة، ولا الوعي الكافي في تسيير نفسها.
ثم إنه ثمة ظاهرة تاريخية أخرى، من الضروري الإشارة إليها. ونعني بها ظاهرة تواجد أقليات دينية، بالمجتمعات الإسلامية. ولسوف تلعب هذه الأخيرة، ورقة رابحة في يد الاستعمار، كأداة لتمرير المخطط. فحزب الوفد المصري، لم يكن يشتمل إبان تكوينه على أغلبية مسيحية بمحض الصدفة. يقول الخبير السياسي الفرنسي (جون لاكوتور)، بخصوص البنية التكوينية لحزب الوفد، من كتابه الصادر تحت عنوان (التحرك المصري)، الصادر عن دار النشر، سوي= عتبة، باريس سنة 1956 :" إن حزب الوفد كان يتمتع بخاصية ثابتة، ألا وهي، أهمية تواجد العناصر المسيحية فيه. وبإمكاننا أن نضيف، بأن تأثير المسيحيين في حزب الوفد هذا الذي كان يتشكل عموما من المحامين، والملاك، يفسر لوحده، تلك الدرجة العالية من الاختصاص الوظائفي، وتلك الثبوتية لدى المسيحيين في ثورتهم الزراعية." وهذا الكلام، يشبه في مضمونه، وإلى حد كبير، تلك الدعاية الصهيونية التي روجت لاستعمارها لأرض فلسطين، بمزاعم مشابهة. مزاعم دعائية، قوامها أن هذه الأرض طالما كانت بيد العرب المسلمين، فإنها كانت عبارة عن أرض خراب،يباب، حتى جاء المستعمر الصهيوني، ليحولها إلى جنان خضراء. وانظر بهذا الخصوص كتاب (جان كلود بارو) الصادر تحت عنوان " الإسلام عموما والعالم الحديث خصوصا" دار النشر لكليرك، باريس سنة 1991، والذي يروج فيه فكرة، بأن المسلمين هم أمة متخلفة، كانت كسولة، ومحتقرة لكل من الزراعة، والأعمال اليدوية، يعني الصناعة. وحتى لا نخرج عن موضوعنا، الذي رسمنا خطوطه سلفا، نعود إلى موضوع حزب الوفد، لنلاحظ بأنه لم يكن من باب الصدفة أن يكون نظيره، حزب الدستور البورقيبي الجديد، في تونس،قد نشأ هو الآخر نتيجة ظروف تاريخية، واجتماعية ساهمت في تكوينه وتوجهاته الأيديولوجية. بل إن هذا الحزب الدستوري، قد أوجد بشكل اصطناعي، نخبوي، كيما يقف كحاجز في وجه حركة الإصلاح المقاومة الإسلامية، التي كانت تقودها جامعة الزيتونة. ويقول (جون لاكروا) بخصوص الرئيس السابق بورقيبة من كتابه " خمسة رجال صنعوا التاريخ"، الصادر عن دار النشر سوي =عتبة، سنة 1961 :" حتى أكون صريحا معكم، أقول لكم بأنني لم ألتق خارج فرنسا، برجل أكثر فرنسية من الفرنسيين، سواه. ولا برجل، أقل عروبة من العرب، في الوطن العربي، سواه". وفي محل آخر من هذا الكتاب، الذي ذكرناه مؤخرا، يضيف (جون لاكوتور)، معلقا عن هذه المصادفة العجيبة، التي يشترك فيها، كل من حزبي الوفد والدستور الجديد:" قد يكون بشكل واع أم لا، فإن مؤسسة بورقيبة، تذكرنا على حد بعيد، بتلك التي قام بها حزب الوفد منذ خمسة عشر سنة، بقيادة رجلين هما: سعد زغلول، ومصطفى النحاس". نلاحظ في هذا السياق، بأن الشيء نفسه، قد حصل في الجزائر، وإننا لنتساءل، فيما إذا كان هو الآخر قد حدث بتلك المصادفة العجيبة، التي تحدث عنها (لاكوتور). فالحزب الذي أسسه فرحة حشاد، " الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري"، كان هو الآخر، استجابة، لواقع الاستعمار الفرنسي، ومتطلباته العلمانية، للوقوف في وجه مجموع الحركات الإسلامية، المتواجدة، والمناضلة على الساحة الجزائرية. وحسب (جون لاكوتور) فإن فرحة حشاد كان مثله مثل بورقيبة، يلقب نفسه "كمالا"، قدوة بأبيه الروحي كمال "أتاتورك". فتكون المعادلة و الحالة هذه، إذا ما نحن عدنا قليلا إلى الوراء، وأخرجنا النموذج "الكمالي"، من مستودع الأرشيف، ووضعناه أمامنا، لتبين لنا وبشكل واضح، بأن المخطط المنهجي، الذي كان يقود كل هذه الحركات السياسية، كان هدف الاستعمار منه، أولا وقبل كل شيء، يتركز على الإطاحة بدولة الخلافة الإسلامية بإسطنبول، واستبدالها من بعدئذ بدويلات علمانية. ووضع أرضية حزبية، نموذجية، انطلاقا من النموذج "الكمالي" الأم، تقوم عليها تشكيلات حزبية علمانية، معادية للإسلام السياسي. بل ومروجة في الآن نفسه، لكل ثقافة الاستعمار النموذجية، وقادرة بالمناسبة، على إعانته في إيجاد تطبيع لها على تربة المتلقي. لأن المستعمر بدون نخبة حاملة لأفكاره ومروجة لها، ليس باستطاعته، مهما كان نفوذ عصاه السحرية، بقادر على اختراق هذه المجتمعات بسهولة، حتى ولو استخدم من أجل ذلك، كل وسائله العسكرية، والتقنية، والمادية الإغراقية. ولعل (رنيه كالينسكي)، يعد من أهم، من عبر عن هذا الطموح الغربي، بشكل واضح ودقيق، في كتابه " الوطن العربي" حين قال:" حتى يتحقق للغرب، إحكام سيطرته على الإسلام، فهو بحاجة إلى حملة احتلال مضادة، ومتداولة على مآت من السنين. ونعني حملة، شبيهة بتلك التي قامت بها محاكم التفتيش، والتطهير العرقي الكاثوليكية، في إسبانيا للقضاء على المسلمين بها. بل إنها تحتاج إلى دعم مادي، وثقافي، ومالي لا يتصور. ولعل الاختراق الثقافي، على المدى البعيد، قد يكون هو الحل نسبيا". لقد كانت هذه ترجمتنا للنص بتصرف. وبقي تساؤل أخير، ألا وهو هل لزاما، على الحكومات العربية الإسلامية، تبني نماذج الحكم المستوردة، ولم يبق لها من عبقرية، إلا التقليد والتبعية العمياء؟
فعلى ضوء هذه الدراسة، يتبين لنا المستقبل الحضاري القريب، خارج المرجعية الإسلامية كهوية ضرورية، لا يمكن إلا أن يعود بالدمار الكلي، على المجتمعات الإسلامية. إننا لا نوهم القارئ بأننا قد وضعنا في تصورنا، سيناريو الآخر ساعة. وإنما توصلنا إلى استنتاج، قادنا إليه تصورنا عبر قراءتنا النقدية، لخطاب الواقع السياسي الحالي، المفلس. وجاء تصورنا، بأنه ليس ثمة من حل، خارج المصالحة مع المجتمع المدني، بكل الشرائح الاجتماعية التي تشكله، وتوزيع الثروات الوطنية عليه، وتجنب العنف بكل أشكاله. مصالحة تقوم على تعددية تكون هوية الإسلام الحضارية، والثقافية، والدينية، مرجعية أساسية لها. فالمتطلع إلى خريطة الحروب الدولية المصطنعة اليوم، تلك الممتدة من الشيشان، إلى الصومال، فجنوب السودان، فالعراق، ففلسطين، وفلبين، وكشمير، وأفغانستان، والطاجكستان، ونيجريا، ومحنة الجزائر مؤخرا، لأدرك مباشرة بأن الضحايا هم من المسلمين، والجغرافية المتعرضة لهذا الاعتداء، هي جغرافية إسلامية أساسا.
-6- خلاصة
لقد انطلقنا في هذا البحث المبسط، مزودين بأدوات منهجية، بغية القيام بدراسة موضوعية، لذاك الحيوان الخرافي، الذي أطلق عليه اسم "العلمانية". ولقد وقع اختيارنا، على المنهجية "المقارنة"، حسب توظيفها، من قبل رواد المدرسة اللّسنية الحديثة، كمقاربة منهجية لموضوع دراستنا. ولم نقل منهجية علمية هكذا بإطلاق، لأنه ليس في نظرنا، ما يمكن أن نسميه بالمنهج العلمي المحض، أو الخالص، خصوصا في ميدان العلوم الإنسانية. لذا فظلنا اقتراح مقاربة منهجية، تاركين للنقد والنقاد، مجال الدخول إلى بحثنا، تأييده، دحضه، الاعتراض عليه، أو التعليق عليه.
ولقد كان مفهوم العلمانية، هو محور بحثنا في هذه الدراسة، التي خرجنا فيها بمحصلة قوامها أن هذا المصطلح المبهم، قد أريد به الإبهام، بغية تمرير خطاب أيديولوجي مقصود. فهذا المفهوم الذي عالجناه إذن، هو ما يمكن أن نحدده، في الحقل المعرفي ب" المصطلح المزدوج". فهو يشير إلى العلم، من ناحية، وفي الوقت نفسه إلى مضادته والخروج عليه. إنه بعبارة أدق، غلافا أيديولوجيا، حاول المستشرقون أن يصوغوا منه، ما افترضوا فيه في حقلهم الفقه لغوي، حقيقة علمية، في مقابل الأوهام الدينية. فالمسألة منذ البداية، خصوصا في ميدان، ينتسب إلى العلوم الإنسانية، كهذا، لم تكن سوى عملية اختلاق، وليس خلق، كما أشار لذلك إدوارد سعيد، من كتابه "الإستشراق"، حين تعليقه على الدور الفقه لغوي، الذي كان (رينان) يعتقد بأنه يمارسه، في مختبره المزعوم. نقول اختلاق، وليس خلق لقراءة نقدية نزيهة، لأن المستشرقين، كانوا موجهين بهاجس إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، من مركزية أوربية، أي مركز ذاتية، ومركز عرقية. ومن هنا جاءت الفوضى الإستشراقية، فوضى الإسقاط، والمسخ، والتشويه، لمكونات الحضارة الإسلامية. ومن بعض الأمثلة، على هذه الإسقاطات المجانية، ترويجهم للإسلام كدين بدائي، يكره العلم ويحتقره، ويحقد على العلماء الأحرار، وأن محمدا ليس هو الآخر، ليس سوى رجل شهواني مدع للنبوة. وأن العرب المسلمين، يتميزون بعقلية يحكمها الخمول، والكسل، والرتابة. بالإضافة لهذا، أنهم، أي العرب، كانوا عاجزين عن التفكير المنطقي، كما هي حال عباقرة اليونان. وأنهم لم يكونوا سوى نقلة، ومترجمين أغبياء لتراث سادتهم، من حكماء أثينا، وأنهم، وأنهم، والقائمة طويلة. ولو كان الأمر قد اقتصر على المستشرقين وحدهم، لكانت المسألة واضحة، أما أن يتبنى هلوستهم ومعطياتهم، باسم الحداثة، أدباء من أصل عربي، كحافظ الجمالي، وحسين مروة، وغيرهم، وراحوا مروجين لها، فهذا مما لا يستسيغه العقل النزيه. وفي هذا السياق، نسوق على سبيل المثال، فقرة للمستشرق (برنارد ليفيس) من كتابه الصادر تحت عنوان "العرب في التاريخ سنة 1958" ص 131 حيث يقول:" إن العقل العربي، هو عقل فقهي، يجهل حتى أبسط قوانين المنطق الصوري، ألا وهو قانون السببية". بل إن مجموع الأطروحات الإستشراقية التي انتقلت صيغها بالعدوى إلى أدباء عرب، تجدها بالتفصيل في المصادر التي ذكرناها، أو لدى مستشرقين آخرين ك (ك.لوي كاردي)، في كتابه "رجال الإسلام"، أو (ماكسيم رودنسون) في كتابه "محمد"، أو (منغموري واط) في كتابه الذي يحمل عنوان "محمد" هو الآخر. وفي هذا السياق للإسقاطات اللاّ علمية، المقحمة عمدا، على واقع الحضارة الإسلامية، ستصبح دار الإسلام، حسب اصطلاحنا، مسرحا للدعارة الإستشراقية. أجل، دار تباح فيها الأعراض، وتداس فيها، ذاكرة رجال صنعوا معجزة التاريخ العربي الإسلامي، بل الحضاري العالمي. ولو كان المجال متسعا لدينا، لكنا قد عرضنا بالتفصيل، لدراسة (إدوارد سعيد) القيمة عن المستشرق (رينان) في معرض بحثه "في مجال الإستشراق"، ولبينا بالمناسبة، بعض الإشارات النموذجية، التي لم ينتبه إليها (إدوارد سعيد) نفسه. وعلى سبيل المثال، فإن ميدان الإستشراق، من وجهة نظرنا، تتمة لما لم يركز عليه (إدوارد سعيد)، لم يكن محصورا فقط، في ذاك الشرق الساحر، والفضفاض المتعدد، واللاّ محصور، الذي كان يسبح فيه كل من (فلوبير) و(لامارتين)، و(نرفال)، و(لورنس)، على بساط الرومانس والفحولة المغامرة. بل إن ميدانه الحقيقي، قد كان بالنسبة لنا، هو الإسلام الحضاري، وأداة نفوذه الإسلام السياسي. لقد كانت بداية الإستشراق متزامنة مع بداية الحروب الصليبية، وتتابعت كرد فعل للغرب، على الواقع الحضاري الإسلامي، المنافس والمضاد له. ثم تطور وتعزز مع مرور الزمن، مؤسسا له منذ القرن الثالث عشر، قواعد ومؤسسات بسيطة، انتهت مع منتصف القرن التاسع عشر، بمؤسسات إمبريالية معقدة. ولعل ظروف تنوع، فروع العلوم البحثة الحديثة، خصوصا في ميداني، الفيزياء وعلم الأحياء، ستأتي كوسيط "وضعي"، سيوظف أيديولوجيا، من أجل أن يلعب، دور المهرج العلماني، لهذه المؤسسة الإستشراقية الإمبريالية. فالعلمانية كمشروع غربي استعماري، لعلمنة الحضارة الإسلامية، أي بما معناه، إفراغها من روحانياتها، من دلائلها، ومن رموز حضارتها.
إن برنامجا استعماريا كهذا، خطط له بوسائل وأجهزة، ومؤسسات رسمية، لم يكن، في أي يوم من الأيام، دعوى صريحة إلى البناء والحوار مع الآخر. إن برنامجا استعماريا متداخلا كهذا، لا يمكن أن يكون قط، بريئا من الأوضاع والحالات، التي عاشتها الرقعة الإسلامية، والتي ما تزال تعيشها منذ مرحلة الاستعمار إلى اليوم.
تكون خلاصتنا لهذا البحث إذن، أن المستشرق في داخل دار الإسلام، قد كان إلى جانب المبشر الديني، والجندي الغازي والمقاول التجاري، قد كانوا كأدوات في يد الغرب، لاختلاق رقعة إسلامية تحكمها الطائفية والعصبية العرقية، كبديل لدار الإسلام، التي كانت رابطة للأمة.
الجزء الأول من الدراسة على الرابط التالي:
http://ar.aladabia.net/article-2814-11_1.html


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.