إن العمل الذي أنجزه عكاشة يندرج في إطار تصور نظري حيث الحركات الإسلامية ليست مجرد رد فعل لأنماط الحداثة المستلبة، ولكن يندرج ضمن استمرارية للتاريخ الإسلامي الذي عرف منذ البداية حركات متمردة باسم الرجوع إلى الإيمان الصافي. يندرج هذا العمل إلى حد ما ضمن تيار اوليفي كاري (Olivier Carré)مع تكييفه للواقع المغربي الذي درسه بشكل دقيق سواء من خلال البحوث الميدانية أو من خلال تحليل نظري موثق بشكل كبير. أطروحته لنيل الدكتوراه التي كان من المفروض أن يشارك فيها المرحوم ريمي لوفو (Rémy Leveau) تعطي لهذا البحث كل الأصالة التي يستحقها. لقد قدم أدوات وعناصر جديدة تكمل البحث الذي قامت به مليكة زغال يميز عكاشة بالفعل، داخل الحركات الإسلامية، بين ثلاث تيارات حيث يدرس بصورة معمقة اثنين منهما هما الأكثر أهمية. هناك اتجاه، يمثل الأقلية، يدعو إلى القطيعة التامة مع النظام السياسي القائم، لا بل حتى مع المجتمع واللجوء إلى العنف قصد تحقيق نظام سياسي إسلامي. هذا الاتجاه مهمش على الساحة السياسية والاجتماعية بالمغرب ولكنه ينشط أكثر في الخارج (أحداث مدريد كدليل على ذلك). أما الاتجاهين الآخرين فهما من بعيد الأكثر أهمية. والعمل الذي قام به عكاشة يعطينا تحليلا دقيقا لهما. اتجاه، حزب العدالة والتنمية، الذي يجعل من مهمته التأثير من الداخل على النظام السياسي والاجتماعي بالمغرب مع اعترافه بالملكية واندماجه في المشهد السياسي المغربي. الهدف هو أسلمة السلطة من الداخل مع محاولة التكيف مع جهاز المخزن ومحاولة السيطرة عليه بدون عنف أو قطيعة. اتجاه آخر، العدل والإحسان، يقدم اختيارا أكثر راديكالية. منظره الشيخ ياسين، الذي هو شخصية كاريزماتية في المشهد السياسي المغربي، كتب عدة كتب منها ما هو بالفرنسية حيث يدعو إلى الرجوع إلى الأيمان والإسلام الحقيقي. الخاصية الأساسية لهذا الاتجاه هو التناقض. ياسين الذي كان تحت الحراسة الجبرية وفي السجن خلال حقبة الحسن الثاني، يرفض من جهة اللجوء الصريح إلى العنف لتحقيق الإسلام. ومن جهة أخرى، يقوم بانتقاد شديد للنظام السياسي المغربي الذي قلص الإسلام وجعله مسالة فردية ناكرا له بعده الشمولي الذي يضم السياسة والدين. إن موقف الجماعة الغامض تجاه السلطة تجعل منها حركة مقبولة مرة ومهمشة مرة أخرى : المخزن يأخذ حذره منها ولكن في نفس الوقت يوظفها لإقصاء الإسلام الراديكالي. لجوء ياسين إلى مفهوم الجهاد يظهر هذا التناقض : من جهة يندد بالسلطة مع ما يتطلبه هذا من لجوء ضمني إلى العنف. ومن جهة أخرى، يرفض اللجوء إلى العنف الجسدي من اجل تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي. هذا التذبذب بين وضعيين متناقضين يمنح الفرصة لحركة ياسين كي تلعب على واجهتين، متميزا عن الإسلام الراديكالي ورافضا استئناسه من طرف المخزن الذي يلعب هو الأخر على واجهتين. هذا التناقض أو قل هذا اللعب على واجهتين هو معطى أساسي في المشهد السياسي المغربي من حيث أن كلا من المخزن والحركة الإسلامية وخاصة العدل والإحسان يجدان مبتغاهما. يظهر حزب العدالة والتنمية والعدل والإحسان التركيبة المعقدة للمشهد السياسي المغربي. أما الملكية فهي تتمحور كحكم بين هذين التيارين الإسلاميين، واحد مندمج والآخر متمرد لكن ليس إلى درجة القطيعة. بالإضافة إلى وجود تيارات لائكية حيث تتدخل الملكية عندما يكون ضروريا للحد من تأثير اتجاه ما وتشجيع اتجاه آخر. يجد المخزن شكلا آخرا من المشروعية، هذه المرة، استراتيجية وتكتيكية في مشهد سياسي يوجهه ولكن أيضا يفرض عليه دينامكية في هذه اللعبة اللامتناهية بين احتجاج مسيطر عليه (العدل والإحسان) وخضوع غير مؤكد (العدالة والتنمية). إن العمل الذي قام به عكاشة يبين الطبيعة المعقدة لهذه اللعبة في نظام سياسي مبني على توازنات صعبة قد تنزلق إذا ما حدث لأشكال التوافقات أزمة حقيقية تحت تأثير التحولات الاجتماعية. إلى حد الساعة أظهر النظام السياسي قدرة على إدماج مختلف التيارات الاحتجاجية وتهميشها حين يتطلب ذلك. البحث الذي قام به عكاشة يظهر صلابة ولكن أيضا الهشاشة المحتملة للمخزن حيث يمكن لهذه اللباقة السياسية التي يتميز بها أن تسقط في أزمة حقيقية خاصة أن الكل انغلق على نفسه في تسيير مختلف الاتجاهات على حساب التطور الاجتماعي حيث تطمح الأجيال الجديدة إلى حرية سياسية أكبر. شهدت السنوات الأخيرة صعودا ملفتا للنظر للحركات الإسلامية. تزامنت هذه الظاهرة مع انتشار الوعي الديني. كما يلاحظ بعض الباحثين، تبدو هذه الصحوة لأول وهلة، معاكسة للتاريخ. بمعنى أن التاريخ منذ قرون كان يشير إلى" نهاية الديني". وهذا ما تؤكده انتشار ظاهرة العلمانية في العديد من الدول خاصة الغربية منها. حسب هذا التصور، فان الدين كان ينحصر في النطاق الفردي. لكن مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين و بموازاة مع ظاهرة العلمانية شهدت عودة الدين في العالم وظهور الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي. كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة ؟ إذا كان البعض يرى في هذا انتقام الهي (جيل كيبل)، فان البعض الآخر ينظر إليه كرد فعل على أزمة الحداثة و ليس عودة الدين.لأن ظهور الحركات الإسلامية كاحتجاج على إخفاق الحداثة ووعودها يزكي طرح العلمانيين باعتبار أن الحداثة هي هدف الإسلاميين في نهاية المطاف. على أية حال، فان انتشار الحركات الدينية في العالم، يشكل منعطفا نظريا في الفكر السوسيولوجي. عدد كبير من علماء اجتماع الدين يفسرون ظهور الحركات الدينية كنتيجة لمسلسل العلمانية في المجتمعات الحديثة. بالنسبة لنا، فان انبثاق هذا النوع من التدين لا يمكن تفسيره ببساطة على أنه مجرد رد فعل لإخفاق الحداثة. البعد الديني و الروحي مهم جدا، ذلك أن الفرد يحس بقلق من مصيره الدنيوي والأخروي. الأسئلة الوجودية وقلق الإنسان يدفعانه للالتجاء إلى الدين من اجل أن يلقى السكينة و التوازن المنشودين. أزمة الحداثة ما هي إلا عامل مسرع ليقظة هذا البعد الروحي في الإنسان في الوقت الذي لا يهتم المجتمع الحديث إلا بما هو مادي وتقني. الإسلاميون يريدون إحياء هذا البعد الديني في الإنسان. بطبيعة الحال هذه المطالبة بالدين تأخذ مظاهر مختلفة وتبعا لذلك فان أنماط الحركة والتنظيم تختلف. البعض يسيس هاته العودة للدين باعتبار أن هذا الأخير لا يمكن أخذ كل مكانته إلا عبر السياسة (حال الإسلام السياسي). البعض الآخر يعتبر أنه لإحياء الدين لابد من الابتعاد عن السياسة. جزء مهم من عملنا هذا يهدف إلى تبيان كيف أن الحركات الدينية في الإسلام كانت مرتبطة بالدين، لكن العديد من الباحثين الغربيين خاصة يعتبرون الظاهرة حديثة :"يمكن تحديد الصحوة الدينية في سنوات 1970. انطلاقا من هذه التاريخ بدأت المطالب الدينية تترجم إداريا في شكل اجتماعي : تغيير أوقات الصلاة، الخمور أصبحت ممنوعة تقريبا على مدى السنة في المشرق، وخلال رمضان في المغرب ." نفس الفكرة يقول بها جيل كيبل (Gilles Keppel)الذي يعتبر أن الإسلام الراديكالي رأى النور بعد الثورة الإيرانية لسنة 1979 وعموما بدأت الحركات الإسلامية تفرض هويتها الإسلامية على حساب اليسار الماركسي بعد الحرب العربية الإسرائيلية لسنة 1973 . بعد سنوات السبعينات والثمانينات، التي عرفت ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة، فان أغلب الحركات الإسلامية حاليا غيرت من استراتيجيتها : من وضعهم كحركات لا سياسية إلى حركات سياسية اندماجية. تراهم الآن يهتمون بالأحداث الدولية ( الأراضي المحتلة، إيران، العراق)، كما تراهم يسيطرون على الجامعات. هذا التحول مس أيضا نمط حركيتهم : من حركات احتجاجية ضد الأنظمة القائمة إلى حركات تبحث عن الاندماج من اجل الاعتراف بهم ومأسسة حركاتهم. إن العوامل التي أدت إلى هذا التغيير متعددة : ضرورة الجواب على تحديات القرن (مساواة، ديمقراطية، حقوق المرأة، الخ). لان الحركات الإسلامية لا يمكنها رفض هذه القيم، خوفا من أن تصبح هامشية. فضلا عن ذلك، فان القمع الذي سلط عليهم دفعهم لمراجعة أنماط الحركة. الإخوان المسلمون في مصر يمثلون هذا النموذج. فبعد خروج العديدين من السجن بعد سنوات من التعذيب، أسسوا تنظيمات راديكالية و مسلحة من اجل مواجهة النظام. غير أن تحول هذه الحركات الإسلامية في أنماط حركتها نحو نوع من الاعتدال و المأسسة لا ينفي وجود التطرف. السياق الدولي المتوتر يفسر إلى حد ما هذا العنف. الحركة الإسلامية الافغانبة جلبت الكثير من الراديكالية بعد تغلبها على الاتحاد السوفيتي، فحاولت تصدير هذه التجربة إلى العالم كافة . عموما فان جل الحركات الإسلامية غيرت من أنماط حركتها ابتداءا من سنوات الثمانينات حيث اعتمدت على اسلمة من "تحت". البعض سوف يغير من فضاءه. خسارتهم، حسب بعض الباحثين لإنشاء دولة إسلامية، ستدفعهم لأن يصبحوا حركات عابرة للقارات . تهدف فرضيتنا في هذا البحث إلى تبيان أن الظاهرة الإسلامية ليست مجرد رد فعل، وبالتالي فان القول بوقتية الظاهرة لا يتطابق مع الواقع. ندحض فكرة أن زوالها مرتبط بزوال الشروط التي أنتجتها (الوضع السوسيواقتصادي المتردي، اندثار الايديلوجيات اليسارية. بالعكس فإننا نعتقد أن الظاهرة لها جذور تاريخية منذ ظهور الإسلام. لكن لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن الإسلام هو وراء ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة، وإنما يعني أن التفسير الخاص للإسلام من طرف بعض الإسلاميين يشكل القاعدة و المرجع. بمعنى آخر، إن هذه القراءة تؤسس و تضفي مشروعية على حركاتهم. إن طبيعة الخطاب الإسلامي، ونعني بذلك مرونته، يتم توظيفه من طرف هذه الحركات حيث يقرؤونه حسب هواهم. البعض منهم يفعل ذلك بحسن نية وآخرون من اجل أهداف سياسية. الحركة الإسلامية إذن ليست جديدة، وإنما الجديد فيها هو نمط حركيتها وتنظيمها، حيث تأخذ أشكال حديثة بتبنيها لنوع من التنظيم يتطابق مع تطور الأحزاب السياسية الحديثة. إن إخفاق الحركة الإسلامية لا يمس في نظرنا، إلا جزء منها، ونعني به الحركات الراديكالية. فأغلب الحركات الاحتجاجية في العالم العربي و الإسلامي ومن ضمنها المغرب الذي أخذته كمثال، تخلت عن هذه الأشكال و التصورات المتطرفة للإسلام. البعض يحاول الاندماج في النظام السياسي والبعض الآخر يركز على الجانب التربوي بهدف تغيير المجتمع في المدى البعيد و الوصول إلى السلطة بالطرق السلمية.