ما هي الدواعي التي جعلتك ترفض تفسير نشأة الحركة الإسلامية بالعوامل السوسيواقتصادية أو الثقافية أو النفسية سيكولوجية وتعتبر في المقابل أن للإسلام والتاريخ الإسلامي دورا كبيرا في تفسير تشكل الحركات للإسلامية الحركة الإسلامية؟ لم أرفض هذه العوامل، وإنما اعتبرتها عوامل مسرعة وليست محددة. فقد شكل انتشار الحركات الدينية في العالم منعطفا نظريا في الفكر السوسيولوجي، إذ فسر عدد كبير من علماء اجتماع الدين ظهور الحركات الدينية كرد فعل لمسلسل العلمنة في المجتمعات الحديثة. بالنسبة لنا، فان انبثاق هذا النوع من التدين لا يمكن تفسيره ببساطة على أنه مجرد رد فعل لإخفاق الحداثة. أزمة الحداثة ما هي إلا عامل مسرع ليقظة البعد الروحي في الإنسان. العديد من الباحثين الغربيين خاصة يعتبرون ظاهرة الحركات الإسلامية حديثة ويرجعونها إلى فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين وأنها وقتية. لكن في الواقع، الظاهرة الإسلامية ليست مجرد رد فعل. إننا ندحض فكرة أن زوالها مرتبط بزوال الشروط التي أنتجتها (الوضع السوسيواقتصادي المتردي، اندثار الإيديولوجيات اليسارية) ذلك أن الظاهرة لها جذور تاريخية منذ ظهور الإسلام. فقد نشأت حركات دينية وظهرت دول على أنقاض دول سابقة منددة بالفساد والبعد عن الإسلام الحق. ومن أمثلتها العباسيون، الفاطميون، المرابطون والموحدون. كان الخوارج أول من شكل حركة دينية احتجاجية، ثم تلتها حركة الشيعة التي نشأت بسبب الفتنة الكبرى، وبسبب خيبتهم في الثورة العباسية التي لم تحقق العدالة الاجتماعية. وفي المغرب ظهرت حركة سياسية ودينية ثورية ابتداء من 1117 ميلادية من طرف محمد ابن تومرت ضد الدولة المرابطية الذي اتهمها بتحريف الدين وأسس حركته انطلاقا من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن الإسلام هو وراء ظهور الحركات الدينية المتطرفة، وإنما يعني أن القراءة الخاصة للإسلام من طرف بعض الإسلاميين تؤسس وتضفي مشروعية على حركاتهم مستفيدة من مرونة الخطاب الإسلامي الذي يتم توظيفه من طرف هذه الحركات حسب تصورها الفكري. فمفهوم الجهاد في القرآن مثلا تفسره كل جماعة وتطبقه حسب نمطها الحركي و تصورها الإيديولوجي: جهاد سلاح بالنسبة للمتطرفين، و جهاد كلمة و تربية بالنسبة للمعتدلين. كما أن المبدأ القرآني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشكل دليلا على شرعية إنشاء جماعاتهم الإسلامية: {و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم الفائزون}. كل الحركات الإسلامية بتياريها المتطرف والمعتدل يجدان أيضا في حياة الرسول دليلهما الشرعي. فالدعويون والتربويون يستندون إلى المرحلة الأولى من حياة الرسول حيث قضى ثلاثة عشرة سنة في مكة دون قتال. في حين يلجأ التيار الراديكالي بالمقابل إلى المرحلة الثانية المتميزة بالحروب وانتشار الإسلام. يرى الإسلاميون في الرسول النموذج الأمثل للعلاقة الضيقة بين الدين والسياسة ما دام أنه كان نبيا ورئيسا لدولة وقائدا لأمة. إن الظاهرة الإسلامية معقدة وتحمل عدة أبعاد: روحية، دينية، وجودية وثقافية. و إلا كيف يمكن تفسير انضمام مختلف الفئات الاجتماعية إلى هذه الحركات؟ الفقراء والأميون والمهمشون ليسوا وحدهم المنخرطين فيها. فهناك أيضا المثقفون والأغنياء والطبقات الوسطى ولماذا ليست هذه الحركات الاحتجاجية بالضبط الطابع الإسلامي؟ إن الجديد في هذه الحركات الإسلامية هو نمط حركيتها وتنظيمها الشبيه بالأحزاب السياسية الحديثة وتبنيها لمفاهيم حديثة. ذكرت في كتابك أن من خصوصيات الحركة الإسلامية المغربية أنها تميل إلى الديمقراطية وتتجه نحو الواقعية والبراغماتية وتأخذ الظروف الوطنية والدولية بعين الاعتبار، وتتفق على اللاعنف كنمط حركي، وتؤمن بالتدرج في سلوكها السياسي، هل يمكنكم أن تذكروا بعض المعطيات التي بنيتم عليها هذه الخلاصات؟ إن انفتاح النظام السياسي المغربي الحالي مقارنة مع الحقبة السابقة والانطلاقة الاقتصادية والاجتماعية القوية التي أعطاها محمد السادس، هذا المعطى يؤثر لا محالة على الحركات الإسلامية، إذ تميل هي الأخرى إلى الانفتاح والديمقراطية ما دامت تتوفر على هامش للحركة والنشاط تشتغل داخله. نلمس هذا بشكل جلي لدى حزب العدالة والتنمية الذي شارك في الانتخابات التشريعية ثلاث مرات واستطاع الحصول على مقاعد مهمة في البرلمان جعلت منه القوة السياسية الثانية وربما القوة المعارضة الأولى. ويعزى أحد أسباب نجاحه إلى النزعة الديمقراطية التي يتحلى بها الحزب من خلال التداول على قيادته، وهو شيء نادرا ما نلمسه لدى الأحزاب السياسية و تواجد العنصر النسوي بشكل لافت داخل تنظيمه وداخل جماعة العدل والإحسان أيضا ولكن بدرجة أقل. ينضاف إلى هذا استفادتها من فشل بعض التجارب الإسلامية الأخرى التي تبنت العنف أو التغيير المفاجئ. فقد أصبح الاختيار الثوري والعنيف والتصور المثالي للمجتمع خارج دائرة تفكير الجماعات الإسلامية المغربية. نلمس إذن نوعا من النضج لديها وتطورها نحو مسلسل المأسسة، من خلال رغبتها في العمل داخل النظام السياسي ولو أن العدل والإحسان تشترط لهذا المزيد من الشفافية.فهدفها ليس هو قلب النظام والعمل خارج المؤسسات القانونية والسياسية. وما إنشاء الدائرة السياسية إلا دليل على هذا المعطى. الإسلاميون المغاربة وخاصة حزب العدالة والتنمية، يأخذون بعين الاعتبار العوائق المرتبطة بالمجتمع والدولة والضغوطات الدولية القادرة على إعاقة تحقيق مبتغاهم. هذا الذكاء السياسي تجلى واضحا في انتخابات 27 سبتمبر2002 حين قلص حزب العدالة والتنمية عدد أعضائه المرشحين في 56 دائرة فقط من ضمن 91 الموجودة آنذاك. ويعتبر اللاعنف الخاصية المشتركة لكل الحركات الإسلامية بالمغرب. البروز المفاجئ للعنف لا يشكل إلا استثناءا ولم يصدر إلا ممن يتبنونه وليس ممن يرفضونه كنمط حركي. خلصت في كتابك إلى أن عصر الإسلام المنغلق قد ولى وأصبح يترك المجال شيئا فشيئا لإسلام عقلاني معتدل يقبل الحداثة، هل يعني ذلك أن الحركة الإسلامية المغربية كان لها دور في هذا الاتجاه؟ علم الاجتماع يعتبر الظاهرة الدينية مؤسسة اجتماعية قائمة بذاتها لها وظيفتها وحركتها الخاصة بها التي تحددها أهدافها ومرجعيتها الفكرية والسياسية. فيمكن اعتبار الحركات الإسلامية، تبعا لهذه الرؤيا، كأحد الديناميات القادرة على التأثير في المجتمع والتوازن الاجتماعي. فالحركات الإسلامية بالصدى والتأثير الذي تتركه على النظام الاجتماعي والسياسي وبالاحتكاك مع الحركات والأحزاب الأخرى، كل هذا يقود إلى النضج الفكري والسياسي والديني. وبالتالي يساهم في تطوير نظرتنا تجاه الإسلام والتاريخ الإسلامي والمجتمع بشكل عقلاني ومنفتح يخدم الدين نفسه والمجتمع وضد كل تطرف وتزمت. والسؤال الذي يطرح نفسه بهذا الصدد هو: هل الإسلاميون مجرد حركات احتجاجية أم يساهمون في التنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية؟ بالنسبة لنا، يمكن أن يساهم الإسلاميون في عملية التنمية السياسية والاجتماعية والثقافية باعتبارهم حركة اجتماعية وسياسية (من خلال تأطيرها للجماهير وإيقاظ روح المواطنة ) ودينية (بعث القيم الأخلاقية) وثقافية (من خلال تجديد الفكر الديني ليواكب تطور المجتمعات). لكن هذه المهمة مشروطة بالتحلي بالواقعية والعقلانية وبشكل يقطع مع تلك النظرة اللا تاريخية والمثالية والتقديسية للأحداث والرجال.