ساهمت ثورة الإتصال والإعلام في إعادة تشكيل الخريطة السياسية والتواصلية للمؤسسات الحزبية، بل أكثر من ذلك أدت إلى إعادة تعريف السلطة والنظام السياسي والديمقراطية، فقد استطاعت هذه الثورة في تحالفها مع التطور التقني والعلمي إلى إعادة هندسة المشهد السياسي، وتذويب الحواجز بين النخبة السياسية والمواطنين. بل تجاوزت هذه الثورة كل الحدود وأحدثت تحولات مست بنية الدولة الوطنية في خضم كيان عالمي مُعَولم «التحول بزمن مجتمع الإعلام لم يمس فقط طبيعة ومكونات الدولة الوطنية أو المؤسسات القومية، أو أدوار التقنين والتنظيم الملازمة لهم، بل مس أيضا مفاهيم كبرى كانت لعقود طويلة في مأمن من كل تشكيك أو مزايدة، فمفهوم رأس المال أضحى بتات الكترونية تتنقل بين الفضاءات الجغرافية دون إكراهات كبرى. ومفهوم العمل لم يعد ممركزا بمكان، ولا محصورا بمجال بل بات في حل منهما، بفضل الشبكات الرقمية التي مكنت العمل عن بعد، والتبادل عن بعد وهكذا ».(د.يحيى اليحياوي، الأخلاق في مجتمع الإعلام، مركز الجزيرة للدراسات، ص 5، 9 سبتمبر 2014م). إنها إذن طفرة رقمية وإعلامية غيرت البُنَى المفاهيمية، وحولت الكثير من التصورات التقليدية، فالتحالف العلمي والتقني مع الطفرة الاتصالية والإعلامية أنتج لنا مفاهيم جديدة كالديمقراطية التشاركية باعتبارها أساسا مركزيا لبروز دور المجتمع المدني كآلة اقتراحية تصل إلى المستوى التشريعي، ومفهوم التواصل بما هو تفاعلى دائري عكس الاتصال بما هو خطي، والتواصل السياسي كنتاج لطفرة علوم الإعلام والتي تعتبر آليات جديدة لإدارة التعدد تعوض العنف وتعتبر أساسا ديمقراطيا (انظر كتاب تاريخ نظريات الاتصال، أرمان وميشال ماتلار، محور إدارة التعدد، ص31)، والتسويق السياسي الذي حول المشاريع السياسية للأحزب إلى منتوج قابل للتسويق من خلال عملية العرض والطلب، والصحافة المواطنة كنتاج للتطورات التكنولوجية والتي تنقل الأحداث بسرعة وتتفاعل معها بشكل جماعي، والوسائط الإعلامية الجديدة التي كسرت وسائل الإعلام التقليدية ذات البعد الخطي، أضف إلى هذا مواقع التواصل الاجتماعية التي فتحت "أكورا" العصر الحديث ذات بعد افتراضي خصصت للنقاش وتوجيه الرأي العام ووسعت من دائرة فاعلية الفضاء العام بمفهومه التقليدي كما نظر له "هابرماس" «المجال الافتراضي ليس فضاء موازيا للمجال العام الذي تحدث عنه "هابرماس"، بقدر ما هو امتداد له وتوسيع لفضاء فعله وتفاعله، إنه إغناء لأدواته ووسائله ومكوناته، وليس بناء جديدا على أنقاضه، أو بمحاذاته». (د.يحيى اليحياوي، الشبكات الاجتماعية والمجال العام بالمغرب: مظاهر التحكم والدمقرطة، مركز الجزيرة للدراسات، ص2). هذه التحولات تصب في اتجاه واحد هو عدم تمركز المعلومة، وتكسير النموذج الخطي للاتصال، والانتقال إلى الاتصال بما هو دائري تفاعلي ميزته الأساسية وضع الأفكار في غربال التمحيص والمناقشة، مما حول المتلقي من مجرد مستهلك ومتابع للتحولات السياسية إلى منخرط ومشارك، بل وموجه فاعل في اتخاذ القرار والمشاركة في صناعته «المعرفة باتت بزمن مجتمع الإعلام ملكا مشتركا تحطمت على محاربه شتى أشكال اللاتوازن والإقصاء اللذين كانا سائدين بزمن الندرة، زمن ما قبل الثورة الرقمية» ( د.يحيى اليحياوي، الأخلاق في مجتمع الإعلام، مركز الجزيرة للدراسات، ص 4، 9 سبتمبر 2014م). من خلال هذه المعطيات صار لزاما على الأحزاب السياسية أن تواكب هذه التحولات والتفاعل معها من خلال إحداث مؤسسات إعلامية موازية، والقدرة على التأسيس لخطاب سياسي قوي وجذاب، وإبداع آليات تواصلية تساهم في التسويق السياسي الجيد، وتجديد الخطاب والتركيز على عمقه وتماسكه، فلم يعد مسموحا للمؤسسة الحزبية أن تبقى ذلك الكيان المنغلق على نفسه، والذي ينتج خطابا سياسيا خطيا بكل هدوء وبلا ضجيج، يعتمد فقط على خطبة الزعيم، والمهرجانات الخطابية، وبعض المنشورات، وفي أحسن الأحوال على جريدة الحزب. تتجه المؤسسة الحزبية اليوم إلى الانصهار الكلي في عملية الانفجار المهول الذي عرفه عالم الاتصال والإعلام، وصار شعارها الجديد هو "دعه يتواصل، دعه يتفاعل" على شاكلة طفرة تكسير الحدود الجغرافية على مستوى الٌاقتصادي التجاري "دعه يمر، دعه يعمل"، فصارت المؤسسة الحزبية مرغمة على التفاعل، وإعادة تجديد آليات العمل، وصياغة خطاب جديد، وصارت مرغمة على التواصل لا الاتصال، بل صارت مجبرة على تحمل تكلفة هذا التحول، فتعدد الوسائط الإعلامية الجديدة، وانفجار المعلومة بسبب التقدم التقني والتكنولوجي قضى نهائيا على تمركز الفكرة، وجعل الأحزاب مكشوفة ومحط النقد والمساءلة، فهي تتموقع في دوامة النقاش العمومي والمتابعة التفصيلية الدقيقة، وقراراتها رهينة في الكثير من اللحظات بتوجه النقاش العمومي، مما يفرض عليها التفاعل والمتابعة وإنتاج خطاب سياسي يواكب هذه المستجدات. في خضم هذه المعطيات والتحولات الجارفة يتموقع التواصل السياسي في عصر ثورة الاتصال، الذي يرتهن بمدى استيعاب المؤسسات الحزبية لهذه النقلة التواصلية الرهيبة، ومدى قدرتها على تفكيك بنيتها التواصلية التقليدية، وتشييد استراتيجيات تواصلية عصرية متعددة الإتجاهات، فمن المستحيل اليوم أن تتغاضى الأحزاب السياسية الطرف عن دور شبكة الإنترنيت في رسم خريطتها التواصلية، فهذه الشبكة في ارتباطها الوثيق بتطورات أخرى في المجال التقني، وانفجار الثورة الرقمية والاتصالية الإعلامية أعطت فضاءات أخرى لتداول المعلومة بعيدا عن أعين الرقابة، واستراتيجيات التحكم والتوجيه، فصارت هذه الفضاءات توجه الرأي العام، وتساهم في عملية الضغط وتوجيه القرارات السياسية « أسهمت الثورة الرقمية في انبعاث طرائق جديدة لتداول المعلومة إياها، تتجاوز في شكلها وفي مضمونها الطرائق التقليدية التي كانت تتيحها وسائل الإعلام ما قبل الثورة الرقمية (…) لقد أفرزت (…) في الآن ذاته، فاعلين جددا هم في معظهم من خارج المنظومة القائمة، لكنهم غدوا، بفضل التقنيات التفاعلية الجديدة، منافسين حقيقيين لهذه المقاولات، وحتى وهم لا يتوفرون إلا على أدوات تقنية زهيدة الثمن بمقياس قيمتها في السوق ( هواتف نقالة، حواسيب محمولة، لوحات معلوماتية ….الخ» ( د يحيى اليحياوي،الشبكات الإجتماعية والمجال العام بالغرب : مظاهر التحكم والدمقرطة، مركز الجزيرة للدراسات، 8 نوفمبر 2015، ص 3). إن الميزة المركزية لهذه الوسائط أنها آنية، تتميز بالسرعة، وتتيح هوامش واسعة للتفاعل، وبالتالي تفتح أقواسا للنقاش العمومي، وتنتج في الختام توجها عاما مؤثرا. من هذه النقطة يتبين أن الأحزاب مدعوة إلى التموقع الجيد، والتمركز في خضم هذه الطفرة، بل وإنتاج خطاب سياسي رقمي يكتسح هذه الوسائط، ويشكل قوة مؤطرة، إنها الضرورة الملحة لإنتاج خطاب سياسي تفاعلي قابل للتداول والمتابعة والنشر الواسع. لم تعد المقرات الحزبية فقط المكان التقليدي لإنتاج القرار السياسي، ولم تعد خطبة الزعيم كافية لتوجيه الجماهير. لم يعد ينتظر إصدار بيان للرأي العام لمعرفة توجه الحزب، لقد انهار جدار الإتصال الحزبي التقليدي بدرجة انهيار جدار برلين، انهارت الخطية الإتصالية وتشكلت مكانها دوائر تفاعلية، وتقاطعات تواصلية تنتج المقومات الأولى لقرار سياسي في فضاءات غير تلك التي نظر لها "هابرماس"، فضاءات تتجه في جوهرها إلى التفاعل عكس التمركز، الإنتشار عكس التركيز، القوة التفاعلية عكس الدوغمائية الاستهلاكية، التواصل السياسي الرقمي التفاعلي في جميع الاتجاهات عكس التواصل السياسي التقليدي العمودي الأحادي الاتجاه. إنها بباسطة عملية انسلاخ جذرية تتجه نحو التحرر، والتأسيس لرؤية جديدة قوامها البناء التواصلي الديمقراطي، يحدث قطيعة مفصلية مع الاتصال ذو البعد الخطي. إنها عملية إنهاء أشواط الشمولية والرؤية الأحادية، عملية إعادة إنتاج تواصل سياسي يراعي الضرورة التفاعلية، والمشترك الجماعي في بعده الانتشاري الزمكاني.