شهدت العاصمة التونسية أخيرا تنظيم ملتقى دوليا حول «الاتصال السياسي في العالم العربي وإفريقيا»، بمشاركة خبراء و باحثين في الإعلام والاتصال من المغرب وفرنسا وليبيا والجزائر ومصر ولبنان والسعودية والبحرين وقطر والكونغو. وناقش المساهمون في الملتقى، الذي نظمه معهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس، بالتعاون مع مؤسسة (كونراد أديناور) الألمانية العديد من المحاور : من المقاربات النظرية والتاريخية للاتصال السياسي، إلى إشكالية العلاقة بين الاتصال والسياسة، وآليات التّأثير والرأي العام و العلاقة بين الصحافي والسياسي وشارك الخبير في الإعلام والاتصال يحيى اليحياوي بمحاضرة حول «الاتصال السياسي وجدلية العلاقة بين الاتصال والسياسة» وإثر عودته كان لنا معه الحوار التالي: شاركتم خلال شهر أبريل 2013 في ملتقى دولي حول «الاتصال السياسي في العالم العربي وإفريقيا» بتونس. كيف قاربتم مفهوم الاتصال السياسي؟ وما هو مجاله؟ ومن هم الفاعلون فيه؟ الندوة، بالأصل، لم تطرح للنقاش مسألة المفهوم، بقدر ما حاولت التعامل معه من باب تمظهراته في السلوك السياسي العام. وقد طلب مني المنظمون أن أطرح السياق العام الذي يعتمل في ظله المصطلح، كمدخل لتأطير باقي المداخلات، وقد كانت في معظمها متمحورة حول حالات خاصة بالعالم العربي وبإفريقيا. بدأت الورقة بملاحظة عامة مفادها أن التواصل السياسي ظاهرة إنسانية، اجتماعية وثقافية، قديمة قدم التجمعات البشرية، وحاجة هذه الأخيرة للتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولاحظت أنه على الرغم من قدمها كممارسة، فإنها لم تخضع للتحليل الإبستمولوجي والتدقيق المعرفي إلا أواسط القرن الماضي، لا سيما في ظل بروز الأحزاب السياسية والنقابات والتنظيمات المدنية وما سواها. وهو ما استتبعته تعريفات متعددة ومختلفة، لكنها تمحورت في معظمها، حول اعتبار التواصل السياسي كل «تواصل هادف حول السياسة يتضمن: كل أشكال التواصل التي يقوم بها الفاعلون السياسيون لتحقيق أهداف معينة. التواصل الموجه إلى السياسيين من غير المشتغلين بالسياسة، كالناخبين وكتاب الأعمدة الصحفية وغيرهم. التواصل الذي يتناول الساسة وأنشطتهم، لما تتضمنها التقارير الإخبارية والافتتاحيات والأشكال الأخرى من تناول وسائل الإعلام للسياسة». بالتالي بدا لي، من خلال هذا التحديد، أن السياسة هي مجال الاتصال والتواصل السياسي بامتياز، لا بل هي المادة الخام التي يشتغل عليها في شكله كما في جوهره. بمعنى أن الخطاب السياسي يبقى مجردا ومحصورا ومحدد الأثر، طالما لم يخضع لعملية موسطة تقني لبلوغ ذات الهدف، إما الأدوات الإعلامية التقليدية، من صحافة مكتوبة ومجلات ودوريات، أو وسائط الاتصال الإذاعي والتلفزيوني، أو بنية الإعلام الجديد الذي حملته الثورة الرقمية، وتمت ترجمته على مستوى شبكة الإنترنيت والشبكات الاجتماعية التي ترتبت عنها وما سوى ذلك. بالمقابل، يبقى البعد الاتصالي والتواصلي للسياسة الذي يقوم به الساسة، غير ذي جدوى كبرى إذا لم يتم الاتكاء في ذلك، على منابر إعلامية واتصالية تفسح له في المجال للشيوع والرواج بين الجماهير. من هنا يمكن الخلوص إلى القول بأن لا سياسة بدون تواصل، ولا تواصل سياسي بدون توفر خطاب سياسي، تركب الأدوات الإعلامية والاتصالية ناصيته لتطال الجمهور المتلقي. الورقة بحثت في هذه الإشكالية من خلال مساءلة الجدلية القائمة (أو التي يجب أن تقوم) بين حقل التواصل ومجال السياسة، ليس فقط من باب التكامل وضمان الامتداد لبعضهما البعض، ولكن أيضا من زاوية التنافر الذي قد يطال دورهما، لا سيما في الجانب التوظيفي الصرف الذي قد ينزعان إليه في الزمن والمكان. وقد آثرت أن أسائل هذه العلاقة على ضوء التحولات التي طرأت على ميدان الإعلام والاتصال، وكيف أن هذه التحولات قد دفعت بعالم السياسة إلى التأقلم معها، والفاعل السياسي إلى تطوير وتحوير خطابه تبعا للأداة المستعملة، مكتوبة أو مسموعة أو مرئية أو مقتنية للشبكات التي أفرزتها التقنيات الرقمية، لا سيما شبكة الإنترنيت ومواقع الاتصال الاجتماعي، في محاولة للتأثير على الرأي العام الجمعي بالأدوات الناعمة المتوفرة. ما تقييمكم لممارسة التواصل لدى السياسيين في العالم العربي، وبالخصوص في المغرب. وهل يتواصل السياسيون فيما بينهم؟ الورقة لم تهتم كثيرا بهذه النقطة، فقد تمت معالجتها من لدن أوراق علمية أخرى، عن واقع التواصل السياسي ببعض البلدان العربية وببعض الدول الإفريقية أيضا، والتي لا يختلف واقعها كثيرا عن الواقع المغربي. لكني ركزت، بحكم الطبيعة النظرية للمداخلة، على ثلاثة معطيات تبدو لي أن بها بعض عناصر الجواب: الأول ومفاده القول بأن مفهوم التواصل هو الأقرب للحديث في هذا الباب من مفهوم الاتصال، لأن هذا الحقل يقوم على التفاعل والتأثير في الجمهور أو الرأي العام، إما بإكسابهم معرفة سياسية، أو تأثيرا في قراراتهم وخياراته. وهو ما يستوجب في جميع الحالات، ردة فعل أو تغذية راجعة، أو حتمية من المرسل إليه، تعادل صفة الإكثار والدوام والتبادل. المعطى الثاني ومؤداه أن صفة الخطية التي تميز الاتصال عن التواصل تراجعت أو انتفت، إما بسبب الانفتاح العام للدول على الخيار الديمقراطي، أو لتراجع الدكتاتوريات وأنظمة الحكم الشمولية، أو لأن وسائل التواصل والإعلام الحديثة أصبحت تتيح إمكانيات هائلة للتفاعل مع الجمهور، وخصوصا مع برامج الحوار المباشرة، وبرامج إشراك المستمعين والمشاهدين في إبداء آرائهم بكل حرية، ومع استعانة القنوات الإذاعية والتلفزية في ذلك بشبكة الانترنيت من خلال مواقع الفايسبوك واليوتيب وغيرها. أما المعطى الثالث فيكمن في القول بأن الحديث على خلفية من الاتصال، يحيل على لغة الخطاب التي غالبا ما تكون ذات طبيعة عمودية، فوقية وإلى حد ما أبوية. في حين أن التواصل غالبا ما يحيل على القرب، على الإشراك وعلى التفاعل. وهو ما نلاحظه مثلا أثناء الحملات الانتخابية، حيث اللقاء مباشر بين طرفي العملية الانتخابية، والخطاب تفاعلي، وقد يكون شبكيا على اعتبار توظيف المواقع الاجتماعية من لدن المرشحين والجمهور. بالتالي، يبدو لي أننا بالعالم العربي إنما بإزاء اتصال سياسي وليس تواصل سياسي، اللهم إلا في فترة الحملات الانتخابية حيث يكون الاتصال مباشرا، عن قرب ودون وسائط مادية تذكر. وهو ما نلحظه بالمغرب أيضا، حيث يكون الاتصال بين الفاعلين السياسيين والجمهور المتلقي مموسطا على حد بعيد، ولا يركن إلا في الفترات الانتخابية للاتصال المباشر، أي للتواصل المبني على الآنية والتفاعلية والقرب والمباشرة. يبدو أن الاتصال أصبح مستعصيا بفعل سلطة المال، التي تشكل خطرا حقيقيا على الاختيار الحر للمواطن. الاتصال والتواصل السياسي ليس غاية في حد ذاته. إنه وسيلة لتمرير خطاب السياسي، وترويج مضمون ما يقترحه على الجمهور المتلقي، إما بغرض رفع منسوب وعيه، وهي الوظيفة التأطيرية الموكولة لكل فعل سياسي، أو بهدف إقناع الجمهور إياه واستقطابه في أفق الاستحقاقات الانتخابية القادمة. الاتصال السياسي هنا جزء من العملية السياسية، لا بل هو أداتها، لا سيما لو كانت مبنية على نظام سياسي يتغيأ التشاركية في اتخاذ القرار، في تنفيذه وفي تقييمه بالمحصلة النهائية. هذا هو الأصل في الاتصال السياسي. إلا أن ذلك يستوجب إمكانات مادية ولوجيستية وبشرية قد لا تستطيع تحملها إلا التجمعات السياسية الكبرى، التي تحتكم لهذه الموارد، أو لها القدرة على توفيرها من لدن رجال الأعمال بالبلدان المتقدمة، كما الحال بالولايات المتحدة، أو من لدن اللوبيات والأعيان كما الحال بمعظم بلدان العالم الثالث، التي ارتضت الانتخابات قاعدة من قواعد اللعب السياسي. المال بات إذن جزءا موضوعيا من العملية، لكنه ليس خطرا على الديموقراطية إذا كان مقننا وخاضعا لعملية رقابة ومراقبة من لدن المستويات التشريعية والمحاسباتية. لكنه يكون خطرا، لا سيما بالديموقراطيات «الصاعدة»، أو بالتي تدعي «الانتقال الديموقراطي»، حيث قد يكون المال أداة لاستصدار إرادة الناخب مباشرة أو بطرق ملتوية. المال السياسي خطر على الديموقراطية بكل المقاييس، لكنه مكمن خطر أيضا عندما يتقاطع مع سياسيين جهلة أو أميين أو لا يهمهم من الوصول للسلطة إلا خدمة أهدافهم الخاصة بهذا الشكل أو ذاك. ألا ترون أستاذ، بأن حق النفاذ إلى المعلومات من أهم الشروط لتحقيق التواصل السياسي؟ النفاذ للمعلومات والحصول عليها ركن أساس لبناء اتصال سياسي سليم، بعيد عن الإشاعة والمزايدة والإثارة والشعبوية. ثم هو ركن أساس لممارسة المراقبة والرقابة على المؤسسات التنفيذية مباشرة، أو على أدواتها الإدارية المختلفة. المعلومات هي مادة الخطاب السياسي والتواصل السياسي، فبغيابها لا يستطيع الفاعل السياسي، أو الصحفي أو الفاعل الجمعوي أو المتابع للحياة السياسية، لا يستطيع أن يصيغ خطابا دقيقا، أو يؤسس لسلطة مضادة بوجه من يملكون هذه المعلومات، ويتلكئوا أو يرفضوا تمكينه منها أو وضعها بالفضاء العام. من جهة أخرى، يبدو لي أنه يجب أن ننتبه أنه لا يكفي أن نسن قوانين للنفاذ، المفروض أن تتوفر العزيمة السياسية لتنزيل ذلك بأرض الواقع، وإلا فستبقى هذه القوانين حبرا على ورق، أعني لا تلزم المستوى التنفيذي وأجهزته الإدارية في شيء. بمعنى أن هذه القوانين ضرورية، لكنها غير كافية لضمان الحصول على المعلومات، لا سيما تلك المصنفة ضمن مجال السرية، أو التي لها طابع أمني أو مصاغة بطريقة فضفاضة قد لا يسهل تفعيلها. تعيش العديد من الدول العربية التي تغير فيها هرم السلطة بعد الانتفاضات الشعبية، صراعا بين وسائل الإعلام و الحكومات الجديدة . أليس هذا راجع بالأساس إلى الخلاف حول طبيعة الأدوار التي يجب أن يقوم بها الإعلام في هذه الدول؟ بهذه النقطة، يجب أن نميز بين مرحلتين: مرحلة ما يسمى بالندرة الإعلامية، أي المرحلة التي كانت فيها وسائل الإعلام محدودة وممركزة بين يدي الدولة، تمرر من خلالها ما تشاء، أي تمرر لمنظومتها ولتصورها دونما سبيل للجهة الأخرى لبلوغ هذه الوسائل. هذه المرحلة هي التي ميزت تاريخيا النظم السياسية الشمولية، التي كانت تحتكر جل وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، وتمرر من خلالها خطابها السياسي المباشر، أو الرمزي الذي يستهدف العقول والنفوس. وهي المرحلة التي لا تزال تميز العديد من النظم التي تتخوف من الديموقراطية، أو تناهض منافسة «الأغيار» لها في هذا القطاع الحساس. ثم مرحلة الوفرة الإعلامية، التي ترتبت عن الثورة الرقمية وانفجار التلفزيونات العابرة للحدود وظهور الشبكات الألكترونية، وما ترتب عنها من مواقع في الاتصال والتواصل الاجتماعي، ناهيك عن تحرير المجالات الإذاعية والتلفزيونية الأرضية التي بدأت تقوض من احتكار الدولة للمعلومة والخبر. بالتالي، لم تعد وسائل الإعلام التقليدية، التي لا يزال جزء منها تحت وقع الاحتكار، لم تعد مصدر الخبر والإخبار الوحيد والواحد، بل تم الاستيعاض عنها بوسائل الإعلام «الجديدة». من هنا جاء الاحتكاك بين السلطة و»الفاعلين الإعلاميين الجدد»، أفرادا ومجموعات، وبدا الأمر ولكأن هؤلاء ينازعون السلطة مجالا «اغتصبته» منهم، لا سيما عندما يرتكنون إلى المهنية والحرفية ويحتكمون للمصداقية في صياغة وتقديم الخبر والمعلومة. الخلفية الأساس في هذا الاحتكاك ولربما التصادم أيضا، لا سيما قياسا إلى الأدوار التي لعبتها الشبكات الاجتماعية في الانتفاضات العربية، الخلفية الأساس هنا لا تبدو لي في غياب قواعد اللعبة فحسب، بل تبدو لي أيضا في كون الوظيفة الإعلامية لم تعد من وظائف السلطة ولا الدولة، بل هي باتت تدريجيا من صلاحيات فاعلين لهم مجالهم الخاص لا تعتبر السلطة إلى عنصرا متطفلا عليه. إنهم يريدون تجريد الدولة جملة وتفصيلا من هذه الوظيفة. وهذه مسألة لا تزال تتموج، وتستحق الانتباه والمتابعة في القادم من سنين.