في مجتمعات عربية مغلقة وأخرى تتهجى أبجديات الانفتاح، طرحت التقنية الرقمية منذ بداية دخولها إلى العالم العربي مشكلة الرقابة، بدءا من الأسرة والمدرسة، وصولا إلى الدولة وقادتها، فالحاكم العربي، الذي أسس بنيان حكمه على التعتيم والاختزال وتشويه حقائق الواقع وتزييفها، دون أن يتم اكتشاف جرمه، صعب عليه أن يأتيه حين من الدهر يصبح فيه مجبَرا على أن يعمل في المكشوف، فالمواطن العادي قادر على الوصول إلى المعلومة بحرية وأمان ودون أدنى مجهود... بل ويصبح فاعلا في تغيير الواقع، في عالم يصبح فيه الافتراضي رحم يولد منها الواقعي والوقائع الملموسة، في شتى تفاصيلها المسموعة والمرئية، الشاردات والواردات، تصبح موردا للافتراضي وضمانة لمصداقيته، فقد طرحت أحيانا مشاكل ذات أبعاد أخلاقية لدى الشباب، وهنا نتذكر الفتاوى الأولى التي أصدرها شيوخ الوهابية في السعودية، والذين حرّموا، تماما، التعاطي مع الأنترنت، ثم في مرحلة ثانية، ونظرا إلى كون التقنية الرقمية لا تدع مجالا للاختيار، فقد أوصوا الأنظمة بضرورة ممارسة شتى أنواع الرقابة على «الشبكة»، حيث تمت الاستعانة بخبراء وبشركات متخصصة تقوم بانتقاء المواقع وتحجب ما لا يمكن معرفته. هذا أخلاقيا، أما من الناحية الأمنية، فقد طرحت علوم الإعلام مشكلة حقيقية بالنسبة إلى الأنظمة المغلقة، أو التي تستفيد من استمرار الوضع المغلق، خاصة بعد أحداث 11 شتنبر، والتي تمت كل التنسيقات خلالها في «العالم الافتراضي»، كما يحكي العقل المدبر للهجمات، حيث أظهرت التنظيمات الإرهابية قدرة كبيرة على التكيف مع الحرية التي يتيحها العالم الافتراضي، ليتبين أن الحرب على ما يسمى «الإرهاب» لم تكن حربَ بنادق وآليات وتمركز للمقاتلين فقط، بل أيضا حربا معلوماتية، حتى إن الولاياتالمتحدةالأمريكية تعترف بقوة خصمها «القاعدة» في هذه الحرب المعلوماتية. لقد بات بإمكان بن لادن أو الظواهري أو غيرهما من «اللاعبين» المختفين تسجيل رسالة صوتية أو فيديو في مخبئه ثم يقوم بتحميله في حاسوب وإرساله نحو كل بقاع العالم، ليُسمع صوته، وما يحدثه ذلك من زعزعة للأمن وتشديد للحراسات وحركية أمنية وسياسية واستخباراتية دؤوبة، لتفكيك رموز المقول واستنباط المسكوت... فما بين مؤتمرين للمعلوميات عقدا عبر العالم، نظمت منظمة «اليونسكو» أولََهما في فبراير من عام 8791، والثاني في تونس عام 5002، «جرت مياه كثيرة في النهر»، كما يقال. فقد عقدت منظمة «اليونسكو»، بالتعاون مع مكتب ما بين الحكومات للمعلوماتية (IBI) المؤتمر العالمي الأول لإستراتيجيات والسياسات المعلوماتية في مدينة ترمينيلوس في إسبانيا وكانت الحواسيب والمعلوماتية، حينها، في بداية انتشارها، أما شبكات المعلومات فقد كانت خاصة ومحتكَرة من لدن بعض الحكومات والمنظمات الدولية والعسكرية. ورغم ذلك، كان هناك اهتمام عالمي من قِبَل المنظمات الدولية والحكومية المعنية بمناقشة سياسة تبادل المعلومات عبر الحدود وأمنية المعلومات واحترام خصوصية الفرد والتشريعات القانونية وغيرها من الأمور التي تتعلق بالفجوة المعلوماتية بين الدول المتقدمة ونظيرتها النامية، التي بدت ظاهرة وملموسة في ذلك المؤتمر، الذي شاركت فيه جهات حكومية وشركات ومنظمات دولية وإقليمية، حيث كان حضور العرب فيه «باهتا»، بحضور ممثلين فقط، أحدهما من دول الخليج العربي والآخر من المغرب... في الوقت الذي مثل معظمَ الدول عدد كبير من المختصين والمعنيين، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، كان وفد إيران يتألف من 07 عضوا ووفد إيرلندا من 06 عضوا وتَشكَّل وفد إسرائيل من 57 شخصا... أما القمة العالمية لمجتمع المعلومات، والتي عقدت في تونس في الفترة ما بين 61 و81 سنة 5002، فقد عرفت ما يزيد على 52 ألف مشارك من ممثلي الحكومات والشركات والمنظمات من كافة دول العالم، حيث تقدمت تونس للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 8991 باقتراح تنظيم القمة الثانية، ليُعقَد الاجتماع الأول في جنيف في دجنبر 3002، والذي طرح عدة إشكالات، منها: هل من سبيل لتجاوز سياسة الأمر الواقع: السيطرة الأمريكية المطلقة على الشبكة، في اتجاه إدارة مشتركة للشبكة تجعل القرار والسياسة فيها لا تستقل بهما دولة واحدة؟ ثم مشكلة تتعلق بالمعايير المستخدَمة من قِبَل الدول في الإباحة أو الحظر، أي مدى حقوق الأفراد والجماعات في الوصول إلى مصادر المعلومات وفي تداولها. وإذا كان الخلاف حول المسألة الثانية يسيرا، باعتباره مندرجا ضمن المعايير الدولية للحقوق والحريات التي على الدولة أن توفرها لشعبها، حتى تكون دولةَ حق وقانون، فإن المسالة الأولى عويصة، بسبب إصرار الولاياتالمتحدة، باعثة هذه الشبكة والمتحكمة فيها والمستفيد الأكبر منها، على رفض كل محاولة للتنازل عن هذا الامتياز، بذرائع شتى، مثل «مقاومة الإرهاب» وعصابات الإجرام. فما يهمنا في تاريخ علاقة العرب بالثورة المعلوماتية هو أنهم كانوا مخطئين في تقدير حجم هذه الثورة، أما اليوم، فليس هناك رئيس أو زعيم أو ملك عربي لا يتوفر على موقع على شبكة الأنترنت، يحاور ويناقش ويستمع، بل منهم من لا يتردد في دخول المواقع الاجتماعية الشائعة، كالقذافي ومبارك وابنه جمال والملك الأردني وزوجته رانيا وعبد الله صالح، رئيس اليمن... وهم أشخاص يمكن لأي كان أن يدخل إلى غرف الدردشة الخاصة بهم، وهو أمر، إن نحن فكرنا فيه طويلا، يعتبر ثورة بكل المقاييس، ثورة في مفهوم العامة والخاصة، ثورة في مفهوم المركز والأطراف، ثورة في مفهوم الحاكم والمحكوم... ثورة في مفهوم «صناع الثورة» كان منشور «ما العمل؟»، للينين، «دستورَ» الثوار عبر العالم، وخاصة ثوار بلدان العالم الثالث، التي لم تشهد ثورات صناعية وتطورات في علاقات الإنتاج، لأنه -بكل بساطة- يبرر إمكانات قيام ثورة ضدا على قوانين المادية الجدلية لماركس، وكانت شعارات مثل «لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية» و«لا يستطيع القيام بدور مناضل الطليعة إلا حزب يسترشد بنظرية الطليعة»، تؤكد أن الثورات الشعبية تقتضي، بالضرورة، تجميع وتربية واختبار طليعة بروليتارية تقود الثورة العفوية للطبقة البروليتارية، التي لا يمكنها إلا أن تكون نقيضا للنظام القديم... اليوم، كم هو قديم هذا الكلام وكم هو بعيد المنال، ليس لأن المشكلة في الأفكار، بل لأننا في عالم جديد يتجاوز كل مقولات الثورة التقليدية، فثورات اليوم يقودها شباب ربما لا يعرفون حتى اسم لينين أو تروتسكي أو ماو، وإن سمع بهم، ففي درس في مادة التاريخ.. شباب يصنع الأحداث من خلال وسائل جديدة كليا، تعتمد برامج الاختراق والتجسس والقرصنة ونشر المعلومة على أوسع نطاق، شباب طليعي إنما تقنيا وليس إيديولوجيا، لا ينتمي إلى حزب طليعي ولا إلى تنظيم سري يصدر البيانات ويعلقها في الأمكنة العامة تحت جنح الظلام، فلم يكن لينين وأتباعه يعتقدون أن الثورة العارمة يمكن أن تأتي من «عالم افتراضي» مسيَّر ب«فأرة»... لم يكن كل الثوار الماركسيون يعتقدون بإمكانية وجود ثورة بلا بندقية، فالثورة الرقمية أغنت الشعوب التواقة إلى الحرية من مشاق حروب العصابات والاختباء في الجبال والغابات واختصرت عليهم خطورة الاجتماعات السرية والتنظيمات الخيطية ومتابعات «المْقدّْمين» و«الشيوخْ» في الأزقة والأحياء الشعبية، فالآن يمكن أيَّ فرد يملك حاسوبا ورصيدا في الأنترنت أن يصبح «فاعلا» سياسيا واجتماعيا، وسيجد، بالضرورة، من سينصتون إليه، دون أن يسألوه: من أنت أو ما هي جنسيتك أو نواياك أو شهادتك الدراسية؟ ففي «العالم الافتراضي»، كل الأعضاء متساوون في صنع الحدث والإسهام فيه.. فلم تعد صناعة الثورة حكرا على «الأنتلجنسيا» وعلى الحزب الثوري، بل إن ما وقع في تونس هو أن الأحزاب التقليدية وجدت نفسها وسط «موجة» أكبر منها، صحيح أنها قد توظفها، ولكنها لن تقف ضدها... لقد ودع الثوار الجدد في تونس ومصر والجزائر منشورات الثوار القدامى، أحرقوا -وإلى الأبد- «ما العمل»، للينين، والثورة الثقافية لماو، «مهامنا السياسية»، لتروتسكي، وأحرقوا مهدي عامل وحسين مروة وحافظ الياسين وغيرهم... أحرقوا كراريسهم وتأويلاتهم وكل اليوتوبيات أيضا، فاحتضنهم التطور التكنولوجي... ففي الوقت الذي أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده في «سيدي بوزيد»، اشتعلت المواقع الاجتماعية حرارة واختفى «فيروس» المراقبة من العالم الافتراضي، في مجتمع عانى -بسبب القيود على حرية التعبير وغياب الشفافية- وانتبه الحالمون بالثورة إلى دور التطور التقني في حسم الأحداث، بشكل سريع لم يتوقعه بن علي نفسُه، ففي ما مضى، كان الاستعداد للثورة يستغرق سنوات، وبات الآن لا يتطلب سوى ساعات... تونس.. الأولى في كل شيء!... تونس «الخضراء» هي الأولى عربيا من حيث التطور الإلكتروني، وهي الأولى التي تطيح بنظامها ثورة رقمية، والأولى أيضا، التي يصبح فيها مدون شاب اعتقل قبل أسبوع من سقوط النظام بتهمة العصيان، بعد رحيل النظام، أولَ وزير ينتمي إلى مجتمع الأنترنت، وفي نفس الوقت، أصغر وزير في تاريخ تونس الحديث لا يتجاوز عمره 32 سنة. انعقد، في تونس في 5002، مؤتمر عالمي هو «مؤتمر مجتمع المعلومات»، تحت إشراف الأممالمتحدة، وكان على مرحلتين، توفيقا بين تنافس محموم على استضافته، جرى بين دولتين هما تونس وسويسرا، انعقدت المرحلة الأولى في سويسرا والثانية في تونس، وحضرته وفود رسمية وشعبية من كل أنحاء العالم، لما تمثله شبكة الأنترنت من تحديات على مختلف المستويات، بما يجعل إدارتها مسألة بالغة الأهمية، تتصل مباشرة بسيادة الدول، من جهة، وبعلاقة كل دولة بشعوبها، نت جهة أخرى. وقد حاولت الحكومة التونسية في هذا المؤتمر أن تمحو صورة كونها من أسوأ الأنظمة الديكتاتورية في قمع الإعلام، لكن المؤتمر حمل دروسا جمة لم يستوعبها النظام التونسي آنذاك، فقد استمات هذا النظام في انتزاع «شرف» الاستضافة، لما يقدمه لنظامه من تزكيات دولية، ردا لأصوات الناقدين لملفه الحقوقي والإعلامي والسياسي.. فكان حريصا على مواجهة التحدي باستضافة مؤتمر إعلامي دولي يدور حول أحدث وسائله: الأنترنت، ليحصل على «شهادة» على ما يمكن لبلد صغير محدود الموارد أن يبلغه من مستويات تحديث تقني ومن قدرات عالية على تنظيم مؤتمر دولي يستقطب حوالي 02 ألفا من المشتغلين في الأنترنت والإعلام عامة، فيضيف إلى الشهادات المتهاطلة عليه، تزكي ملفه التنموي الاقتصادي وملفه الاجتماعي -تحريرا للمرأة- تزكية أخرى في مجال التقنيات الحديثة، تقنيات الحاسوب، ليتبين أن حديثه عن ثورة المعلومات كان سطحيا، بدليل أنه حاول -بكل ما أوتي من جهد- معارضة موجته إبان اندلاع الاحتجاجات، فكسرته الموجة في أقل من خمسة أسابيع... فتونس هي الأولى في استعمال التقنية الرقمية والأولى، التي تطيح بنظامها التقنية ذاتُها، فقد احتلت تونس المركز الأول في إفريقيا وفيالعالم العربي في «مجتمع المعلوميات»، كما صنفها التقرير العالمي حول تكنولوجيات الاتصال والمعلومات، الصادر عن «منتدى دافوس الاقتصادي العالمي»، من بين 331 دولة شملها التقرير، وفي نفس الوقت، صنفتها منظمات عدة ضمن البلدان الأكثر عداء لانتشار المعلومة، منها تقرير لمنظمة «صحافيون بلا حدود»... ولأن الثورة الرقمية لا تتعلق بالعواطف وبوجدانات البشر، فقد كانت إرادة المتواصلين على صفحات المواقع الاجتماعية، مثل «يوتوب» و«فيسبوك» و«تويتر»، و«دايلي موشن»، ومواقع إخبارية شهيرة، مثل «ايلاف» و«الجزيرة»، أكبرَ من إرادة الطغاة المستبدين، والأمر أشبه ب«تراجيديا»، فما كان النظام يدعي أنه السباق فيه هو نفسُه سبب انحداره... قاد سليم عمامو، وهو مدون شاب، لم يتجاوز عمره ال23، ثورة من خلال مدونته في تونس واشتهر بين التونسيين بأنه ناشط سياسي ضد نظام حكم الرئيس المخلوع «بن علي»، حيث كان أول مدون تونسي يدعو إلى مسيرة ضد الحكم البائد في 22/5/0102 والتي اعتقلته الشرطة في الأسبوع الأول من يناير الأخير، عقب تذمر الشعب من سياسة الحكم البائد واعتقلته قوات الأمن التابعة لنظام «بن علي»، الهارب بتهمة قرصنة المواقع الإلكترونية الحكومية، بينما كان السبب الرئيسي للقبض عليه هو هجومه المستمر على نظام «زين العابدين بن علي»، حيث كانت كلماته تلهب حماس الشباب التونسيين، فضلا على الوثائق التي كان ينشرها لفضح النظام السابق... ومن الأشياء التي انفرد بها سليم عمامو أنه اكتشف تجسس الأجهزة الأمنية على البريد الإلكتروني الخاص به وبالنشطاء السياسيين، الذين أمر الرئيس المخلوع بمراقبة أنشطتهم الإلكترونية وحساباتهم البريدية الخاصة ب«غوغل»، الأمر الذي جعل العديد من مستخدمي «النت» في تونس يشُكّون من اختراق إيميلاتهم ومواقعهم ومدوناتهم الإلكترونية. وقد أطلق سراحه يوم 31/10/1102، ليكون ذلك متزامنا مع رحيل الرئيس الهارب «بن علي».. إلى هنا، الأمور طبيعية جدا، إلا أن عمامو فوجئ باتصال هاتفي من أحد وزراء الحكومة الائتلافية حكومة (الوحدة الوطنية) التي تم تشكيلها في تونس، أُخبِر من خلاله أنه مطلوب على الفور.. تصور عمامو أن جهازا أمنيا سوف يعتقله مرة أخرى، إلا أنه فوجئ بأنه قد تم اختياره كاتب دولة لدى وزير الشباب والرياضة التونسي، ليكون أول مدون عربي يُعيَّن عضوا في حكومة الوحدة الوطنية... «طوفان» الرقميات كما هو معلوم، فإن الحالة السياسية في العالم العربي فريدة من نوعها: كل الدول التي عاشت نفس وضعنا في عقود الحرب الباردة غيرت أنظمتها، وخاصة أنظمة أمريكا اللاتينية وآسيا الشرقية، إلا العالم العربي، حتى إن هناك قاعدة تقول إنه ليس هناك رئيس عربي سابق على قيد الحياة، فالرئيس السابق دائما ميت، والقبضة الأمنية الحديدية كانت إستراتيجية هؤلاء الزعماء في القضاء على كل الأصوات المعارضة، وقد نجحوا في ضمان عقود «مريحة» وما استتبتعه من فوائد مادية تقدَّر لدى الزعماء العرب بمئات الملايير من الدولارات.. وما يهمنا هنا هو كيف أذهبت الثورة الرقمية لمعاصرة اطمئنانهم وراحة بالهم، فالثورة الرقمية جعلت الزعماء العرب يراقبون، بتوتر، المتظاهرين التونسيين الشبان، وهم يجبرون رجل تونس القوي، الذي تقدم في العمر، على التنحي عن السلطة، ويتساءلون عما إذا كان سيتعين عليهم أيضا تغيير أساليبهم الراسخة العتيقة من القمع السياسي، فالعالم العربي لم يعد تحركه بيانات الورق المعلقة في الأماكن العامة جنح الظلام أو البيانات التي يكتبها أصحابها بلغة العموميات أو المزايدات، والتي يمكن في الأخير مراقبتها ورصد أصحابها والتعامل معهم، إنها دعوات من كل الأنواع ولكل الناس: إصلاحية وجذرية، إسلامية وعلمانية، ماركسية ويسارية وطنية، أفرادا وجماعات، لا تجمعها إلا عوالم الافتراض، مراهقين وشبانا، الكل يقول كلمته، فردا، فردا وجماعات جماعات، ولا أحد مقصي أو مقموع أو منسيّ... إن «الحالة التونسية» ودور الإعلام الرقمي في حرق مراحلها والإسراع بقطف نتائجها «درس» لكل الحكومات العربية، التي ما تزال تعتمد على الإجراءات الأمنية المتشددة وعلى الرقابة الصارمة على وسائل الإعلام ودعم الاحتياجات الأساسية لتهدئة الاستياء، لكون القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الاجتماعية، من خلال الأنترنت، يمكن أن تفلت من الأساليب الصارمة ويمكنها أن تدمج بسرعة إحباطات الشبان، في مناطق معزولة ومحرومة، في حركة واسعة. إن التغيير في العالم العربي جارٍ واتساعه قادم باضطراد، ففي عالم عربي غير ديمقراطي وقمعي وغير عادل، كان التعتيم الإعلامي وتحريف الوقائع الوسيلةَ المثلى للأنظمة العربية، فالنيران التي أشعلها «البوعزيزي» وأنبتت «ثورة الياسمين» في تونس، امتدت لتشعل أرض النيل غضبا، بعد أن أُعلِن عن لهيبها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وما زال شعاع نيران «البوعزيزي» آخذا في النمو هنا وهناك، بعد أن انتشر على صفحات «فيسبوك» و«تويتر»، فوسائل الاتصال، من مواقع التواصل الاجتماعي، الإيميلات، «يوتوب»، والأجهزة الخلوية، مكنت مئات الآلاف من التواصل خلال فترة زمنية قصيرة وأثرت على الحضارة البشرية، حين تحولت من الدور الذي أنشئت من أجله، لتصبح مكانا لتجمعات تطرح أفكارا سياسية وتعلن عن أرائها بكل حرية... لقد أثرت الثورة الرقمية على الحراك الشعبي الذي يشهده العالم العربي، لاسيما أن الشعوب العربية شابة ومتمكنة تقنيا، مما جعل مواقع التواصل الاجتماعي و«يوتوب» مصادر معلومات للفضائيات أثناء ثورة تونس، فقد تحول كل تونسي إلى مواطن/ صحافي. لقد أدى التواصل عبر هذه المواقع والوسائل التكنولوجية إلى تمكين فئات عمرية لم تكن متواجدة في المشهد السياسي سابقا من المعلومات ومن تبادلها، فهي ليست منخرطة في أحزاب أو تيارات ولم تحقق أي مطالب تذكر في السابق، مما أعطاها نكهة شعبية وشبابية، حيث اتفق هؤلاء الشباب على منظومة من القيم تخص الحرية، العدالة، كرامة الإنسان، الحق في الحصول على عمل، ومطالب اجتماعية أخرى، تحولت في ما بعدُ إلى مطالبَ ذاتِ طابع سياسي. الثورة الرقمية تقدس الفرد يحكي مجموعة من اليساريين المغاربة، في سيرهم الذاتية التي كتبوها بعد الإفراج عنهم، في إطار مسلسل «الإنصاف والمصالحة»، كيف كان البيان الحزبي أو المنشور النقابي الداعي إلى الإضراب أو إلى مقاطعة الاستفتاء، دليلا خطيرا لإدانة صاحبه، أخطر من المخدرات.. وكيف يتم وضع مخططات سرية ومحبكة لتعميمه، حتى لا يتعرض حامل هذا البيان أو المنشور للاعتقال، والذي سيعني نهايته -بكل ما تحمل الكلمة من معنى- حيث كان يوظف أطفال ونساء، أو رجال يصطنعون حالة الحمق ويلبسون لباس المجانين، لتمرير البيان من مدينة إلى أخرى، وأحيانا يقتضي نشر البيان أشهرا عدة ليصل إلى كل فروع التنظيم النائية، وأحيانا، كان النظام يجهض الإضرابات والاحتجاجات، لكون البيان لم يصل إلى «من يهمهم الأمر» وتم السطو عليه «في منتصف الطريق»... اليوم، صار كل هذا ينتمي إلى التراث وإلى متحف الذاكرة. لقد تابع العالم، عن كثب، الاحتجاجات التي لم يسبق لها مثيل، والتي هزت تونس، عبر القنوات التلفزيونية الفضائية العربية ومن خلال الأنترنت، وهي ثورة لم يسبق لها مثيل، لكون الإعلام الرقمي ساهم في إظهار حجمها، في حين أن تونس شهدت قبل ذلك تمردات خطيرة، ولكن لم يشاهدها أحد، وبالتالي لم تنتشر «عدواها»...
الثورة الرقمية نقلت الحروب الواقعية إلى العالم الافتراضي لقد قلصت الثورة الرقمية والمعلوماتية خسائر الشعوب والمضطهَدين وضخّمت خسائر الحكام، فإذا كان النظام التونسي قد قتل 200 تونسي فقط وأحدثت صورهم كل هذا «الزلزال»، فإن القرن العشرين، في ما قبل الثورة المعلوماتية، شهد «مجازر» جماعية حقيقية لملايين الضحايا، دون أن تترك الأثر نفسَه، بل أضحى الناس يشككون في وقوعها أصلا، وبالتالي لم تخلف الصدى النفسي الذي خلفته صور التونسيين المقتولين برصاص «القناصة» المحترفين، فقد تمت إبادة مليون ونصف المليون من الأرمن على أيدي الأتراك العثمانيين، وفي ألمانيا، ارتكبت النازية الهتلرية في الفترة بين 8391 و5491، مذابح «الهولوكوست» ضد اليهود والسلاف والشيوعيون والغجر والأسرى الروس، راح ضحيتَها ستة ملايين إنسان... وفي سنة 2391 -3391، قام ستالين بإبادة 7 ملايين من الأوكرانيين، بتجويعهم حتى الموت، ثم قام «الخْمير الحمر» بإبادة جماعية للسكان في قرى كمبودية واقترف النظام الدكتاتوري في العراق مذابح «الأنفال»، مستهدفاً إبادة الكرديين في «كردستان».. وفي إفريقيا، ارتُكِبت مذابح جماعية من قبل مقاتلي «الهوتو» ضد السكان من قبائل «التوتسي» في رواندا.. وآخر هذه الفظاعات المذابح الجماعية في إقليم «دارفور»، من قبل قوات «الجنجويد»، المدعومة من الحكومة السودانية. لكن التاريخ، عندما يسجل هذه الجرائم، يسجلها بطرق تقليدية تعتمد الرواية و»العنعنة».. لذلك لم يكن رد فعل العالم تجاهها قويا، بل وأحيانا مُشكِّكا، فالقيمة الكبرى للإعلام الرقمي هي التوثيق وتقديم الأدلة القاطعة على ما يدين المجرم، قبل تماديه في جرمه. فما أوقف النظام التونسي وما يمنع اليوم النظام المصري من تقتيل الآلاف ليست «الطيبوبة» ودماثة الخلق، بل لأن هذين النظامين يعرفان أن كل «الشاردات والواردات»، مما يقع في الأرض، لا بد أن يراه العالم كله، وفي حينه، مهما بُذل من محاولات ل»حجب» الرؤية... وإذا عدنا إلى التاريخ القريب فقط، في سوريا، التي ما زالت ترزح تحت نير عائلة «الأسد»، سنجد نماذج من الموت والرعب والقتل، ارتكبها نظام حافظ الأسد في حق سكان مدينة «حماة»، حيث قام -وفقا لإحصاءات منظمات حقوقية سورية وعربية- بقتل أكثر من 03 ألفا من المدنيين!.. حيث إبادة أُسَر بكاملها في هذه المدينة في شهر فبراير 2891، ولم تفرق بين طفل رضيع وامرأة ورجل مسن، ولم يعلم العالم بهول ما وقع إلا بعد «استقرار» الوضع الأمني وسيطرة النظام نهائيا على المدينة... فطبيعة النظام التونسي أو الليبي أو المصري أو الجزائري لا تمنعها من تكرار مجازر مدينة «حماة» السورية، وإنما الذي يمنعها الآن هو الإعلام والثورة المعلوماتية... ينسحب الأمر نفسه في مجزرة «صبرا وشاتيلا»، فالعالم سمع ما وقع وانفعل على قدْر ما سمع، ولكنْ لن يتمكن جزارو الدولة العبرية من تكرار فعلتهم، والهروب بجلدهم من الافتضاح في «العالم الرقمي» الجديد، ففي حرب لبنان 6002، شاهد العالم بكامله إذلال أسطورة «الجيش الذي لا يُقهَر»، لأن الإعلام الجديد لم يترك للدولة الصهيونية فرصة لتشويه الوقائع وادعاء انتصار لم يكن لها... يستفاد من هذه النماذج أن الفرق بين الماضي والحاضر ليس في كون قيم التمدن فعلت فعلها في السياسي العربي أو في الساسة، بعموم القول، بل الفرق هو بين زمن التعتيم، المنتمي إلى الماضي، وزمن الوضوح، المنتمي إلى الزمن الحالي. الحرب اليوم إعلامية أولا، حرب لا تدار بالطريقة التي نظر لها الإستراتيجي الصيني سين تزو أو المحارب الأسطوري هنيبعل، تماما كما لا تدار بطريقة «الميمنة والميسرة»، التي اشتهر بها خالد بن الوليد، لأنها لا تتطلب وسائل مادية، كالتي يفترضها الجيش الجرار، والذي على قادته اختيار توقيت ومكان المعركة وأساليب إداراتها إلى غير ذلك مما تتطلبه الإستراتيجيات العسكرية، فالزمن هو زمن رياضي فيزيائي محض، والمكان هو مكان افتراضي يحسب حسابات رياضية لا مكان فيه للسهل أو المرتفع، كما كان يشترط سين تزو... أما أساليب المعركة فلا تحتاج من صاحبها إلى توظيف ملايين البرامج الموجودة على الشبكة، لتدمير موقع أو نشر معلومة أو قرصنتها، فما كانت ستقوم به الطائرات الإسرائيلية في ضرب مفاعل «بوشهر» النووي الإيراني تكفَّل به فيروس إلكتروني واحد أرسلته إسرائيل وأد إلى تعطيل المفاعل، حيث عطله لأشهر، دون أن يترك فرصة للعالم ليحتج أو يندد، وطبعا، دون أن يؤدي إلى رد فعل كبير من طرف إيران، لأن في ذلك اعترافا بهزيمتها العلمية.. فالحرب اليوم «حرب معلوماتية»...