1- سيطرة الحزب الواحد وضعف التعددية السياسية 2- غياب مبدأ التنافس على الحكم وتداوله 3- معوقات قيام ديمقراطية وتعددية سياسية 4- الديمقراطية والمعوقات الاجتماعية 5- الديمقراطية والمعوقات المرتبطة ببنية الدولة 6- هشاشة القوى الديمقراطية 1- سيطرة الحزب الواحد وضعف التعددية السياسية رغم النقاش الواسع الذي تثيره مسألة تجاوز النظم التسلطية والتحول نحو الديمقراطية في الوطن العربي منذ عدة عقود، لا يوجد هناك اقتناع بأنها تشكل أولوية بالنسبة للمجتمعات العربية إذا ما وضعت بجانب مسائل خطيرة مثل مسألة مواجهة حركة الاستيطان الصهيوني في فلسطين التي لم ينجح العرب في وضع حد لها بعد ثلاث حروب إقليمية مدمرة ومقاومة فلسطينية مستمرة منذ نصف قرن على إعلان دولة إسرائيل، أو إذا ما وضعت بجانب مسألة التنمية ومواجهة تحديات الإفلاس الاقتصادي وما ينجم عنه من مخاطر الإفقار المتزايد والبطالة المستفحلة والانتفاضات الداخلية المحتملة والمتوقعة. ولا يزال هناك قسم كبير من الرأي العام السياسي يعتقد أن نظام التعددية والديمقراطية بما يتضمنه من غياب المراقبة المباشرة على الفضاء العام وإباحة التنافس والصراع بين الأحزاب السياسية وحرية التعبير والتفكير، قد يساهم في توفير تربة صالحة لتزايد النفوذ الأجنبي وتنمية الصراعات الداخلية التي تهدد بتصديع الكيان الوطني وربما العودة نحو قيم الطائفية والعشائرية والمحافظة الدينية. ويلتقي هذا التفكير النابع من الحرص على حد أدنى من الانسجام الداخلي الوطني مع رأي النخب الحاكمة التي تعتقد أن الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية ومنع التدخل الأجنبي.. كل ذلك لن يكون ممكناً من دون تقييد حرية الرأي والتعبير والحد من الحريات السياسية والتنطيمية، بل ومن دون فرض الأحكام العرفية. ” لا يزال الجدل قائما حول أولوية الحديث عن التعددية والديمقراطية في العالم العربي، إذ يرى البعض وخاصة الفئات الحاكمة أن الحفاظ على الأمن والاستقرار أولى وأن الحريات تهدد باتساعها تلك الأولويات ” والنتيجة هي أنه رغم بعض مظاهر التعددية الشكلية التي تعرفها بعض النظم العربية بقي العالم العربي من أقل المناطق تأثراً برياح التغيير القوية التي هزت المعسكر السوفياتي والاشتراكي سابقاً كما هزت النظم العسكرية والدكتاتورية في معظم جنوب أميركا وأفريقيا وآسيا، كما أن تحرر هذا العالم من نير النظام السياسي التسلطي أو الشمولي لا يزال إشكالياً بالمعنى العميق للكلمة، فلا تزال النخب الحاكمة بعيدة جداً عن أن تقر وتعترف بمبدأ صدور السلطة عن الشعب، وبحق هذا الشعب في المشاركة فيها فردياً وجماعياً، بل في قول رأيه فيها من دون طموح للمشاركة، ولا تزال الوصاية على المجتمعات هي العقيدة الرئيسية التي تحكم ممارسات النخب العربية الحاكمة، مع تعدد الحجج التي تسند إليها هذه النخب وصايتها وطرق التعبير عن هذه الوصاية وأشكال ممارستها. فالسياسة -سواء أوجدت مظاهر للتعددية أو لم توجد- لا تزال معتبرة مسألة اختصاصية لا يحق لمن كان ولا لأي كان أن يدلي بدلوه فيها، وبالأحرى المطالبة بالتدخل في مسائلها وقضاياها. إنها محصورة بفئة محددة من السكان، يمكن أن تكون عائلة أو عشيرة أو أسرة مالكة أو حزباً واحداً أو تياراً سياسياً معيناً يعتبر أن كل ما عداه من تيارات سياسية -حتى حين يقر بوجودها- غير قادر على خدمة المصالح الوطنية والدفاع عنها. هناك بالتأكيد بعض الانفتاحات التي لا يمكن إنكارها لكنها لا تغير في نظري من السمة الرئيسية للأنظمة السياسية العربية الراهنة، أو لمعظمها على الأقل، وهي لا تأتي غالباً من منطلق الإيمان بضرورة تحقيق الديمقراطية أو بنجاعة وأهمية المشاركة الشعبية بقدر ما تأتي نتيجة شعور بعض النخب المسؤولة بعمق الأزمة وسعيها عن طريق بعض الانفتاح إلى إصلاح النظام التسلطي والواحدي أو إنقاذه. ومن هنا لا ينبغي البناء كثيراً على هذه التحولات والانفتاحات والرهان عليها، فهي لا تصبح ذات قيمة مقياسية إلا عندما تمس بالفعل مبدأ المشاركة الفعلية في القرار من قبل رأي عام استقر وتهيكل وما عدا ذلك من مظاهر السماح بأشكال مختلفة ومسيطر عليها من التعددية تحت إشراف أجهزة الأمن التي تمارس وحدها القرار السياسي في نهاية المطاف أو تشكل الأداة الرئيسية لممارسة السلطة ودعم النخبة التي تحتكرها، فلا يمثل إلا تكتيكاً سياسياً استخدم منذ عقود ولا يزال من قبل الأنظمة ذاتها، ولا يشكل قطيعة حقيقية مع احتكار القرار والتحكم، بل والتلاعب به من قبل المجموعة الصغيرة الحاكمة مهما كانت طبيعة العصبية التي تستند إليها. إن الذي يميز الانفتاحات السياسية التي تنبع من المسارات التي يمكن تسميتها بالفعل مسارات التحول الديمقراطي أو الانتقال نحو الديمقراطية عن تلك التي تهدف إلى تعزيز الدكتاتورية أو التغطية على التسلطية، هو الغاية التي توجهها في المسار العام. فهي لا تأخذ قيمتها كخطوة على طريق التحول الديمقراطي إلا إذا كانت بداية لوضع حد لمبدأ الوصاية السياسية على المجتمع والرأي العام وللاعتراف بالحق الذي لا يصادر للشعب في تقرير سياسته بنفسه عبر ممثلين منتخبين بنزاهة وبطريقة دورية. ويعني الانتقال عندئذ التدرج في تطبيق هذا الحق سواء من حيث ضيق أو اتساع دائرة المشاركين في التقرير السياسي، أو من حيث المراحل الانتقالية للوصول إلى تعميم حق هذه الممارسة السياسية. وحتى في المغرب الأقصى الذي يبدو وكأنه خرق القاعدة، من الصعب أن نقول إن طريق الانتقال لا رجعة فيه، لأنه لم يقر بشكل واضح بعد مبدأ ومنطق السيادة الشعبية. إن الديمقراطية جاءت عن طريق التفاهم والاتفاق بين الملك الراحل والمعارضة السياسية التي نجحت في إثبات وجودها خلال الفترة الماضية، وكان الدافع الرئيسي لذلك لدى القصر هو قطع الطريق على احتمال تفاهم بين المعارضة الاشتراكية والمعارضة الإسلامية، مما كان يمكن أن يهدد وجود الملكية ذاتها في مرحلة دقيقة لانتقال السلطة. لقد وجد القصر أن إدراج المعارضة الاشتراكية في الحياة السياسية هو الوسيلة الوحيدة لتجنب الانحدار نحو مواجهة حتمية مليئة بالمخاطر. وليس لدي اعتراض على ما حصل كخطوة أولى وقد شجعت عليه، إنما لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الاعتراف بحق المعارضة في التداول يعني الإقرار بمبدأ صدور السلطة عن الشعب أم أنه استجابة لأزمة متوقعة للنظام. ثم إننا لا ينبغي أن نسحب تجربة المغرب على التجارب العربية الأخرى، فمن الواضح أن الدول العربية التي تسيطر عليها نخب علمانية قد فضلت مواجهة المعارضة الإسلامية الواسعة وسحقها، ولم تجد حاجة في سبيل تحقيق ذلك للتحالف مع القوى شبه الديمقراطية، بل إنها في مواجهتها القاطعة للمعارضة الإسلامية أجبرت المعارضة العلمانية على الاصطفاف وراءها بتبعية واستزلام كاملين. وبالمقابل لم يكن بإمكان ملكية مثل الملكية المغربية أن تقوم بمثل هذه المواجهة أو تخاطر بها من دون أن تخسر الأساس العميق الذي تقوم عليه، وهو التوحيد بين الشرعية التاريخية والشرعية الدينية لسلطة الأسرة الشريفية. وهنا لعب الطابع الديني للملكية دوراً غير مباشر في الدفع نحو الديقراطية. 2- غياب مبدأ التنافس على الحكم وتداوله يشكل هذا الرفض العام والجامع في المنطقة العربية لمبدأ صدور السلطة عن الشعب وحقه الكامل في مراقبتها -حتى عندما تسمح النخب بوجود مؤسسات برلمانية أو انتخابات شكلية- القاعدة التي تقوم عليها الحياة السياسية المزورة للشعوب العربية، وهو الذي يفسر أن هذه الحياة السياسية لا تزال بشكل عام محتجزة وأسيرة تماماً في معظم الدول العربية، ولا يزال من الصعب الحديث عن تنافس حقيقي ونزيه على الحكم أو تداوله في عموم البلاد العربية. ففي مصر التي عرفت بداية التعددية في فترة ما بعد الاستقلال منذ عام 1970 مع مجيء أنور السادات إلى الحكم، لا تزال السلطة السياسية حكراً على حزب الرئيس منذ ثورة الخمسينيات وهو الحزب الذي ولد من الحزب الحاكم في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ونجح في الاستمرار في الحكم مع تغيير جميع عقائده وسياساته. ورغم مرور ثلاثين عاماً على الانفتاح السياسي في هذه البلاد لم يتطور أي شكل من أشكال المشاركة السياسية للنخب المعارضة أو للمواطنين عموماً في القرارات المصيرية، ولا تزال التعددية تراوح في مكانها مع هامش لا يتغير من حرية التعبير والتنظيم. ” يلاحظ أن مساحة الحرية والديمقراطية والتداول السلمي في الدول العربية تنحسر لصالح النظم الأحادية سواء أكانت أشخاصا أم أحزابا ” أما في الجزائر التي همت بالانتقال نحو التعددية منذ 1988 إثر الأزمة التي عرفها نظام الحزب الواحد، فقد نجح الفريق العسكري الذي يسيطر عملياً على مقاليد الأمور في منع أي تحول سياسي حقيقي في اتجاه المشاركة السياسية، وكانت الحرب الداخلية ولا تزال وسوف تبقى لفترة طويلة ربما هي التكريس المباشر والدائم لأزمة التحول الديمقراطي. وفي العراق -أكثر مما حصل في مصر وسوريا- كانت التصفية السياسية المباشرة والمنهجية للتعددية الموروثة عن الحقب السابقة هي السمة البارزة للتطور السياسي، ولم يكن من الممكن الحفاظ على الحكم المطلق والأحادي من دون الدخول في حروب داخلية وخارجية مستمرة كان من نتيجتها التدمير السياسي والمعنوي والاقتصادي للمجتمع والبلاد معاً. أما في سوريا فقد نجح الحزب الواحد الذي وضع يده على مقاليد الأمور منذ عام 1963 تحت حماية قانون الطوارئ في شق جميع الأحزاب وتمزيقها وتحويل القسم الأكبر منها إلى واجهة لتعددية شكلية لا وظيفة لها سوى تمجيد الحزب الواحد الذي ضمن لها عوضاً عن المشاركة في السلطة مشاركة في المنافع والامتيازات. وفي ليبيا التي أراد لها معمر القذافي أن تكون جمهورية أكثر من كل ما سبقها من جمهوريات فأطلق عليها اسم الجماهرية الكبرى، تكاد السياسة تقتصر على استعراض ذاتي لمواهب شخص واحد، وهو نفسه غالباً ما يضن على شعبه بتوضيح رأيه السياسي، فلا تفتقر البلاد إلى التعددية فحسب ولكن إلى الحكم السياسي. وفي السودان الذي عرف حركة شعبية ديمقراطية أطاحت بالنميري منذ منتصف الثمانينيات، آلت الأمور في النهاية إلى حكم عسكري منقسم على نفسه، وبدل أن يقود انهيار نظام الحزب الواحد إلى التعددية، عمق النزوع نحو الاقتتال الداخلي من دون أي أمل في الخروج من دوامة الحرب المستمرة منذ عقود بين الشمال والجنوب. وفي تونس لم يعمل إبعاد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة على توسيع دائرة المشاركة السياسية كما كان متوقعا، وإنما ساهم في التضييق المتزايد على الحريات الفكرية والتنظيمية حتى لم يبق منها شيء. وربما كان الاستثناء الوحيد في مسار التطور السلبي هذا في العالم العربي هو المغرب الأقصى الذي شهد أول تجربة حكومة تناوب وطني بفضل الحوار الذي بدأ منذ بدايات التسعينيات بين الملك والمعارضة بقصد تجنيب البلاد -كما سبق وأشرت- مخاطر انتقال السلطة في مناخ من التوتر وانعدام الثقة بين الحكم والمعارضة وفقدان الأمل في المستقبل لدى أغلبية الشعب. وليس الحال كذلك بالتأكيد في المملكة العربية السعودية التي لا تزال تعتبر الممارسة السياسية ذاتها أمراً غريباً على ثقافة البلاد وتقاليدها وتفضل الاختباء وراء غلالة الحكم باسم الدين وإخفاء العرف العائلي الحاكم وراء التعاليم القرآنية. ومن الواضح في جميع هذه الأمثلة أن العالم العربي لا يزال يفتقر في جميع دوله إلى نموذج من الحكم السياسي الحي أي القادر على بلورة حد أدنى من الإرادة الجمعية والتعبير عن المصالح المتعددة والمتباينة للمجتمع والعمل على تقنينها وتوفير الإطار المناسب للتوفيق فيما بينها وتجاوز تناقضاتها وحلها بطريقة سلمية. 3- معوقات قيام ديمقراطية وتعددية سياسية يعزو العديد من الباحثين غياب التعددية السياسية والديمقراطية في العالم العربي إما إلى الثقافة السياسية التقليدية المستمدة من الإسلام، أو إلى ضغط الوضعية شبه الاستعمارية التي عرفتها ولا تزال تعرفها البلاد العربية التي توجد في منطقة حساسة من الجيوسياسية العالمية، والتي تتميز باحتوائها على أهم احتياطيات الطاقة في العالم، أو أخيراً إلى المشكلة الإسرائيلية وما أثارته من استجابات كان من ثمرتها زيادة الاستثمار في القوات المسلحة وتضخم هذه القوات من حيث القدرات المادية والسياسية معاً، وهناك من يرى أيضاً أن الديمقراطية كانت ضحية للأولوية التي أعطيت لمسألة التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ” تسيطر تفسيرات محافظة لحركة المسلمين السياسية في التاريخ على أفكار الكثير من المنظرين العرب الذين يقدسون فعل الإنسان في التاريخ ويخشون نقد العديد من حقب التاريخ لأسباب عديدة ” بالتأكيد يلعب التفسير السائد للإسلام اليوم -وهو تفسير محافظ ومعاد للغرب وقيمه الثقافية والسياسية معاً- دوراً مهماً في تقليل فرص نمو الوعي الصحيح بشروط تكون هذه البنية المفقرة وآفاق تغييرها، كما يعلب دوراً كبيراً في عرقلة نشوء وعي ديمقراطي صحيح أو في إبطائه أو تشويشه خاصة عندما تظهر الديمقراطية بالنسبة لقطاع من الرأي العام وكأنها معادية للدين. وبالمثل تلعب الهيمنة الإمبريالية -القوية استثنائياً في منطقة المشرق العربي- وأداتها الرئيسية وشريكتها معاً الاستعمار الصهيوني دوراً مهماً أيضاً في ترسيخ هذه البنية الإفقارية بقدر ما تضيق من خيارات النخب المحلية وتردعها عن اتخاذ مبادرات مستقلة جريئة. لكنهما لا يفسران لوحدهما تفكك الوعي الديمقراطي القائم ولا الكساح البنيوي الشديد وبالتالي لا يفسران التعثر الذي تواجهه عملية الخروج من النظم التسلطية والشمولية العربية وتفكيكها وبالتالي انغلاق آفاق الانتقال نحو الديمقراطية التي تشكل كممارسة تاريخية موضوع تفكيرنا. وبدل أن تفسر غياب الديمقراطية تدفع الأطروحة التي تشدد على سيطرة الثقافة التقليدية إلى إضفاء الشرعية في الواقع على النظم التسلطية القائمة بقدر ما تربط مستقبل هذه الديمقراطية وقدرة المجتمعات العربية على الانتقال إليها بتغيير جذري في الثقافة وتجعل من هذا التغيير شرطاً لأي خطوة في اتجاه الحياة السياسية والفكرية الحرة. وقد قاد هذا التفكير ولا يزال إلى موقف يبرر استخدام القوة في سبيل تغيير الثقافة الدينية والاجتماعية ونشر ما يسمى بالعلمانية وبث الروح العقلانية والعلمية في المجتمعات العربية. أما الأطروحة الثانية التي تجعل من الضغط الاستعماري والتبعية منطلقاً لفهم تردد النخب في بناء نظم سياسية ديمقراطية فهي تثبط همم أي قوى تغييرية وتدفع للاستقالة السياسية والمعنوية بقدر ما تروج لموضوعية خاطئة وخطيرة مفادها بأن النخب المحلية غير قادرة على انتزاع أي هامش استقلالية في سلوكها بمواجهة قوى الهيمنة الدولية، وهي تفسر التبعية بصورة ميكانيكية وسطحية يفهم منها أن النخب التابعة لا عقل لها ولا إرادة خاصة ولا تقوم إلا بالتنفيذ الآلي والمباشر للأوامر التي تعطى لها وتطلب منها. والحال أن التبعية لا تعني العبودية بالضرورة، وليس هناك ما يمنع النخب المحلية -حتى تلك المعتمدة إلى حد كبير على الحماية الأجنبية للبقاء في السلطة، وليست جميعها كذلك- من أن تتخذ مواقف مستقلة وتبلور خططاً وإستراتيجيات مستقلة نسبياً عن إستراتيجيات الدول الكبرى تهدف إلى خدمة أهدافها الخاصة، بل ليس هناك ما يمنعها من الوقوف في وجه بعض هذه الإستراتيجيات والأهداف الكبرى التي تريد أن تفرضها هذه الدول إذا كان ذلك يتعارض مع مصالحها. إن التبعية تفترض حسابات أدق للمصالح توفق بين حاجات التحالف مع الدول الكبرى من جهة وحاجات الحفاظ على المصالح المحلية للنخب الحاكمة من جهة ثانية، بما في ذلك الحد الأدنى من الصدقية أمام الرأي العام المحلي. ولذلك فليس هناك تبعية تلغي وجود النخب المحلية الحاكمة ومصالحها، ولكن التبعية -كل تبعية- تفترض علاقة معقدة ومرنة لتقاسم المصالح بحسب ميزان القوى القائم بين النخبتين المحلية والعالمية. فقد ترفض النخب التابعة القواعد العسكرية الأجنبية اليوم وتقبل بها غداً، وقد تطالب بنظام عالمي اقتصادي جديد وتوقع بعد سنوات اتفاقات الشراكة المتوسطية بل الشراكات الإستراتيجية مع الولاياتالمتحدة أو الدول الأوروبية. وبالمثل كما كان من الدارج القول إن الحصول على نسب عالية من النمو والسعي نحو توزيع أكثر عدالة للدخل يستدعي وجود نظم قوية قادرة على اتخاذ القرارات الصعبة وضمان الاستقرار وإزالة الانقسام بين صفوف الشعب، فإن من الدارج اليوم القول بأن غياب الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحياة السياسية كان هو السبب الأول ربما في إخفاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمر يتعلق في الواقع بمفهوم التنمية ذاته، فقد أصحبت الدوائر الدولية تنظر إلى التنمية اليوم بشكل أساسي كتنمية سياسية وثقافية في الوقت ذاته التي تنظر إليها كتنمية اقتصادية ولا تميز بين هذه الأبعاد المختلفة. أما فيما يتعلق بدور الصراع الوطني الذي فرضه وجود إسرائيل في عرقلة التوجهات الديمقراطية فهو مزدوج التأثير، فمن الممكن أن يدفع ذلك إلى إخضاع جدول أعمال التحول الديمقراطي لجدول أعمال الصراع والمواجهة، وبالتالي تأجيل البحث في مسألة السلطة ونمط ممارستها حتى تحقيق التحرير، أو أن يشجع بالعكس على إدراج الديمقراطية كعنصر أساسي في إستراتيجية المواجهة باعتبار أن ما تقدمه الديمقراطية من إطار لحل النزاعات الداخلية بالطرق السلمية والقانونية هو شرط لا بد منه لتحقيق الوحدة الوطنية الحقيقية في مواجهة العدو الخارجي. وقد أظهرت التجربة أن تأجيل الاستحقاقات السياسية بحجة تأمين شروط مواجهة الاستعمار أو العدوان لم تساعد على إزالة الاحتلال ولكنها نقلت الأزمة إلى داخل المجتمعات العربية ذاتها التي شهدت حروباً داخلية عديدة في العقدين الماضيين. والواقع أن هذه الأطروحة لا تفسر غياب الديمقراطية بقدر ما تقدم مبررات لتغييبها، وبعكس ذلك فإن تحقيق التحولات الديمقراطية السياسية -أي تغيير نظام ممارسة السلطة من حيث الغايات والمبادئ والقواعد- يشكل رافعة للانتصارات الوطنية. كما يقود كسر احتكار السلطة حتماً إلى إعادة توزيع أفضل للثروة، وإدخال المجتمع أو إشراك أوسع فئاته في الممارسة السياسية ومناقشة القرارات بصورة علنية وعامة يضاعف أيضاً من الشعور بالمسؤولية الوطنية ويحد من قدرة النخب الحاكمة على مصادرة السلطة والموارد العامة لخدمة مصالحها، وبالتالي يزيد من قدرة المجتمع على مواجهة التحديات الخارجية. وقد نتسائل اليوم كيف نجحت النخب القائمة في تثبيت أطروحة أن تطبيق مبدأ وقاعدة الديمقراطية في اتخاذ القرار يمكن أن يسيء إلى موقف المقاومة للنفوذ الأجنبي أو حتى للاحتلال، وأن الانفراد في القرار في القضية الوطنية يعطي مردوداً أكثر من المشاركة فيه من قبل المجتمع. ربما جاء ذلك نتيجة لتسويد مفهوم يظهر الديمقراطية كما لو كانت رديفة للتعدد والاقتتال والتنازع بين أبناء الشعب الواحد بدل أن تكون -وهذا أصلها- إطاراً للتوحيد والجمع عن طريق احترام قاعدة الأغلبية وتكوين آلية مقبولة واضحة ومقياسية لاستخراج هذه الأغلبية. في مقابل هذه الإطروحات السائدة هناك في نظري مجموعتان من العوامل الموضوعية يمكن أن تفسرا بشكل أكبر تعثر الديمقراطية وتباطؤ السير على طريقها، وهو الطريق الذي تسير فيه اليوم، وسوف تسير فيه جميع الدول والمجتمعات الإنسانية، فالديمقراطية لم تعد نموذجاً لشعب أو ثقافة أو مجتمع، ولكنها الصيغة الوحيدة التي تبدو اليوم في منظور القيم والمفاهيم السياسية السائدة قادرة على أن تؤسس لماهية الإنسان كإنسان سياسي، أي كمواطن حر ومسؤول وصاحب هوية سياسية تجمعه مع غيره من المواطنين. وحيثما فقدت أو غابت غاب شعور الإنسان بإنسانيته السياسية، واضطر إلى العودة إلى قيم التعصب الديني أو الطائفي أو القبلي أو العائلي بعد تحجير هذه القيم وإفسادها معاً، أي بعد أن تتحول إلى أساس للنزاع والصراع وتغذيه السلوكيات الهمجية. تتعلق مجموعة العوامل الأولى بصيرورة المجتمع نفسه وبتكوين الرأي العام وتتعلق الثانية ببنية الدولة ونموذج السلطة التي نشأت بعد الاستقلال وظروف ولادة هذا الاستقلال. 4- الديمقراطية والمعوقات ينبغي القول منذ البداية إن المجتمعات العربية هي بشكل عام مجتمعات شابة قليلة التجربة بالممارسة السياسية الحديثة حتى بالنسبة لدول نامية مثل دول أميركا اللاتينية، ولا تزال تعيش في قسم كبير منها وتعتمد في إعادة إنتاج لحمتها وتضامناتها الداخلية إلى حد كبير على مؤسسات وهياكل وقيم قديمة ترجع إلى ما قبل السياسة الحديثة من أسرة وعائلة وعشيرة وطائفة وجيرة.. إلخ. أما الخبرة السياسية الحديثة -أعني العمل في إطار تضامن مواطني يجمع الأفراد من وراء انتماءاتهم وارتباطاتهم الأهلية الخاصة- فلا تزال ضعيفة جداً. كما أن الخبرة التي تراكمت خلال الحقبة الأولى من ممارسة الحياة السياسية الحديثة في منتصف القرن العشرين لم ولا تنتقل بسهولة وأحياناً لم تنتقل بتاتاً إلى الأجيال الجديدة وتعرضت إلى انقطاعات كبيرة فيها. فعدم الاستقرار عموماً للنظم السياسية وتكرر الانقلابات العسكرية وغير العسكرية وغياب التفاعل بين النخب السياسية الفلاحية والمدينية والعسكرية والمدنية المتنازعة والطامحة إلى السلطة وتصفية بعضها لإرث البعض الآخر، كل ذلك ساهم ولا يزال يساهم في هذا الانقطاع في انتقال الخبرة وبالتالي في تراكم تجربة سياسية حية بما تشتمل عليه من ممارسات نموذجية وتقاليد وتقنيات وقيادات وأصول معروفة ومتبعة. ” تقف الخبرة الديمقراطية العربية عند مستوى متدن لا يرتقي أكثره إلى مستوى دول أميركا اللاتينية النامية ” وقد عزز من فرص هذا التنازع بين النخب وبالتالي الانقطاع في التراكم السياسي ما عرفته المجتمعات العربية من انفجار ديمغرافي في نصف القرن الفائت. وتكاد معظم المجتمعات العربية تتكون من أكثر من 60 وأحياناً 70% من الشباب الذين تقل أعمارهم عن عشرين عاماً. وهذه النسبة الكبيرة من الشباب والوتيرة السريعة لتزايد الأفراد لا يولدان ضغوطاً قوية جداً على الموارد الاقتصادية فحسب ولكن أيضاً على الموارد المعنوية والثقافية المحدودة أصلاً. ولذلك فإننا نجد أنفسنا أمام أغلبية اجتماعية من الشباب الذين يفتقرون إلى أي شكل من أشكال التأطير الاجتماعي والتربية المدنية بل والاندماج المجتمعي، ولا يحظون بأي رأسمال رمزي وثقافي ذي قيمة، وهم بعيدون كل البعد عن الحماس للقيم والمفاهيم والمبادئ والمعايير التي لا يزال يتمسك بها جيل الآباء. إنهم أغلبية كبيرة من فاقدي الهوية الحقيقية أو الذين لم تتحقق مواطنيتهم ولا توجد شروط أو احتمالات لتحقيقها، وليس لديهم أي مفهوم أو وعي بطبيعة موقعهم ودورهم وحقوقهم وواجباتهم الاجتماعية. إنهم بشكل عام غير مؤهلين ولا معدين ليكونوا أعضاء في مجتمع وأن يشاركوا فيه وأن يتفاعلوا معه. وهذا الكم الهائل من الجمهور المفتقر للتأهيل الاجتماعي والتكوين السياسي والمدني -أي المواطني- سيتحول إلى الخزان الواسع والهائل لكل الحركات التي ترد على مطالب فورية أو غريزية عند الشباب، سواء أكانت ذات طبيعة مادية أو معنوية، فليس لديهم جهاز للتفكير العام ولإنضاج القرارات وللتفكير على المدى الطويل بل والمتوسط، ولذلك سيصبحون بسرعة ضحايا سهلة للمجتمع الاستهلاكي الذي يغذيه البث التلفزي المتعدد النوافذ والمصادر، وسيصبحون أيضاً ضحايا سهلة للنخب الحاكمة التي تستغل عطشهم وجوعهم لتحقيق الذات من أجل تجنيدهم لقاء بعض المزايا أو تحقيق بعض الرغبات في أجهزتها ومؤسساتها القمعية وتحويلهم إلى قاعدة يسهل التلاعب بها واستخدامها أداة للحكم والسيطرة، وسيصبحون كذلك ضحايا سهلة لحركات التمرد التي تعدهم بخلاص قريب من آفة الشعور بالفراغ المادي والروحي بل بانعدام الوجود والحق في حياة فردية واجتماعية طبيعة. ومن الواضح أن هذه الكتل الكثيفة من الشباب المفرغين من أي قضية والمدفوعين نحو صراع مرير من أجل البقاء من دون أي رعاية فعلية أو شبكات أمان، لا يمكن أن تشغلهم أي قضية عامة ولا أن يستبطنوا أي مفهوم للشأن العام. فهم مدفوعون للبحث عن إشباع حاجاتهم المباشرة والفطرية بالغريزة وحدها، وبعيداً عن أي معايير اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية. وكما أن من الصعب عليهم الانسجام مع الهياكل والبنى التقليدية الأسرية والعائلية والطائفية والقبلية الموروثة وتحقيق ذواتهم عبرها، كذلك فهم غير مؤهلين للانخراط في أحزاب مقاومة ديمقراطية ذات نفس طويل وممارسة مبدئية. إن طريقهم الأسهل لإشباع حاجاتهم التي تتخذ هي ذاتها شك الحاجات البدائية المرتبطة بتلبية الغرائز الطبيعية -بما في ذلك حب السيطرة ومراكمة المغانم والملذات والمنافع والأغراض المادية- وإستراتيجيتهم المفضلة للهرب من الهامشية المدانين بها تتقاطع مباشرة مع إستراتيجية وأسلوب عمل أحزاب السلطة المنفعية والانتهازية. وهذا لا يعني أن جميع الشباب يفعلون ذلك أو لديهم الفرص الكافية لتحقيق ذاتهم حتى في إطار إستراتيجيات الاستخدام من قبل السلطات القمعية، وإنما يعني أن النظم التسلطية تنجح بسهولة -وظروف تكوينهم ووجودهم على ما هي عليه- في إخضاعهم لمنطق التنافس والمنافسة لتحقيق مكاسب فردية وتقضي لديهم على أي بذرة لتكوين إرادة تعاون وتضامن جماعية. إنها تطلق في صفوفهم ديناميكية الصراع والاقتتال على امتيازات محدودة، وتجبرهم على المزاودة في التنازلات والاستزلام والانتهازية فيما بينهم للوصول إلى أغراضهم، ولكن حتى عندما ينجح بعضهم في ذلك فإنه لا يصل إلى تحقيق ذاته إلا منزوع الكرامة وفاقد الشخصية والاعتبار مما يحوله بسهولة إلى ممسحة وأداة طيعة في يد السلطة وأجهزة الأمن التي تستخدمه للتجسس على أترابه والصعود على جماجمهم، ومن هؤلاء تولد النخب الجديدة التي تحمل راية النظام وتقود عملية استمراره. ولعل النظم الأكثر كاريكاتورية في استخدام سلاح المنافع والامتيازات والرشاوى المادية والمعنوية وتخصيص مواقع ومناصب ثابتة لكل طائفة أو فئة من الشباب هي النظم الشمولية، فللطالب الحزبي مثلا استثناءاته من القانون والقاعدة أو حصته من الامتيازات عند الدخول إلى الجامعة أو المسابقة التعليمية أو التقدم للوظيفة، ويوعد الشباب الذين يقبلون المشاركة في بعض النشاطات الحزبية أو النقابية الحزبية بوظائف ومناصب معينة وتخصص مواقع محتكرة لبعض الفئات الاجتماعية وتقصر المنح والبعثات والتعيينات والمهمات على جماعات بعينها من دون غيرها وتحتكر بعض الأسر والعصائب تجارة بعض المواد أو تمثيل الشركات بينما تختص أسر وعصائب بوظائف رسمية معينة. وتهدف هذه الممارسة التي تعمل من خلال تكريس غياب القانون في مقابل تأكيد فاعلية الولاء والتبعية والاستزلام إلى خلع المواطنين عن أي أخلاقية مجتمعية جمعية وطنية أو طبقية، ومن وراء ذلك إلى بناء السلطة البيروقراطية قاعدتها الاجتماعية المكونة من العناصر التي تستقطبها عن طريق التبعية والولاء والاستزلام. ومن البديهي أنه ليس هناك كبير أمل في أن تظهر هذه النخب الجديدة المكونة والمترقية بهذه الطريقة والتي تشكل الجيل الثاني من النخب الحاكمة اليوم في البلاد العربية، ميولاً أكبر نحو الديمقراطية والتعددية والانفتاح على الآخرين. إنها تعيش بالعكس من ذلك مع الشعور الدائم بأنها لا تستطيع أن تحافظ على مواقعها وتستمر وتفرض وجودها وسطوتها إلا من خلال طرد العناصر الشريفة وغير الانتهازية والانتقام منها. فهي ترى فيها خصماً كامناً طبيعياً حتى عندما لا تظهر هذه الأخيرة أي معارضة واضحة. وهي بعكس الجيل الأول من النخب الحاكمة لا تملك أي مفهوم للسياسة والدولة والمصالح العامة وتعتقد أن احتكارها للامتيازات وسطوها على الموارد العامة هو حق مكتسب لها بفضل ما تقدمه من خدمات للدولة والنظام من خلال الإعلان عن ولائها وتأكيد تبعيتها للدولة وتقديم القاعدة الاجتماعية الضرورية لتبرير وجوده. ولذلك فإنها في الوقت الذي لا تنظر فيه إلى دورها إلا كمدافع عن النظام وحامل للشعارات والمديح والهتاف، لا ترى في موارد الدول التي تضع يدها ببراءة عليها إلا ميراثاً خاصاً انتقل لها من آبائها من الجيل الذي سبقها. إنها لا تطرح على نفسها أي سؤال عن المسؤوليات العامة وليس لديها أي إدراك لمعنى المصالح والحقوق الوطنية، وتشعر أن تركها لموقع المحتكر والمستأثر بالسلطة والموارد العامة لا يمكن أن يكون إلا لصالح فئة أخرى تريد أن تحتكر وتستأثر، ولا يمكن أن تتصور لحظة نظاماً بعيداً عن استئثار أقلية اجتماعية محدودة واحتكارها للسلطة العمومية. ويساهم في تعميق هذا المسار الانقطاع الذي تفرضه السلطات الشمولية على المجتمع عن التاريخ والعالم معاً، وعزلها له عن دورة المناقشة العالمية، مما يقود إلى تدمير الوعي العمومي وانحطاط الخطاب السياسي. وليس لظاهرة إضعاف الضمير الوطني وانحطاط الخطاب السياسي علاقة -كما يشاع عادة- باستمرار سيطرة الوعي أو القيم القديمة والثقافة السياسية التقليدية، فليست الثقافة التي تسيطر اليوم على المجتمعات العربية في نظري -لا من حيث هي رأسمال متراكم ووعي نظري ولا من حيث هي منظومات قيم سلوكية- ثقافية تقليدية، ولكنها ثقافة حديثة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولو أن هذه الثقافة توجد هنا على شكل شديد التشويه أحياناً ومليء بالثغرات والنقائص والتأويلات الخاصة، أي كثقافة سياسية حديثة رثة ومفقرة في مضامينها الأساسية، وهذه الثقافة هي التي تتحكم بقراءة الناس وفهم التراث والتقاليد العملية والنظرية بما في ذلك النصوص الدينية، وهي التي تفسر طبيعة التأويلات الثوروية أو الانقلابية في الدين التي تسود اليوم في المجال السياسي. وضعف نضج الرأي العام وافتقاره إلى ثقافة سياسية حديثة يعكس انعدام الجهد المبذول من قبل النخب المحلية في سبيل تكوين هذا الرأي العام، كما يعكس شروط الحصار الذي فرضته النظم القائمة عليه كي يبقى بعيداً عن تيارات التطور الفكري والسياسي العالمية. 5- الديمقراطية والمعوقات المرتبطة ببنية الدولة أما مجموعة العوامل الثانية التي تفسر تعثر التحولات الديمقراطية فهي مرتبطة بالدولة وما تشمله من بنى أساسية إدارية وسياسية وقانونية، فهذه البنى هي التي تحدد الإطار الموضوعي لممارسة الناس وحدود اختياراتهم الممكنة والآفاق المفتوحة أمامهم. وفي اعتقادي أنه ليس لهذه البنى أساس أو منطق آخر سوى إرضاء حاجات النخب التي سيطرت على الدولة لتمكين سيطرتها وتعزيز سلطتها وضمان البقاء إلى أطول فترة ممكنة في موقع الحكم. وتكفي الإشارة إلى أن جميع النخب الحاكمة اليوم في البلاد العربية قد استلمت السلطة بالسيطرة المباشرة، إما بمناسبة خروج القوى المحتلة وبالتفاهم المسبق معها، أو بسبب اعتمادها مشروعية تاريخية لم يعد النظر فيها أو تجديد أصولها كما في بعض الملكيات والمشيخات، أو بمناسبة انقلابات عسكرية، ولم تعتمد أي منها في صعودها إلى سدة الحكم وفي تجديدها لنفسها في هذا الحكم على أي مشاورة جدية وحقيقية للمواطنين، ولا تزال ترفض أن تطرح وجودها وبقاءها في السلطة بل وحتى سياساتها اليومية لأي استفتاء أو استشارة أو موافقة شعبية. فهي لا تقبل بأي شكل أن تربط استمرارها في السلطة بموافقة أو قبول الرأي العام، وتطلب أن ينظر إليها على أنها حقيقة قائمة تماماً كما أن الشمس والقمر حقائق أو ظواهر قائمة وغير مطروحة لأي نقاش ولا يمكن توجيه أي مساءلة لها أو اعتراض. ومن الصعب أن تساهم بنية السلطة السياسية القائمة على إنكار السيادة الشعبية واعتماد مبدأ الأمر الواقع كقاعدة للتعامل السياسي في تسهيل فتح الحقل السياسي من قبل الدولة. بل إن فتح هذا الحقل يعني في هذا السياق إنكار منطق الوصاية الحقيقي الذي يحكم تفكير النخب الحاكمة وممارستها، والاعتراف بوجود للأفراد وبأن السلطة مسألة اجتماعية لا واقعة طبيعية وبالتالي يمكن طرح سياساتها وأساس البقاء فيها وطريقة ممارستها للنقاش والتفاوض عليها ومن حولها. ” سلطة الأمر الواقع المؤسسة على القوة هي النوع المسيطر على كثير من الدول العربية وترفض سلطة الأمر الواقع تطوير مؤسسات ديمقراطية تأذن للجماهير بأن تعبر عن إرادتها في الاختيار ” وربما كان أفضل اسم يطلق على هذه السلطات السياسية العربية ويعبر عن طبيعتها العميقة هو مفهوم السلطة الاستيلائية بالمعنى القديم للكملة، أي التي تتحقق بسبب وعبر الشوكة والقوة المادية والعسكرية المحضة ومن دون السؤال، أي سؤال عن رأي الأغلبية الاجتماعية أو الانشغال بقبولها أو رفضها. فهي سلطة الأمر الواقع، ومن الصعب على سلطة الأمر الواقع أن تطور أي تفكير في التعددية وأن تفهم مضمون ومعنى التحولات الديمقراطية باعتبارها تجسيداً لإرادة جمعية بل من تنمية أي شعور بالمسؤولية العمومية. كما أن من الصعب لها أن تتطور وتتبدل وتغير نفسها أو تخرج من تقاليدها، وهي لا تتغير إلا بالانهيار من الداخل أو بفعل عوامل خارجية. وأفضل ما يجسد غياب منطق التحول والتطور والتغير فيها هو الثبات الأسطوري الذي ينبغي أن يحظى به ممثلها الأول وزعيمها، ومن هنا لا ينبغي لرئيس الدولة أو رأس النظام أن يتعرض لأي تبديل أو تغيير أو أن تنطبق عليه قوانين الحياة والموت الطبيعية ذاتها. بل لا بد في سبيل القضاء على وهم زواله إذا توفي أو تعرض لحادثة خطيرة من تنصيب أحد أبنائه ليحل تلقائياً محله ويجسد استمرار نظام الأمر الواقع وامتناع التغيير. وهناك العديد من النظم السياسية العربية المرشحة كما هو معروف لوضع الأبناء محل الآباء، فهذا الحلول بالمعنى الحرفي للكملة هو البرهان على أن استمرار نظام الأمر الواقع لا يمكن أن يتماشى مع أي منطق -مهما كان ضعيفاً ومحدوداً- للتغير والتحول والتطور. إنه تجسيد ساطع لهوس الثبات والاستمرار والاستقرار. وبالعكس، تخضع النظم السياسية المستندة إلى منطق الاستشارات الشعبية -حتى لو كانت استشارات ناقصة أو مزورة في بعض الأحيان- لتغيرات حقيقية لأنها تكون حساسة لتنامي الضغوط الاجتماعية. بل النظم السياسية لا تتطور في الواقع إلا بقدر ما تتضمن اعترافاً ولو جزئياً في البدء بصدور السلطة عن الشعب، وترفض مبدأ قدسية الرئيس أو الزعيم وملكية السلطة أو الأهلية الخاصة بالسلطة والحكم. أما في البلاد العربية فالاستشارات المحدودة التي تتم ليست حقيقية وإنما هي تغطية شكلية على قرارات وتشكيلات جاهزة الصنع، وغالباً ما تكون نسبة المصوتين في الانتخابات وعدد الأصوات مقررين مسبقاً قبل بدء العمليات الانتخابية. وهكذا تلتقي نقاط الضعف الكبيرة التي تميز مجتمعاتنا المتنامية والمتفجرة والمتحولة بسرعة تفقدها السيطرة على نفسها وتأهيل أجيالها الجديدة مع بنية سلطة استيلائية تفرض نفسها كأمر واقع وترفض أن تخضع نفسها لأي محاسبة وطنية أو اجتماعية. وبينما سمح ضعف المجتمع البنيوي التقليدي بنمو دولة الاستيلاء فإن هذه الدولة ذاتها لا يمكن أن تعيد إنتاج نفسها وتستمر في البقاء إلا بقدر ما تعمل على قتل الإمكانيات والفرص التاريخية للعمل والمبادرة داخل المجتمعات وتدمير شروط تنظيمها ووعيها معاً حتى تجعلها عاجزة عن إفراز القوى القادرة على التغيير الذاتي. وهذا المثال ينطبق على المجتمعات العربية كما ينطبق على المجتمعات التي كانت متخلفة عموماً، ولولا دعم الاتحاد الأوروبي لدول المجموعة السوفياتية واحتضانها اقتصادياً وسياسياً، لكان مصيرها قريبا من مصير البلاد العربية، أعني انهيار النظام الشمولي من دون أن يؤدي إلى نشوء ديمقراطية، والسير إما نحو الفوضى والخراب السياسي كما هو الحال في بعض الدول ومنها أفغانستان والصومال واليمن الجنوبي، أو عودة النظام الشمولي بشكل جديد. ولا يفسر عامل التدخل الأجنبي أو بقايا الاستعمار -كما تميل بعض الأطروحات إلى تأكيده- نشوء واستمرار هذه البنية الخاصة بالسلطة الشمولية رغم أنه لا ينبغي التقليل من أهمية ووزن هذا العامل في حالات معينة، ففي العديد من الحالات قامت الأجهزة الأمنية للدول الكبرى بتغيير السلطات وضع النظم التي تتلاءم مع مصالحها علانية. ومع ذلك -وبالإجمال- يرتبط الأمر في نظري بصورة أكبر بالشروط الخاصة التي رافقت -ولا تزال- نشوء الدولة الحديثة وتطور دورها في مجتمعات متأخرة نسبياً لم يطور فيها الجمهور الواسع بعد آليات حماية نفسه وتعزيز قدراته في مواجهة الإمكانيات الهائلة التي تتضمنها الدولة الحديثة لتدعيم إشراف النخب ونفوذها وسيطرتها وتحكمها بالأفراد والجماعات التي تخضع لها. فقد أحدث هذا التفاوت الهائل في بنية الدولة الحديثة وبنية المجتمع القديمة وضعاً استثنائيا يشبه ما يحصل إذا وضعنا محركا انفجارياً حديثا هائل السرعة على هيكل حنطور، أي عربة قديمة من تلك التي كانت تجرها الأحصنة. فلم تنمُ الدولة هنا نمواً تدريجاً موازياً لنمو المجتمع الذي أنشأها ونشأت فيه، ولكنها اعتقلته وصادرت نموه وتنميته السياسية وعملت تماماً كأي تقنية حضارية آتية من خارج بناه على تدمير هذه البنى والحلول محلها كيما تضمن استقرارها واستمرارها، فكانت النتيجة أن المجتمع هو الذي انشغل بتنمية الدولة بدل أن تنشغل الدولة بتنمية المجتمع. ولا يعني هذا أنه كان علينا أن نرفض الدولة الحديثة أو أن نصادر التاريخ، ولا أدري من كان يمكن أن يفعل ذلك على كل حال، لكن المقصود هو أن نفهم طبيعة وأصل الاستلاب الذي أحدثه دخول الدولة الحديثة إلى المجتمع وخلق فرص تكون الطبقة الدولة حتى يكون من الممكن التحرر منه، ففهم حركة الواقع هو شرط تجاوزه. وفيما يتعلق بالبلاد العربية، لعبت عوامل خاصة دوراً إضافيا في تدعيم بنية السلطة الاستيلائية وبالتالي تعزيز احتمال إعادة إنتاج النظام التسلطي أكثر من العديد من مناطق العالم الأخرى، ولو استندت إعادة هذا الإنتاج على أسس مختلفة. ومن أول هذه العوامل عامل الثروة الريعية الكبيرة التي ميزت حقبة ما بعد الاستقلال، فقد استفادت البلاد العربية من مصادر ريعية كبيرة وهامة نتيجة تصدير النفط، ولا تزال هذه المصادر الريعية تشكل فيها أهم مواردها والعامل الرئيسي في تأمين استمرار المجتمعات اقتصاديا. وقد عملت هذه المصادر -في ظروف انعدام البنية الصناعية المتينة والإدارة الحديثة وبصرف النظر عن طريقة توزيعها- على قطع الطريق على التطوير العقلاني والموضوعي للمؤسسات والممارسات العامة ومنظومات القيم، وقد ساهمت بذلك في ترسيخ أسس الدولة الريعية التي تحظى النخب الحاكمة فيها بموارد مستقلة كبيرة تمكنها من الاستغناء عن المجتمع بل تجعل منها المرضعة لهذا المجتمع مقابل تنازله عن حقوقه السياسية والمدنية، وهو ما يفسر تطور السلوك الأبوي والعشائري لهذه النخب في إطار الدولة الحديثة واعتمادها المتزايد على منطق الزبائنية وتجاوز أي نموذج حياة سياسية وقانونية سليمة، كما يفسر النمو المفرط للعديد من القيم والسلوكيات السلبية مثل الميل إلى التبذير والهدر وسيطرة النزعة الاستهلاكية واحتقار العمل أو تخفيض قيمته على حساب الإثراء السريع وغياب روح الاستثمار العقلاني والمراهنة على علاقات القربى السياسية والتحاق النخبة الاجتماعية بالدولة والسلطة وانعدام الجدية والتساهل أمام الفساد والفوارق الخطيرة بين الطبقات. وقد ساهم هذا الريع النفطي الكبير أيضاً في تعميق التناقضات والتوترات الاجتماعية بقدر ما عمل على تعميم أنماط الاستهلاك الريعية الخليجية على عموم أفراد النخبة العربية. ولم يكن أمام النخب المالكة والحاكمة -أي أصحاب الثروة وأصحاب السلطة- من حل لتوسيع قاعدة نفوذهم وثروتهم والوقوف في وجه المطالب الاجتماعية المتزايدة التي جعلها الانفجار السكاني مطالب صعبة التحقيق سوى التفاهم والتحالف في سبيل إغلاق كلي وكامل للحقل السياسي. وهذا ما عمم نموذجاً متشابهاً للحكم في البلاد العربية وجعل من الممكن بالفعل الحديث عن منظومة عربية واحدة ومندمجة موحدة للتسلط والطغيان. ومن هذه العوامل ثانيا سيطرة الشعبوية على عمل النخب الاجتماعية، بما ذلك في موقع المعارضة. فقد نشأ النظام المجتمعي الحديث لهذه البلاد -مثل العديد من البلاد النامية- في ظروف تاريخية محددة، هي ظروف التحرر من الاستعمار وما أحدثه من آمال وبثه من قيم ومطالب اجتماعية تتعلق بتحقيق الحرية والعدالة والمساواة والتنمية واللحاق بالدول الصناعية. وقد سعت النخب الحاكمة التي أدركت منذ البداية عجزها عن تلبية هذه المطالب والرد على التوقعات الشعبية الكبيرة والآمال العريضة إلى تجاوز الهوة العميقة بين الشعارات المرفوعة والممارسات المحدودة النتائج وأحياناً المعدومة الفعالية عن طريق تشجيع الشعبوية، أي الغوغائية الوطنية التي لا تقوم لا على محاسبة فعلية ولا على تحقيق أهداف وبرامج واضحة وحقيقية، إنها عرس دائم وتماه مستمر بين العشب والقيادة من خلال الاحتفاء والتمجيد والتقديس. وهذا ما يفسر كيف تحولت الوطنية والقومية فيها في النهاية إلى شعار وأصبح مقياس التقدم في الحركة القومية وإنجازاتها قائم في استعار الصراخ وارتفاع الصوت والمزاودة في إظهار الولاء والخضوع والاستزلام. ومن هنا أيضاً اتخذ الصراع والتنافس بين مختلف النزعات القومية في البلاد العربية صيغة حرب الشعارات وصور الزعماء ولم يخطئ مرة ليصبح تنافساً على تحقيق الإنجازات. وتعكس الشعبوية التحقيق الوهمي لمتطلبات وأهداف وطنية وقومية يبدو تحقيقها في الواقع بعيد المنال. وهي تقدم للنخب الحاكمة وسيلة رخيصة للتغطية على مسؤولياتها وتجنب الاعتراف بأخطائها وإخفاقها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وفي مقدمها تحدي الصراع العربي الإسرائيلي، بل لقد سمحت لها بأن تعكس الآية فبدل أن تحاسب على إخفاقها في مواجهة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وأن يكون إخفاقها في تقديم حلول جدية له مصدراً لمناهضة مبدأ احتكار السلطة والمسؤولية ومنطلقاً لإشراك الشعب بشكل أكبر في القرارات الوطنية، أمكن للنخب المهزومة أن تستخدم الصراع مع إسرائيل لتبرير الحفاظ على السلطة ومنع التغيير الديمقراطي. لقد نجحت هذه النخب في إرضاء الشعب بعبارات وطنية طنانة وجوفاء مقابل ممارسات انهزامية في العمق واستسلامية في الواقع، وهو ما يعكسه -مع استثناء وحيد في بداية السبعينيات- غياب أي إستراتيجية رسمية عربية بموازاة نمو التفوق الإسرائيلي، حتى لا نتحدث عن إستراتيجية مواجهة إسرائيل بالفعل وتحرير الأراضي المحتلة. ومن هنا أمكن تحويل قضية فلسطين إلى مصدر دائم للتوتر والإثارة والابتزاز الداخلي والخارجي، وأمكن استخدامها كذلك للتشويش على أي مطلب ديمقراطي، بل لمنع تطوير أي نقاش وطني جدي وعقلاني للمسائل العديدة والخطيرة الاقتصادية والسياسية والثقافية التي يفرضها تطور المجتمعات العربية وتنميتها. ولا تزال هذه الشعبوية التي توفر على النخب الحاكمة والمعارضة معاً السعي الجدي والشاق إلى إيجاد حلول عملية للمشكلات المطروحة، تحكم إلى حد كبير الممارسة الجماعية العربية رغم ما أظهرته من لافاعلية وخسارتها جميع المعارك التي خاضتها منذ الاستقلال؛ معركة مواجهة الصهيونية، ومعركة التنمية والتصنيع، ومعركة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ومعركة بناء الدولة القومية والقانونية والارتفاع فوق الولاءات العصبوية، ومعركة بناء الفرد بالتربية والتعليم. والواقع أن الشعبوية التي تجمع بين المبالغة في إرادة تأكيد الذات والاستقلال والسيادة، وجبن الممارسة وانفعاليتها المفتقرة للعمل الجدي والمنظم والعقلاني طويل المدى، لا تكف عن تنمية التناقض والتفاوت بين طموحات كبيرة جداً وفعالية ضعيفة جداً، وبالتالي عن أن تكون مصدراً مستمراً لتغذية مشاعر الإحباط والانكسار العميقة التي تنخر اليوم معنويات الشعوب العربية وتفقدها ثقتها بذاتها وبالمستقبل. 6- هشاشة القوى الديمقراطية إن مجموع هذه العوامل الاجتماعية والسياسية الموضوعية والذاتية التي حكمت تكوين النظام المجتمعي العربي ورسمت بناه المختلفة هو الذي يفسر نجاح النخب الأقلية بسرعة في وضع يدها على الدولة والموارد الوطنية وتثميرها لصالحها وبهدف ارتقائها الاجتماعي والدولي فحسب، واستمرارها -رغم التغير الكبير الذي حصل في العقدين الماضيين على الصعيد العالمي والمحلي وأزمة النظم الشمولية المفتوحة- في الحفاظ على سلطانها والتمديد لنفسها في السلطة. وبالمثل فإن هذه العوامل التي دعمت سلطة النخب الأقلية ومكنتها من مواجهة المجتمع هي نفسها التي عملت على إضعاف فرص نمو قوى ديمقراطية حقيقية وقوية قادرة على استغلال فرص أزمة النظم التسلطية لإحداث نقلة في الحياة السياسية للمجتمعات. ومع غياب مثل هذه القوى يصبح من الطبيعي بل من الحتمي أن لا تقود الأزمة إلى تحول نوعي في النظام ولكنها تدفع جزءاً من القوى الحاملة له إلى إعادة بنائه من وجهة مصالحها ومنظوراتها الخاصة. ” المجتمعات العربية تعيش عموماً مرحلة تفكيك النظم الشمولية والتسلطية ولم تدخل بعد بشكل جدي في إشكالية الانتقال الديمقراطي ” وتتجسد أزمة الانتقال نحو الديمقراطية في البلاد العربية اليوم -أكثر من أي عامل آخر- في هشاشة القوى الديمقراطية التي يمكن المراهنة عليها للسير بعملية التغيير السياسي والتحويل الاجتماعي. وتتجلى هذه الهشاشة في غياب التنظيمات الديمقراطية الحقيقية وغياب القواعد والتقاليد والممارسات الواضحة والثابتة التي تميزها وتهيكلها، واقتصار الدعوة للديمقراطية على مجموعات صغيرة من اليسار السابق -وهي المجموعات التي تستخدمها في أغلب الأحيان من أجل إعادة تثمين نفسها في الساحة السياسية- أكثر مما تنظر إليها كبرنامج سياسي حقيقي للتحويل الاجتماعي. ويخدم تبني الديمقراطية كوسيلة للاستفادة من الانفتاحات الجزئية التي تدفع إليها أزمة النظام أو من الطموح إلى بناء تحالفات دولية جديدة. مما يعني أن هذه القوى لا تزال متلقية تستفيد من الانفتاحات المحدودة التي يضطر إليها النظام أكثر مما تساهم في خلقها، وبالعكس لا تزال الأجيال الجديدةالشابة التي لم تدجن بعد عن طريق الاضطهاد والقمع والإرهاب غير مؤمنة بهذه الانفتاحات ولا حتى بمعنى الديمقراطية، إنها فريسة لمشاعر اليأس، وهي تريد تحويلات جذرية وسريعة. ومن الصعب الحديث عن وجود خيار ديمقراطي حقيقي بعد في البلاد العربية مع غياب قوى ديمقراطية قوية ومنظمة، بينما تنزع الدعوة الديمقراطية السائدة إلى أن تكون الرأسمال الثقافي الجديد الذي تثمره النخبة اليسارية الليبرالية المهمشة في التنافس الجديد المفتوح بسبب الأزمة على السلطة. إن السبب الرئيسي لإخفاق عملية التحول الديمقراطي في العديد من الأقطار العربية لا يرجع إلى مسائل ثقافية بقدر ما هو تعبير عن تضافر بنى اجتماعية وسياسية وثقافية عملت على غياب أو تغييب القوى الاجتماعية والسياسية المنظمة القادرة على استغلال أزمة النظم التسلطية والشمولية، وبالتالي إلى افتقار الحركة إلى قوة دفع حقيقية. وعندما نتحدث عن قوى اجتماعية وسياسية منظمة فنحن نتحدث في الوقت نفسه عن الوعي الذي يميز هذه القوى ويرشدها، كما نتحدث عن مجموعة الممارسات التي تميزها وتحدد هويتها ومنهج عملها وقدرتها على الحركة والإنجاز. فوجود مثل هذه القوى شرط لتحويل أزمة النظام التسلطي إلى مدخل لعملية تحويل ديمقراطية بدءاً من تحقيق التعددية السياسية والفكرية. وليس من الضروري أن تكون هذه القوى موجودة في المعارضة، فمن الممكن كما حصل في الاتحاد السوفياتي أن تأتي من داخل النظام نفسه. كما أنه ليس من الضروري أن تكون هذه القوى المدفوعة إلى تفكيك النظام قوى ديمقراطية الهوى والعقيدة والممارسة، إذ من الممكن تماماً أن تكون مختلفة بل معادية للديمقراطية بجميع معانيها الاجتماعية والسياسية. ومن هنا أعتقد أن المجتمعات العربية تعيش عموماً مرحلة تفكيك النظم الشمولية والتسلطية ولم تدخل بعد بشكل جدي في إشكالية الانتقال الديمقراطي. وبسبب غياب قوى ديمقراطية حية ومنظمة انتهت مرحلة تفكيك النظم في معظم البلاد العربية بإعادة تركيب النظم الشمولية أو التسلطية على أسس جديدة وورثتها النخب ذاتها. ولم تكن إعادة التركيب هذه -كبديل عن التفكيك- لصالح الانفتاح السياسي دائماً ولم تجلب نظماً أكثر تسامحاً وقانونية. ولم تتم جميعها من دون حروب أهلية مدمرة وخسائر كبيرة. وفي بعض البلاد العربية لا تزال آثار فشل هذا التفكيك بارزة في استمرار العنف وتوطن الحركات التمردية الانتقامية في الجبال والمناطق المعزولة. وما نستطيع أن نستنتجه من تجربة العقدين الماضيين هو أنه بالرغم من وجود قوى داخل النظام مستعدة للانخلاع عنه والوقوف مع حركة التحولات الديمقراطية إلا أن من الصعب المراهنة -في هذه المرحلة على الأقل- على هذه القوى لإطلاق العملية، مما يعني أن إنجاز مهام تفكيك النظام التسلطي والشمولي العربي سوف ترتبط بمهام الانتقال نحو الديمقراطية، وتتوقف بالتالي على عمل القوى الديمقراطية ذاتها، وبالتالي على بناء هذه القوى خارج النظام. وحتى يتحقق ذلك تظل الأوضاع التي نعرفها اليوم والتي تتميز بانسداد الآفاق وانعدام فرص المبادرة الداخلية والخارجية وضيق ذات اليد في جميع المجالات هي السائدة والمرشحة للاستمرار. والنتيجة، إذا كانت المجتمعات العربية لم تدخل بعد مرحلة النظم الديمقراطية الحقيقية التي يمكن تلخيصها في أربعة أركان: ممارسة السلطة العمومية من قبل ممثلين منتخبين في انتخابات حرة وعامة، أي الاعتراف بالسيادة الشعبية، وتكريس دولة القانون التي تضمن احترام القانون وتطبيقه بالتساوي على جميع أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم، وتأمين العدالة الاجتماعية من خلال نظام للتكافل والتصحيح يضمن تجنب تهميش الأغلبية الاجتماعية ثقافياً وسياسياً، وضمان الحريات الفكرية والسياسية والتنظيمية، وإدارة مسؤولة وذات كفاءة، فذلك لأن الديمقراطية لم تطرح بعد في أي قطر عربي كمعركة رئيسية للتحويل الاجتماعي أو لتحويل المجتمعات بالعمق، وإنما كمطالب لتوسيع هامش الحرية والمبادرة لفئات محدودة من النخب الاجتماعية. وهي لم تطرح بعد بجدية لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية. ولا يزال المنهج الذي تعالج به في الأوساط العلمية والسياسية العربية والعالمية معاً -عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات العربية- هو المنهج “الستاتيكي” تماماً سواء أكان ذلك من قبل من يسمون أنفسهم أصحاب المنهج التحديثي أو الديني. فالفريق الأول يسعى إلى الكشف عن فرص الديمقراطية العربية من خلال المقارنة بين الثقافات والكشف عما إذا كانت الثقافة العربية والكلاسيكية تتحمل القيم الديمقراطية أو تؤمن بها أم لا، فتظهر الديمقراطية هنا كأنها عنصر جامد موجود أو غير موجود في ثقافة ما كما لو أن الفكرة هي التي تولد النظام الاجتماعي. أما الفرق الثاني من أصحاب النظرية الدينية أو المنهج الإلهي واللاهوتي للتاريخ والمجتمع فيناقش مسألة الديمقراطية من حيث هي منسجمة مع الإسلام أو غير منسجمة معه. وهم في الواقع يصلون إلى النتائج ذاتها التي يصل إليها الفريق الأول بالرغم من اختلاف العقائد لأنهم ينطلقون من القول بوجود حضارات مختلفة ولكل منها خصائصها ومنظومات قيمها وتوجهاتها الخاصة. ولا تمثل الديمقراطية إلا تجسيداً للقيم الغربية. والغائب في هذين المنهجين الثقافويين السائدين اليوم للأسف هو الإنسان نفسه، أي الإنسان كوعي فاعل وقدرة على التأمل والتفكير وكإرادة جماعية قادرة على التأثير والتحكم ببيئتها، ومن خلال ذلك، على اكتشاف وفهم أنماط التنظيم الجديدة والكشف عن المتسق والناجع منها وطرح غير الناجع، أي عن الإنسان كمسؤول ومؤثر في محيطه سواء أكان محيطاً ثقافياً أم مادياً حضارياً أم دينياً أم طبيعياً. وهم يتجاهلون معاً أيضاً أن الديمقراطية -مثلها مثل أي فكرة وممارسة اجتماعية- نبته تاريخية نشأت ربما في حضن مدنية معينة في المرحلة الأولى، لكن شيئاً لا يربطها ربطاً حتمياً ولا نهائياً بهذه المدنية، وإنما هي ثمرة حضارية تشارك فيها جميع المدنيات، تماما كما أن الكمبيوتر نشأ في حضن المدنية الغربية لكن شيئاً لا يمنع الصيني والعربي والأفريقي من إدراك القيمة العلمية والنجاعة العملية لهذا الاكتشاف ويقبل عليه ويطمح إلى السيطرة على تقنيته ويكون من أكثر الناجحين في العمل عليه كما هو الحال اليوم في الهند حيث إن أفضل المبرمجين يأتون من هناك. وطالما ليس هناك وجود لديمقراطية جاهزة ولا ناجزة ولا نموذجية في أي مكان، فكل بناء لديمقراطية محلية هو تجربة تاريخية خاصة وإبداعية، وككل تجربة إبداعية يستدعي النجاح فيها تشغيل المخيلة وتجنب الحلول المطروقة والمعروفة واكتشاف الآليات الناجعة في الظرف الخصوصي والمعين. فهي مسار اجتماعي تاريخي، وككل مسار من هذا النوع تشكل عملية التحويل الديمقراطي سيرورة صعبة ومعقدة تحتمل التقدم والتراجع والفشل والنجاح. فإعادة توزيع السلطة في أي مجتمع من المجتمعات ليست قضية نظرية ولا إيمانية ولا ثقافية ولكنها تستدعي معركة حقيقية، ذلك أنها تمس مصالح فئات وطبقات حية وموجودة على الساحة وقادرة على الحركة والقتال للدفاع عن مكتسباتها. وتكريس الحريات السياسية ليست مسألة أخلاقية أو قيمية ولكنها مسألة مرتبطة مباشرة بالتوزيع المادي للموارد، فمتى ما تمكن المواطنون من حرياتهم السياسية صار بإمكانهم الاعتراض على الاستخدام الاحتكاري لهذه الموارد من قبل نخبة دائمة وقائمة سواء أكانت أرستقراطية ملكية أو ثورية جمهورية. والخلاصة أن الديمقراطية نظام سياسي لا يمكن أن يتحقق من دون عمل مهما كانت طبيعة ثقافة المجتمعات ونصيبها من الحداثة والتقليد، وأن هذا العمل لا يمكن أن يكون ناجعاً ومنتجاً من دون أن يستند إلى أسس عقلية سليمة ومتسقة. وهذه هي بداية الطريق. _______ * أستاد العلوم السياسية – فرنسا مراجع: أصبحت الأدبيات العربية في مسألة الديمقراطية لا تحصى، لكن من المفيد الاطلاع على بعض المراجع التي تشير إلى تطور مسار التفكير الديمقراطي العربي ومنها: - برهان غليون، بيان من أجل الديمقراطية، ط1، دار ابن رشد، بيروت 1977. - أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، بحوث ومناقشات ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984. - المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، بحوث ومناقشات ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992. - التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي، بحوث ومناقشات ندوة منتدى الفكر العربي، عمان، 1989. - التجارب الديمقراطية في الوطن العربي، ندوة منتدى الفكر والحوار، الدارالبيضاء، 1981. - حول الخيار الديمقراطي، مواطن، رام الله، 1993. - حوار من أجل الديمقراطية، مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، دار الطليعة، بيروت، 1996. * بقلم الدكتور برهان الدين غليون