عذرا للروائي السوداني القدير الطيب الصالح على اقتباسي بتصرف عنوان روايته (موسم الهجرة إلى الشمال ) .ففيما كنت أتابع الانتخابات في مصر وفي فلسطين وقبلها في أكثر من دولة عربية،وهذا الإقبال غير المعهود على الانتخابات وهجر المرشحون لوظائفهم ومجالات عملهم الأساسية بل هجرهم لمبادئهم من أجل كسب مقعد في البرلمان (المجلس التشريعي ) وما يصاحب العملية الانتخابية من تنافس شرس بين المنافسين حتى داخل الحزب الواحد ،فيما كنت أتابع ذلك استحضَرَت الذاكرة رواية موسم الهجرة إلى الشمال، فبالرغم من اختلاف الموضوعين ،حيث أن الرواية تتحدث عن هجرة الشباب العربي للشمال أي الدول الأوروبية بحثا عن العمل أو من اجل الدراسة وموضوعنا هو هجرة السياسيين إلى البرلمان ،إلا أن هناك جانب من الشبه وهو أن دوافع الذين يهاجرون إلى الشمال متعددة فمنهم من يذهب للدراسة ومنهم من يذهب للعمل ومنهم من يذهب من أجل المتعة واللذة،وكذا الأمر بالنسبة للانتخابات فهناك من يقصدها إيمانا بالديمقراطية وسعيا نحو إصلاح النظام السياسي وهناك من يقصدها بحثا عن وظيفة أفضل أو طمعا بالامتيازات التي يتيحها منصب عضو البرلمان وهناك من يقصدها بهدف الشهرة الخ . موضوع مقالتنا هو ذلك التدافع من طرف الأحزاب أو المستقلون على الانتخابات بقصد الحصول على عضوية البرلمان وفي الحالة الفلسطينية عضوية المجلس التشريعي (تجاوزا نسميه برلمانا )،فهل هي شحنة ديمقراطية زائدة إذا ما قارنا ما يجري عندنا كعرب بما يجري في انتخابات الدول العريقة بالديمقراطية؟ هل ما يجري تعبير عن وعي ونضج ديمقراطي ؟أم هي ممارسة وتوظيف لآليات الديمقراطية من اجل السيطرة على السلطة والثأر من النخبة الحاكمة؟.وحتى لا يفهمنا البعض بأننا ضد الديمقراطية كنظام حكم والانتخابات كآلية من آلياتها ،نؤكد بأنه ليس كل ما يجري يُدرج خارج سياق الديمقراطية إذا فهمنا الديمقراطية كمبادئ عامة تُكيف حسب المحددات التاريخية والاجتماعية،وإذا فهمنا بأن ولادة الديمقراطية دوما ولادة عسيرة . لا شك أن الدستور يعطي لكل مواطن الحق لأن يكون ناخبا ومنتخبا ،ولكن هذا لا يعني بأن كل شخص يتوفر على مؤهلات تمكنه من أن يكون عضو مجلس تشريعي أو برلمان ،ونحن عندما نتحدث عن البرلمان أو المجلس التشريعي الفلسطيني فكأننا نتحدث عن الكنيست الإسرائيلي أو الكونجرس الأمريكي الخ ،أي مؤسسة خطيرة وذات صلاحيات واسعة وأسمى المؤسسات ،وعليه يفترض بمن يرشح نفسه أو يرشحه حزبه أن يكون في مستوى التحدي ،فمجلس تشريعي ضعيف يعني حكومة ضعيفة وسلطة قضائية ضعيفة وبالمحصلة تتحول الانتخابات من وسيلة للإصلاح إلى وسيلة لتكريس الفساد وشرعنته . في حالتنا العربية والفلسطينية صعوبة التحول الديمقراطي يعود لعدة أسباب أهمها :- 1 –ثقل المحددات الخارجية في عملية التحول الديمقراطية وتزامن خطاب الديمقراطية والدعوة لها مع انهيار النظام الدولي وتسلط الولاياتالمتحدةالأمريكية وحملتها ضد الإرهاب من جانب ونشر الديمقراطية من جانب آخر ،مما ولد لبس عند المواطنين واعتقاد بأنه حتى تكون ديمقراطيا عليك محاربة الإرهاب ،والإرهاب من وجهة نظر الأمريكيين يعني الجماعات الإسلامية والجهادية وكل من يعارض السياسة الأمريكية . 2 - والأهم من ذلك فأن عسر التحول الديمقراطي يعود لتباعد برامج القوى السياسية ،فإذا كانت الديمقراطية تقوم على التعددية السياسية والحزبية إلا أن لهذه التعددية الديمقراطية ضوابط وحدود إنها تعددية في إطار ثوابت ومرجعيات وليس اختلاف على الثوابت والمرجعيات ،فلو نظرنا للممارسة الديمقراطية في المجتمعات الديمقراطية لوجدنا أن أكثرها استقرارا هي تلك التي تذوب الفوارق الكبيرة بين أحزابها ،سواء في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو بريطانيا أو الدول الاسكندينافية أو اليابان ،فلا نكاد نجد فوارق سياسية أو إستراتيجية بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري ولا بين حزب العمال وحزب المحافظين وكذا الأمر بالنسبة للدول الأخرى ،وبالتالي لا تحدث تغييرات كبيرة عند تداول هذه الأحزاب على السلطة ،والمواطن لا يشعر بقلق عند الانتخابات من أن يسيطر حزب ما لأنه يعرف أن هناك ثوابت ومرجعيات لا يمكن المساس بها من طرف الحزب الفائز . في الحالة العربية هناك تباعد البرامج وتناقض الاستراتيجيات ،حيث نلاحظ أن سبب تراجع المسار الديمقراطي بالجزائر يعود لأن الطرفين الرئيسيين اللذين تنافسا على السلطة في انتخابات 1992 هم الإسلاميون (جبهة الإنقاذ)من جهة وجبهة التحرير المتهمة بالعلمانية من جهة أخرى،وفي مصر اليوم الطرفان الرئيسيان هما الحزب الحاكم وجماعة الأخوان المسلمين وفي فلسطين حزب السلطة (حركة فتح) وحركة حماس وقوى سياسية أخرى أقل تأثيرا .وفي جميع هذه الحالات نلاحظ أن التعددية ليست تعددية برامج تخص الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والفقر الخ،فهذه شعارات توظف أحيانا للتعبئة وكسب المواطنين البسطاء، التنافس الحقيقي هو الذي يدور حول المرجعيات والثوابت ،إنه خلاف استراتيجي وليس سياسي وظائفي ،وفي الحالة الفلسطينية تتداخل قضايا الممارسة الديمقراطية مع قضايا التحرر الوطني ،أي أن هناك خلافات إستراتيجية فيما يخص السلطة ونظام الحكم (لًمن الحكم ؟ لكتاب الله أم للقانون الوضعي ) وخلافات حادة حول مفهوم الوطن وحدود الوطن واستراتيجيات التحرير . 3- ما يجعل عملية التحول الديمقراطي عندنا بهذه الدرجة من العسر هو غياب أو ضعف ثقافة الديمقراطية ، ومع أن الرأي الذي يقول بأن ثقافة الديمقراطية تَُولد مع الممارسة الديمقراطية وليس قبلها لا يخلو من وجاهة،إلا أنه يجب توفر درجة ما الوعي السياسي عند الناخب حتى يعرف كيف يفاضل بين البرامج المتنافسة ،ودرجة ما من التحرر من العوز حتى لا يبيع صوته برغيف خبز . 4- طول عهد الحزب الحاكم بالسلطة ،ففي النماذج المشار إليها عَمر الحزب أكثر من ثلاثة عقود ،مما خلق طبقة منتفعة ومستفيدة وهي طبقة كبيرة تتغلغل في كل نسيج ومؤسسات الدولة والمجتمع ،في الجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات المجتمع المدني وتتحكم بالاقتصاد والثروة الوطنية ،وهي طبق مستعدة للقتال حتى الموت دفاعا عن امتيازاتها ،وهذه الطبقة الحاكمة لم تكن ديمقراطية ولم تكن وفية للشعب.وفي المقابل معارضة اكتوت بنار النظام من سجن وتعذيب ونفي واستبعاد عن منافع السلطة وخيرات الوطن،،وبالتالي فالعلاقة بين الطرفين هي اقرب للثأر مما هي إلى روح التداول الديمقراطي على السلطة. بالرغم من كل ما سبق فالديمقراطية سواء كانت استحقاقا خارجيا أم ضرورة وطنية (وفي الحالة الفلسطينية ديمقراطيتنا تندرج في إطار ديمقراطية الضرورة) هي تحد علينا مواجهته بأقل الخسائر،ولكن مع حذر شديد أن يتحول الفوز بمقاعد التشريعي أو بمقاعد وزارية إلى هدف بحد ذاته وننسى بأننا ما زلنا لم ننجز مشروعنا الوطني التحرري ،وأن الديمقراطية ما هي إلا وسيلة لإصلاح النظام السياسي ليخرج من مأزقه وليصبح أكثر قدرة على مواجهة الاحتلال . أيضا يجب الإشارة إلى أن المجلس التشريعي القادم سيكون مغايرا عن سابقه سواء من حيث مكوناته حيث سيكون ممثلا لكل القوى السياسية ،أو من حيث المهام المطروحة عليه ،حيث سيواجه موضوع الفلتان الأمني والتهدئة والتسوية وقضايا الوضع النهائي . إلا أن ما يجعلنا أكثر تفاؤلا هو أن مشكلة أو عقدة الوحدة الوطنية يمكن أن تجد حلها بعد الانتخابات إذا ما أسند الرئيس مهمة رئاسة الوزراء لشخصية محايدة أو جديدة ذات علاقات حسنة مع المعارضة ،فعندما تُشكل الحكومة من كل أو غالبية القوى السياسية الممثلة بالبرلمان يتحقق بذلك مطلب حكومة وحدة وطنية.