محمد بوبوش: باحث في العلاقات الدولية،الرباط رفعت مختلف الأنظمة السياسية العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار شعارات تهم تعزيز الاستقلال؛ من خلال بناء الدولة وتحديث وتطوير المؤسسات الدستورية وإدخال الإصلاحات الاقتصادية والسياسية.. كما تمكنت العديد النخب العسكرية العربية من الانتقال إلى الحكم عبر الانقلابات باسم هذه الشعارات؛ غير أن الممارسة الميدانية أبانت بشكل واضح محدودية الجهود المتخذة في بناء دول قوية وتحقيق تنمية شاملة أو إقامة أنظمة ديمقراطية. فبمجرد سيطرتها على مؤسسات الدولة؛ قامت غالبية النخب الحاكمة بصد أي محاولات إصلاحية تقودها النخب المعارضة؛ وفرضت طوقا أمنيا صارما على شعوبها؛ وأضعفت مؤسسات المجتمع المدني؛ وضيّقت على الحريات وعطلت العمل بالمؤسسات في كثير من الأحيان.. كما نجحت هذه النخب في تأبيد زعاماتها وتمييع الحياة السياسية والحد من تطورها؛ كما تفنّنت أيضا في كبت الحريات وتدجين النخب والشعوب بصورة غرست مظاهر الشك والحذر بين الجماهير. لقد ابتلي عالمنا العربي بأنظمة لا يهمها سوى استمرار بقائها في الحكم مادامت في قادتها دماء تجري ، وان أمكن التوريث فان الأمر مستحب ومطلوب ويجدر السعي من اجل تحقيقه، وقد يكون لبنان من ضمن الأنظمة الجمهورية هو الاستثناء الوحيد في تغير الرؤساء كما أن الرئيس أبو مازن هو الوحيد الذي لا يطمع في فترة رئاسية بدون نهاية، وفي تاريخنا العربي المعاصر، كان الرئيس السوداني الأسبق عبد الرحمن سوار الذهب هو الوحيد الذي تنحى عن الرئاسة باختياره ودون ضغوط، ويدخل بذلك تاريخنا كوجه واسم يستحق كل الاحترام والتقدير. وتميزت تجربة تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة في الدول العربية، منذ بدايتها بإنجاز خطوات واسعة في التحرير الاقتصادي، بينما كانت الخطوات باتجاه الحريات السياسية محدودة. وأدى ذلك توتر للتضارب بين تراكم الرغبة في المعارضة للفئات المتضررة من سياسات التحرير الاقتصادي وبين المناخ السياسي الراكد بحكم ضيق الهامش الديمقراطي، مما خلق احتقانات سياسية واجتماعية. وبدأ التعبير عن هذه الاحتقانات سواء بأشكال الاحتجاج والمقاومة المتفرقة والتلقائية مثل الإضرابات العمالية والاحتجاجات الفلاحية، أو من خلال تجمع مجموعات من النخب المطالبة بتغيرات ديمقراطية ودستورية، أو من خلال أشكال الاحتجاج الوطني التي بدأت مع انتفاضة الأقصى (في فلسطين)، وتصاعدت مع احتلال العراق، وضمت أساسا النخب السياسية والمثقفة، وفي بعض اللحظات اتسعت لبعض الفئات الشعبية. يمثّل الركود السياسي تحدّياً ملحاً بالنسبة إلى العالم العربي المحصور بين رَحى اثنتين من القوى الرئيسة، مؤسسة سياسية متجذّرة تفتقر إلى الضوابط والتوازنات، من جهة، والحركات الإسلامية التي هي في أغلبيتها متشدّدة ويُعدّ التزامها بالتنوّع السياسي موضع شك في كثير من الأحيان، من جهة أخرى. كما تواجه الدول العربية عقبات أساسية ومتعدّدة تحول دون الشروع في عملية إصلاح شاملة ومتكاملة في المنطقة، تهدف إلى تحقيق التقدّم على صعيدَي التنمية والحكم الرشيد. تتعدّد أسباب قبوع العالم العربي في حالة الركود الراهنة بشقّيها التنموي والإصلاحي وعلى مستوى الحوكمة. يستشهد البعض بتاريخ الدول العربية على صعيد الاستعمار، كما يشكّل الصراع العربي-الإسرائيلي عائقاً ومبرّراً لعدم المضي قدماً. علاوةً على ذلك، لم تعطِ الأحزاب القومية في العالم العربي، في فترة ما بعد الاستقلال، مسألة الإصلاح أي اهتمام، وركّزت معظم اهتمامها على الصراع العربي-الإسرائيلي. ومنذ العام 1967 وانتصار إسرائيل على الدول العربية، فَقَد الخطاب القومي صدقيّته وإثر ذلك راح الإسلام السياسي يكتسب زخمًا يومًا بعد يوم. في النظم غير الديمقراطية التي طوّر حكامها أساليب عدة لإضفاء شرعية غير حقيقية على حكمهم المطلق، ومن هذه الأساليب نظام الحزب الواحد الذي تطبقه الصين وكوريا الشمالية اليوم، وطبقته المكسيك إبان حكم الحزب الثوري حتى عام 2000 وغيرها من دول المنظومة الاشتراكية وبعض الدول العربية، وحال التستر وراء إصلاحات اقتصادية لتأجيل الإصلاح السياسي، أو التستر وراء أفكار إيديولوجية أو قومية أو صراعات خارجية، أو حتى اللجوء إلى وسيلة الانتخابات ذاتها. ولا شك أن حاجة كل نظم الحكم إلى قدر معين من الشرعية هي التي تدفع الحكام غير الديمقراطيين إلى ابتداع تلك الأساليب للحصول على ذلك القدر من الشرعية وسط شعوبهم. ومن سمات هذه الحكومات أنها تضع القانون ولا تطبقه، وترغم معارضيها عليه بأحكام جائرة بإيعاز منها، فيؤدي ذلك إلى عدم احترام المواطن للقانون وشيوع الفوضى وعدم الثقة في العدالة، فتتحول الحقوق إلى هبات للمدافعين عنها، وتنكرها على المعارضين لها، بل تصبح المعارضة لسفاهة الحكم وانحرافاته كفرا بأنعمه وطعنا في وطنية المعارض الخائن لوطنه، ما دام معارضا لحاكمه الذي يفتقر إلى كل شرعية. أمّا قوى التغيير في العالم العربي التي تدعو إلى التعددية السياسية واستخدام الوسائل السلمية لتحقيق ذلك، فهي غير معبّأة، وتميل إلى أن تكون نخبوية. ولذلك لم تتمكّن إلى الآن من تعبئة مجموعات كبيرة من المؤيّدين مما كان يمكن أن يؤدي إلى تغيير فعّال. والمطلوب في هذه الحالة طبقة وسطى ناشطة، وتمتع المجتمع المدني بالحرية للعمل في العالم العربي، وإنشاء الأحزاب السياسية التي يمكنها أن تبدأ العمل على أرض الواقع، وتقدّم بدائل إما للمؤسسات السياسية وإما للإسلاميين. في معظم الحالات، وقفت الحكومات ضدّ تطوير مثل هذه البيئة، ولذلك فإن قوانين الأحزاب السياسية مقيِّدة جداً في العالم العربي، ولا يمكن للمجتمع المدني أن يعمل من دون ضوء أخضر من الحكومة. ومن هنا، فإنّ تطوير الطبقة الوسطى والمجتمع المدني لا يمكن أن يتم إلا بمرور الوقت، وهذه عملية لا بدّ أن تتم من الأسفل إلى الأعلى، وكذلك من الأعلى إلى الأسفل. وإذا لم تتمّ بهذه الطريقة، فإن الهوة بين الحكومة وبين الجمهور في العالم العربي ستزداد اتساعاً. إذ يظل المجتمع لفترات طويلة تحت سيطرة حزب أو جماعة ما أو حتى دكتاتور فرد، فتفقد أجيال بالكامل الفرصة في المشاركة في العمل السياسي وصنع القرار. وما الانتخابات التي يجريها الحكام في بعض تلك المجتمعات تحت مسمى "الانتخابات البرلمانية" أو حتى "الانتخابات الرئاسية" إلا وسيلة للسيطرة من خلال ترشيح الموالين والأتباع وضمان فوزهم بعد التلاعب بقوانين وإجراءات الانتخابات في جميع مراحلها بدءاً من الترشيح ومروراً بالتصويت وانتهاءً بفرز النتائج وإعلانها. وليس من المستغرب والحال هكذا أن ينحصر دور هؤلاء على تبرير تصرفات الحكام وسن القوانين التي تضمن لهم البقاء في الحكم واستمرار سيطرتهم على مقاليد الأمور. إن هذا النوع من الانتخابات ليس وسيلة للتجنيد السياسي والمشاركة السياسية وإنما هو أداة للسيطرة على المجتمع وحرمانه من تجديد ذاته، وللحيلولة دون بروز سياسيين وقادة جدد يتنافسون على مواقع السلطة.
في مثل هذه النظم تنقطع الصلة بين الشعوب والحاكم كما هو الشأن بمصر حيث كثرت أخطاء النظام المصري منذ سنة 1982 بداية من إعلان حالة الطوارئ إلى الآن، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وموقف النظام المصري من الحصار الإسرائيلي على غزة، حيث رفض الرئيس المصري فتح معبر رفح في وجه المساعدات الإنسانية للفلسطينيين وهو موقف أساء للمصريين وللأمة العربية الإسلامية وقال حينها الرئيس المصري: مصر لديها حدود مع إسرائيل وليس مع السلطة الفلسطينية، هذا إلى جانب التضييق عل حريات التعبير وتفشي الفقر، وإقصاء مرشحي الرئاسة. في ظل هذه الأوضاع ينفرد الحاكم المستبد بالعبث بمصير شعبه، ويصبح الأمن هو الملجم لكل صوت يحتج, فإذا نظم المحتجون وقفة أو مظاهرة أو أي مظهر من مظاهر الضيق والاحتجاج لعل الحاكم يشعر بما فعله من ضرر لهذا الشعب، قمعها الأمن دون أن يفتح الحاكم كوة للحوار والفهم والمناقشة، على أساس أن الحاكم يحتكر الحقيقة وأن هؤلاء المحتجين هم -كما ردد كل المستبدين في كل العصور وآخرهم حتى الآن بن علي- قلة مأجورة مقدسة يحركها الخارج الحاقد على حالة الاستقرار والازدهار، أو كما يقول المصريون "مصر الأمن والأمان والاستقرار حتى بدون ازدهار", المهم الحاكم العاقل الرحيم الذي حول مصر إلى مقبرة للموتى، ومن الصعب أن يفزع الأمن من حديث الموتى وحركاتهم، لأن المعلوم أن الموتى لا يتحدثون ولا حتى يرقبون ما آلت إليه أوضاع الأحياء. يترتب على ذلك أن الشعب -وهو مصدر السلطة وصاحب السيادة- يعتبر النائب نائبا عنه سيفقد مقدمات النيابة إن أخل بعقد الإنابة في النظام الديمقراطي، وأهم بنود هذا العقد أن يقوّم سلوك الحكومة التي انتخبها الشعب أيضا. ومن حق الشعب بالطبع أن يحتج على سلوك الحكومة ومواقفها، ومن حقه على سلطات الأمن أن تمكنه من ذلك بشكل سلمي، فلا قيد على الاحتجاج ما دام في حدود القانون. أما في النظم غير الديمقراطية، فتتسم الانتخابات بأن نتائجها تكون معروفة مسبقاً، وليس ثمة إمكانية لتغيير مركز القوة السياسية، وذلك ليس لثبات آراء الناخبين وإدراكهم للبدائل المطروحة، وإنما نتيجةً للآليات التي يُطورها الحكام للتأثير على أصوات الناخبين إن بالترهيب والعنف ومنع الناخبين من الإدلاء بأصواتهم، أو بالترغيب وشراء الأصوات، أو بالتلاعب في نتائج الانتخابات، أو بالتشبث بالسلطة وتجاهل مقصد التداول على السلطة بحجة عدم وجود بديل صالح للحكم أو إدعاء معاداة قوى المعارضة لمبادئ الديمقراطية وذلك كما الحال في أكثر من بلد عربي. وهذا كله يتناقض تماماً الديمقراطية التي عرّفها شومبيتر على أنها إعطاء الناس فرصة قبول أو رفض الحكومة القائمة. لقد أصبحت الانتخابات منتظمة في الكثير من البلدان العربية، لكن النتيجة لم تتغير لأن الوضع الذي تمارس فيه، والتزوير الذي يشوبها لا يسمحان بالظن أنه يمكن أن تكون مدخلاً للإصلاح. حتى بعض الحريات التي أُعطيت، مثل حرية تشكيل الأحزاب وحرية الصحافة، لم تخرج عن حدود مرسومة مسبقاً، وعن دور لا يُسمح لها بتجاوزه. وبالتالي سنلمس أن التحوّلات التي حدثت، والتي عبّرت عن انفراجات محدودة، لم تغيّر شيئاً، ولم تؤسس لصيرورة تسمح بالقول إنه يمكن الوصول إلى الإصلاح. وقد تحول المجتمع العربي بعد اختراقه وتكييف أو تنسيق بناه الاجتماعية، انطلاقا ً من ارتباط أنظمة الحكم العربية بمراكز الرأسمالية الغربية، واختيارها طريق التنمية الاستهلاكية المشوهة التابع في إطار البقاء كجزء تابع للاقتصاد الرأسمالي العالمي، حيث أدى ذلك في ظل العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة إلى وقوع الدول العربية في أزمات اقتصادية خانقة تحملت الطبقات الشعبية إسقاطاتها السلبية والمدمرة، في ظل توزيع غير عادل للدخل القومي، والإنفاق المتزايد على التسلح، وانخفاض شديد في معدلات الإنتاج، وعدم اهتمام أنظمة الحكم العربية بالمشاركة السياسية، وتدهور الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان حين تركزت السلطة في أيدي الأقلية المستغلة التي تستخدم أسلوب القمع والقهر للحفاظ على سلطتها وتكريس استغلالها للحفاظ على مصالحها الخاصة، تحول هذا المجتمع إلى جمع أو حشد غير منتوج من أفراد استلبت فعاليتهم السياسية، وصاروا مربوطين بالدولة والسلطة، رباط الأمن أولاً، وبالصفة التوزيعية غير العادلة للدولة التي احتكرت مصادر الثروة والقوة والسلطة في المجتمع ثانياً. وكان من الطبيعي أن يقود ذلك كله إلى سيادة حالة الاستلاب السياسي التي يعيشها المجتمع العربي، الذي تهشمت قواه الاجتماعية، وفقد فعاليته السياسية، وانخرط في نمط الاستهلاك الذي عممته الرأسمالية الحديثة المتوحشة، وبات أقرب إلى المجتمع الجماهيري منه إلى المجتمع المدني المنتج. وأمام إخفاق الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة في صنع العملية الديمقراطية، باعتبار أن الديمقراطية قضية مجتمعية، وبسبب من بنية هذه الأحزاب التي تجعل النفوذ فيها يبدأ من القمة متجها ً إلى القاعدة، وهذا وضع مقلوب من الناحية السياسية والدستورية من شأنه أن يجعل نفوذ الزعماء في الحزب على الكتلة الشعبية مطلقا ً أو شبه مطلق، ولا يسمح للجماهير هنا بمناقشة الزعماء والحساب. فأصبحت هذه الأحزاب موسومة بالسلبية السياسية، سواء من حيث ذوبانها في السلطة واندماجها في عالمها، أو من حيث معارضتها لها على أساس برنامجها ذاته، ورؤيتها ذاتها. لذلك تجدنا أمام مشكلة نظرية وعملية قوامها خروج القوى السياسية ذات الايدولوجيا العصرية والمناهج الحديثة من عالم المجتمع، وذوبانها أو إلغاء نفسها إيجابيا ً أو سلبيا ً في عالم السلطات الحاكمة، وبزوغ حركة الشارع العربي العميقة الجذور في المجتمع تطرح في الغالب أهداف ثورية كالصراع ضد الإمبريالية الأميركية والوجود العسكري الأميركي، ومقاومة العدو الصهيوني، وتحرير فلسطين، وتحرير العراق من الاحتلال الأمريكي. ومنذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، والاحتلال الأمريكي للعراق، ما انفكت عدة قوى سياسية متنامية في العالم العربي عامة، والمغرب العربي خاصة تطالب بضرورة إنجاز الإصلاح الديمقراطي لمواجهة الإصلاحات الأمريكية المفروضة من الخارج، واعتماده منهجا ً سياسيا ً لإخراج المنطقة من الأزمة والبؤس والاستبداد، والتقدم على طريق الديمقراطية. إن الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة التي حصلت في منطقة ريفية تونسية في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي تشير بما لا لبس فيه إلى أن الأثر السلبي للسياسات النيوليبرالية في العالم العربي قد بلغ حالة من الخطر لا يمكن الاستهانة بها، خاصة وأن تلك الاضطرابات جرت في البلد العربي الذي اشتهر نموذجه الاقتصادي بأنه مركّز على تأمين الحاجات الأساسية للفئات الشعبية وإلى حدّ أدنى من الرفاه الاستهلاكي للفئات المتوسطة الدخل. والحقيقة أن جزءا مما يحدث الآن في عدد من المجتمعات العربية، ومصر والجزائر فى مقدمها، التي تبرز بها بصورة تكاد تكون يومية حركات وفعاليات احتجاجية جديدة إنما هو شديد الشبه بالحالة الأوروبية الاحتجاجية فى أخريات القرن الماضى، على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أنماط نظم الحكم ومستويات النمو المجتمعى هنا وهناك. فتأسيس حركات كحركة 26 يناير و حركة شباب 6 أبريل المصرية وتنسيقيات مناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية بالمغرب وأقرانهما فى مجتمعات أخرى يعبر أيضا بجلاء عن محاولة واعية لتخطى حواجز الحياة السياسية العربية وجمودها الذى فرضته نخب سلطوية وأحزاب معارضة همشها غياب حرية الحركة واستسلامها التدريجى لوضعية الكيانات الورقية المبتعدة عن القواعد الشعبية. ومع أن الشق الأكبر من خطاب الحركات الاحتجاجية العربية يقتصر على المطالب الاقتصادية والاجتماعية لأغلبيات أرهقها تردى الأوضاع المعيشية ولا يتجاوز بعده السياسى رفض ممارسات النظم الحاكمة والدعوة العامة إلى التحول الديمقراطي ومكافحة الفساد دون صياغة رؤى محددة لكيفية إنجازها، إلا أنها أبدعت خلال الأعوام القليلة الأخيرة فى ابتكار أساليب مستحدثة للوصول للمواطن العازف عن المشاركة والاهتمام بالشأن العام وفى توظيف حالة الاستياء الشعبى لبلورة روح معارضة تعيد اكتشاف السياسة وتذكر نخب الحكم يوميا بأن هناك من يتابع ممارساتها فى الداخل ويطمح للتغيير. ومثلما سعت الحركات الاجتماعية الأوروبية إلى إعادة صياغة التوافق الديمقراطي القائم بالفعل ليشمل قضايا المرأة والبيئة وحقوق الأقليات، تهدف نظيراتها فى مجتمعاتنا إلى صياغة توافق حول عقد اجتماعى جديد مرتكزاته توزيع أكثر عدالة للثورة يواجه ظواهر الفقر والبطالة والتهميش وحريات حقيقية تضمن للمواطنين القدرة على الاهتمام بالشأن العام فرادى وجماعات واحترام أعمق لحقوق الإنسان يكفل حرية التعبير عن الرأى والنشاط المدنى والسياسى. بل إن هناك وجها أخيرا للتماثل بيننا وبينهم، ألا وهو حقيقة أن أحزاب الخضر والجماعات النسوية في أوروبا ضمت في صفوفها سياسيين ومثقفين من اليمين واليسار جمعهم الإيمان بأهمية القضايا الجديدة تماما كما تتسع عضوية الحركات الاحتجاجية العربية لتشمل إسلاميين وليبراليين ويساريين وقوميين توحدهم على الأقل جزئيا القناعة بحتمية التوافق على عقد اجتماعي جديد متخطية بذلك لثنائيات أيديولوجية فاصلة حالت طوال العقود الماضية دون ظهور أجندة وطنية. وقد اقترن ذلك كله بتحول في تقنية الاحتجاج. فخلافاً لمنطق الكرامة الطبقية الذي ميز الحركات الاحتجاجية القديمة ذات المنزع العمالي، فان الاحتجاجيين الجدد لا يترددون في أن يعرضوا الضحايا الذين ينشطون باسمهم، وفي أن يعرضوا آلامهم وعذاباهم وينشروها علي الملأ من خلال وسائل الإعلام. فما دامت الحركات الاحتجاجية الجديدة تخاطب الرأي العام مباشرة، وليس البرلمان أو قادة الأحزاب السياسية، فليس أمامها من خيار آخر سوي عرض بؤس الضحايا إلى حد استثارة الشعور بالفضيحة. فلم يعد المطلوب التوعية كما في أزمنة النضال الطبقي والنقابي بل تحريك الضمائر . فغائية الحركات الاحتجاجية الجديدة أخلاقية أكثر منها سياسية. وهي تسعي إلى إثارة الانفعال اكثر منها إلى تكوين الوعي الإيديولوجي، والي استثارة الشفقة أكثر منها إلى بناء التضامن الطبقي. ولئن تكن حركات الاحتجاج القديمة قد عرفت ساعة مجدها مع تطور الصحافة المطبوعة والمناشير التي توزع باليد فان الأداة التقنية الأولى لحركات الاحتجاج الجديدة هي، بلا أدني شك، الانترنت. فقد عرف الاحتجاجين الجدد كيف يحولون هذا الجهاز إلي أداة نضالية ممتازة تتيح لهم التواصل والتعبئة واختراق جميع حواجز الرقابة. ومشهورة هي، من هذا المنظور، الحملة الانترنتية التي نظمتها الأميركية جودي وليامز عام 1992 من اجل تحريم الألغام المضادة للأفراد والتي كان من نتيجتها تعبئة ألف منظمة غير حكومية عبر العالم بأسره وإقرار هيئة الأممالمتحدة لمعاهدة دولية بهذا الخصوص والفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1997. وقد تعددت صور الاحتجاج بما في ذلك التظاهر والاعتصام واستخدام وسائل التعبير المختلفة للإعلان عن عمل لا يرضى عنه الشعب، فالاحتجاج بكل صوره مباح وميسر, ومن حق الشعب ومن واجب الحكومة أن تلحظ وتستمع وتهتم وتعمل على تصحيح الأوضاع محل الشكوى.في مثل هذه النظم لا محل لقمع الفكر والرأي والحركة أو التصدي بالقوة إلا بالقدر الذي يحول بين المتظاهرين وتجاوز القانون، فلا يفترض أن يستولي المحتجون على السلطة ويحلون محل صاحب القرار في إنفاذ ما يطلبون، وإنما يستدل صاحب القرار على ما يجب عمله من حجم الاحتجاج وشدته ومطالبه المحددة ومعقوليتها وإمكانية تنفيذها في إظهار السياسة العامة للدولة. ومنذ هذه البادرة غدا الانترنت الناطق العالمي بلسان حركات الاحتجاج الجديدة. فميزة هذا الجهاز الإعلامي انه عديم الكلفة وفوري النتائج وله، فضلاً عن ذلك، ميزة أخري: فهو يساعد علي تنمية الديمقراطية الداخلية في العلاقات بين المتحاورين من خلاله. فهو يعمل عن طريق الشبكة الأفقية، لا عن طريق التسلسل الهرمي العمودي، ومن ثم فهو يغني عن وجود قيادة مركزية تحتكر القرار كما يغني عن وجود مفوضين يمثلون غيرهم، ويتكلمون باسمهم، وما إقدام النظام المصري الفاسد على إغلاق شبكات الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي وخدمات الهاتف المحمول إلا دليلا على يقينه من قدرة الانترنت على قلب الطاولة عليه وتضييق الخناق عليه وما تجربة تونس إلا دليلا على ذلك. لم تعد القوات المسلحة والجيوش أداة ضرورية للتغيير و الاصلاح عن طريق الانقلابات العسكرية، بل مجرد شرارة شعبية أو نقرة على مواقع التواصل الاجتماعي كافية لحشد المؤيدين لفكرة التغيير ،لذلك نجد الأنظمة المغلقة تحاصر المواقع الالكترونية وتحجبها وتقمع حرية الصحافة وحرية التعبير. في المغرب العربي، لم تشهد الجزائر منذ استقلالها دخولا ًمرتفعة في عائداتها النفطية كالتي دخلتها في السنة 2000، فنتيجة ارتفاع أسعار النفط دخل إلى خزينة الدولة أكثر من 22 مليار دولار، ورغم ذلك فإن هذه الأموال لم تفلح في إنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي انتشر فيه الفقر بشكل مخيف، إذ تفيد تقارير رسمية أن عدد الفقراء في الجزائر يقدر بنحو 12 مليون فقير وهو ما يعادل 40 بالمائة من إجمالي السكان. فالدولة لديها الأموال، لكنها لا تستثمر أبداً، ومشاريع الخصخصة تراوح مكانها ورؤوس الأموال الأجنبية غير موجودة، باستثناء تلك المستثمرة في استغلال حقول النفط والغاز. ولقد تزايدت البطالة، خاصة عند الشباب وانخفضت القدرة الشرائية عند الجزائريين، وعرفت الجزائر مظاهر غريبة لم تعرفها طيلة تاريخها القديم والحديث، تمثلت في انتشار المخدرات والدعارة وظواهر الانتحار، والارتداد عن الإسلام لصالح المسيحية التي يدخلها 6 جزائريين كل يوم بحسب ما ذكرته مؤخراً صحف جزائرية. وأصبحت المحسوبية والرشوة والفساد الاقتصادي ومركزة الثروة في يد أقلية ما فتئت تصغر وتضيق في مواجهة جبهة الفقر والحاجة التي ما فتئت تتوسع. وتتحمل الدولة القطرية الجزائرية، أي دولة الجنرالات الفرانكوفونيين – المدعومة من قبل لوبي فرنسي صهيوني متكون من عناصر الحركة البربرية المتطرفين أو من المتغربين المحنطين في دغمائيتهم – مسؤولية تاريخية في الأزمة الحالية التي تعيشها الجزائر. لأن الدولة التي تلغي حرية الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والأحزاب والنقابات واستقلالهم وذاتيتهم، إنما تلغي حريتها واستقلالها وذاتيتها، وهو إلغاء للمجتمع. إن الرئيس بوتفليقة المفتون بشخصيته، والتسلطي أيضا ً وحتى الاستبدادي، والمقتنع بالطابع الرسولي لمهمته،و المحاط بفريق كبير من الممالقين السياسيين، أصبح يركز السلطة أكثر فأكثر بين يديه. فمن سنة إلى أخرى، تسارعت وتيرة تحول النظام الجزائري على طريقة نظام الرئيس زين العابدين بن علي في تونس. فلا الأحزاب السياسية، ولا المعارضة، ولا البرلمان، ليس لهم الحق في إبداء الرأي.فالجزائريون الذين يعيشون في ظل حالة الطوارىء يتمتعون بحرية نسبية على أبعد حد. وهي بصدد التفتت.و الصحافة والقضاء الجزائريين هما الضحيتان الأوليتان فمن دون ديمقراطية ليست ثمة دولة جزائرية حديثة مستقلة، ولا وحدة وطنية يتعايش فيها العرب والبربر على قدم المساواة. وما أشكال الاستبداد العسكري القائم الآن في الجزائر، وصور الشوفينية والتعصب والنزعات العرقية عند الأقلية البربرية التي تقول أن المجتمع الجزائري ليس متجانسا ً في الأصل العرقي، وأنه خليط من عنصرين من البشر، العنصر العربي والعنصر البربري، إضافة إلى وجود اللغة الأمازيغية، وغيرها من التشوهات والانحرافات في المسألة الوطنية الجزائرية، سوى نتاج ضمور الديمقراطية أو غيابها. وقد عانى المجتمع التونسي في المرحلة السابقة أنواعاً شتّى من الفساد المالي والاقتصادي من بينها الرشوة والمحسوبية، واستغلال النفوذ على كل المستويات، وهي أمراض خطيرة تزرع الظلم الاجتماعي، وتولد الحقد والاستهانة بالجهد الفردي والجماعي، وتثقل كاهل الفقراء، وتمكن الوصوليين والانتهازيين من السيطرة اللامشروعة على مقدرات البلاد. وهو ما جعل المواطن التونسي يرزح تحت أعباء أزمة اجتماعية خانقة، فيعيش مهموما ً بتوفير الأمن لنفسه وأهله وممتلكاته وذلك بسبب تفشي مظاهر الجريمة والانحراف والعنف والنصب والتفسخ الاجتماعي، فضلا ً عن عجزه عن توفير متطلبات الحياة في ظل ارتفاع تكاليفها وضعف القدرة الشرائية، وانفجار الحاجيات والطموحات في ظل شيوع ثقافة الاستهلاك التظاهري لدى أقلية من المترفين والمتنفذين. وفعلا ً استفحلت الأزمة الاجتماعية، وتقلصت الطبقة الوسطى، ولم تنفع مقولة فهمتكم...فهمتكم وكذا شعار النمو الاقتصادي المقدم على الانفتاح السياسي، بسبب الفساد وعدم الشفافية، والانعكاسات السلبية للعولمة ولاتفاقات الشراكة غير المتوازنة في ازدهار البلاد ونموها الاقتصادي، بل تضاعف عجزها التجاري، وازدادت مديونية البلاد، وأصبح الهروب على متن قوارب الموت، حلم جل الشباب التونسي. وانعكست هذه الأزمة السياسية والاقتصادية على الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع فأنتجت ظواهر اجتماعية وأخلاقية خطيرة، لم تعرفها البلاد من قبل. إن تونس في ظل الأوضاع السابقة التي أنذرت بخطر الانفجار وتفجر العنف مع ما يمكن أن يجره ذلك من ويلات على البلاد، كانت أمام خيارين: إما الفوضى وبالتالي الكارثة، وإما الإصلاح السياسي الذي يقود إلى بناء الديمقراطية. ومن الواضح أن الحكم التونسي اختار الخيار الأول في ظل تواصل تغييب إرادة المواطن التونسي، وعدم مصالحة تاريخية معه. كما لاحظنا مع الأسف الشديد تفجر الأوضاع بهذه الطريقة الواسعة والمفاجئة في تونس، وسقوط عدد كبير من الضحايا ووصول الآمر ببعض الشبان إلى إحراق أنفسهم بسبب البطالة وللتعبير عن الاحتجاج بهذه الصورة المأساوية كما لاحظنا كذلك تفجر الأوضاع في الجزائر وسقوط عدد من الضحايا وإلحاق إضرار مادية فادحة في الممتلكات العامة والمؤسسات الرسمية والخاصة في بلد المليون شهيد كما في تونس الخضراء . وهناك دول عربية أخرى تواجه مشكلات كبيرة وتبدو فيها بوادر توتر اجتماعي وسياسي غير عادي، ويمكن للمرء أن يراها أو يقرأ عنها بصورة يومية تقريبا. إن الصيحة الدامية التي انطلقت من بعض دول عالمنا العربي يجب ان تسمعها الأنظمة جيدا ليست تلك التي حدثت فيها الاحتجاجات فقط ولكن في كل العالم العربي ان كان هناك من يستمع وان كان هناك بين المستمعين من هو مستعد لتفهم الاحتياجات وطرق المعالجة وأولها الحريات والديمقراطية الحقيقية والتنمية وتوفير الخدمات الأساسية الضرورية وليس إلقاء المسؤولية على القوى الخارجية التي هي غالبا ما تكون سرابا تحاول الأنظمة الركض وراءها لتجنب مواجهة الحقائق والواقع. هوامش: د.إدريس لكريني: هل تشرق شمس العرب من تونس؟ http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=14011 جورج قرم: الاضطرابات الاجتماعية: حدود النيوليبرالية في العالم العربي 10/01/2011 http://www.aljazeera.net/NR/exeres/F6662CE2-B239-4A36-9F54-805CDDC838F7.htm توفيق المديني: اتحاد المغرب العربي بين الاحياء والتأجيل www.awu-dam.org/book/06/study06/.../book06-sd008.htm مروان المعشّر، لماذا تعثر مسار الاصلاح بالعالم العربي؟ 30 /10/2010 http://carnegie-mec.org/publications/?fa=41840 عمرو حمزاوي :حركات الاحتجاج الاجتماعى فى العالم العربى.. إلى أين؟ 25 ابريل 2009 http://elw3yalarabi.org/modules.php?name=News&file=article&sid=4702 عبد الله الأشعل: دلالة الاحتجاج في النظم المستبدة والديمقراطية 29 يناير 2011 http://www.aljazeera.net سلامة كيله: الإصلاح في العالم العربي...من فشل إلى فشل! http://ar.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-492/_nr-1158/_p-1/i.htm بدوي ، محمد طه. النظرية السياسية: النظرية العامة للمعرفة السياسية (الإسكندرية: المكتب المصري الحديث، 1986). رينولدز، أندرو وريلي. دليل المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات حول أشكال النظم الانتخابية (استكهولم: المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2002). Alain Rouquié, "Clientelist Control and Authoritarian Contexts," in Guy Hermet; Richard Rose; Alain Rouquié, Elections without Choice, 21 صيحة دامية للاصلاح في العالم العربي: 11 يناير 2011 http://www.alquds.com/node/318195