في ظل تسارع وتيرة الحياة الرقمية وتزايد الاعتماد على الوسائط الاجتماعية، أصبحت الفيديوهات القصيرة إحدى أبرز أشكال المحتوى التي تجذب انتباه المستخدمين، خصوصا الشباب والمراهقين. غير أن هذا الانجذاب المتزايد قد تكون له آثار نفسية عميقة تستحق الوقوف عندها. وفي هذا السياق، يقدم الدكتور هشام العفو المتخصص والمعالج النفساني ورئيس رابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب، قراءة تحليلية دقيقة للتأثيرات النفسية الناتجة عن الإفراط في مشاهدة هذا النوع من المحتوى. أكد الدكتور هشام العفو، المتخصص والمعالج النفساني ورئيس رابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب، أن وتيرة استهلاك المحتوى الرقمي، خاصة الفيديوهات القصيرة، قد شهدت تصاعدًا مقلقًا خلال السنوات الأخيرة، وهو ما انعكس سلبًا على الحالة النفسية للعديد من الأفراد، خصوصًا في السياق المغربي. فقد باتت هذه الظاهرة متفشية بشكل لافت بين فئة الشباب والمراهقين، ما أدى إلى بروز مؤشرات مقلقة من قبيل ارتفاع مستويات القلق والتوتر، وتدهور المزاج، وتراجع جودة العلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى تفاقم مشاعر الإحباط والانعزال، وكلها مظاهر تنذر بتدهور محتمل في الصحة النفسية العامة. يرى المتخصص والمعالج النفساني، أن الإفراط في استهلاك الفيديوهات القصيرة يؤدي إلى ارتفاع ملموس في معدلات القلق، إذ يشعر المستخدمون بضغط مستمر لمتابعة الجديد خوفًا من تفويت المعلومات أو عدم مواكبة الصيحات الرائجة، مما يولّد نوعًا من التوتر المستمر والإرهاق النفسي. ويتجلى هذا بشكل خاص في سلوكيات تنافسية فارغة تُعمق الإحساس بعدم الرضا وتزيد من حساسية الفرد تجاه ما يراه من مظاهر مثالية ومبالغ فيها على هذه المنصات. كما أن التكرار المفرط لهذا النوع من المحتوى قد يؤدي إلى مشاعر العزلة والاكتئاب، حيث ينفصل الأفراد تدريجيًا عن واقعهم ويتبنون نماذج خيالية للنجاح أو السعادة، وهو ما يعزز شعورهم بعدم الكفاءة والفراغ الداخلي. ومن أبرز الآثار النفسية الأخرى التي يسجلها الدكتور العفو، التأثير السلبي لهذا النوع من المحتوى على العلاقات الاجتماعية. إذ يقضي الأفراد، خاصة الشباب، وقتًا متزايدًا أمام الشاشات على حساب التفاعلات الواقعية، مما يضعف الروابط العائلية والاجتماعية ويؤدي إلى نوع من الانفصال عن المحيط. وتتعزز هذه العزلة أكثر عندما يصعب على الأفراد مجاراة سيل المحتوى المتدفق من منصات متعددة، بعضها يحمل رسائل غير ملائمة أو حتى مخالفة للقوانين والأخلاق العامة. أمام هذا الزخم، يفقد البعض القدرة على الحفاظ على أهدافهم أو دوافعهم الداخلية، مما يقودهم إلى مزيد من الإحباط ويؤثر سلبًا على أدائهم الأكاديمي أو المهني، ويزيد من حدة الضغوط النفسية التي يعيشونها. وفي ما يتعلق بخطورة هذا النوع من المحتوى، يشير الدكتور إلى أن الفيديوهات القصيرة يمكن أن تصبح محفزًا لإدمان نفسي حقيقي، خاصة حين يستعملها الفرد كوسيلة للهروب من الواقع أو تخفيف التوتر. وتزداد الخطورة عندما يتعلق الأمر بشباب يواجهون تحديات اجتماعية واقتصادية ونفسية معقدة، مما يجعل هذا النوع من المحتوى جذابًا بشكل مرضي، خصوصًا عندما يكون مصحوبًا برسائل مضللة أو محتوى غير أخلاقي. أما في الحالات العادية، فإن الاستخدام المعتدل لهذا النوع من المحتوى قد لا يطرح مشكلات كبيرة، بل يمكن أن يوفر وسيلة للترفيه أو الترويح عن النفس، بشرط أن يكون المستخدم قادرًا على ضبط الوقت وتوزيع الانتباه على الأنشطة اليومية الأخرى بشكل متوازن. ويحذر الدكتور العفو من تحول الاستخدام العادي إلى حالة من الإدمان الخفي، خاصة عندما تطول فترات المشاهدة وتُهمَل الالتزامات الدراسية أو المهنية. ويلاحظ أن فئات عمرية متعددة، من بينها المسنون، باتت تنخرط بدورها في هذا السلوك، ما يدق ناقوس الخطر بشأن مدى انتشار الظاهرة. فالأشخاص الذين يعانون من الإدمان على المحتوى القصير غالبًا ما يشعرون بالقلق أو الانزعاج عند انقطاعهم عنه، مما يعكس صورة إدمانية واضحة. كما أن هذا النمط السلوكي يؤثر سلبًا على العلاقات الواقعية، حيث يصبح التفاعل الافتراضي هو الخيار المفضل لدى البعض، وتتزايد مظاهر العزلة والانغلاق كنتيجة مباشرة لذلك. ولا يمكن إغفال الأثر العميق لهذا المحتوى على القدرات المعرفية، خصوصًا التركيز والانتباه. فقد أظهرت أبحاث في علوم الأعصاب أن التحفيز المتكرر الناتج عن الفيديوهات القصيرة يؤدي إلى تشتت الذهن ويضعف من قدرة الدماغ على المعالجة العميقة للمعلومات. ويظهر هذا التأثير في الفصول الدراسية، وأماكن العمل، وحتى في المواقف اليومية، حيث تقل قدرة الأفراد على التركيز في المهام المعرفية أو المعقدة. وتشير دراسات مثل تلك الصادرة عن مركز "بيو" للأبحاث ومجلة "Psychological Science" إلى أن هذا النوع من الاستهلاك يؤدي إلى أنماط تفكير سطحية، مما يصعب على الأفراد أداء مهام تتطلب تفكيرًا متأنيًا أو تحليلاً عميقًا، ويؤثر بالتبعية على تحصيلهم الأكاديمي ومردودهم المهني. ويختتم الدكتور بالتأكيد على أن هذا السلوك الرقمي، حين يتخذ طابعًا قهريًا أو مبالغًا فيه، لا يمثل فقط تهديدًا للصحة النفسية الفردية، بل قد يؤثر على البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع ككل. فاختلال التوازن في استهلاك المحتوى الرقمي قد يؤدي إلى استنزاف ذهني وعاطفي يعيق قدرة الفرد على التفاعل الإيجابي مع محيطه، ويؤثر على جودة الحياة بشكل عام كما هو منصوص عليه في تعريف منظمة الصحة العالمية للصحة النفسية. ومن ثم، فإن التحسيس بخطورة الظاهرة، ووضع ضوابط واضحة، وتعزيز الوعي الرقمي، كلها خطوات ضرورية للحد من تداعيات هذه الظاهرة المتصاعدة وضمان توازن صحي في الحياة النفسية والاجتماعية للأفراد.