قد يهون على المرء في كثير من الأحيان، توجيه سهام النقد إلى أصحاب القرار السياسي والإداري حتى وإن كان في موقع لا يسمح له بامتلاك رؤية واضحة المعالم اتجاه ما يتعامل معه بالنقد من مواقف وقرارات أو غياب للمواقف والقرارات، لكن، في بعض الأحيان الأخرى، يكون النقد المصحوب باقتراحات مفيدة وبناءة ضرورة وواجبا لا محيد عنهما، خصوصا عندما يتواجه المرء مع مجموعة من الأعطاب والاختلالات التي تؤثر في الدولة والمجتمع حيث يعيش في حين يجد نفسه قادرا على تقديم الحلول والمعالجات بخصوصها. مناسبة هذا الكلام هي ما يراودني اليوم _بعد مرور عشر سنوات عن إصدار مدونة الشغل في المغرب _ من حاجة ملحّة إلى اتخاذ موقف واضح من طريقة تدبير قطاع الشغل من طرف الحكومة المغربية، وهو الموقف الذي يتجلى في انتقاد الوضع الحالي للقطاع والتعبير عن امتعاضي واستنكاري للأسلوب السلبي المتّبع من طرف المسؤولين عنه، وذلك بصفتي أزاول مهنة مفتش شغل في المغرب، وهي للتذكير مهنة مثقلة بالمهام الوازنة والحساسة والنبيلة، أذكر منها مثلا دون الحصر مهمة الحفاظ على السلم الاجتماعي عن طريق التدخّل لفض نزاعات الشغل ومهمّة السهر على تطبيق قانون الشغل وإرشاد الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين والإداريين في ما يرتبط بقانون الشغل وغير ذلك من المهام التقنية والإدارية الأساسية منها والطارئة. وإن ممارسة هذه المهام وما يرافقها من احتكاك مباشر مع مختلف الفرقاء من أجراء وأرباب عمل ونقابات وجمعيات ورجال سلطة ومصالح إدارية لهو كاف في نظري لتعزيز موقع مفتش الشغل وقدرته على إدراك الواقع المعاش في عالم الشغل واستنباط مكامن الخلل في القانون وفي أسلوب تدبيره أكثر من غيره، فأين تتجلى تلك المكامن؟ وكم هي حاجتنا كبيرة وملّحة ومستعجلة لوضعها قيد الدرس والتحليل قصد معالجتها معالجة علمية سليمة ومتعمّقة؟ في نظري المتواضع، يتضمن قطاع الشغل في المغرب نوعان من المشاكل أو ما سميّناه في سؤالنا بمكامن الخلل، فهناك مشاكل قانونية محضة أو تشريعية وهناك مشاكل تدبيرية، سنحاول أن نورد أغلبها بإيجاز على الشكل التالي: 1- المشاكل التدبيرية لعالم الشغل: إذا ما رجعنا بالزمان إلى الوراء ولاحظنا كيف تطوّرت الوزارة المكلفة بتنظيم الشغل عبر التاريخ وقمنا بمقارنة بين ما كانت عليه بالأمس أي بعد الاستقلال وما هي عليه اليوم، سوف نلاحظ أنها فقدت الكثير من وزنها وقيمتها داخل المنظومة الحكومية وكأن الدولة أخذت ترفع يدها شيئا فشيئا عن المجال الاجتماعي، فالوزارة المكلفة بالشغل في المغرب كانت تقوم بالعديد من الأدوار المهمة إن على مستوى تدبير ملف التشغيل عبر مكاتب التشغيل (Bureaux de placements) التي كانت تحقق نتائج جد إيجابية في ما يخصّ إنعاش التشغيل بشهادة مجايليها أو على مستوى تدبير شؤون الجالية المغربية بالخارج وكذا على مستوى محاربة الأمية والرعاية الاجتماعية للعمال بالإضافة إلى تفتيش الشغل الذي كان ومازال يعتبر نواة الوزارة وقلبها النابض، أما اليوم وقد سحبت من وزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية كل تلك الاختصاصات ما عدا تفتيش الشغل، فقد تحوّلت هذه الأخيرة من قطب وزاري تجتمع فيه جل الوظائف الاجتماعية إلى وزارة صغيرة بميزانية جد هزيلة يقتصر دورها على جمع التقارير والإحصائيات التي يحرّرها المفتشون إضافة إلى بعض المهام الأخرى البسيطة كتسليم بعض التراخيص الإدارية والقيام بدراسات محدودة في هذا المجال أو ذاك، ولعلّ أكثر ما يعاب اليوم على وزارة التشغيل في ظل هذه الوضعية هو التمركز الحاد الذي يطبع طريقة اشتغالها وانعدام التخطيط الذي من شأنه ضمان الاستغلال الأمثل لما يقوم به جهاز تفتيش الشغل من مهام بالغة الأهمية وعدم التركيز على تحسيس المجتمع بأهمية تلك المهام، إضافة إلى التعامل بنوع من اللامبالاة مع مشكلة النقص أو "الانقراض" الذي يصيب مفتشي الشغل في المغرب (عدد مفتشي الشغل الممارسين في المغرب يقارب 400 مفتش وهو رقم هزيل بالقياس مع حجم البنية الاقتصادية المغربية) ومحدودية الصلاحيات الممنوحة لهم وغير ذلك من المشاكل، بيد أن القيام بأي خطوة إصلاحية في اتجاه تطوير جهاز التفتيش والرفع من مردوديته لا يمكن أن يكون إلا بإشراك القطاعات الحكومية الأخرى (وزارة المالية ووزارة العدل على وجه الخصوص) اللهم إلا إذا كانت أجهزة الحكومة لا تتوفر على إرادة سياسية حقيقية للنهوض بهذا القطاع الحساس أو أنها لا تريد أن تتوفر الدولة المغربية على جهاز رقابة اجتماعية قوي وقادر على تحصين البلاد والمواطنين من الاستغلال المغرض والتملّص من تطبيق القوانين. وأمّا إذا توفرت الإرادة السياسية للنهوض بالقطاع وحسن تدبيره، فإن ذلك سيحتاج إلى مباشرة مجموعة من الإجراءات الضرورية، أذكر منها مثلا: ضرورة تعزيز صلاحيات مؤسسة مفتش الشغل في مجال المراقبة وضبط المخالفات القانونية وتحصين رجالاتها في إطار القانون الذي ينظّم مهام الضابطة القضائية وفي إطار احترام أخلاقيات المهنة. العمل على تزويد جهاز تفتيش الشغل بالموارد البشرية واللوجيستيكية بما يضمن السير العادي للجهاز خلال ممارسته لمهامه المتعددة. تحفيز الأطر والموظفين من غير مفتشي الشغل بالوزارة ماديا ومعنويا عبر إشراكهم في برامج عمل الوزارة وتكليفهم بمهام إدارية واضحة ومهيكلة. إعداد هيكل تنظيمي خاص بالمصالح الخارجية لوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية. مراجعة طريقة العمل ببرنامج عقدة الأهداف بين المصالح المركزية والمصالح الخارجية للوزارة عبر تحديد الأهداف والحاجيات محليا قبل إعدادها للمصادقة عليها. الفصل بين مهمتي المراقبة (مهمة زجرية) والصلح (مهمة اجتماعية وتفاوضية) في إطار الاختصاص داخل نفس الوزارة أي وزارة التشغيل. توفير موارد مالية جديدة لوزارة التشغيل كاختصام الرسوم من محاضر المخالفات والجنح وخلق شيات ذات قيمة رمزية لمحاضر الصلح والرخص التي تمنح في إطار اختصاصات مندوبيات الشغل على سبيل المثال. تعويض مصطلح التشغيل المنصوص عليه في تسمية الوزارة بمصطلح الشغل أو العمل بحكم أن ملف التشغيل لم يعد خاضعا لإشراف الوزارة بل تشرف عليه وكالة إنعاش التشغيل والكفاءات الخاضعة لوصاية الوزارة. 2- المشاكل القانونية لعالم الشغل: يعتبر قانون الشغل في المغرب من القوانين القديمة حيث يرجع تاريخه إلى مرحلة الحماية في بداياتها حين بدأ يصدر في شكل مراسيم متفرقة ليغطي حاجات المستعمر وشركاته التي استوطنت في المغرب، وقد تأسس جهاز تفتيش الشغل في ذات السياق خلال العشرينيات من القرن الماضي وبدأ العمل به منذ ذلك الوقت لتنظيم عالم الشغل ومراقبته وفق رؤية المستعمر وتبعا لمصالحه، وعند حصول المغرب على الاستقلال وقعت تغييرات طفيفة على مستوى القانون حيث تم محو آثار الميز العنصري الذي كان موجودا من جهة وترميم وتجديد بعض النصوص القانونية للشغل من جهة أخرى، ورغم الحركية النقابية والمؤسساتية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال، فقد بقيت الترسانة القانونية المتعلقة بعالم الشغل راكدة منذ تلك الفترة إلى غاية سنة 2004 وهي السنة التي صدرت خلالها مدونة الشغل تتويجا لمسلسل عمره ثمان سنوات من الحوار الاجتماعي بين المركزيات النقابية الأكثر تمثيلا والحكومة من جهة وما بينها وبين مؤسسات أرباب العمل برعاية الحكومة من جهة أخرى. وبإصدار المدونة تكون الدولة المغربية قد استطاعت تجميع النصوص القانونية المرتبطة بالشغل في كتاب واحد بدلا من حالة التفرقة التي كانت عليها من قبل كما استطاعت أن تعزّز الترسانة القانونية بالعديد من المستجدات الإيجابية على مستوى حماية المرأة والطفل العاملين وإلغاء نظام السخرة أو العمل الجبري والرفع من قيمة التعويض عن الفصل ومواد أخرى كثيرة، لكن في نفس الوقت يعاب على المدونة أنها تراجعت على مستوى بعض القوانين السابقة التي كانت جد إيجابية مثل عقدة تعليم الشغل للأطفال (Contrat d'apprentissage) باعتبارها بديلا لظاهرة تشغيل الأطفال المستفحلة في بلادنا وكذلك على مستوى الاختصاص التشريعي لبعض المهن، إذ أن عمومية المقتضيات الصادرة في مدونة الشغل تطرح بعض الصعوبة في تطبيقها على مجموعة من المهن التي لها خصوصيتها وهو ما لم يكن واردا في القوانين السابقة. على العموم، يبقى إصدار مدونة الشغل قبل عشر سنوات عملا إصلاحيا جذريا أنجزته الدولة المغربية بمختلف مكوناتها وهو يستحق الإشادة إلا أنه يحتاج لبعض الترميمات التي يقتضيها واقع الحال مثلما يقع بعد إصدار كل قانون من حجم وطبيعة مدونة الشغل، ولعل أهم ما يحتاج إلى ترميم على وجه الخصوص والاستعجال هو ما يلي: ** إصدار مرسوم جديد ينظّمّ العمل بعقدة تعليم الشغل للأطفال الشيء الذي من شأنه مساعدة المغرب على الإحاطة بظاهرة تشغيل الأطفال وتحسين صورته أمام المؤسسات الدولية. ** التنصيص على ضرورة كتابة عقود الشغل محددة المدة. ** توضيح معنى توقف عقد الشغل المنصوص عليه في المادة 32 من المدونة والأثر القانوني لذلك التوقف على الأطراف المتعاقدة من ناحية الأجر والأقدمية والرخصة السنوية والضمان الاجتماعي وغيرها. ** تحديد أجل البت في محاضر المخالفات أو الجنح الموجهّة إلى القضاء مع التنصيص على أن تكون الغرامات الناتجة عن تلك المحاضر مرفوقة بالحكم على المشغل المخالف للقانون بتسوية الوضعية القانونية للأجراء المتضررين من تلك المخالفات أو الجنح. ** إصلاح مجموعة من المواد القانونية المرتبطة بعمل جهاز تفتيش الشغل كالتنصيص على إلزامية حضور الأطراف التي يتم استدعاؤها لمندوبية الشغل من أجل محاولة تسوية نزاعات الشغل الجماعية، وإصلاح المادة 543 من مدونة الشغل والتي تتعلق بطلب إغلاق المؤسسات التي تعرض الأجراء لخطر الحال في مجال السلامة المهنية بما يضمن صحة ووضوح المسطرة القانونية المنصوص عليها في تلك المادة، وإصلاح المادتين 39 و62 من مدونة الشغل بما يضمن حياد واستقلالية مفتش الشغل. وتجدر الإشارة إلى أن الإصلاحات المقترحة أعلاه لا تخضع لمبدأ التوافق الذي طبع إصدار قانون الشغل ولا لحساسية المصالح التي أثارت نقاشات ساخنة قبل التوافق على إصدار هذا القانون بالنظر إلى كونها ذات طبيعة تقنية ومسطرية لا أكثر علما أنه مازال هناك العديد من نقاط الضعف التي لم أركزّ عليها أعلاه والتي هي في حوزة المصالح المركزية لوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية بعدما تمت مناقشتها وتجميعها في مناسبات كثيرة. بقلم ياسر الطريبق المندوب الإقليمي المكلف لوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية بتطوان