في واحد من مجالسه الوزارية قال الحسن الثاني وهو يخاطب وزراءه: «مفتشو الشغل أهم لدي من رجال الأمن».. هذه واحدة من اللحظات التي يرويها رفيق الحداوي، وزير التشغيل والشؤون الاجتماعية الأسبق في حوار صحافي سنة 2001 ، مضيفا، التفت الملك إلى وزير المالية وأمره بتخصيص 50 منصبا ماليا في قانون المالية للمفتشين». وهو يعلم أهمية دور مفتشي الشغل، لكن لا شيء من ذلك تم تطبيقه.. وإلى اليوم وبعد مرور قرابة عقدين من الزمن لا زال المفتشون يعيشون الوضعية نفسها، ولعل أفضل وصف يليق بوضعيتهم أنهم جهاز «في طور الانقراض»، رغم جسامة المهام الملقاة على عاتقهم، ودورهم الأساسي في منع نزاعات الشغل، وهي المهمة التي يقومون بها إلى جانب دورهم الرقابي. قبل قرابة 11 سنة دخلت مدونة الشغل حيز التنفيذ، وهي المدونة التي أضافت فاعلا جديدا في مراقبة احترام تطبيق مقتضياتها، ويتعلق الأمر بالمهندسين المكلفين بتفتيش الشغل، كما كرست «عرفية» التدخل في نزاعات الشغل، وقد أضحى هذا التدخل اختصاصا قانونيا، رغم تعارضه مع مهمة المراقبة والتفتيش كمهمة أساسية تنص عليها الاتفاقيات والتوصيات الدولية المتعلقة بتفتيش العمل. واليوم بعد كل هذه السنوات، لازال مفتشو الشغل يتحدثون عن الصعوبات اليومية التي تعترض المنتسبين إلى الجهاز في التوفيق بين مهمتين متعارضتين هما المهمة الرقابية، التي تتم عبر زيارة مقرات العمل في الشركات والمعامل والضيعات الفلاحية، وهي مهام تتم غالبا في الفترة الصباحية، ويكون الغرض منها تسجيل المخالفات التي قد يرتكبها المشغلون وتحرير محاضر بشأنها، ثم مهمة المصالحة بين أطراف العلاقة الشغلية، وهي المهمة التي يقوم بها المفتش في الفترة المسائية. مهمتان متعارضتان.. يقول عبد الصمد عاصم، عضو المكتب الوطني لجمعية مفتشي الشغل بالمغرب، إن «جهاز التفتيش يقوم بأدوار كبيرة، خاصة في ما يتعلق بنزاعات الشغل وهي ليست وظيفته من الأساس، ويحل مشاكل الناس دون أن يلتفت إليه أي أحد، ويفترض أنه جهاز مراقبة وتفتيش، وهذا يدل عليه اسمه، والواقع يوضح أنه صار جهازا يمارس دور «إطفائي» لمنع النزاعات الشغلية خاصة الجماعية، وهذا من المفارقات، لأن الاتفاقية الدولية 81 و129 التي صادق عليها المغرب والتي تعتبر دستورا لمفتشي الشغل، تؤكد على أنه لا يمكن أن يكلف جهاز تفتيش الشغل بأدوار تبعدها عن مهمتها الأساسية وهي مراقبة تطبيق تشريع الشغل». ويضيف «مع دستور 2011 الذي يؤكد على سمو الاتفاقيات الدولية، صار لزاما تحرير مفتش الشغل من وظيفة المصالحة، وهي مهمة يمكن أن تقوم بها هيئات أخرى، ويمكن أن نعتمد نماذج دول أخرى مثل فرنسا التي تخصص مجالس متخصصة في فض النزاعات. حتى أن الكثير من الباحثين يتفقون على أن من الصعب على مفتش الشغل التوفيق بين مهمتي المراقبة والمصالحة، بالنظر أولا إلى العدد الكبير للنزاعات التي ينظر فيها يوميا، ولكون العلاقة الشغلية تجمع بين طرفين متناقضين في المصالح أي المشغل والأجير، وقد كان المجلس الاقتصادي والاجتماعي شدد في دراسة حول النزاعات الجماعية على أن هناك تعارضا بين المهمتين». 400 أو أقل.. كم يبلغ عدد مفتشي الشغل في المملكة؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، وحتى المنتسبون إلى الجهاز لا يملكون عنه جوابا يقينيا، لكن بعض الأرقام تشير إلى أنهم يقاربون 400 مفتش، وفي الدارالبيضاء مثلا يصل عددهم إلى قرابة 60 مفتشا، في حين لا يتعدى عددهم في جهة مراكش 20 مفتشا، لكن هل هو رقم يكفي لأداء المهمة الجسيمة التي تلقى على عاتقهم، وهل يكفي أيضا ليتحملوا مسؤولية المشاكل المتعلقة بمراقبة وضبط قطاع الشغل بالمغرب، الملقاة على عاتق مفتشي الشغل.. وهي المهام التي تحدث عنها عبد الواحد سهيل، وزير التشغيل السابق، خلال ندوة وطنية نظمتها الجمعية المغربية لمفتشي الشغل شهر دجنبر 2012 حول «دور مفتش الشغل في بناء دولة الحق والقانون في الميدان الاجتماعي»، وقال «إن مفتش الشغل يتولى مسؤولية كبرى، إذ يوجد في صلب مسلسل الإنتاج، ويقوم غالبا بدور المصالحة بين فاعلين ذوي مصالح متضاربة٬ والحفاظ على الحقوق وضمان التوازن الاجتماعي». يقول عبد الصمد عاصم، عضو المكتب الوطني لجمعية مفتشي الشغل بالمغرب، إن الرقم الحقيقي لعدد مفتشي الشغل غير معروف، وإن كانت بعد المصادر تشير إلى أنه يقارب 400 مفتش شغل، وهو رقم أثير قبل أزيد من سنة ونصف، لكنه يحتاج إلى مراجعة في ظل التناقص الشديد الذي يعرفه هذا الجهاز، ليضيف، «هناك حالات كثيرة للمحالين على التقاعد، وغياب التوظيف، رغم أن الوزارة اعتمدت هيكلة إدارية جديدة، وخلقت مديريات ومصالح إضافية، ما جعل بعض المفتشين يلتحقون بمناصب المسؤولية، وهذا ما زاد في تناقص أعدادهم». العدد الهزيل لمفتشي الشغل، مقارنة مع جسامة المهام الموكولة إليهم، فضلا عن العدد الكبير للمؤسسات التي يلزمون بمراقبتها، يقابله تجاهل تام من طرف الوزارة الوصية، وهذا يدفع إلى التساؤل عن سر توقف عملية التوظيف في صفوف هيئة تفتيش الشغل منذ سنة 2011، مقابل خروج العشرات من المفتشين والأطباء مفتشي الشغل إلى التقاعد وإضاعة 11 منصب طبيب مفتش الشغل سنة 2013 ، ثم ما معنى أن لا يتم توظيف ولو مفتش أو طبيب واحد ضمن المناصب القليلة التي خصصتها الحكومة للوزارة سنوات 2013، 2014 وحتى 2015؟ يقول عاصم في هذا الصدد: «الإشكال الكبير في ملف مفتشي الشغل، أن مسؤولي الوزارة فشلوا في محطتين أساسيتين، أولهما ما يتعلق بمدونة الشغل، التي كرست بشكل قانوني وظيفة المصالحة، ونصت على المهندسين المكلفين بتفتيش الشغل، إضافة إلى المفتشين وأطباء الشغل، وهذا يعني زيادة في المهام الموكولة لهذا الجهاز»، وللأسف، يضيف، «الوزارة لم تستغل الفرصة لترفع من الميزانية المرصودة للموارد البشرية، بل كان نصيب المفتشين مهام وأعباء إضافية، ثم الفشل الثاني يهم نصيب المفتشين من اتفاق 26 أبريل 2011، إذ نص على التزامين أساسيين يهمان جهاز تفتيش الشغل، أولهما يهم الموارد البشرية، حيث انتبهت الأطراف كلها إلى أن مفتشية الشغل تعاني نقصا حادا في الموارد البشرية، واتفقت مجتمعة على ضرورة تمكين الجهاز من مناصب مالية خلال سنتي 2012 و2013 تسمح بالرفع من عدد المفتشين، وهذه نقطة كان عليها إجماع». والغريب، أيضا، «أنه في سنة 2012 كان من نصيب جهاز التفتيش صفر منصب، وفي السنة التي تليها، حصلنا على 5 مناصب، وكان قطاع المفتشين في وزارة التشغيل آخر قطاع في الترتيب مقارنة مع باقي الوزارات..و في 2014 أيضا كان نصيب الجهاز 5 مناصب مالية، ارتفعت في السنة المالية للسنة الجارية إلى 10 مناصب، ثم هناك إشكال آخر يتعلق بإسناد هذه المناصب إلى فئات أخرى خاصة المتصرفين والتقنيين ويحرم منها جهاز التفتيش وهو أحوج إليها». مخاطر بالجملة.. ومحاكمات بالنظر إلى أهمية الدور المنوط بجهاز تفتيش الشغل، انتبهت الاتفاقيات الدولية إلى جسامة المسؤوليات الملقاة على عاتق مفتش الشغل، وفي الفصل السادس من الاتفاقية 81 هناك إشارة واضحة إلى نظام أساسي خاص بهيئة التفتيش، وهو ما من شأنه أن يعكس خصوصية هذا الجهاز وتميزه. وحسب مفتشي الشغل فمن شأن اعتماد نظام أساسي أن يكفل الاستقرار للمفتشين ويمكنهم من أداء مهمتهم على الوجه الأكمل. فضلا عن تفادي جميع أشكال الضغوطات التي قد يتعرضون لها من طرف جميع الأطراف ممن لهم في الأصل مصالح متناقضة، وتحصينهم من أي إغراءات. ولعل من بين أبرز الأخطار التي تهدد المفتشين في عملهم اليومي هو شبح الملاحقات القضائية، ما يفتح قضية الحماية القانونية اللازمة لمفتشي الشغل أثناء قيامهم بمهامهم. مطلب الحماية القانونية للمفتشين يجد شرعيته، حسب المنتسبين إلى الجهاز، في ما حصل سنة 2012 حين وجد مفتش للشغل نفسه في مواجهة قضية أمام المحاكم، توبع فيها بتهمة التزوير في محرر رسمي، وهي التهمة التي برئ منها، قبل أن يتابع زميل له بخنيفرة، بتهمة مماثلة، بسبب شكاية من مشغل اتهمه أيضا بالتزوير في محرر رسمي. يقول عاصم في هذا الصدد: «من المطالب الأساسية لمفتشي الشغل حماية المحاضر التي ننجزها، والمتابعات التي تطال المفتشين هي متابعات كيدية فقط، ويهدف المشغلون من ورائها إلى التهرب من المحاضر المنجزة التي تضبط الخروقات التي كشفها المفتش، ولهذا لا زلنا نطالب بتفعيل الالتزام الذي وقعته الحكومة، ممثلة في وزارة العدل ووزارة التشغيل والقاضي بتفعيل محاضر مفتشي الشغل الخاصة بمخالفات وجنح الشغل، وكذا نزاعات الشغل الجماعية، من خلال إصدار دورية في الموضوع». وإلى الآن لازال المفتشون ينتظرون التدخل الفعلي لوزارة العدل تجاه محاضر المفتشين، بما يعزز الحماية القانونية أثناء مزاولتهم مهامهم، وهي من المطالب الملحة والعاجلة، خاصة في ظل المضايقات التي يتعرضون لها نتيجة تحريرهم للمخالفات، وهو المطلب الذي كان موضوع مراسلة إلى رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، لكنها بقيت دون جواب. واليوم بسبب المتاعب التي يصادفها المفتشون، مع توالي حالات استدعائهم من طرف مراكز الشرطة لمساءلتهم حول ما يرد في المحاضر، زاد إحجام المفتشين عن تحريرها، وهو ما تعكسه الأرقام المسجلة سنة 2013 حيث انخفض عددها إلى 284 محضرا، مقارنة مع 508 محاضر سنة 2012. ولهذا يقول عضو جمعية مفتشي الشغل بالمغرب، «مفتش الشغل موسوم بالتواطؤ دوما، سواء من طرف المشغلين أو من طرف النقابات، وأمام جو التخوف الذي نعيشه وتنكر الوزارة لنا، حتى أنها لا تكلف نفسها توكيل محام ينوب عن مفتش تابع لها متابع بتهم كيدية، فضلا عن غموض الالتزام الموقع مع وزارة العدل، إذ لا علم لنا بالخطوات التي تم القيام بها، ومنذ 4 سنوات خلت نكرر السؤال نفسه المتعلق بتفعيل التزامات 26 أبريل 2011 الخاصة بمفتشي الشغل». 3 أ سئلة ل: – تؤاخذون على وزارة التشغيل، وهي الوصية على جهازكم، أنها تتنكر للالتزامات الموقعة في إطار اتفاق 26 أبريل 2011؟ للأسف لا شيء قدمته الوزارة، حتى أنهم لا يستقبلوننا، ولا يتحاورون معنا، وقد راسلناها غير ما مرة بشأن حقائق ووقائع نعيشها في القطاع، وهم أيضا لا يتجاوبون مع مطالبنا بدعم الموارد البشرية التي تشكل الجزء الأكبر من المشكل، وستظل كذلك لزمن طويل. ونحن نتساءل عن سبب صمت الوزارة، وخاصة مديرية الموارد البشرية التي فشلت في الدفاع عن مصلحة الوزارة، طالما أنها تملك مبررا قويا للحصول على مناصب مالية، وحتى حين تمنح لها مناصب جديدة، تحولها لفئات أخرى.. الوزارة أقفلت باب الحوار، وصمت آذانها عن الالتزامات الحكومية، ما دفعنا لأن نوجه بشأنها رسالة إلى رئيس الحكومة، وإلى وزراء في قطاعات ذات صلة بمطالبنا، شرحنا فيها موقفنا من الغموض الذي يطبع التعامل معنا، وإلى الآن لم نتوصل بأي رد من رئاسة الحكومة. – ماذا عن الهيكلة الجديدة التي اعتمدتها الوزارة؟ هناك إيجابيات في هذه الهيكلة لا يمكن إغفالها، لأن مديريات كثيرة كانت تشتغل على الورق، وليست لها وضعية قانونية وغير معترف بها لأنها لم تنشر في الجريدة الرسمية. والمسؤولون عن هذه المديريات لم يكونوا يتلقون تعويضات عن المهام وهذا أمر تم تجاوزه، والنظام الهيكلي الجديد مكن من تجاوز هذه الوضعية، وتم فتح مصالح جديدة، ما مكن من توضيح المسار المهني، وتوسيع الآفاق بالنسبة للمفتشين والمتصرفين والإداريين لشغل مناصب المسؤولية، لكن رغم ذلك، يظل مشكل الموارد البشرية قائما، لأن إنشاء مديريات جديدة وخلق أقسام قلص من عدد المفتشين، والغريب في بعض الجهات أن تجد مسؤولا في دائرة التفتيش يمارس دور الرئيس على نفسه، وهو الوضع نفسه لبعض المديرين الإقليميين. ويمكن هنا أن أورد حالة مدير إقليمي في الرحامنة، لا يتوفر على مقر إداري، ويمكن أن نتصور أين سيمكن لهذا المسؤول أن يقوم بمهمته؟ وإلى الآن لا زال يتنقل بين مكاتب القياد والباشوات لتسجيل شكايات العمال والمستخدمين.. وفي رأيي أنه حين يتحدث المسؤولون عن الحكامة الجيدة، فالمفروض في جهاز تفتيش الشغل أنه يسعى إلى حل المشاكل لا أن يستنفد جهده في حل مشاكله المستعصية. – تدافعون منذ سنوات عن ملف مطلبي لا تكاد تتغير مضامينه، ما الذي يحول دون الوصول إلى اتفاق بشأنها؟ لا نتردد في وصف وزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية بوزارة المفارقات، فإذا كان مطلوبا من مفتشي الشغل مراقبة تطبيق مدونة الشغل وإنفاذ التشريعات الاجتماعية حتى يتمتع الأجراء بالمؤسسات الإنتاجية بحقوقهم، فإن مديرية الموارد البشرية والميزانية والشؤون العامة لا تتحرج من ضرب القانون عرض الحائط والإجهاز على حقوق موظفي ومفتشي الوزارة، كما في حالة عدم إطلاع الموظفين على لوائح الترقي، كما ينص على ذلك الفصل 36 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، أو حينما تخرق المعايير القانونية المعمول بها في مجال الترقية بالاختيار، وخاصة معيار الأقدمية في الدرجة. كما أن المديرية تنفرد بكونها الوحيدة في المغرب التي لا تعترف بشيء اسمه أمر القيام بمأمورية، إذ تستقدم موظفيها ومسؤوليها من مكان عملهم أينما كان إلى العاصمة الرباط أو إلى مدينة أخرى دون أن تمكنهم من أمر القيام بمأمورية الذي يفرضه القانون، لغرض حماية الموظف عند مغادرته مكان عمله الرسمي المعتاد من جهة، ولأجل تمكينه من وثيقة تكون سند مطالبته بمختلف التعويضات التي يكون لها محل بمناسبة التنقل من جهة أخرى (التعويضات عن التنقل، التعويضات الكيلومترية وعن استعمال السيارة الشخصية لأجل المصلحة…). نفس المديرية لا تجد أدنى حرج حين تنكر كتابة حقوق موظفيها المدعوين للتكوين في مدينة غير المدينة التي يزاولون بها عملهم الرسمي، تنكر حقوقهم في التمتع بالتعويضات عن التنقل ووجبات الأكل التي تضمنها لهم قوانين البلاد.. هذه فقط بعض النقاط ضمن ملف مطلبي حررنا بشأنه المجلدات دون طائل، وللأسف الشديد، نخشى أن نستمر في رفعها لسنوات أخرى طويلة. * مفتش شغل- نقابة مفتشي وموظفي وزارة التشغيل عبد الصمد عاصم*