للمرة الثانية، منذ التحاقي بجهاز تفتيش الشغل بوزارة التشغيل والتكوين المهني بتطوان، يتعرّض الجهاز لحادثة سير خطيرة تبيّن بجلاء إحدى المظاهر التي تمسّه في وجوده وتزعزع كيانه المبني على تأدية المهام المنوطة به بتجرّد واستقلالية، وعلى رأسها مهمة مراقبة تطبيق قانون الشغل داخل أرجاء المعمور المغربي. نعم، هي المرة الثانية في حياتي المهنية والخاصة التي أكون فيها شاهدا على محاكمة زميل لي بتهمة التزوير في محرّر رسمي، ويتعلق الأمر بمحضر مخالفات حرّره المفتش المقصود بهذه التوطئة في حق مشغل (دار الضيافة) بمدينة الصويرة كان يخالف القانون، وقد ادّعى المشغل المبلّغ عنه أنه كان مغلقا في فترة تحرير المحضر بحكم عدم حصوله حينها على رخصة إدارية لممارسة نشاطه السياحي، قبل أن يقوم باتهام مفتش الشغل بالتزوير فتحوّل المبلّغ إلى مبلّغ عنه في نازلة مازالت أطوارها جارية بمحكمة الاستئناف بآسفي. لكنّنا نعرف والكل يعرف أن العديد من المقاولات المغربية تشتغل وتشغّل أجراء قبل الحصول على رخصة ممارسة نشاطها، وفي كثير من الأحيان لا تطلبها أصلا أو لربما تقوم بإرضاء بعض المقدمين غير النزيهين وغير المواطنين بشكل من الأشكال (مع اعتذاري للكثير من المقدمين الغيورين على هذا الوطن) من أجل جعلهم يتغاضون عنهم وعن وضعياتهم القانونية. لكن ما لا يعرفه أغلب الناس للأسف هو أن المسؤولية القانونية لتلك المقاولات اتجاه أجرائها ومسؤولية الأجراء كذلك اتجاه مشغليهم تكون قائمة وإن كانت العلاقة العمالية تتم خارج إطار القانون الإداري أو الترابي، فقانون الشغل هو قانون حمائي وهو يضع مسؤولية الإثبات على عاتق المشغل مثله في ذلك مثل قانون حوادث الشغل الذي يضمن حقوق الأجراء حتى في حالة غياب التأمين عن حوادث الشغل. من هذا المنطلق ومن زاوية الجندي المطالب بحماية وطنه، فإن مفتشي الشغل في كافة المندوبيات المتواجدة بالبلاد غالبا ما يقومون بتحرير محاضر مخالفات في حق أرباب عمل شاهدوهم بأم أعينهم وهم يخلّون بحقوق أجرائهم حتى وإن كانوا يمارسون أنشطتهم خارج دائرة القانون، فهم زاولون بذلك سلطتهم الضبطية باسم النيابة العامة وباسم الدولة المغربية، وكذلك فعل المفتش عبد الله ناظير فوجد نفسه يتابع بتهمة تزوير محرّر رسمي وليس بتهمة أخرى قد تسقط عنه أي محاولة للمؤازرة والتضامن معه. فهل أصبح لزاما على مفتشي الشغل في المغرب اليوم _والذين لا يتجاوز عددهم خمس مائة مفتش_ أن يغضّوا الطرف على مخالفات ترتكب أمامهم خوفا من المتابعة بالزور وما أدراك ما الزور؟ إن ما حدث لهذا الزميل في هذه القضية الشائكة كان نقمة على جميع مفتشي الشغل في المغرب، لكنها كانت نقمة تضمّ في طيّاتها نعما كثيرة لأنها صارت مناسبة بالنسبة إليهم لإثارة موضوع الحماية القانونية والنظام الأساسي لمؤسسة مفتش الشغل إن على مستوى الوزارة المشرفة على الجهاز (وزارة التشغيل والتكوين المهني) أو على المستوى الجمعوي والنقابي وكذلك على المستوى الإعلامي. فالموضوع أكبر من محاكمة قضائية يتواجه فيه شخصان وإنما هو موضوع يطرح نفسه على المجتمع المغربي ككل ويسائل الدولة المغربية إن كانت تمتلك حقا الإرادة السياسية ليكون لديها جهاز رقابة اجتماعية قوي ومحصّن من الاستغلال الاقتصادي أو السياسي أو مهما كان مصدره. فهل تمتلك الدولة المغربية بالفعل سياسة اجتماعية قادرة على ضبط الاختلالات المتراكمة في مجال تطبيق قانون الشغل؟ هل هي قادرة على الإحاطة بالقطاع غير المهيكل من خلال المدخل الاجتماعي والقانوني؟ هي تساؤلات من بين أخرى كثيرة تقدّم اليوم نفسها بإلحاح في خضم هذه المحاكمة الملغومة الجارية اليوم، محاكمة تمتثل فيها الدولة نفسها بصفتها متهما لا يتوفر على محام يدافع عنه ويؤازره في محنته، اللهمّ إلا بعض المفتشين النبلاء المعزّزين بمواقف نضالية قادتها كل من الجمعية المغربية لمفتشي الشغل والنقابات التي تتوفر على تمثيلية فعلية في القطاع. إن هذه القضية يمكن أن تكون مناسبة كذلك لتحسيس الرأي العام الوطني بالإكراهات التي تحوم حول وظيفة مفتش الشغل في المغرب. تلك الوظيفة المثقلة بالمهام الجسام التي تفوق قدراتها المادية والبشرية. إذ أن مفتشي الشغل في المغرب مطالبون بإبلاغ السلطات القضائية بكل المخالفات والتجاوزات القانونية المنصوص عليها في مدونة الشغل والتي يرصدونها في مناخ تتراكم فيه المخالفات بشكل كارثي وتتجلى فيه أغلب المؤسسات بالهشاشة الاقتصادية. وهم مطالبون كذلك بتحقيق السلم الاجتماعي عبر المساهمة في حل النزاعات الجماعية والفردية للشغل في جو ارتفعت فيه حدة الاحتقان الاجتماعي بشكل مهول وفي ظروف ازداد فيها عدد النزاعات بشكل كبير حسب الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية. مفتشوا الشغل مطالبون من جهة أخرى في إطار مزاولة مهامهم بتوجيه الأطراف والفرقاء الاجتماعين الذين يتوجهون إلى مندوبيات الشغل (على كثرتهم) بمضامين قانون الشغل وتوعيتهم أو بالأحرى تربيتهم على مبدأ احترام الحقوق والواجبات كما جاءت في مدونة الشغل وكما جاءت في فروع القانونين الخاص والعام. لذلك فإنه لمن اللازم اليوم، في نظري والوضع على هذا الحال، فتح نقاش عميق مع مختلف الشركاء الاجتماعيين والإداريين بما في ذلك خصوصا وزارتي العدل والداخلية حول الأدوار الكبرى المنوطة بمؤسسة مفتش الشغل في البلاد والبحث عن اقتراحات فعالة للنهوض بتلك المؤسسة التي تنظمها اتفاقيتين دوليتين للشغل صادق عليهما المغرب منذ سنوات خلت علما أن أصحاب الشأن وذوي الاختصاص ما فتئوا يتقدمون باقتراحات ومشاريع فعالة في هذا الباب لكنها تبقى في حاجة إلى التبنّي من طرف المسؤولين لكي يكون لها مردود مادي ومعنوي من شأنه أن يعود بالنفع على الدولة والأفراد بشكل عام. وفي هذا السياق سأحاول بدوري المساهمة بحكم معرفتي الخاصة بالقطاع وبفضل تمعّني في البحث في جوانبه المتعددة بتقديم بعض الاقتراحات التي يجب اعتمادها بشكل موحّد ومتكامل لتدارك جزء من الاختلالات التي يعاني منها جهاز تفتيش الشغل في المغرب دون أن أدّعي أنني أتقدم بالمفاتيح السحرية القادرة على تغيير الوضع بين عشية وضحاها. و أخصّ بالذكر هنا على سبيل المثال: ضرورة التركيز على تعزيز صلاحيات مؤسسة مفتش الشغل في المغرب في مجال المراقبة والضبط وتحصين رجالاتها في إطار القانون الذي ينظّم مهام الضابطة القضائية وفي إطار احترام أخلاقيات المهنة. العمل على تزويد جهاز تفتيش الشغل بالموارد البشرية واللوجيستيكية بما يضمن السير العادي للجهاز خلال ممارسته لمهامه المتعددة مع الفصل بين مهمتي المراقبة (مهمة زجرية) والصلح (مهمة اجتماعية وتفاوضية) في إطار الاختصاص داخل نفس الوزارة أي وزارة الشغل. تحديد آجال النظر والبث في محاضر المخالفات المحرّرة من طرف مفتشي الشغل حتى لا تبقى مجمّدة في أرصفة المحاكم سنسن طويلة كما يقع حاليا وكما وقع في حالة المفتش عبد الله ناظير الذي تكلمنا عن متابعته في هذا المقال. خلق لجنة خاصة أو مجلس خاص يتشكل من المختصين وأصحاب التجربة الطويلة داخل جهاز تفتيش الشغل تتكلف بوضع نظام أساسي متكامل لوظيفة مفتش الشغل وبإصلاح بعض الاختلالات القانونية الموجودة على مستوى قانون الشغل، وهي اختلالات ذات طابع تقني لا تحتاج بالضرورة إلى الرجوع محادثات برلمانية وتوافقات عامة. إقران الأحكام المترتبة عن ضبط مخالفات قانون الشغل بالنفاذ المعجّل على أساس فرض تطبيق الحقوق المرتبطة بها لصالح الأجراء وهو ما لا يتم العمل به حاليا حيث يتم الاكتفاء بأداء الغرامة دون أن يكون لتلك الغرامة أثر على الأجراء. البحث عن موارد مالية جديدة لوزارة الشغل عبر إصدار قوانين جديدة تسمح باختصام الرسوم من محاضر المخالفات والجنح مثلا مع تحفيز المفتشين بمنح ترتبط بالمردودية في أداء مهامهم. توحيد مساطر مزاولة مهام تفتيش الشغل أو ما يمكن نسميه منهجية عمل التفتيش مع تجنّب التأثير على استقلالية المفتشين في أداء وظيفتهم. وفي الأخير، أقول إن الآمال معقودة على المسؤولين في الدولة و على المجتمع المدني والحقوقي كذلك للنظر بتبصّر وإمعان في آفاق إصلاح جهاز تفتيش الشغل باعتباره يلعب دورا أساسيا في تحقيق السلم الاجتماعي والمحافظة على البنية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد وكذا حمايتها من الفوضى والاستغلال المغرض، وهو بذلك يعتبر واحدا من أهم أركان سياسة القرب في المجال الاجتماعي التي يجب تبنّيها في كل دولة عصرية.