كل ليلة تحرص هدى على الجلوس في إحدى الموائد بإيماء من نادل الحانة الذي بدوره يتلقى أتاوة على أحسن طاولة يختارها لها بقرب "أصحاب اللعاقة". تجلس غير بعيد عنها حيث تشرع في محاولة كسب ود الزبون واستمالته لاستهلاك أكبر كمية من الخمور بالرقص والدلع والقبلات والتغنج وأشياء أخرى، فقط لكي يسمح لها صاحب المحل بالتردد باستمرار على تلك الحانة. نخبة كبيرة من الباحثين الاجتماعيين والمؤرخين تعتبر أن الدعارة أقدم مهنة ضاربة في التاريخ على الإطلاق في مختلف المجتمعات منذ بداياتها بغض النظر عن ثقافاتها وعقائدها ودياناتها ومدى درجة حضارتها، ومع تناوب الحضارات وتعاقب الأزمنة كان أن قننتها بعض المجتمعات لتجعلها مهنة معترف بها لدى المؤسسات الحكومية، لها نقاباتها ومطالبها بل ومعترف بها كمهنة كباقي المهن مرقنة على بطاقة تعريف صاحبتها تدفع عنها رسوما وضرائب تستفيد منها الدولة كما هو الشان بالنسبة لكثير من دول الغرب. بائعات هوى برتب متفاوتة ونجوم متباينة، فيهن بنات "الهاي كلاص" وغير المصنفات أو حثالة الشوارع التي تلفظها قمامة آخر الليل أو ربما "سطافيطات" تجمع كل ما تجود به الحانات أو المقاهي الراقية أو ساحتي (...) و (...) ب(...) حيث يباع الجسد والشهوة رخيصين كما في أسواق الملابس المستعملة. هن فتيات ونساء ليل قد اختلفت ظروفهن الاجتماعية وأعمارهن وأسباب انحرافهن وانجرافهن وراء البحث عن الدرهم ولو ببيع ما لا يباع لكن يشترى. منهن "بنات دارهم" اللواتي جرفهن التيار من المجازات والموظفات وأخريات أميات لا يسعين إلا لسد الرمق وضمان لقمة العيش، أصبحن مدمنات على الدعارة رغم أنوفهن إما تحت وطأة الجوع والفقر وإما طمعا في زيادة الدخل والعيش على مستوى عال من الرفاهية. "الفيدور" والحقيبة في باب إحدى حانات شارع (...) ب(...) العالمة، يقف شابان قويا البنية ومفتولا العضلات التي لا تسمح بالولوج إلا للمرغوبين فيهم أو من فيهم شوية د ليدام واللعاقة" من سكارى آخر الليل. حوالي الساعة العاشرة ليلا تدنو منهما فتاة شقراء في غاية الأناقة والجمال وبلباس مثير جدا يكشف عن مفاتنها بشكل فاضح. بسرعة تناولهما حقيبتها اليدوية سيرا على سيناريو يتكرر كل ليلة، قبل أن تضع رجلها داخلا حيث البحث عن "الفيكتيم" ممكنا. هي هدى ذات الثانية والعشرين ربيعا التي دأبت على ارتياد تلك الحانة وعلبتها الليلية التي تنصب فيها شباكها بحثا عن زبناء لذة تائهون بين كراسيها الوثيرة أو لعبت الخمرة بعقولهم ولم تعد لهم القدرة على التركيز أو حتى العودة إلى ديارهم سالمين من دون ابتزاز. إنهم ليسوا طبعا من الذين يقال عنهم "سكران وحاضي حوايجو"، وهم الذين لا تترك لهم مثيلات هدى "حتى فلوس الطاكسي باش يرجعو". كل يوم تترك هدى حقيبتها اليدوية عند "الفيدور" في باب الحانة كتقليد يفرض على الفتيات اللواتي يسمح لهن بولوج الحانة "باش يدبرو على راسهم"، وهو ضمانة لهذا الفتى المفتول العضلات لتأمين "أتاوة" عشرات الفتيات من طينة هدى التي احترفت هذه المهنة بعد فشلها في زواج تقليدي دام سنتين وكان نتاجه طفل في ربيعه الأول تحرص على تأمين نومه قبل الخروج للعمل ليلا لتوفير مؤونتها ومؤونته. دلع وتغنج كل ليلة تحرص هدى على الجلوس في إحدى الموائد بإيماء من نادل الحانة الذي بدوره يتلقى أتاوة على أحسن طاولة يختارها لها بقرب "أصحاب اللعاقة". تجلس غير بعيد عنها حيث تشرع في محاولة كسب ود الزبون واستمالته لاستهلاك أكبر كمية من الخمور بالرقص والدلع والقبلات والتغنج وأشياء أخرى، فقط لكي يسمح لها صاحب المحل بالتردد باستمرار على تلك الحانة. وإذا ما نجحت في ذلك يكون لها "بريم" خاص من صاحب الحانة، أما ما يتعلق بالمساومة على قضاء ليلة حمراء مع الزبون فذاك يخضع فقط لدرجة التفاوض بينها الذي عادة ما تطالب فيه هدى ب"الدفع المسبق" أو "كاش" كي تصون حقوقها خاصة إن كانت سترافقه إلى منزله وهو ما لا يتم التركيز عليه حين يكون هو مرافقها إلى منزلها الذي تكتريه ب1000 درهم شهريا حيث تستفرد به و"تنتف" ما تبقى في جيبه من دراهم. وتحرص هدى على مناولة كل زبون يرافقها إلى منزلها، قرص من الأقراص المهلوسة الذي تدسه في شرابه كي يفقد الوعي و"يطيح بحال الميت" و"ما يقضي منها والو" ويعود بخفي خفي بعد أن تختلق في الفجر حكاية قرب قدوم زوجها أو قريبها إلى المنزل حيث يخرج مهرولا خوفا من الفضيحة وبشكل يعميه عن تفقد ما في جيبه. وحتى إن انتبه إلى ذلك فيما بعد ف"الفيدور" يحميها من بطش كل من أراد الانتقام منها من مجموع ضحاياها.
الهاي كلاص إن كانت دعارة هدى أقرب إلى النصب والاحتيال، فحالة سناء الفتاة الجامعية البالغة من العمر 28 سنة التي انقطعت عن دراستها منذ خمس سنوات بسبب الفشل الدراسي المتكرر، فاختارت دعارة "الهاي كلاص" بعدما افتضت بكارتها من قبل حبيبها وحملها منه وعملية إجهاض التي كلفتها ميزانية ليلة حمراء مع صديق عشيقها الذي اختاره لها بنفسه لتدبر مبلغ "إسقاط الجنين" من بين أحشائها. ولم تجد سناء التي لفظها عشيقها كما تلفظ الوديان رواسبها وزوائدها، غير الانغماس في بحر الدعارة كانتقام منها لنفسها وهي التي لم تعرف كيفية اختيارها رجل مناسب تعطيه كل جسدها بدون مقابل أو تقدير منه لكرامتها وشرفها اللذين دنسهما في الوحل وتخلص منها مقدما إياها للمزاد من أول اختبار حب زعم كونه ولا في الأفلام وحكايات شهرزاد وشهريار في "ألف ليلة وليلة". "لا أؤمن بشيء إسمه الحب" هذا ما تقوله سناء التي ترى أن "الرجال كلهم ولاد الحرام" طالما أن "الحب ما مخلوق إلا للسذج والواهمين". وهي لهذا السبب ترى أن كل الرجال وراء خروجها وانحرافها، وهي التي لم يتبقى لها شيء "تخاف عليه بعدما ضاعت في مستقبلها ودراستها ووجدت نفسها صدفة ضحية علاقة حب من طرف واحد ومنبوذة داخل الأسرة والمجتمع رغم أنها لا ترافق إلا أسياده وأعيانه من زبناء "الهاي كلاص".
دعارة "سينيي" تكاد قصة سلمى المجازة في اللغة الإنجليزية تطابق تلك لسناء في حيثياتها، رغم الفارق المظهري بينهما الذي تتفوق فيه سلمى من حيث اكتسابها سيارة فارهة ورصيد بنكي ضخم وملابس كلها "سينيي" تبدو فيها كما لو كانت إحدى زوجات رجال الأعمال المشهورين والمحترمين، إلا أنها في الحقيقة تبيع الهوى بالعملة الصعبة فهي "قطاع خاص محجوز للخليجيين والشيوخ والطاعنين في السن النازحين من أوروبا بحثا عن مغربيات يمنحنهم كل شيء. "أنا ما نمشيش مع المغربي واخا يغنيني بالمال. المغاربة مفضوحين كل شي لهم مفروش ومقشاشين" ذاك كلام سلمى التي تكسب أحيانا أكثر من ألفي درهم كل ليلة ولو أن "كل ليلة وتسيرها". لكنها رغم ذلك لا تحس بالارتياح والاطمئنان وهي التي تعرف أن يوما سيأتي ويذبل فيه جمالها وتضحي كنظيراتها في الحاجب أو بعض المدن المغربية التي ارتبط اسمها بدعارة مفضوحة في بيوت معدة خصيصا لذلك. وإن كانت سلمى تعيش من هذه المهنة التي تعتبر أقدم المهن في العالم وبعلم أسرتها التي تعتبر عائلها الوحيد بعد أن توفي الأب، فشيرين وهذا ليس اسمها الحقيقي لكنها تفضل أن تنادى به فاختارت بيع جسدها في المزاد السري ولكبار الشخصيات كما تقول، بعد أن فشلت في تدبر مورد آخر لعيشها خاصة بعد أن تم قبولها للعمل في إحدى الشركات المعروفة بالحي الصناعي لكن طبعا بعد أن ترضخ لنزوات صاحب الشركة وهو ما لم تقبله.
أجساد رثة أما سمية البالغة من العمر 18 سنة والمنحدرة من ضواحي فاس، فتعتبر حالة خاصة ومختلفة عما سبق من حالات. وهي التي تعاطت الدعارة بعد فرارها من منزل والديها بعد أن اكتشفت حملها من ابن الجيران الذي أنكر مسؤوليته، وتاهت بين دروبها الموحشة إلى أن وجدت نفسها يوما في حضن رجل تصيد حاجتها من ساحة (...)، وهكذا دواليك إلى أن ألفت الأمر واحترفت دعارة يمكن تسميتها ب"دعارة الحضيض". ولم يجلب هذا الواقع لسمية الحامل الآن في شهرها الخامس من ابن الجيران الذي لفظها بمجرد علمه بذلك، سوى الويلات وهي التي ابتليت بتعاطي "السيليسيون". وتحرص يوميا على ربط بطنها بحزام كبير وعريض لكي لا يظهر عليها الحمل وبالتالي قد تفقد زبناء يبحثون بين جسدها عن موقع يفرغون فيه مكبوتاتهم بأبخس الأثمنة التي توازي دخلهم من العمل في ورشات البناء أو "الشانطيات". ويطابق واقعها واقع لطيفة الملقبة ب"التشاش" التي تجاوزت عقدها الثاني بسنتين، وهي التي اعتاد على رؤيتها كل عابري ساحة (...) حيث تتخذ من موقع معين وسيلة لاصطياد الزبناء ولا تتوانى في إشهار سلاحها الأبيض و"الرازوار" الذي تخفيه بين أسنانها وتحت لسانها ويشكل وسيلتها الوحيدة للدفاع عن نفسها إن اختلفت مع زبون أو تعرضت إلى مضايقات. وتلك نتيجة خبرتها في مجال دعارة دامت لعدة سنوات لم تكسب فيها سوى ندوبا على الوجه. .................................................. حنان.طيبي محررة صحفية باللغة العربية كاتبة مسرحية للكبار والأطفال شاعرة وزجالة