1: من منظومة يالطا إلى المنظومة الإمبراطورية. حينما انهار جدار برلين سنة 1989، تم الإعلان عن نهاية نظام من العلاقات الدولية وبداية آخر جديد. انتهى نظام يالطا وبدأ نظام وصف بأنه نظام القطبية الأحادية. وإذا سايرنا الفقيه الدستوري الألماني كارل شميت (1888-1985) واعتبرنا أن السياسة تقوم في جوهرها على النزاع، أو سايرنا الألماني الآخر الضابط والمفكر كلاوسفيتس (1780-1831) الذي يرى أن السياسة هي حرب بوسائل ناعمة وان الحرب هي سياسة بوسائل عنيفة، لقلنا إن " المعسكر الغربي" لا يمكنه أن يعيش دون حرب، أي دون خصم أو عدو يتم من خلال الحرب معه تصريف كل منتجات الطاحونة الاقتصادية. سيجد الغرب في هذه المرحلة من يقدم له خلاصة فكرية لمسيرته بعد 1989. فهذا فوكوياما يقول إن مسيرة التاريخ قد انتهت بانتصار الليبرالية. وهذا هتنغتون يقول إن الحروب ستصبح حروب حضارية، أي بلغة غير دبلوماسية حروبا دينية، ولن تعود حروبا اقتصادية بين معسكر اشتراكي وآخر رأسمالي. رغم ما بين الفكرتين من تباعد، إذ تركز الأولى على البعد الفلسفي في حين تركز الثانية على البعد الديني، فستكون هناك جماعة ستجمع بينهما في خلطة رهيبة. إنها جماعة المحافظين في أمريكا بزعامتها السياسية المتمثلة في جورج بوش الابن و وولفوفيتز. ركبت هذه الجماعة الرهيبة بين ما هو ديني وما هو فكري فلسفي، فقالت إن أمريكا تمثل العالم الحر ( الليبرالية) مثلما تمثل التقليد المسيحي اليهودي ( معسكر الخير). كان هدف جماعة المحافظين الحقيقي هو التصدي للصين الصاعدة، وهذا سيكون باسم نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية على الشيوعية بعدما كانت قد انتصرت على الفاشية نهاية الأربعينات من القرن العشرين، والتصدي لتنامي قوة أوروبا (التحالف الألماني الفرنسي)، وهنا ستظهر وظيفية البعد الديني في البناء النظري للمحافظين. أسست جماعة المحافظين فكرة الأحادية القطبية وجعلتها متماهية مع أمريكا، أمريكا التي أصبحت مع المحافظين على أتم الاستعداد لان تصير إمبراطورية تؤدي إليها كل الطرق كما كان حال روما، مع فارق بسيط هو أن الطرق التي تؤدي إلى أمريكا قد تكون ممتلئة بالخراب. 2: الفشل الناجح. شكلت الحرب الدولية على الإرهاب غطاء يخفي الحرب الحقيقية التي كانت مصيرية بالنسبة لمستقبل أمريكا. إنها الحرب من اجل السيادة على مكان بعينه وهو منابع الطاقة بكل من غرب آسيا واسيا الوسطى، وزمان بعينه هو القرن الواحد و العشرين. خصوم أمريكا هم الصين الصاعدة وأوربا الموحدة وبعض القوى التي بدأت تطالب بترجمة نموها ترجمة دبلوماسية تتمثل في شغل مقعد دائم في مجلس الأمن. كانت الطاقة دائما سببا رئيسيا للحرب. فالحصان كطاقة مكن قديما آسيا الوسطى (المغول) من السيطرة على بلاد الرافدين، والقوة الشراعية سمحت لأوربا باكتشاف العالم الجديد والسيطرة على العالم ككل، لكن اكتشاف طاقة جديدة هي البترول ومحرك جديد هو المحرك الانفجاري و منتوج صناعي جديد هو السيارة سينقل السيطرة والقوة إلى الساحل الشرقي من أمريكا. من اجل النفط مزق هتلر اتفاقية بريست ليتفوسك التي ابرمها مع ستالين فضمنت له الطاقة لمدة غير طويلة، قام بعدها بحصار ستالينغراد. من اجل النفط قامت اليابان بالهجوم على بيرل هاربر. من اجل نفط آسيا الوسطى وطرق نقله كانت أمريكا عازمة الانفراد بالشرق العربي و بوسط آسيا. لهذا كان احتلال العراق وأفغانستان. انطلقت الحرب على الإرهاب مع بداية القرن الواحد والعشرين واستمرت بقيادة المحافظين الجدد طيلة العشرية الأولى من هذا القرن، وهي مدة ولايتي الرئيس جورج بوش الابن. وعد بوش مواطنيه والعالم اجمع بالقضاء على طالبان في أفغانستان وعلى نقل العراق إلى العهد الديمقراطي وعلى جعل العالم أكثر أمانا ورفاهية. حلت نهاية الولاية الثانية لبوش على إيقاع تزايد قوة طالبان، وعجز آل الحكيم ومن والاهم عن حكم العراق، وتفجر أزمة مالية عالمية كبيرة، وظهور قاعدات إلى جانب القاعدة الأم. بل كان هناك أيضا فشل إسرائيلي فادح في قهر حزب الله عام 2006 وحماس عام 2008. الفشل العسكري والفشل الأمني والفشل الاقتصادي. هذا هو كسب أمريكا بعد ثماني سنوات حارقة من الحرب الدولية على الإرهاب. كان مجيء اوباما بمثابة تغيير لفرس الرهان. تبين للاستراتيجيين الأمريكيين أن مكانة أمريكا مهددة إن استمرت في حروبها الإمبراطورية. كان لابد من التغيير. من اجل هذا التغيير قال اوباما (yes we can). نعم فشلت إدارة المحافظين، لكمه فشل يمكنه أن ينقذ أمريكا. انه بالفعل فشل ناجح. 3: البوعزيزي ينقذ إدارة أوباما. كانت أمريكا وهي تخوض حربها الإمبراطورية ضد " الإرهاب" تؤكد عمليا أن الديمقراطية ليست حاجة ضرورية مادام أن الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية تؤدي دورها على أحسن وجه. بل كانت أمريكا تحت قيادة المحافظين ترى أن الديمقراطية لن تأتي بأصدقاء بل ستفتح الباب للأعداء. هنا تم نحت آلية التخويف بالإسلاميين. في لحظة من تلكم اللحظات التي تغيب فيها المنابع القانونية والشرعية لتصريف الاحتجاج والمتمثلة في المؤسسة المدنية عامة والحزبية خاصة، أقدم البوعزيزي على احتجاج مشتعل سرعان ما تطاير لهبه ليحرق تجربة سياسية شمولية طالما تمسحت بالحداثة والحداثة منها براء. سقط الديكتاتور. لم تكن أمريكا بكل قوتها الاستخباراتية ومراكز البحث لديها قادرة على تلمس طريق واضح بين شرارات نار البوعزيزي. وبينما ماما أمريكا مشدوهة أمام فجائية وقوة ما حدث، سقط فرعون مصر. هنا قامت أمريكا وأوربا بمحاولة استدراك ما فات علهم يؤثرون في هذا السقوط المتتالي لأحجار شطرنج لا يملكون علما بقانونه ولا خبرة بقواعده. نزلت وزيرة خارجية أمريكا إلى ميدان التحرير فقوبلت بالرفض من طرف شباب الثورة. أدركت إدارة اوباما أنه إن كان العالم الإسلامي ، على عهد بوش الابن لا يحب أمريكا، فان هذا العالم الذي يثور الآن ويتغير قد يكره هو أيضا أمريكا، أمريكا اوباما. إضافة إلى هذا المعطى تبين للاستراتيجيين في إدارة اوباما وفي الكي دورسي، وبتأثير من المفكر الفرنسي الجنسية والأمريكي الهوى والصهيوني التوجه هنري بيرنار ليفي الذي قام بزيارة ثوار ليبيا في بنغازي، أن مطالب الشباب هي الحرية والديمقراطية وان الخصم هو الاستبداد المحلي. مطالب الشباب مطالب ليبرالية في السياسة واجتماعية في الاقتصاد وتعددية متسامحة في الثقافة. تبين لصناع القرار أن بن لادن لا يؤثر على مخيال الشباب الثائر. بل إن الإسلاميين منهم منبهرون بتركيا اوردوغان التي استطاعت أن تجمع بين الهوية التاريخية وبين الحداثة، بين الكرامة الوطنية وبين النهج الدبلوماسي والسياسي في الدفاع عن المصالح الوطنية. يمكن القول إن التجربة التركية شكلت مختبرا سياسيا لصناعة نموذج إسلامي يمكنه أن يكون بديلا عن نموذج القاعدة. بدا الأمر وكان الغرب كان يتابع هذا التمرين البيداغوجي في تلمس نموذج نهضوي إسلامي لا يتعارض فيه البعد الهوياتي مع البعد الحداثي. وحينما تبين داخل ساحات وميادين التحرير أن المطالب التي يرفعها الشباب لا مكان فيها لقاموس القاعدة ولا مكان فيها لقاموس النزعة العالم ثالثية، بل القاموس المعتمد هو قاموس ليبرالي في السياسة واجتماعي في الاقتصاد وتعددي متسامح في الثقافة، حينما تبين ذلك تبين أيضا أن مدة صلاحية بن لادن قد انتهت. كيف لا وقد كان الإسلاميون، من داخل ميادين التحرير، هم أول من ركز على هذه المطالب، مسقطين بذلك أسطورة الفزاعة الإسلامية. كان المطلب الجوهري للشباب هو الحرية. رفض الشباب أن يحرم من الحرية باسم الحداثة ( تونس). رفض أن يحرم من الحرية باسم الاستقرار والأمن الإقليمي (مصر). رفض أن يحرم من الحرية باسم محاربة القاعدة( اليمن). رفض أن يحرم من الحرية باسم التحرر (سوريا). رفض أن يحرم من الحرية باسم الأصالة (إيران). رفض أن يحرم من الحرية باسم الخصوصية (المغرب). الاستبداد هو الطاعون والطاعون هو الاستبداد. هكذا صار ممكنا الإعلان عن مقتل بن لادن. بل إن بن لادن قد مات يوم أشعل البوعزيزي النار في نظام الطاغية بتونس. كان اوباما قد قدم وعدا خلال حملته الانتخابية للناخبين مفاده انه سيسحب قواته من أفغانستان والعراق. مرت أكثر من سنتين ولم يفي اوباما بوعده. لكن البوعزيزي الذي احرق براديغم القاعدة قدم خدمة جليلة لأمريكا عامة و لاوباما خاصة. سمح البوعزيزي لاوباما بان يتخلص من عنصرين: الأول هو بن لادن والثاني هو ديفيد بترايوس قائد القوات الأمريكيةبأفغانستان. كان بقاء الأول حيا يمنع كليا كل انسحاب من أفغانستان والعراق، ويبقي أمريكا في الوحل في الوقت الذي تنمو فيه الصين دون حروب مكلفة وتتوحد أوربا في غفلة من أمريكا وتظهر قوى صاعدة ستنافس أمريكا بعد حين. كان الثاني أي بترايوس، من اشد المعارضين للانسحاب الأمريكي من أفغانستان اللهم إلا إذا تعلق الأمر بسحب قرابة ألف جندي من أصل المائة ألف جندي المشكلة لجيش الاحتلال. بن لادن قتل و بترايوس تمت " ترقيته" رئيسا لجهاز س.ي.أ. ماذا عسى اوباما يقول إلا : شكرا البوعزيزي...معك انتهت اللعبة القديمة... يمكنني أن اسحب بن لادن من الخدمة. ونحن ماذا عسانا نقول لأعداء التغيير إلا : انتهت اللعبة اسحبوا فزاعاتكم... ومؤامراتكم. وليعلم الجميع أن من احتمى بالأجنبي باعه (بنعلي ومبارك) ومن احتمى بشعبه صانه. كريبي عبد الكريم تمارة 05 ماي 2011