أعلن البيت الأبيض يوم الاثنين فاتح فبراير 2010 ان الرئيس الأمريكي أوباما لا ينوي حضور القمة الثنائية للاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة والمقررة في 24 و25 مايو في مدريد. القرار الأمريكي أثار غضبا عارما في أوروبا حيث اعتبره البعض بمثابة ازدراء واهانة لتكتل يضم 27 دولة، ورفضا دبلوماسيا من جانب الولايات المتحدة لتطور مؤسسات الاتحاد. وتعقد القمم بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي مرة في السنة وعلى أعلى مستوى، الا في حالات استثنائية. وبسبب غياب اوباما، تم الغاء الاجتماع الذي قد يعقد في نهاية العام. هذا الأمر تسبب بإحراج مدريد التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، ولأوروبا برمتها التي تشعر بأن واشنطن باتت تهتم بالقارة الآسيوية على حسابها. وذهب البعض إلى أبعد من ذلك وقالوا الأمر يعتبر نكسة حقيقية تضر المساعي الأوروبية للعب دور أكبر على الساحة الدولية لاسيما بعد تعيين رئيس دائم لمجلس أوروبا ومسؤول للسياسة الخارجية في إطار التغييرات الجديدة للاتحاد تنفيذا لما ورد في المعاهدة الأوروبية. محللون أشاروا الى أن قرار البيت الأبيض سيعزز القوى الدافعة داخل الإتحاد الأوروبي التي تنادي بإبتعاد الإتحاد عما تعتبره تبعية للولايات المتحدة، والتوجه نحو بناء تحالفات مع أطراف أخرى كروسيا ودول الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ويذهب سياسيون إلى التأكيد أن الولايات المتحدة سائرة إلى الضعف والتضاؤل، وقد ساهم تعمدها تهميش الأوروبيين إلى تسريع تغيير الواقع الغربي، وإذا كانت واشنطن تبدو أنها تريد وضع مسافة مع الأوروبيين فإن الأوروبيين بدورهم يعملون على استثمار هذه المسافة، عن طريق دعم هياكل الاتحاد الأوروبي، وهو ما تم بداية العام الجاري من خلال انتخاب أول رئيس للاتحاد الأوروبي هو البلجيكي، هو هيرمان فان رومبي، وما يستتبع ذلك من دعوات إلى مراجعة كثير من الاتفاقيات التي «شاخت» خصوصا الأمنية التي تربط بين بروكسل «عاصمة الاتحاد» وواشنطن. أوروبا ليست عالم أوباما بعض الأوروبيين لم يعتبروا غياب أوباما عن القمة صفعة من البيت الأبيض، وأشاروا أن الأمر تطور طبيعي لتوجهات أوباما. فلم يمر غياب اوباما عن احياء الذكرى العشرين لسقوط جدار برلين في نوفمبر 2009 مرور الكرام لدى الاتحاد الاوروبي. يضاف الى ذلك عدم اهتمامه الواضح خلال القمة السابقة بين بلاده والاتحاد الاوروبي في الشهر نفسه في واشنطن، اذ اقتصر حضوره على ساعة ونصف ساعة اعتذر من بعدها وغادر. كما ان قمة كوبنهاغن حول المناخ التي عقدت في ديسمبر 2009 أدت الى خيبة أمل اوروبية، اذ فضل الرئيس الأمريكي اجراء مفاوضات مباشرة مع الصين والهند للتوصل إلى اتفاق على الحد الأدنى. واعتبر مركز الدراسات «اوروبيان ريفورم» ان «ادارة اوباما قررت توثيق العلاقة مع الصين، الأمر الذي اثار مخاوف اوروبا من ان تكون «مجموعة الاثنين» هذه أداة تقود إلى تقلص نفوذها أكثر في العالم». وقال خوسيه ايغناسيو توريبلانكا من «المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية» عن اوباما ان «اوروبا ليست عالمه، ولم تكن ذلك يوما». ويبدو ان اوباما يواجه صعوبة في التعامل مع التمثيل المتعدد للاتحاد الاوروبي في كل لقاء. وقد انعكس ذلك في قمة الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة في براغ في ابريل 2009، ويمكن ان تؤدي التغيرات التي اقرتها قمة لشبونة الى تعقيد الامور. ويمثل الاتحاد الاوروبي رئيس دائم هو هرمان فان رومبوي، ورئاسة دورية تتغير مرتين في السنة، ووزيرة خارجية الاتحاد كاترين اشتون، ورئيس المفوضية الاوروبية. بعد اكثر من عام من موجة الانبهار الشديد باوباما في اوروبا التي تنفست الصعداء بالتخلص من جورج بوش ووصول نصير لسياسة الدبلوماسية المتعددة الاطراف، بدأت علامات التوتر في الظهور. وتشعر الولايات المتحدة بخيبة أمل لعدم تحمس الاوروبيين لارسال قوات اضافية الى افغانستان أو مساندة سياستها المطلقة التأييد لإسرائيل او استقبال الذين يفرج عنهم من سجن غوانتانامو. أما الأوروبيون فهم ممتعضون من إصرار واشنطن على مواصلة إحتلال العراق رغم وعود أوباما بالإنسحاب، وهم غاضبون من استحواذ الشركات الأمريكية على أفضل آبار النفط العراقية، والسعي إلى الهيمنة على أهم موارد الطاقة ولو على حساب الأوربيين. تمرد مواضيع الخلاف بين أوروبا وواشنطن متفرعة وهي في تصعيد مستمر فبعد أيام من قرار تخلي أوباما عن حضور القمة وجهت الولايات المتحدة تحذيرا جديدا الى القارة العجوز. فيوم السبت 6 فبراير وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي الجنرال جيمس جونز اتفاق تبادل البيانات المصرفية مع أوروبا، والذي يسمح للولايات المتحدة بالاطلاع على بيانات مالية بغرض مكافحة الإرهاب «أهم من أن يسمح بفشله». وجاء تحذير جونز بعد 48 ساعة من تلميح بعض أعضاء البرلمان الأوروبي إلى أنهم سيرفضون الاتفاق المقترح. الرفض تحقق، فيوم الخميس 11 فبراير مارس البرلمان الاوروبي سلطاته الجديدة ورفض اقرار الاتفاق المؤقت. وباغلبية عريضة من 378 صوتا مقابل 196 وبإسم حماية المعطيات الخاصة، مارس النواب الاوروبيون للمرة الأولى حق نقض اتفاقيات دولية الأمر الذي أصبح ممكنا بعد اعتماد معاهدة لشبونة التي دخلت حيز التنفيذ في بداية ديسمبر 2009. ويلغي هذا التصويت اتفاقا مرحليا وقعه في نهاية نوفمبر 2009 وزراء داخلية بلدان الاتحاد الاوروبي، يسمح للولايات المتحدة بملاحقة شبكات تمويل ما تسميه الارهاب من خلال الاطلاع على البيانات المصرفية للاوروبيين التي تجمعها شركة «سويفت» ومقرها بلجيكا والتي تتعامل مع ثمانية آلاف مؤسسة مالية عبر العالم. واعتبر النواب الاوروبيون أن الاتفاق يشكل تطفلا على خصوصيات مواطني الاتحاد الاوروبي. فيما رأى اقتصاديون أن تمكن واشنطن من تتبع كل المعاملات المالية الأوروبية يمكن أن يستغل من طرف شركاتها في منافسة الأوروبيين وضرب صفقاتهم العالمية. ويعد الاتحاد المؤلف من 27 دولة أبرز تكتل اقتصادي على مستوى العالم، حيث يضم بين جنباته 491 مليون نسمة داخل سوق موحدة يزيد إنتاجها عن نظيرتها الأمريكية بمقدار الثلث تقريبا. أوروبا اكتسبت أهمية أكبر في ضوء انحسار القيادة الأمريكية بسبب الحروب الخارجية المثيرة للانقسامات وتعرض نموذجها الاقتصادي القائم على حرية السوق والحد من التنظيمات لتحد صارخ. وفي الوقت الحاضر، تعلو أصوات الإشادة داخل بعض الدوائر التي توصف بالليبرالية ب»النموذج الأوروبي» القائم على مشاركة حكومية كبيرة في الاقتصاد، وفرض رقابة وثيقة على الصعيد المالي والقضايا المرتبطة بالصناعة والعمالة، علاوة على توافر نظام معاشات ورعاية صحية سخي. وبات يجري النظر إلى هذا النموذج باعتباره بديلا قويا للرأسمالية على الطراز الأنغلو أمريكي، أو الرأسمالية المتوحشة التي قادت العالم إلى أسوأ أزمة إقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الماضي. خلافات إستراتيجية ويبدو من خلال تحليل العلاقة بين ضفتي الأطلسي، أن الخلافات لم تعد خلافات على قضايا وأحداث آنية، يمكن أن تزول من خلال لقاءات ومحادثات جديدة، بل أصبحت «استراتيجية» اتخذت أبعادها الأولى عبر معاهدة ماستريخت، التي أطلقت، مع مطلع تسعينات القرن الماضي الجهود لتعميق ميادين الاندماج بين دول الاتحاد الأوروبي كما ونوعا، ولتوسيعه جغرافيا، ولتشكيل قوات عسكرية دون مشاركة أمريكية، وكذلك للتحرك بسياسات دولية بمعزل عن واشنطن ورغم اعتراضاتها في غالب الأحيان. منذ نهاية العقد الأخير من القرن العشرين لم يعد هناك كثير من الاختلاف في أن أوروبا سوف تصبح أكبر ثاني قوة في العالم ليس فقط اقتصاديا، بل أيضا سياسيا في ضوء الطموح الأوروبي المحتمل والأقرب إلى التوقعات. ولذلك اتجهت أوروبا إلى تسوية نزاعاتها سلميا وتتجه لأن تلعب دورا في الصفوف الأولى عالميا. وقد حاولت أوروبا خلال العقد الأخير من القرن الماضي تكريس وحشد جهودها في محاولة لتأكيد فكرة التعددية القطبية عالميا في مواجهة الأحادية القطبية الأمريكية. والجميع يذكر أن المستشار الألماني السابق غيرهارد شرويدر كان قد طالب عام 2005، أمام أكبر محفل عالمي لسياسات الأمن الدولي في ميونيخ، بإصلاح وإعادة هيكلة حلف الأطلنطي ليعكس تزايد الوزن النسبي للاتحاد الأوروبي في الشؤون الدولية من ناحية، وليكون محفلا للحوار واتخاذ القرارات الاستراتيجية، ولكيلا يبقى أداة لتنفيذ قرارات تتخذ خارجه، ودون تشاور مع أعضائه، وقد أيد الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك المستشار الألماني في مطلبه علنا فيما بعد. وإذا كانت هذه الأصوات قد تغيرت حاليا في ألمانياوفرنسا بعد أن أصبح القرار بيد محافظين «أنجيلا ميركل ببرلين وبرلسكوني في روما»، إلا أن الثابت أن السياق العام لا يسير إلى التوافق بين الأوروبيين والأمريكيين، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد واشنطن تحتاج إلى حلفاء قد تعتمد عليهم لفرض رؤيتها، بل هي بحاجة إلى مساعدين عند الحاجة، ويوصل هذا الواقع إلى الحديث عن آفاق العلاقات بمنطق الربح والخسارة. دول اوروبا الشرقية المحاذية لروسيا، مستاءة بدورها من تخلي واشنطن عن مشروع الدرع الصاروخي في صورته الأصلية التي وضعت خلال حكم الرئيس بوش، وهو تعتبر ذلك انعكاسا لرغبة من الإدارة الأمريكية في التقارب مع موسكو ولو على حسابها. وفي نفس الوقت تتقلص مخاوف القوى السياسية المندفعة الى الأحضان الأمريكية في دول شرق أوروبا من توجهات الكرملين، وتراقب بمشاعر متفاوتة انتصار القوى السياسية التي تريد إعادة الروابط القوية مع الجار الشرقي العملاق. لقد أدرك الكثيرون في أوروبا الشرقية التي كانت جزء من المنظومة الاشتراكية للإتحاد السوفيتي أن الوعود الأمريكية بتقديم المعونات الضخمة لها وتحويلها الى جنات مزدهرة لم تكن سوى وعود سرابية وأن واشنطن أرادت فقط الإسراع بتدمير الإتحاد السوفيتي. وقال الفارو دي فاسكونسيلوس «مؤسسة الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية» «منذ 50 أو 60 عاما، كانت أوروبا تشكل الأولوية القصوى للولايات المتحدة. أما اليوم، ورغم ان العلاقات الأوروبية الأمريكية ما زالت مهمة، فان التحالف الغربي لم يعد كافيا لحل المشاكل العالمية». مواقف متناقضة في محاولة لاحتواء الاستياء الذي خلفه قرار اوباما لدى الأوروبيين ولمنع تعزيز موقف المؤيدين لسياسة أوروبية بعيدة عن تلك التي تحاول إملاءها واشتطن، شدد رئيس الوزراء الإسباني ثاباتيرو على أن ثقة الأوروبيين بالرئيس الأمريكي لا تهتز، معتبرا انه يتمتع بالثقة نفسها التي كان يتمتع بها عند انتخابه. وعلل رئيس وزراء إسبانيا موقف أوباما الى جدول اعماله المثقل بالمواعيد. الرئيس الفرنسي بدوره رفض التلميحات التي اعتبرت غياب نظيره الأمريكي، عن القمة بمثابة إهانة. وعبر نيكولا ساركوزي، في ختام مباحثات مع المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، في باريس: عن انزعاجه من التعليقات الصادرة بخصوص قرار الرئيس أوباما، مشيرا إلى أنه بالإمكان عقد القمة الأوروبية الأمريكية في أي وقت لاحق. وأكد ساركوزي عدم وجود أي خلاف أو شقاق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأن الموقف لا يستحق كل هذه الضجة التي أثيرت. غير أن مسؤولا رفيعا في وزارة الخارجية الأمريكية عزا قرار اوباما إلى البلبلة التي تسود موضوع التمثيل الخارجي للاتحاد الاوروبي بعد دخول معاهدة لشبونة حيز التطبيق، وهو ما أدى إلى إعادة النظر في الجهاز التنفيذي الأوروبي. خلال فترة توجه المحافظين الجدد الى تولى إدارة البيت الأبيض في عهد الرئيس بوش، كتب المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي مؤلف كتاب «طموحات إمبريالية» : «بدأت أوروبا ومنطقة شرق آسيا تحتلان مركزا اقتصاديا عالميا مهما لا يقل أهمية عن مركز الولايات المتحدةالأمريكية، ولكنها مجموعات اقتصادية مرتبطة ببعضها ولديها مصالح مشتركة، وإن كان لكل منها مصالح منفصلة. طالما كان للولايات المتحدةالأمريكية موقف متناقض تجاه أوروبا، فهي تريد أوروبا موحدة تكون سوقا أكثر كفاءة للشركات الأمريكية تقدم مزايا الحجم الكبير، لكنها تخشى دائما التهديد الناجم عن احتمال تحرك أوروبا في اتجاه آخر، ويتصل بذلك انضمام العديد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي. فالولايات المتحدة تؤيد عملية الانضمام هذه لأنها تأمل أن تكون هذه البلدان أكثر عرضة للنفوذ الأمريكي، وأن تتمكن من تقويض نواة أوروبا، وهي فرنساوألمانيا. وتبدي الولايات المتحدة رفضها للنظام الاجتماعي في أوروبا القائم على الأجور والعوائد المحترمة للعمال، وبالطبع فإن نظام الأجور المتدنية وقمع العمالة في أوروبا الشرقية يساعد في تقويض المعايير الاجتماعية في أوروبا الغربية، وسيكون ذلك مفيدا للولايات المتحدة». غموض العلاقات مع روسيا تتسم علاقات روسيا بالاتحاد الأوروبي بدرجة كبيرة من الغموض، خاصة بسبب تذمر الزعماء الروس من «الشراكة الشرقية» التي يقيمها الاتحاد الأوروبي مع ست دول تعتبرها موسكو ضمن نطاق نفوذها، خاصة وأن روسيا لا تزال تعتبر الإتحاد الأوروبي رأس حربة أمريكية معادية لها وخصم لطموحاتها في استعادة مجد الإتحاد السوفيتي، ويضاف إلى ذلك رفض الكرملين توسع حلف شمال الأطلسي شرقا بتعاون بين بروكسلوواشنطن. رغم كل ذلك يتمتع الطرفان الروسي والاوروبي بمصالح مشتركة كثيرة، إذ يشتري الاتحاد الأوروبي أكثر من نصف مجموع صادرات روسيا، ويوفر ثلثي الاستثمارات الأجنبية المباشرة فيها. محاولات تطوير العلاقات بين بروكسيل والكرملين عرفت محاولات تقارب كثيرة، ولكنها تعثرت ويتهم سياسيون أوروبيون الولايات المتحدة بتخريب هذا التقارب. أخر قمة رسمية جمعت بين الرئيس ديميتري ميدفيديف وزعماء الاتحاد الأوروبي، في 18 نوفمبر 2009، أسفرت عن عقد بعض الاتفاقات التقنية لا أكثر، مع أن الطرفين كان لديهما مسائل كثيرة لمناقشتها، أقلها مسألة إمدادات الغاز ومواقف روسيا من مسألة التغيرات المناخية. المراقبون يرون أن حدوث تعديل في التوجهات الأوروبية سيزيل الجزء الأكبر من تحفظات الكرملين تجاه الإتحاد الأوروبي. البعض في الولايات المتحدة يحذر منذ سنوات من فقدان الولايات المتحدة لتحالفها القوى مع الأوروبيين وإتجاه هؤلاء الى البحث عن شركاء حقيقيين، ولكن حتى هؤلاء لا يعترفون بأن تحول الخيارات الإستراتيجية الأوروبية يمكن أن يحول الولايات المتحدة الى نموذج مشابه لبريطانيا بعد ان لم تعد امبراطورية لا تغرب عنها الشمس. ناقش روبرت كاغان.. الأستاذ بمعهد كارنيغي الأمريكي للسلام العالمي في كتابه «جنة السلام وجحيم القوة»..»أوروبا في مواجهة أمريكا» الأزمة الأوروبية الأمريكية. ينظر كاغان إلى الأزمة الأوروبية الأمريكية الحالية من منطلق استراتيجي وتحليلي. ويعود إلي جذورها القديمة.. ويؤكد أن العلاقة علي جانبي الأطلنطي قد تغيرت تماما وإلي الأبد. ويفترض روبرت كاغان أن الدول الأوروبية اعتادت أن تكون قوية. لكن القوة قادتها إلي شن الحروب. وأن الحروب التي وقعت في النصف الأول من القرن العشرين أضعفت الدول الأوروبية إلي درجة جعلتها تتخلي عن استخدام القوة. وتفضل التلاحم القاري الذي لا تهدد فيه دولة أي دولة أخري. ويقول: إن الولايات المتحدة وفرت الأمن الخارجي للقارة الأوروبية ضد خطر الاتحاد السوفييتي. كما وفرت الأمن الداخلي للأوروبيين. الذي مكنهم من مواصلة تجربتهم السياسية والاقتصادية. وهذا الأمن المجاني لم يشجع أوروبا علي تطوير قاعدة مستقلة للقوة العسكرية. وأدي انهيار الاتحاد السوفييتي إلي إزالة العدو الاستراتيجي لأوروبا. وتمتعها بالأمن المريح. ويبدو أن أوروبا أزالت من تفكيرها كل ما ينغصه من متاعب الحروب والخلافات التاريخية والحدودية والصراع علي الثروات واختارت السعي إلي الوحدة التي تجعل القارة كلها دولة واحدة ذات مصالح متطابقة. تراجع الاعتماد على القوة العسكرية وأصبحت أوروبا الجديدة اليوم معجزة فريدة في ذاتها. وأصبح الصراع بين أي دولتين أوروبيتين أمرا مستبعدا.. والمسألة الألمانية تم حلها. وتعيش القارة الأوروبية عصرا ديمقراطيا مزدهرا وتسير كل شئونها وفقا لقواعد متفق عليها. لكن أوروبا ليست قوية عسكريا. بل إنها تخلت عن سياسة القوة المناظرة التي كانت سببا في معاناتها التاريخية.. ولم تعد تبني قوة عسكرية منافسة لأي جهة. وإنما تري نفسها كدولة واحدة أصبحت متحدة تسعي للسلام الدائم. وإذا كانت أوروبا قد انجرفت نحو شاطيء السلام الوارف. فإن الأمريكيين يقولون: إن بقية العالم. لا يزال كالغابة المليئة بالوحوش.. والقوة ضرورية وسط أجواء العداء. وكان أمن أوروبا موضع قلق الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. وكان أي خلاف ينشأ علي جانبي الأطلنطي يتم احتواؤه في إطار المصالح المشتركة العليا للحليف. لكن الوضع تغير الآن.. وأصبح التهديد للأمن الأمريكي والدولي ينشأ في مواقع جغرافية أخري غير أوروبا. مع بقاء الرغبة الأمريكية في استخدام القوة في مواجهة هذه الأخطار. .. وبالنسبة لأوروبا. فإن القوة إذا استخدمت علي الإطلاق تظل هي الملجأ الأخير. لكنها بالنسبة للأمريكيين خيار مطروح دائما. وفضلاً عن ذلك فإن مفهوم السيادة والمصلحة القومية لا يزال يتمتع بمكانة عالية عند الأمريكيين. والحس السياسي الأمريكي يميل إلي مقاومة جهود الآخرين الهادفة إلي احتواء القوة الأمريكية من خلال معاهدات واتفاقيات مصاغة بعناية فائقة. وفي نظر الأمريكيين.. أن الأقل قوة يحاول باستمرار تقييد الأكثر قوة. وفي هذه الأيام فإن الولايات المتحدة هي الأقوي بكثير. وتتعامل الولايات المتحدة بحرص مع الأطر المتعددة الدولية للعلاقات الدولية. وتظل غريزتها الأساسية تميل إلي الانفرادية. لهذا فإن الولايات المتحدة وأوروبا لم تعودا مشتركتين في نظرة استراتيجية واحدة. ويري المؤلف أن من بين الأشياء التي تثير الانقسام بين الأمريكيين والأوروبيين اليوم هو الخلاف الفلسفي أو الميتافيزيقي بشأن أين يقف الجنس البشري الآن من مسألة الفصل بين قانون الغاب. وقانون العقل. والأمريكيون يؤيدون استخدام العصا بنفس قدر تأييدهم لاستخدام الجزرة!. أما الأوروبيون فيؤيدون الجانب العملي الذي يؤدي إلي النتيجة المطلوبة. وقد أصبح التعبير عن الازدراء المتبادل أمرا شائعا علي جانبي الأطلنطي. ومن السهل ملاحظة التباين في التفكير علي جانبي الأطلنطي، حيث يصر الأوروبيون علي أنهم يتناولون المشاكل بوسائل أكثر دقة وتطورا.. وأنهم يحاولون التأثير علي الآخرين عن طريق غير مباشر.. وأنهم أكثر تحملا للفشل وأكثر صبرا عندما لا تأتي الحلول بسرعة. ويفضل الأوروبيون عامة التعامل السلمي مع المشاكل عن طريق التفاوض والدبلوماسية ومحاولات الإقناع. وهم أسرع في اللجوء إلي القانون الدولي وإعمال الاتفاقات الدولية والتحكيم.. ويحاولون أيضا استخدام الروابط الاقتصادية والتجارية في الجمع بين الأمم. الحفاظ على مكاسب الأمريكيون رغم انحسار قوتهم يستمرون في التصرف على أساس مقولات «جورج كانن» المخطط الاستراتيجي الأمريكي الذي قال عام 1948 بالحرف الواحد: «نحن الأمريكيون نمتلك أكثر من 50 في المائة من ثروة العالم، بالرغم من أننا لا نشكل سوى 6 في المائة من سكانه، وفي هذه الحالة تتمثل مهمتنا الرئيسية في المستقبل أن نحافظ على هذا الوضع المختل لصالحنا، وكي نفعل ذلك علينا أن نضرب بالعواطف والمشاعر عرض الحائط، علينا أن نتوقف عن التفكير بحقوق الإنسان ورفع مستويات المعيشة وتحقيق الديمقراطية في العالم». منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين احتد التنافس الأمريكي الأوروبي، في العديد من مناطق العالم وخاصة في الشرق الأوسط الكبير بمفهومه الأمريكي أي من أفغانستان شرقا حتى المغرب غربا. في الخليج العربي تنافست أوروبا مع الولايات المتحدة على عقد اتفاقيات أمنية وعسكرية اقتصادية اعتبرتها واشنطن إخلالا بسلطتها في المنطقة وتهديدا يمكن أن يستفيد منه خصومها. كما غدت منطقة شمال إفريقيا مرشحة لعمليات جذب ودمج واسعة النطاق على الصعيدين، الإقليمي والدولي، وذلك بغرض تحقيق أهداف استراتيجية ليست بالضرورة متناسقة وموحدة السياقات. في نهاية سنة 2003 سجل تسابق أمريكي أوروبي في اتجاه دول المغرب العربي، وصرح في ذلك الحين وكيل وزير الخارجية الأمريكية ويليام بيرنز أن الولايات المتحدة ليست معترضة على صيغة خمسة زائد خمسة، لكن ما يجب أن تدركه أوروبا أن واشنطن أصبحت أكثر من أي وقت مضى شديدة الحرص على تعزيز حضورها، فيما تسميه بشمال إفريقيا. وبالتالي، يجب على فرنسا وشركائها تجنب القيام بأي عمل يتناقض مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية. وقد أصبح من الواضح أن أمريكا التي تغيرت سياستها الخارجية منذ سقوط جدار برلين، لم تعد مقتنعة بتوزيع الأدوار والمصالح مع بعض حلفائها السابقين أثناء الحرب الباردة ومن بينهم فرنسا. لهذا أخذت تسعى منذ حرب الخليج الثانية نحو تعزيز حضورها الاقتصادي والسياسي والعسكري والإعلامي والثقافي في منطقة شمال إفريقيا. وقد وسعت مفهوم «الشرق الأوسط» ليشمل هذا الجزء الحيوي من العالم العربي، وأدمجته بشكل كامل حتى يستوعب خطتها الجديدة للهيمنة على هذا الجزء الحيوي من العالم. وحتى تثبت أنها ستعطي للمغرب العربي دورا أكثر أهمية في هذه الخطة اختارت أن تكون تونس مركزا لمكتبها الإقليمي لمتابعة تنفيذ «مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط». هذه المبادرة التي أعلن عنها وزير خارجية أمريكا السابق باول. أما فرنسا، فقد قررت - بعد أن انتابتها حالة من الغفلة – إعادة تأسيس علاقاتها من جديد مع المغرب العربي، الذي شكل تاريخيا إحدى مجالاتها الحيوية، وذلك ضمن توجه أشمل يهدف إلى جعل إفريقيا والدول الفرنكفونية أحد الدروع التي قد تحد من محاولات الاختراق والهيمنة الأمريكية. رسالة الى واشنطن في الوقت الذي تتحايل فيه ادارة الرئيس اوباما للالتفاف على التزامها السابق بالتخلي عن مشروع الدرع الصاروخي الذي تعتبره موسكو تهديدا مباشرا لها. وهو ما دعى السفير الروسي لدى حلف شمال الاطلسي دميتري روغوزين يوم 10 فبراير 2010 الى توجيه تحذير الى «الولايات المتحدة وحلفائها» حيث أكد ان «الدب» الروسي «سيؤدبهم» في حال حاولوا محاصرته. في هذا الوقت اختارت أوروبا عبر فرنسا توجيه رسالة الى واشنطن. فيوم 8 فبراير 2010 اعلنت باريس في الوقت الذي كان فيه وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس يقوم بزيارتها، انها تتفاوض مع روسيا لبيعها اربع سفن حربية ضخمة، الأمر الذي اثار تحفظات الولايات المتحدة. وكان قد اعلن في سبتمبر 2009 عن محادثات بين البلدين شملت سفينة حربية واحدة من نوع ميسترال. ويبلغ طول السفينة من هذا النوع نحو 200 متر وهي قادرة على نقل نحو 900 جندي اضافة الى مروحيات ودبابات. وفي حال تمت هذه الصفقة، فانها ستشكل سابقة لقيام دولة عضو في الحلف الاطلسي ببيع سفن حربية الى روسيا. وقال وزير الدفاع الفرنسي ارفيه موران في رد ضمني على المعارضة الأمريكية «لا نستطيع ان نستخدم خطابين مختلفين مع روسيا»، مضيفا انه جرى اتصال بشأن بيع سفن حربية لروسيا «مع دول اوروبية اخرى». واضاف موران «من جهة نريد بناء علاقة ثقة وفضاء يتأمن فيه الاستقرار والسلام والأمن» مع روسيا، ومن جهة ثانية «نواصل التطرق الى علاقاتنا التجارية كما لو ان روسيا ما زالت كما كانت عليه قبل 1991»، اي قبل سقوط الاتحاد السوفياتي. يختلف المحللون بخصوص توقيت وصول التحالف أو التبعية الأوروبية تجاه الولايات المتحدة الى نقطة الإنفصال، ولكن الأزمة الاقتصادية العالمية ومحاولات واشنطن الخروج منها بأي ثمن وعلى حساب الغير حتى ولو كانوا حلفاء تعجل بالوصول إلى مرحلة الانفصال. الولايات المتحدة تنظر بعين الريبة لتوحد الموقف الأوروبي من قضايا الاقتصاد وتخشى أن يؤدي تحول أوروبا إلى مارد اقتصادي عالمي إلى سحب البساط من تحت قدميها باعتبارها القوة الأولى في العالم والأقدر على إدارة الدفة الاقتصادية فيه باتجاه مصالحها. وفي المقابل تشكو أوروبا «الأنانية» الاقتصادية للولايات المتحدة وتتهمها بممارسة الحمائية على منتجاتها في مخالفة صارخة لقوانين التجارة العالمية التي كانت الطرف الرئيسي في سنها. المجال الحيوي القوتان الرئيسيتان اللتان تحركان أو بالأحرى تقودان الإتحاد الأوروبي هما ألمانياوفرنسا، ويقول البعض في الولايات المتحدة أن ألمانيا هي التي تقود أوروبا خلف شراكة ظاهرية مع فرنسا. ألمانيا حاولت دائما وكذلك فرنسا عبر قرون ماضية البحث عن مجال حيوي للتمدد. وإذا كانت برلين وباريس قد توسعتا عبر الغزو الإستعماري جنوبا خاصة في أفريقيا، فإن الحروب الكبرى التي عرفتها القارة الأوروبية منذ عهد نابليون وقادة ألمانيا المختلفين كانت في اتجاه الشرق حيث توجد الموارد الطبيعية الضخمة والوسط المناسب. الآن أوروبا الموحدة التي تضم 27 دولة وحوالي 500 مليون نسمة والتي استبدلت الحرب بالسياسة والاقتصاد، تملك حظوظا وافرة لأن ترتبط مع شطرها الشرقي لتصل به إلى معانقة مياه المحيط الهادئ عبر سيبيريا الروسية. وهكذا يبدأ عصر نظام عالم يعاد تشكيله.