مرت على تأسيس التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد ما يقرب من ثلاث سنوات، وهي مدة كافية لتقييم هذه التجربة النضالية وجرد الحصيلة التي راكمتها بعد حراكها الذي شهد تضحيات جمة من طرف المنخرطين فيها لعل أبرزها استشهاد المناضل عبد الله حجيلي التي طالته أيادي السلطة الآثمة في إحدى محطات القمع الوحشي الذي تعرضت له التنسيقية، ناهيك عن المتابعات القضائية الكيدية لعدد من منسقيها فضلا عن استنزاف مناضليها بالاقتطاعات دون أن تتمكن لحد الساعة من تحقيق مطلبها الرئيسي الذي هو مطلب الإدماج وتحقيق المساواة مع زملائهم المرسمين من الأفواج السابقة. فهل توفقت التنسيقية فعلا في الانخراط في هذه المعركة التي يعتقد البعض أن الملف الذي تناضل من أجله أكثر تعقيدا من أن تتمكن مهما قويت من أن تعاكس السياق الدولي والوطني الذي فرض هذا الشكل من أشكال التوظيف؟ سؤال نجاعة حراك المتعاقدين سؤال مشروع بل ولازم حتى تكون للتضحيات المبذولة معنى بعيدا عن العبثية وعن الاستنزاف المجاني لشريحة واسعة من نساء ورجال التعليم، غير أن التقييم لكي يكون منصفا عليه أن يستحضر معطيات المشهد عامة ويتأمل طبيعة الظرفية التي واجهها هذا الحراك، حيث أن الدولة استغلت مرحلة الشرود الجماهيري ما بعد زمن 20 فبراير من أجل تثبيت واقع التنازلات وتجفيف منابع الاحتجاج وقتها صعدت من وتيرة استهدافها لمكتسبات المغاربة وحقوقهم الأصلية، فاعتبرت أن تتالي الصدمات سيربك الحركة الاحتجاجية ويشل حركتها، لذلك عجلت بإقرار خطة التقاعد وضربت حق الإضراب وعبثت بصندوق المقاصة، بالإضافة إلى أنها سحقت أي تحرك مجتمعي مثلما صنعت مع الحسيمة وجرادة والأساتذة المتدربين وقبلهم المجازين، ثم توجت هذا المسار المتسارع بإلقاء قنبلة التعاقد التي رمتها في حقل قامت باستغلال الخصاص المهول في أطره والتي تعمدت السكوت عنه حتى تفاقم لتدفع بأفواج على دفعات متلاحقة في إطار نظام العقدة، وذلك فرضا لأمر واقع يصعب إزالته بعد أن يتحول الأساتذة المرسمون إلى أقلية أمام غالبية من المتعاقدين. لقد راهن القوم على خلق جيل جديد مدجن يرتعب من خيال المدير والمشرف التربوي والذي قد يتم إنهاء مشواره المهني بجرة قلم أو وشاية كاذبة كالتي يروجها من لا ضمير له من المسؤولين في وسط يعج بمثل هذه السلوكات غير المهنية المشينة، فيضطر الأستاذ الجديد إلى الانحناء وإلى التملق لمن هب ودب، وأنى له أن يعبر عن شكاويه فضلا على أن يفكر بالاحتجاج ضد من انتهك حقوقه، وذلك على أمل تعميم هذا النموذج في وزارة طالما أرق السلطة الصداع الذي تخلقه لها، حيث أن غالب من يخرج للشارع من أجل الاحتجاج ينتسب إليها. أمام هذا الوضع الشائك أخذت المبادرة فئة أبت أن تفرط في كرامتها، فنظمت نفسها واستقطبت القطاع العريض من الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد في ظرف وجيز وخاضت معارك نضالية قوية كسرت تلك المسلمة المخزنية البائسة التي اعتقدت معها السلطة أنها ستقطع مع الاحتجاجات داخل قطاع التعليم بشكل لا رجعة فيه، حتى أصبحت مضرب الأمثال في الصمود والمواجهة والقدرة على امتصاص الضربات، وكسرت أوهام من ظن أن التنسيقية انتهت مع الموجة الأولى من معركتها النضالية بعد إنهاء الإضراب المفتوح وأن مناضليها سيعودون إلى أقسامهم أذلاء صاغرين ومشتتين تنظيميا، إلا أن العودة القوية لنضالات التنسيقية بعد الحجر الصحي شكلت صفعة لأجهزة الدولة المركزية التي أعادها الحراك إلى المربع الأول، وهو ما يفسر حالة التشنج والعصبية المفرطة التي انعكست في العنف المسجل في المحطة النضالية الأخيرة. تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد ملأت فراغا رهيبا كانت ستستثمره الدولة المخزنية بعد أن تم طي صفحات الاحتجاج في الشارع المغربي وليس فقط بالنسبة للجسد التعليمي، وهي وإن ناضلت على ملف جزئي إلا أنها تعتبر قوة ممانعة تكبح حلم بعض سدنة السلطوية في البلاد بجعل المغاربة مجرد خراف لا تحرك ساكنا حتى وهي تتعرض للذبح وللسلخ. كما أن وحدة المصير بين أعضاء هذه الشريحة التعليمية قوت من لحمتها وجعلتها جسدا متراصا قادرا على تدبير خلافات مناضليه وتجاوزها وتذويبها في بوثقة مصلحة التنسيقية العليا رغم محاولة تشتيتها وزرع الفرقة بين أعضائها، فخلقت في صفوفها إحساسا عاليا بالتضامن وإن في قضايا فرعية صغيرة وفي المشاكل اليومية التي يصادفها مناضلوها لتنقلب الهشاشة إلى صلابة، فحققت بذلك مكسبا لم يتحقق للأساتذة المرسمين رغم أقدميتهم وخلقت نموذجا مصغرا لما ينبغي أن يكون عليه الحال بالنسبة لعموم الشغيلة التعليمية من تضامن ومن مؤازرة لبعضهم البعض. لم تتمكن تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد من إلغاء التعاقد بعد، لأن هذا المطلب يحتاج إلى الوقت، وقد أثبتت التنسيقية أنها تملك النفس الطويل لتحقيقه بدليل أنها أفشلت مخطط استنزافها فانتقلت إلى استنزاف الدولة وأدواتها القمعية التي أظهرت أنها محدودة الأثر أمام عناد مناضلي هذه الفئة، فاستطاعت أن تخطو خطوات جدية في اتجاه نيل مرادها. ويكفي أنها فرضت اليوم هيبتها وهيبة مناضليها على من كان ينتقص منهم فيما مضى، ولأي مراقب أن يقارن بين حال الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد قبل تأسيس تنسيقيتهم وبعده ليلمس التحول العميق الذي أحدثه هذا الإطار الفتي على أوضاعهم وعلى المشهد النضالي المغربي بما يجعل من إدماج "المتعاقدين" في أسلاك الوظيفة العمومية والنظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية مسألة وقت لا غير.