سقط الليل بردائه المدلج الكثيف ، فحجب عني تهاويل الضياء مع هذا الرمق الأخير من النهار ، وخف الطير في رفيف رشيق إلى أعشاشه المرتجة بين أفنان الشجر وثقوب الجدران .. وأطل القمر خافتا من جرابه المختنق الخجول.. ومرت السحاب مرورَها مزهوة متثاقلة فانتشلت ضي القمر الممتقع والتقمته بنهم داخل مكامنها الدفينة المثقلة بصك الرعود .. فعتم علي الليل وقد ابتلع كل أطباق الضياء في زقاق المدينة .. فاستدرت أبحث عن ظلي الذي يلازمني رفيقا ويطوف حولي جامعا مني مرارة الآهات ليصنع منها قطرات الدموع .. يرافقني في لغة الصمت وبرقصة المواسي لنفسي السقيمة ترتج عليلة كقيثارة خرساء من خيوط كتان .. أجد ظلي من شعاع أضواء الزقاق الباهتة يتقدمني أحيانا إلى أمامي وأخرى يتعقبني من خلفي ومرة يقرضني من شمالي وأخرى يتزاور عن يميني بكل معاناته ، فأبتسم قسرا بيني وبين نفسي وأدعه في دوران حولي يرتزق الحركة من أعمدة النور … وأسير في شارع طويل تقودني خطواتي إلى مدينة السكون ووحشة جلال الأجداث ، فأقف وأنفض عن الرمس التراب وأقتلع ما نبت عليه من نجم النبات .. وتتفتق عن ذهني ما قالت لي يوما :"توحشت لِكْ " وأنا أرى خيال وجهها في دفاتر الماضي وأشاهد قسمات قوامها بين غيوم السماء الداكنة وأسمع همس صوتها متصاعدة من روح أسرار الخلود فطرفت عيني تستحم بدموع .. فطبعت قبلة على أطراف أصابعي وانحنيت بكف يدي على صعيد القبر في لمسة ثاقبة إلى حيث الرفات الراقد .. واستدرت راجعامنفصلا بروحي عن جسدي وفي ذاكرتي شريط طويل من الماضي الدفين .. أجر خطواتي بتثاقل وظلي يراقصني رقصة الطير الذبيح في دوران ، أو كان بها يعزيني في امرأة آثرت البقاء تحت التراب .. وتابعت طريقي في سكون موحش مع هذا القمر الذي غاب وهؤلاء السمار الذين ناموا ومع هذه المصابيح المهزوزة المحتضرة ، ولم يشق هذا السكون الرهيب إلا آذان صوامع المدينة إيذانا بانتهاء مناسك الليل الأخيرة ، فولجت بيتي ودلفت تحت غطائي ألتمس شيئا من بقية الرقاد…