من خلال اطلاعنا على ديوان الشعر العربي نجد مجموعة من الشعراء كانوا يقومون بدور الإعلان والإشهار في قصائدهم الشعرية، حيث كانوا يقومون بحفظ تاريخ العرب وبتدوين الحوادث والأخبار والأيام، وكذا الأشخاص والأدوات والبضائع ذات الأهمية والقيمة، وتكون ذات مغزى ومعنى، فتأخذ باهتمام الشعراء فينظمون قصائد في موضوعها، ويبرزون أحسن وأجمل مما جاء فيه بكل دقة وجمال، ويتفننون في الوصف والرسم والتصوير لموضوع القصيدة، مع الاحتفاظ بكل عناصرها، حتى يبدو للقارئ أو المستمع أنه يرى ما يقول الشاعر، فيضمنون لها الذيوع والانتشار وإشاعتها بين الناس. وبذاك تشيع تلك القصائد بين الناس من المستمعين ومن القراء، وتثير انتباه الجميع، فيهتم بها كل من علم بها أو سمع عنها، فيكون الشعراء قد قاموا بدور الإشهار التجاري بالمفهوم المعروف في وقتنا الحاضر، الذي يعتمد على الإعلان في وسائل الإعلام العامة، كالإذاعة والصحف والمجلات وما أشبهها. وإني في موضوعي هذا المتواضع، سأسرد قصيدتين استطعت الاهتداء إليهما، مما يزخر به ديوان العرب من شعر، لأضرب بهما مثلا ، وهي قصيدة للأعشى الأكبر وأخرى لمسكين الدارمي . الأعشى الأكبر( توفي سنة 7ه /629م) هو أبو بصير ميمون بن قيس البكري، لقب بالأعشى أي الأعمى أو من قل بصره، وسمي" صناجة العرب" لأنه كان يتغنى بشعره بالصنج وهي آلة للطرب. عاش في العصر الجاهلي وبداية العصر الإسلامي، له ديوان كبير، جل قصائده تدور حول المدح، ونظم في الهجاء والغزل ووصف الخمر، وتعد قصيدته " ودع هريرة " من المعلقات ومن أشهر شعره، يقول في مطلعها : ودع هريرة، إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل غراء، فرعاء، مصقول عوارضها تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوحل جاء في قصة الأعشى مع المحلق الكلابي، ما يلي : ( كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق الكلابي مئناثا مملقا، فقالت له إمرأته: ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر، فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا أكسبه خيرا. قال: ويحك ما عندي إلا ناقتي . قالت: الله يخلفها عليك. فتلقاه قبل أن يسبقه إليه أحد،وابنه يقوده، فأخذ الخطام. فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا ؟. قال: المحلق. قال: شريف كريم. ثم سلمه إليه، فأناخه، فنحر له ناقته وكشط له عن سنامها وكبدها ثم سقاه خمرا، وأحاطت به بناته يخدمنه ويمسحنه. فقال: ما هذه الجواري حولي؟. فقال بنات أخيك وهن ثمان. فلما رحل من عنده، ووافى سوق عكاظ، جعل ينشد قصيدته في مدحه. فسلم عليه المحلق، فقال له الأعشى: مرحبا ياسيدي بسيد قومه. ونادى يامعشر العرب، هل فيكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم؟. فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها. ( كتاب: أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. بطرس البستاني. الصحة 161.الطبعة الخامسة. مكتبة صادر). ومما جاء في قصيدة مدح المحلق : لعمري، لقد لاحت عيون كثيرة ، إلى ضوء نار، في يفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها، وبات على النار الندى والمحلق رضيعي لبان ثدي، أم تحالفا بأسحم داج: عوض لا نتفرق... والمحلّق هو : عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد . وهو أبو بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. سمي محلقاً ؛ لأن حصاناً له عضه في وجنته ، فحلق فيه حلقة. والشاعر مسكين الدارمي (توفي سنة 98ه/ 708م) هوربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن دارم، عاش في القرن الأول الهجري، من أهل العراق، ينسب إلى بني دارم بني حنظلة من العدنانية، وهو (من سادات بني دارم ومن شعرائها المجيدين)، عاصر الفرزدق والأخطل. نظم أشعارا في الغناء والهجاء والرثاء والفخر والوصف وله نوادر. ومسكين لقب له، وإنما لقب به لقوله : أنا مسكين لمن أنكرني ولمن يعرفني جد نطق لا أبيع الناس عرضي إنني لو أبيع الناس عرضي لنفق وقال أيضا : سميت مسكينا وكانت لحاجة وإني لمسكين إلى الله راغب أما قصته مع تاجر الخمر، فهي كما يالي: (إن تاجرا من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر، فباعها كلها، وبقيت السود منها فلم تنفق . وكان صديقا للدارمي، فشكا ذاك إليه، وقد كان نسك وترك الغناء وقول الشعر، فقال له: لا تهتم بذلك، فإني سأنفقها لك حتى تبيع أجمع. ثم قال: قل للمليحة، في الخمار الأسود: ماذا صنعت براهب متعبد ؟ قد كان شمر للصلاة ثيابه، حتى وقفت له بباب المسجد وغنى فيه، وغنى فيه أيضا سنان الكاتب، وشاع في الناس وقالوا: قد فتك الدارمي ورجع عن نسكه. فلم تبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خمارا أسود، حتى نفد ما كان مع العراقي منها. فلما علم بذلك الدارمي، رجع إلى نسكه، ولزم المسجد). (كتاب : منتقيات أدباء العرب في الأعصر العباسية. بطرس البستاني. الصفحة 443. الطبعة البولسية. السنة 1948). وأشير أنه ورد في ديوان مسكين الدارمي، (جمع وتحقيق خليل إبراهيم العطية وعبد الله الجبوري، طبعة سنة 1970. بالصفحة 30)، البيتان على الشكل التالي (من الكامل) : قل للمليحة في الخمار الأسود: ماذا أردت بناسك متعبد ؟ قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى قعدت له بباب المسجد ومنهم من يضيف لهما بيتا ثالثا وهو : ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمد ومن خلال هذين النموذجين اللذين اقتبستهما من ديوان الشعر العربي، لتبيان ظاهرة الإشهار والإعلان في الشعر العربي، نلاحظ أن الشاعر العربي كان لسان قومه، وبمثابة وكالة للإعلان والإشهار. في القصيدة الأولى للأعشى الأكبر نجد أن الشاعر التجأ إلى الاعتماد على مدح الرجل وجعله سيد القوم وشريفا كريما، وأشاد به في القصيدة، فأصبح معروفا وله مكانة في المجتمع، وتم الإقبال عليه من طرف راغبي الزواج ، وتم تزويج بناته كلهن . أما القصيدة الثانية للدارمي نجد أن الشاعر التجأ إلى أسلوب الإغراء والدعاية لمنتوج نسوي، أي الخمار الأسود، فشاع ذلك بين النساء، الشئ الذي دفع كل مليحة في المدينة إلى اقتناء ذلك الخمار الأسود، لعلها تكون هي المعنية التي افتتن بها الشاعر وتغنى بها. فنفد ما كان مع التاجر من خمر. ورجع الشاعر إلى تعبده ونسكه . وهكذا نجد الشاعر يلوذ بطريقة الإشهار والإعلان في شعره ليحقق ما يصبو إليه، ألا وهو الذيوع والانتشار لما يريد نشره، فكانت قصائده في هذا المجال ترفع ما يريد الشاعر الإشهار به في سماء المدح والتمجيد، وتحط ما يحب الشاعر التشهير به في عالم الهجاء والإساءة، حيث يستطيع الشاعر ببيت شعر واحد أن يعز من يشاء ويذل من يريد، والغاية تكون واحدة، ألا وهي الإعلان والإشهار بالقبيلة أو الشخص أو الشئ المراد الإشهار به والإعلان عنه. *كاتب مغربي.