" والشاعر المجيد حقا يمتاز من غير المجيد، بأنه إذا تحدث إليك لم يمكنك من أن تسير معه كما تسير مع نفسك، وإنما يضطرك أن تفكر وأن تجهد نفسك في أن تفهمه، وتحسه وتشعر معه". بول فاليري
مقدمة حول مأساة الشاعر مع التاريخ والنقاد والدارسين: إن الحديث عن ابن الرومي ذلكم الهرم الهجَّاء في الشعر العربي برمته - إلى جانب الحطيئة والأخطل والفرزدق وجرير وبشار ودعبل – ليستلزم منا كلاما عريضا طويل الذيل، سيّما حينما تلفى في بطون الكتب كلاما عنه كهذا الكلام: "إنه لعنة السماء". "إنه شاعر هجَّاء لم يسلم أحد من لسانه". "رجل متطير قليل الحيلة، موسوس لسانه أطول من عقله، وهجاؤه لاذع يجيد السب والشتائم". "كان لسانه أطول من عقله حتى قتله الهجاء".
هذا الكلام في الحقيقة واقعٌ مزعج يظلم الشاعر في شعره، وهو لا غرو أقصى ما تردده كتب الأدب عن ابن الرومي،"هذا الشاعر الكبير ظُلم من القدماء والمحدثين على السواء فلم يعطه هؤلاء ولا أولئك حقه ولم ينصفوه، وأطلقوا عليه بعض الأحكام العفوية أو المقصودة لتشوه أدبه" ، فلا تكاد تجد له أثرا في الموسوعات الأدبية القديمة ولا التراجم ولا كتب تاريخ الأدب كالأغاني للأصفهاني و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، وطبقات ابن المعتز و"الكامل في اللغة والأدب" للمبرد ... اللهم إشارات يتيمة يسيرة عن بعض أخباره منثورة في استحياء في بعض الكتب مثل: "طبقات النحويين" للزبيدي، و"زهر الآداب" للحصري، و"العمدة" لابن رشيق و"رسالة الغفران" للمعري و"الفهرست" لابن النديم. والشاعر وإن اتفق أن ذكر له شيء في كتب الأدب وُصف بكلمات وجيزة مفادها أنه "لم يكن شيئا كبيرا بالقياس إلى الخالقين من السادة الذين تركوا على الشعر العربي أثرا باقيا" ، وإنه لمن الخطأ المفرط إطلاق مثل هذه الأحكام دون تدقيق النظر في أشعاره ومعانيها، وكيفية صياغتها لا سيما في الوصف والهجاء "ولئن بخس المؤرخون حق ابن الرومي فلم يعنوا بجمع أخباره، لقد كان الشاعر أحرص منهم على ذلك، فجاء شعره تاريخا صادقا لحياته وصورة ناطقة بأخلاقه وصفاته" . ولعل ما يفسر تجاهل التاريخ لهذا الرجل ولأثره الأدبي الرفيع، هو هجاؤه اللاذع وسلاطة لسانه، ولذا سكت عنه أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني" مع العلم أنه أورد عددا غير يسير لشعراء وأدباء لا يصلون في الشعر ما وصل إليه ابن الرومي، ولا يبلغون من جمالية شعره وثقافته الموسوعية ما بلغه، وهذا ما ذهب إليه العقاد بقوله: "سكت أبو الفرج عن هذا الشاعر اتقاء لمن هجاهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ أبي الفرج، ولعله سكت لأسباب أخرى...وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعا أن يقدر ابن الرومي حق قدره وأنه كان أمويا، وكان ابن الرومي شديد الكراهية للأمويين" ، وعلى نفس النهج تقريبا درج ابن المعتز في طبقاته، إذ أهمل ذكره لأنه هجا أباه الخليفة "المعتز بالله" بقوله: دع الخلافة يا معتز من كثب *** فليس يكسوك منها الله ما سلبا فكيف يرضاك بعد الموبقات لها *** لا كيف؟ لا كيف؟إلا المين والكذبا قال محمد زغلول سلام في هذا الصدد بأن ابن المعتز "رتب الشعراء في الكتاب على غير قاعدة أو منهج مرسوم، إلا أنه بدأ بذكر شعراء المديح ومن مدحوا خلفاء بني العباس خاصة، ولم يذكر من تعرض منهم لهجائهم، وقد أهمل جماعة من الشعراء المشهورين مع ذلك أمثال ديك الجن الحمصي وابن الرومي، ولعل سبب إهماله الأخير أنه هجا والده المعتز بالله" . و سكت عنه المبرد أيضا في "الكامل" لأنه لم يسلم من هجائه هو الآخر فقال فيه: ودَّ المبرد أن الله بَدَّله *** من كل جارحة في جسمه دبرا فاعطه يا إله الناس منيته *** ولا تُبَقِّ له سمعا ولا بصرا
إنّ ما يبدو على الأصفهاني وابن المعتز والمبرد أن المنطلقات المعيارية التي يعتمدونها لوضع تراجم الشعراء يطغى عليها قسط مُهول من الأهواء والنزوات الشخصية، وربما في جانب من مؤلفاتهم يغفلون عن الجانب الفني الجمالي إذا كان بينه وبين صاحب الإبداع الشعري عداوات أو ضغائن أو خلافات فكرية و سياسية واجتماعية... ولعل هذه الأشياء برمتها هي التي حالت دون حضور الشاعر في الكتب القديمة، ولسوء حظه الذي لازمه في حياته وحتى بعد موته، أن الدراسات التي أقيمت في شأنه لقي أصحابها بعض المضايقات والأمور الغريبة، لكون الشاعر راح ضحية للأحكام الجاهزة الرائجة عنه، من كونه سليط اللسان، ومتطيرا ورمزا للنحس والتشاؤم،من ذلك أن عبد الحميد محمد جيده لما قام يهيئ رسالته المعنونة ب "الهجاء عند ابن الرومي" لنيل درجة ماجستير في الأدب العربي سأله أحد رجال الأدب المتدينين قائلا: عمَّن تكتب يا بني؟ فقال له: عن ابن الرومي، فدهش الرجل ووضع يده على رأسه وقرأ ما تيسر له من القرآن، وقال له: حماك الله من كل أذى . والشاعر بلا ريب خلاف ذلك مما يورد عنه، لأن ديوانه ينطق بقدرته الفنية على التصوير والتجسيم والاستقصاء البارع البعيد المدى في تناول أدق التفاصيل، وبذاتيته المتفردة كشاعر، تلك التي تتفجر بها كلماته وموسيقاه وقوافيه ومعانيه. 1) - كرونولوجيا الهجاء بين القديم و"الرومي": كان الهجاء لدى شعراء النقائض وسيلة لغاية قبلية، يقوم أساسا على الطعن في المعنويات والأوصاف الخلقية، مثل وصف الخصم بالبخل وانتهاك حرمة الجار والهزيمة والمذلة والصَّغار، والدافع إلى هذا الهجاء دافع سياسي محض، يقوم على الانتصار لمصالح القبيلة والذوذ عن محارمها، فنجد الأخطل ينضم إلى الأمويين على قيس عيلان أعداء قومه التغلبيين، ثم إلى الفرزدق على جرير، لأن هذا الأخير كان لسان القيسية على تغلب، وكلهم يحكمهم التبجح بالذات والفخر بالنسب والرفع من شأن القبيلة، والانتقاص من قبيلة الخصم، والملاحظ أن هذا الهجاء لا يبلغ من الحدة والشدة ما بلغه الهجاء عند ابن الرومي أودعبل الخزاعي أو بشار بن برد، لأن أغلب الأساليب الموظفة في النقائض تقوم على ألفاظ لا توغل في الفحش والبذاءة، ولا تقوم على التفصيل في المعايب والنقائص كما يفعل ابن الرومي في تتبعه لدقائق المعايب والمخازي، فهذا الأخطل يهجو جريرا في رائيته الشهيرة فيقول: قوم أنابت غليهم كل مخزية وكل فاحشة سبت بها مضر فأنت تراه وقد اقتصر على لفظتي "مخزية وفاحشة" وهما تلمحان إلى العار والفحش، ولكنهما لا تفصلان فيه ولا تسميان المعاني بأسمائها المقنعة" ، ونفس الأمر عند الفرزدق فقد ذكروا أن جريرا والفرزدق حجا فأتى الفرزدق جريرا وهو محرم، فدخل بينه وبين رجل يسايره فقال : إنك لاق بالمحصب من متى فخارا، فخبرني بمن أنت فاخر أبا لقيس قيس أم بخندق تعتزي إذا زأرت منها القروم الهوادر فإن كليبا من تميم وإنما غدا بك من قيس بن عيلان عاهر فشعراء النقائض كانت لديهم القدرة على التهكم والسخرية وتتبع عورات الخصم وتصيدها، إلا أنهم لم يفطنوا إلى تضخيم العيوب الجسمانية، ليؤلفوا منها صورا كاريكاتورية تبعث على الضحك والسخرية، تجعل من المهجوّ أضحوكة بين الناس. وإذا مضينا إلى العصر العباسي نجد الهجاء قد اتخذ مظهرين: - الأول: هجاء اجتماعي: يصور مثالب المجتمع وما بحكّامه وحكمهم من جور وزيغ، ويدعوهم إلى اتباع الحق في السياسة والحكم، ورد المظالم إلى أهلها، ولعل ما يمثل هذا الهجاء هو هجاء دعبل الخزاعي للخليفة المعتصم، لما آلت إليه خلافة بني العباس فمضى يقذفه بلسان مدمر، ويسمعه شعرا عنيفا يشبهه فيه بالكلب، قال فيه: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدوا وثامنهم كلب وإني لأعلي كلبهم عنك رفعة لأنك ذو ذنب وليس له ذنب ومثله أيضا نجده عند علي بن بسام في هجائه لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل، وفيه يقول: سجدنا للقرود رجاء ودنيا حوتها جوننا أيدي القرود فما نالت أناملنا لشيء عملناه سوى ذل السجود ومثله أيضا قول المتنبي يهجو كافورا: من أية الطرق يأتي نحوك الكرم أين المحاجم يا كافور والجلم جازاه الألي ملكت كفاك قدرهم فعرفوا بك أن الكلب فوقهم - والمظهر الثاني: هجاء فردي: اتخذ شكل صور كاريكاتورية تقوم على تضخيم عيوب الأفراد، وكثيرا ما احتدم هذا النوع من الهجاء بين الشعراء، وصارت أشعارهم في ذلك أمثالا يتداولها الناس في شوارع بغداد البصرة والكوفة، على نحو ما كان بين بشار وحماد عجرد، إذ ذكر ابن المعتز في طبقاته هجاء حماد عجرد لبشار فقال: قيل لبشار الأعمى ما أقبح من هجاك به حماد عجرد؟ فقال قوله: ويا أقبح من قرد إذا ما عمي القرد وقد قيل لم يشتد عليه من هجائه إياه شيء كما اشتد عليه هذان البيتان: لو طليت جلدته عنبرا لنتنت جلدته العنبرا أو طليت مسكا ذكيا إذن لحول المسك عليه خرا" وذكر الأصفهاني في الأغاني أن "بشار بعث إلى صديق له يكنى أبا زيد يطلب منه ثيابا بنسينة (بمعنى أن يبيعه ما يريد بيعه، ثم يؤخر له ثمن الشئ المبيع)، فلم يصادفها عنده فقال يهجوه: ألا عن أبا زيد زنى في ليلة القدر ولم يرع تعالى الل ه ربي حرمة الشهر وكتبها في رقمه وبعث بها إليه، ولم يكن أبو زيد ممن يقول الشعر، فقلبها وكتب في ظهرها: ألا إن أبا زيد له في ذلكم عذر أتته أم بشار وقد ضاق بها الأمر فواثبها فجامعها وما ساعده الصبر" وعموما فالهجاء في العصر العباسي شمل الفرد كما شمل الجماعة، وكان تعبيرا ماديا لما يخالج النفوس من شعور بالقبح اتجاه الآخرين، وانعكاسا على سلوكات الأفراد في المجتمع، القائمة على الغدر والبخل والجبن والحقد، فجاء الهجاء تصويرا مشوها لهذه السلوكات، لكن الهجاء عند ابن الرومي تولد من شعور بالنقص والاختلال والانكفاء على الذات،ومن شخصيته التي ما فتئت تعرف تذبذبا بينا وتناقضا صريحا، يحكمها مزاج متفلّت يأخذ وجوها عدة، ويتقلب بين الحرص والجبن والمغالاة والزهد والطموح والخوف، ولذلك "تراه ينخلع حتى الانهيار من فوات الشباب، ومن إغفال ممدوحيه ثوابه، من فقدانه ذويه.." ،بالإضافة إلى كون نفسه موطنا من مواطن الألم، لما صب عليه الدهر من المصائب والنوائب، فجاء الهجاء ليربط مصيره بمصير الكون، قال إيليا حاوي في هذا الصدد "لا شك أننا نشهد في هذا العصر بقايا من الهجاء القديم، الذي يلم بنقائض الأصل والجبن والبخل وعورات الشرق وما إلى ذلك... إلا أن الهجاء الإيجابي الذي يوضح لنا حقيقة تجارب الشعراء في هذا العصر، هو الهجاء الاجتماعي الذي يبين حقد الفرد على مجموع الكون، كما ظهر في شعر ابن الرومي" . لقد وثب ابن الرومي بالهجاء والسخر الفني من التهاجي القديم بالأحساب والأنساب، وما يتصل بهما من العصبيات القبلية إلى رسم صورة ساخرة للمهجويين، من خلال مطاعن خلقية ونفسية تقوم على تحقيرهم وتصغيرهم والحط من منزلتهم، إذ كان لحدة مزاجه وبراعة قدرته على لمح دقائق العيوب، يعبث بمن يتلقاهم بالهجاء عبثا لاذعا أشبه ما يكون صورا كاريكاتورية، يلتقط بها ما صغر وما كبر من النقائص والمساوئ، فيضخمها في صور تهويلية ومشوهة تترك أثرا بليغا في نفوس المهجويين. ومن الأمثلة على ذلك قوله في صاحب لحية طويلة : ولحية يحملها مائق مثل الشراعين إذا أشرعا تقوده الريح بها صاغرا قودا عنيفا يتعب الأخدعا فإن عدا والريح في وجهه لم ينبعث في وجهه إصبعا لو غاص في البحر بها غوصة صاد بها حيتانه أجمعا شبه ابن الرومي لحية المهجو بالشراع تدفع به الرياح كما تندفع السفينة به، وهذه الصورة السافرة أوحت له بالصورة الثانية، فتخيله يغوص في البحر بلحيته، فتكون عنذئذ كشبكة العائد ولكنها لضخامتها لا تعيد صغار السمك، بل تصيد الحيتان، فاعتمد الشاعر المبالغة الباعثة على الضحك والسخرية من خلال استحضار هذه اللحية في الذهن، كأنها شراع تهب عليه الريح. ويتضح باستقراء بعض القصائد الهجائية لابن الرومي أنه قد تأثر بدعبل الخزاعي شاعر الهجاء المعروف، مما جعل بعض الأدباء يقرنونه به، ويعتبرونهما علمين من أعلام الهجاء في الشعر العربي. قال فيه أبو العلاء المعري: لو نطق الدهر هجا أهله كأنه الرومي أو دعبل فلا تختلف الصورة الفنية في هجاء ابن الرومي عن مثيلتها عند دعبل، إلا في طبيعة كل شاعر، وبواعثه على الهجاء "نتيجة للفرق بين المذهب البدوي الذي يمثله دعبل والمذهب الحضري الذي يمثله ابن الرومي في الهجاء، فدعبل بدوي نافر وابن الرومي حضري أنيس" ، فإذا تبرم ابن الرومي من مجتمعه وما حوله في الوجود، فإنما يتبرم تبرم من يألف مجتمعه ويأنس إليه، ويعاني من عشرة أناسه ثم يسخط عليهم، لأنه مرتبط بهم ولا يستطيع العيش دونهم، فسخطه أساسه المودة والألفة وليس القطيعة والنفور، عكس دعبل الذي كان ذا نزعة انتقامية صعلوكية، بحكم أنه عاش ردحا من الزمن في الصعلكة وقطع الطريق والنهب والسلب، ولهذا الفرق بين الشاعرين أثره في موضوع المثالب التي يلصقها كل واحد منهما على مهجوييه "فدعبل يسلب المهجو جميع الفضائل التي تعتز بها النفس الصارمة البدوية: يسلبه النخوة والكرم والبأس وطيب النحيزة، ويجعله رجلا يسمع البدوي صفاته فيقول إنه حقير مرذول، وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات" . 2) - خصائص الهجاء عند ابن الرومي: عموما إن الهجاء عند ابن الرومي يتميز بمظاهر تجديدية تميزه عن القديم –الجاهلي والإسلامي- والجديد – العباسي – تتمثل في ميزات يمكن تلخيصها فيما يلي: لم يعد الهجاء عنده وسيلة سياسية تقوم على الانتصار لعصبية قبلية أو حلف سياسي معين، والنيل من الحلف المناهض، وتفنيد مبادئه وتخطيء مواقفه، كما كان مثلا بين الكميت بن زيد الأسدي وحكيم بن عياش، وما كان بين شعراء النقائض، وما كان بين أبي جلدة اليشكري وأعشى همدان، بل أصبح الهجاء عنده سلاحا يدافع به عن نفسه، ويحمي به نفسه وشعره،وهو غالبا يتخذ هذا السلاح لرد العدوان والأذى عن نفسه : ألم تر أنني قبل الأهاجي أقدم في أوائلها النسيبا لتخرق في المسامع ثم يتلو هجائي محرقا يكوي القلوبا كصاعقة أتت في إثر غيث وضحكُ البيض تُتبعه نحيبا عجبت لمن تمرّس بي اغترارا أتاح لنفسه سهما مصيبا سأرهق من تعرض لي صعودا وأكوي من مياسمي جنوبا • استخدام مقارنات غريبة: بالإتيان بسخرية تصور المهجويين بتصاوير مشوهة، كانت نتيجة اشمئزاز الشاعر لمرأى كل قبيح. • دقة الملاحظة ووصف الحركة وبعث الصور البعيدة الإيحاء: وفي هذا يقول طه حسين:"إن ابن الرومي كان قوي الخيال جدا،وكان خياله بعيدا ليس بالقريب،وكان حاد الحس جدا وكان قوي الشعور،فكان إذا ألم بمعنى من المعاني تأثر به تأثرا واضحا" • عبقرية الحس والفحش في اللفظ والبذاءة فيه: بالاعتماد على السب والشتم بشكل رهيب، ودون مراعاة للحدود الأخلاقية، والمبالغة في وصف العيوب والمساوئ، والطعن في العرض والنسب دون وجل ولا خجل، يظهر مثلا في هجائه لابن فراس: يا ابن فراس لك أم فاجرة فاسقة من النساء عاهرة من نجس الآثام غير طاهرة موصولة القذع بثقب الجاعرة • التجديد على مستوى الموضوعات الهجائية. • الواقعية : تتمثل أساسا في نوعين من الهجاء: الهجاء الاجتماعي والهجاء الفردي. أ. الهجاء الاجتماعي: أتى هذا النوع من الهجاء نتيجة نقمة الشاعر على المجتمع وتشاؤمه من الواقع، بسبب الحرمان الذي عانى منه منذ صباه، والازدراء الذي لقيه في مجتمعه، ونتيجة أيضا لتطيره من سلوكات أفراده، فأطلق لسانه في أعراض الناس ليحمي نفسه من الظلم والازدراء، ويهاجم أقواما في زمنه قد وصلوا منازل ليسوا لها بأهل. والباعث الواقعي على الهجاء الاجتماعي عند الشاعر ليس هو الحقد على المجتمع، وإنما تفشي الأمراض الاجتماعية في مجتمعه وفقدانه لروح الإخاء بين الناس، فلا يجد من يواسيه ويعطف عليه، وإذا قدم ليمدح الناس منعوه من العطاء، وإذا أتى يستجدي العطف ويستميل اللطف، ويلتمس العون أعرضوا عنه، وكلما تقرب منهم نفروا منه، وأينما ولى وجهه وجد ظلما وازدراء، فلم ينل حظه في مجتمعه ولم يقدر الناس شعره وذكاءه وعبقريته،فتشكلت لديه شخصية متفردة في كل شيء"تكونت جوانبها من خلال نظرة الشاعر السلبية إلى مجتمعه،أو قل من خلال الموقف السلبي الذي وقفه المجتمع منه" فكان لزاما – انطلاقا من هذه العوامل الموضوعية- أن يسخط على المجتمع برمته ويسقط من عينه من أعلى هرمه منزلة ومقاما، بما في ذلك الخلفاء والأمراء والوزراء وكتاب الدولة ورؤساء القواد وعلية القوم وكبرائهم، مرورا بأواسط الناس من مغنيين وشعراء وتجار وفقهاء وعلماء ونحاة وقضاة، انتهاء بعامة الناس وأدناهم منزلة ومنصبا، بما في ذلك أصحاب المهن البسيطة كالوراقين والحمّالين، فلم يجد بدا في إطلاق العنان للسانه وتجريد أفحش الألفاظ لإيذاء الناس، فلقاهم سبابا قاتلا يأتي على الأخضر واليابس فيجتثهما من جذورهما، لحماية نفسه وإطفاء غضبه من سوء ما يلقاه، فاتخذ الهجاء سلاحا رادعا يردع به العابثين ويرد به كيد الكائدين، ويحاول أن يعيد الاعتبار لنفسه ليطفئ الوحشة الدفينة في وجدانه، وليدفع الشر عن نفسه، فليس الهجاء لديه ناجما عن الحقد والكراهية والاستخفاف كما يرى إيليا حاوي في قوله: "تراكمت الثارات والأحقاد في نفس ابن الرومي، كما تراكمت الخيبات والمصائب، ولقد جعلت ثاراته تحفظه على أولئك الذين تكافأت شخصيتهم ومسهم كيمياء الحظ فثاروا وترفعوا عليه وهم دونه، أما المصائب فقد توالت عليه في موت ولده وأخيه وزوجه وفي تهالك صحته واحتراق بيته وما إلى ذلك. ولقد جعلته هذه الثارات وتلك المصائب يتعامى عن فضائل الناس وحسناتهم، ويمعن بالتحديث في نقائصهم ومساوئهم يتأملها يعيدها ويستعيدها في كل جهة مشوها ماسخا ليشبع ما في نفسه من حقد وزراية" ، ولذا فهجاءه – ابتداء – لم يكن يتخذه سلاح هجوم بل سلاح دفاع، دفاع عن النفس من كل المتربصين به والعابثين به، ومن كل من تمتد يده إليه بسوء أو جورا واعتداء،لاسيما وأن الطيرة كانت ملازمة لفكره وخياله وتصرفاته"وجعل يتشبه له في الأشياء مطلع النحس والنعي والخسارة" ، مثلما كان يصنع معه الأخفش حينما يقرع باب بيته ليعابثه ويستخف به، فإذا سأله ابن الرومي، من الطارق؟ قال الأخفش: "مرة بن حنظلة" فيتطير ابن الرومي ويلزم الدار فلا يخرج منها أبدا، فلما كان المجتمع يعبث به ويتخذه هزؤا، ويستغل طيرته وتشاؤمه ليضحك منه، لم يستطع الشاعر صبرا على هذه التصرفات، ولم يطق أن يرى نفسه ذليلة مهزومة بين قوم استأسد حملهم واستنوق جملهم ووسدت الأمور على غير أهلها، واستغل بعض الدهماء تسيب الأوضاع واضطراب الأحوال، فاستطاعوا بمكرهم ودهائهم وثقافتهم المتدروشة الوصول إلى مناصب ليسوا لها بأهل ولا كفاءة لهم فيها، بحكم أن بضاعتهم في العلم والثقافة بضاعة مزجاة، ولا يعرفون ماذا يقدمون ولا ماذا يؤخرون في الوظائف التي وُلّوا عليها. فأصبح لا يفهم كيف أنه صاحب علم وثقافة وله في اللغة والأدب والدين والفلسفة والفلك والحساب ما ليس لغيره من الناس، فيعجب كيف أن الزمان يرفع أقواما ويضع أقواما أخرى دون إنصاف: ظالما لي مع الزمان الذي ابتز حقوق الكرام للؤماء لقد اجتمعت في ذهن ابن الرومي كل هذه المفارقات العجيبة، وهذه المقاييس المختلة التي توزن بها الأمور في عصره،وصارت هذه الأشياء تتعقد لديه يوما بعد يوم، وتتفاقم في قرارة نفسه، فتخرج في النهاية بهجاء عاصف لا يبقي ولا يذر، فلا ينفك من المهجو حتى يوفيه نصيبه من الهجاء، وبالشكل الكاريكاتوري الذي يشفي غليله ويرد الظلم عنه، حتى ليهيئ للسامع أن هجاءه نابع من الحقد أو الحسد لشدة فحشه، وهو في الحقيقة نتاج لشعوره بالظلم، وفي هذا يقول عبد المجيد الحر: "وتجدر الإشارة إلى أن شاعرنا تفرد بهذا الوعي الصارم الفاجع لأزمة الناس الأخلاقية، دون بقية شعراء عصره، فأنت لا ترى في قصائد سائر الشعراء هذا الموقف الجريء الناقد لخفايا البشر، والفاضح لخداعهم وممالأتهم في سبيل التكسب والوصول إلى إرضاء ما يرضي في شهواتهم وسد حاجاتها" . إنه يتناول المجتمع كله في اختلال أخلاقه، وانعدام القيم الإنسانية النبيلة فيه، فجاء هجاؤه فريدا في أسلوبه ومعانيه، والواقع إن الذي جعله يغرد خارج سربه، هو كونه يريد أن يحيى حياة تليق بمنزلة الشاعر، وبالمنزلة التي كان يراها أهلا لها، إلا أنه لم يظفر بشيء من ذلك، وكان يعي المجتمع من حوله ويؤمن بالقيم ومفهوم الإنسانية، وغايته في المجتمع، ويدرك معنى الحضارة ووظيفة الناس لإنشاء هذه الحضارة، فيعزّ على نفسه أن يعيش في مجتمع ضاعت فيه القيم، وافتقدت فيه معاني الكفاءة والأخلاق والكرامة والعزة والإباء "إن ابن الرومي لم يكن إنسانا مريضا يكتنفه الشذوذ ويدفعه الحقد إلى الهجاء، ولكنه كان شاعرا حساسا ذا عين ناقدة يفحص ما أمامها،وتلتقط نواحي النقص فيما تراه،وأنه كان ساخطا، لأنه لم ينل حظه في مجتمعه الذي تؤهله له قدرته وذكاؤه" ، فلما فقد ما كان ينشده لم يتردد في سلّ لسانه على كل الأفراد المجتمع، فلا يفرق بين سلطان ولا فقير ولا مغني ولا شاعر ولا فقيه ولا نحوي ولا قاض ولا عالم ولا شرطي ولا حمّال ولا وزير ولا كاتب، فقذف الجميع بوابل من السباب، وهتك الأعراض في نوع من المبالغة والتشويه. يتمثل ذلك مثلا في قوله في الخليفة "المعتز": دع الخلافة يا معتز عن كثب فليس يكسوك منها الله ما سلبا فكيف يرضاك بعد الموبقات لها لا كيف؟ لا كيف؟ إلا المين والكذبا لقد صور المعتز أسلوب الخلق ولهذا فهو بيعد عن الله ومن توفيقه ورضاه، وهو في ذلك يحاول تجريده من كل الصفات الحميدة. وقال يهجو عمر النصراني، وكان هذا كاتبا للقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد: شهدت بعض المخاني ث والطريف طريق فقام من جنب عمرو وللشقي حفيف فقلت: أني ولم قم ت خائفا يا سخيف فقال : لا تلحيني فأنف عمرة مخيف وقال يهجو الحسين بن إسماعيل الطاهري، وكان هذا صاحب شرطة بغداد في زمن آل طاهر: وفارس أجبن من صغرد يحول أويثول من صفره لو صاح في الليل به صائح لكانت الاأرض له طفره وقال في الشاعر أبي العباس الناشئ: يرجف القرد بأني زائل العقل موسوس حاول القرد لعمري عكس أمر ليس يعكس ولا ينتهي هجاء ابن الرومي للشعراء والكتاب فحسب بل يمتد إلى المغنيين أيضا، إذ يقف أمام هذا النوع من الهجاء مدافعا عن قيم الجمال في فن الغناء فيرفض كل من يؤذي ذوقه وسمعه في هذا الفن، ومن اللواتي هجاهن هجاء مرّا شنطف المغنية، قال فيها: شنطف يا عوذة السموات و الأرض وشمس النهار والقمر إن كان إبليس خالقا بشرا فأنت عندي من ذلك البشر صورك المارد اللعين فأع طتك يداه مقارع الصور ويمتد لسانه أيضا إلى النجاة، ومن بينهم المبرد الذي قال فيه: ود المبرد أن الله بدله من كل جارمة في جسمه دبرا فأعطه يا إله الناس منيته ولا تبق له سمعا ولا بصرا هذا التعميم في الهجاء راجع أصلا إلى ضعف في شخصية الشاعر واختلال فيها، فلا يثبت على حال ولا يحسن المعاشرة"فهو متطرف لا يعرف حدا للاعتدال في شيء،ومتشائم لم تزده مصائب الحياة إلا إمعانا في التشاؤم،وعصبي الطبع لم يستطع سبيلا إلى معاشرة الناس باللين والرفق، فنفر منهم ونفروا منه، وعبثوا واستخفوا به واحتقروه" ثم راجع كذلك إلى كونه كان دمث الخلق طيب السريرة لا يعرف إلى المراوغة سبيلا، فهو يريد أن يحيى حياة شريفة، بعيدا عما راج في عصره من النفاق والمجاملة والرشوة بين الناس من كتاب ووزراء، فكان يعتقد أن السبيل الأشرف إلى الارتقاء إلى هذه المناصب هو الشعر والثقافة . ب. الهجاء الفردي: يعتبر هذا الهجاء صورة مشوهة لما تنفر منه نفس الشاعر المتطيرة، وهو تهويل لمساوئ ومعايب المهجو، فيصف القبح وصفا مضحكا، ويصوره تصويرا ساخرا، ويلهو به كما شاء ليرضي حاسة النفور في نفسه، لأنه كان ينفعل من القبح ويتطير منه، فصار يستخرم المعايب ويجتثها في الناس، انتقاما للجمال من القبح، وانتقاما لنفسه من لؤم المجتمع. هجاء صاحب اللحية الطويلة: هذا الجانب الخلقي في المهجو، ليس موضوعا جديدا جاء به ابن الرومي في شعره، وإنما كان في الشعر الإسلامي والعباسي عند طائفة من الشعراء، فنجده مثلا عند ابن مفرع الحميري حينما هجا عباد بن زياد، وكان هذا طويل اللحية عريضها، فركب ذات يوم وابن مفرغ يسير معه في موكبه، فهبت ريح فنفشت لحيته، فقال ابن مفرغ توا: ألا ليت اللحى كانت حشيشا فنعلفها دواب المسلمينا ومثل هذه الصورة الكاريكاتورية نجدها عند ابن لنكك البصري – وهو شاعر عاصر المتبني- في قوله: لا تخذ عنك اللحى ولا الصور تسعة أعشار من ترى بقر في شجر السرو منهم مثل له رواء وماله ثمر وأيضا تحضر في قول أعرابي فيمن أطال لحيته: كل امرئ ذي لحية عَثَوَلِيّة يقوم عليها ظن أن له فضلا وما الفضل في طول السبال وعرضها إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا أما عند ابن الرومي، فالجانب التجديدي في ذلك يتجلى في السخر الفني في تناول هذه الصورة، إذ يتناول اللحية تناولا كاريكاتوريا، يضخم فيه ما لا يضخم ويصغر ما لا يصغر، ليخرج من ذلك بصورة مشوهة، تبعث على الضحك والسخرية. قال في صاحب اللحية الطويلة: إن تطل لحية عليك وتعرض فالمخالي معروفة للحمير علق الله في عذاريك مخلا ة ولكنها بغير سعير لو غدا حكمها إلي لطارت في مهب الرياح كل مطير لحية أهملت فسالت وفاضت فإليها يشير كف المشير ما رأتها عين امرئ ما رآها قط إلا أهل بالتكبير شبه الشاعر اللحية هنا بمخلاة حمار خالية من الشعير، وقد طالت حتى أصبحت أضحوكة الغادي والرائح في بغداد، فأصبحوا يشيرون إليها بأكفهم وأصابعهم، متعجبين من هذه اللحية الغريبة، وكل من يراها يكبر تعجبا واستنكارا منها. هجاء صاحب الصلعة: لابن الرومي في أبي حفص الورّاق، وكان مشهورا بصلعته في بغداد، هجاء يبعث على الشفقة والضحك، يصف فيه رنين الصلعة تحت الأكف الصافعة، حتى لتتجاوب أصداء هذا الرنين في أرجاء بغداد كلها، وفي ذلك يقول: يا صلعة لأبي حفص ممردة كأن ساحتها مرآة فولاذ ترن تحت الأكف الواقعات بها حتى ترن بها أكناف بغداد هجاء الأحدب : كان هذا جارا لابن الرومي، يكثر من الجلوس بجوار باب داره، فإذا رآه وهو يهم بالخروج من الباب عاد فأغلقه عليه ولم يخرج من داره نظرا لتطيره منه، فجعل يسومه سوء الهجاء، ويجمع إلى جانب الهجاء الساخر وصفا دقيقا حسيا ونفسيا، فيقول: قصرت أخادعه وغار قذاله فكأنه متربص أن يصفعا وكأنما صنعت قفاه مرة وأحس ثانية لها، فتجمعا لم يكتف الشاعر برسم صورة الأحدب فقصا على نحوٍ كاريكاتوري، بل أثار في نفس الموصوف يقظة حسية، فجعله مصفوعا طوال الدهر يحاول أن يتقي صفعه بجمع قفاه على ظهره جمعا متواصلا متصلا. 3) - الكاريكاتورية في المنجز النصي : تقوم أساسا على التقاط العيوب الصوتية والجسدية للمهجو، وتكبيرها وتضخيمها على نحو كاريكاتوري، يستغل فيه الشاعر دقائق العيوب الجسدية ويكبرها في شكل من التهويل مشوّها يضحك عليه الناس.من ذلك قول ابن الرومي في وصف عيسى البخيل: يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد عذرناه أيام إعدامه فما عذر ذي بخل واحد يصور ابن الرومي تقتير عيسى على نفسه،فيبين أن فتحة أنف واحدة من منخر عيسى تسد حاجته من التنفس، ولو رآها حقا تغنيه عن أختها لاحتفظ عليها، وذلك لحرصه الشديد عليها، ولهذا عذره الشاعر نظرا لتقتيره وشحه المبالغ فيهما. وهذا التصوير الفني مظهر جديد في شعر ابن الرومي، إذ لو ولّينا وجوهنا شطر القصيدة الجاهلية أو الأموية أو العباسية وجدنا أن صفة البخل تناولها معظم الشعراء فقط من الجانب المتعلق بالفعل الناجم عن هذه الصفة(أي من الناحية الخُلقية)، ولم يتناولوها في علاقتها بالجانب الخِلقي وبالشكل الكاريكاتوري كما فعل ابن الرومي، هذه الصفة - صفة البخل- وردت في شعر النقائض، لكنها كانت تقوم على المواقف الأخلاقية للحط من منزلة المهجو، فلا نجد فيها تزعة كاريكاتورية يقف فيها الشعراء عند نواحي الضعف، فيكبرونها ويظهرونها في أخضم صورة تثير الضحك والإشفاق، ذكر المرزباني في الموشح أن "الفرزدق والأخطل تذاكرا جريرا، فقال له الأخطل: والله إنك وإياي لأشعر منه، غير أنه أعطي من سيرورة الشعر شيئا ما أعطيه أحد، لقد قلت بيتا ما أعرف في الدنيا بيتا أهجى منه: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار تمامه: فتمسك البول بخلا لا تجود به ولا تبول لهم إلا بمقدار والخبز كالعنبر الوردي عندهم والقمح سبعون إردبا بدينار وجاء أيضا في طبقات ابن المعنز هجاء بشار بن برد لرجل بخيل يسمى ابن قزعة قال فيه: فلا تبخل بخل ابن فزعة إنه مخافة أن يرجى نداه حزين إذا جئته للعرف أغلق بابه فلم تلقه إلا وأنت كمين فقل لأبي يحيى: متى تبلغ العلا وفي كل معروف عليك يمين ونفس الصورة نجدها عند الحسن بن هانئ (أبو نواس) في هجائه لأحد البرامكة: أرى جعفرا يزداد بخلا ودته *** إذا زاده الرحمن في سعة الرزق وكذلك حماد عجرد في هجائه بعض الأمويين: زرت امرءا في بيته مرة *** له حياء وله خيَر يكره أن يتخم أضيافه *** إن أذى التخمة معذور ويشتهي أن يؤجروا عنده *** بالصوم والصائمُ مأجور فهذه الأمثلة كلها تتحدث عن البخل، وتحاول أن تبرز هذه الصفة بشكل يبعث على السخرية والازدراء من المهجو، بيد أن القيمة الهجائية الساخرة فيها تختلف مقارنة بتلك التي جاء بها ابن الرومي، فقد أثار في نفس الموصوف المهجو حالة حسية، إذ صوره بأنه بخيل إلى درجة قصوى، لو استطاع معها أن يتنفس من منخر واحد لفعل، فلم يقتصر على التشويه المعنوي، فيأتي بالكنايات التي تصور ذلك مثل ما حدث في مثال حماد عجرد (يكره أن يتخم أضيافه) أو بشار بن برد (إذا جئته للعرف أغلق بابه...) وكلها تعبر عن البخل الذي يتصف به المهجو، بل يرصد ملامح التشويه الجسدي والمعنوي في آن واحد على نحو كاريكاتوري ساخر، يقوم على تشويه المهحو في جسده ونفسيته. قال ابن الرومي في صاحب دعاء فارغ: أطلق الجرذان بالليل وصح: "هل من مبارز؟" لقد رسم في هذا الهجاء صورة هزلية تعبر عن الطريقة التي يسلكها في رسم المشاهد، وعن براعته في دقة المراقبة وإثبات الحركة، وبعث الصور البعيدة الإيحاء، وقد أفضت به دقة التصوير إلى تمثيل الدمامة في أتم أشكالها، حتى كأنها تنطق بنفسها عن معايبها ، والكاريكاتورية هنا تتجلى في الصورة التي تقع في ذهن السامع، إذ يتصور الجرذان وهي تركض على الأرض، وتتهافت فيما بينها، فيناديها صاحب هذا الادعاء لتبارزه، وذلك ما لا يحصل، وهذا معنى جديد أتى به ابن الرومي وهو شبيه بالصور المتحركة. الأسلوب التأليفي يقصد به توليد الغلو من خلال جمع معان عديدة في معنى واحد، يتجلى مثلا في هجائه لأبي سليمان الطنبوري: أبو سليمان لا تُرضى طريقته *** لا في غناء ولا تعليم صبيان له إذا جاوب الطنبور محتفلا *** صوتٌ بمصر وصوتٌ في خراسان عواء كلب على أوتار مِندفة *** في قبح قرد وفي استكبار هامان وتحسب العين فكيه إذا اختلفا *** عند التنغم فكي بغْل طحّان استمع الشاعر في هذه الأبيات إلى صوت سليمان وكان قبيح الصوت، فأراد أن يخرسه إلى الأبد، فمثل ضربه على الطنبور بعواء الكلب الممتزج بأصوات أوتار المندفة مجتمعين في قبح القرد واستكبار هامان، وكل هذه الأشياء تجتمع لتكون معنى واحدا هو معنى القبح الذي في وجهه، والمنبعث من صوت طنبوره. وقد وظف بعض الصور الكاريكاتورية من مثل قوله: "صوت بمصر وصوت في خراسان" ليبين أن قرعه على الطنبور غير مضبوط ومتنافر، وصور هذا المعنى في النهاية في صورة بغل لطحان ما يَنِي يحرك فكيه عند الأكل. الأسلوب المنطقي: يتمثل بالأساس في قصيدته في وجه عمور، قال فيها: وجهك يا عمرو فيه طول *** وفي وجوه الكلاب طول فأين منك الحياء قل لي *** يا كلب والكلب لا يقول مقابح الكلب فيك طرّا *** ويزول عنها ولا تزول والكلب وافٍ وفيك غدر *** ففيك عن قدره سُفول وقد يحامي عن المواشي *** وما تحامي ولا تصول وأنت من أهل بيت سوء *** قصتهم قصة تطول وجوههم للورى عظات *** لكن أقفاءهم طبول تستغفر الله قد فعلنا *** ما يفعل المائق الجهول ما إن سألناك ما سألنا *** إلا كما تسأل الطلول صمتٌ وعيبٌ فلا خطاب *** ولا كتاب ولا رسول وجه طويل يسيل فوه *** أحسن منه حرٌّ يبول مستفعلن فاعلن فعول *** مستفعل فاعل فعول بيت كمعناك ليس فيه *** معنى سوى أنه فضول تتسم هذه القصيدة بإعمال الشاعر للمنطق الجدلي الكلامي، الذي ساد في العصر العباسي، يبرز في التسلسل المنطقي الذي اتخذه في القصيدة: أولا: الموازنة والمقابلة بين عمرو والكلب في قوله: "وجهك يا عمرو..."، إذ جعل ابن الرومي المهجو كالكلب في وجهه، فوجه الكلب طويل ووجه عمرٍ طويل أيضا، إذن فهما متماثلان "هذه العملية تعرف بالسيللوجيسم المنطقي الذي اطلع عليه ابن الرومي في علم الفلسفة، وتمرس به في علم الكلام حتى انطبع في نفسه، وانتقل بالتالي إلى شعره" ، ويتجلى تفضيل الكلب على عمْرٍ في كون الكلب له مقابح، بوسعه التخلص منها بالتعليم والتهذيب، بينما عمرو يعجز عن التخلص من مقابحه وعيوبه، وتظهر الموازنة أيضا في قوله: ما إن سألناك ما سألنا *** إلا كما تُسأل الطلول فالمهجو هنا مثله مثل الطلول لا تسمع نداء ولا ترده. ثانيا: الاستقصاء في الهجاء: مطلع القصيدة عبارة عن افتراض أو فكرة عامة بحاجة إلى برهان، فقوله: عمرو كالكلب والكلب أفضل منه، هذا افتراض عام ينبغي تفسيره، وتفسير ذلك أن للكلب فضائل جمة تسمو به كالوفاء والشجاعة في حماية المواشي والذوذ عنها، بينما عمرو لا يتحلى بأي فضيلة، ولذلك فالكلب يسمو بفضائله، بينما ينحط عمرو برذائله، ثم يستطرد ابن الرومي في الهجاء فيقول بأن عمرا ورث رذائله عن آبائه وأجداده، حتى أصبحت شيمة فيه، وهم يتوارثونها بينهم حتى صارت مثلا يجري على ألسنة الناس، فقد مسخهم الله بأن جعل وجوههم منكرة قبيحة تعكس خبث نفوسهم، وبعد ذلك يستغفر ابن الرومي ربه، معترفا بأنه قد ارتكب خطيئة لا يرتكبها إلا الأحمق الجاهل، حيث ظن في عمرٍ خيرا فاستعان به لقضاء بعض حاجاته، فخذله أيما خذلان، فاتضح له أن عمرو ليس إلا بقايا طلول دارسة لا تسمع ولا تعقل. وفي النهاية بلغ به الانفعال مبلغا عظيما حتى أحاله خاليا من كل معنى، زواله وعدمه خير من بقائه ووجوده، وذلك حينما قارنه بتفعيلات القصيدة التي لا معنى لها: مستفعلن فاعلن فعول *** مستفعلن فاعل فعول بيت كمعناك ليس فيه *** معنى سوى أنه فضول فأبيات القصيدة إذن تتلاحق وتتلاحم، لتبرهن وتقرر أو تحقق الفكرة التي أطلقها الشاعر في مطلع القصيدة. خاتمة ربما قد نُثِر على شعر ابن الرومي بعض الأتربة على طول تاريخ الأدب العربي، ربما لأن لسانه أطول من عقله، كما قيل، ولكن المتتبع لديوانه يجد أن الشعر عنده ينساب انسيابا خاصا، ويتخذ طبعا خاصا وذوقا رفيعا، وقد سجل في شعره ألوانا مختلفة من الأغراض الشعرية التي كانت تمثل الفن الأدبي الأصيل، وتعبر عن الحياة العباسية بكل تناقضاتها ومظاهرها،وقد مثلها الهجاء أحسن تمثيل، وهكذا بدت "صورة فنه بمحسناتها البديعية والبيانية وبخصائصها المميزة عالما خاصا، راق أنصار القديم لاهتمامه بالكلاسيكية وأساليبها، وأعجب محبي التجديد لخصائصه الفنية الواسعة الآفاق بثقافتها، وسعة اطلاعها الحافلة بكثير من البوح، عن حقيقة الوجود الممتزج بنعيم الإنسان وشقائه، فعبر بذلك عن واقع البشر كلهم عبر حقبة لا ينتهي أمدها بخلود شعره" .