أورد أبو الفرج الأصفهاني في كتابه" الأغاني" أن تاجرا من العراق قدم المدينةالمنورة ليبيع خُمُراً[1] مختلفة الألوان، فباعها جميعا ما عدا الخمر السوداء التي بقيت في ذمته ولم ُتقبِل عليها النساء، فاشتكى هذا الأمر إلى أحد أصدقائه يدعى ربيعة بن عامر ويلقب بالدرامي وكان شاعرا، فهوّن عليه هذا الأخير ما ألم به ودعاه أن يمكث بالمدينة أياما قليلة ثم يعود إليه بعد ذلك، فقام صاحبنا الشاعر بنظم قصيدة كان مطلعها: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد كان قد شمر للصلاة ثيابه حتى وقفت له بباب المسجد ودفع بالقصيدة لأحد المغنين فغناها وذاع خبرها في المدينة، فلما أتى العراقي صاحبه المديني بعد انتهاء المهلة أمره أن يذهب إلى السوق ليعرض بضاعته الكاسدة فما أن وجدت النساء الخمر السوداء حتى أقبلت عليها بلهفة واشترينها بأثمنة مضاعفة.. لن أنظر لهذه القصة من زاويتها الأدبية ولا للملابسات المحيطة بصدور القصيدة وكونها اشتهرت بين الأدباء قديما وحديثا إلى الحد الذي حاكى شعراء آخرون ذلكم البيتين بمدح الخُمُر البيضاء والحمراء والفستقية وغيرها، ولكني سأنظر للموضوع من زاويته الإعلامية، حيث يمكن القول إن فكرة الشاعر الدرامي أسست لمن أتى من بعده، لمنهج جديد في الترويج للبضاعات الكاسدة، حيث أضحت اليوم، المادة الإشهارية في قنوات الإعلام وعلى أعمدة الصحافة، سلاحا يفتك بعقول المشاهدين والقارئين، وبجيوبهم أيضا حيت لا يملك بعضهم أمام هذا الزحف الإشهاري دفعا ولا مقاومة، وتوسلت بعض الجهات إلى إشهار أفكارها ومنتوجاتها بأحدث التقنيات في مجال الاتصال والإقناع واستمالة الأذواق، بل وصناعة أذواق وأمزجة جديدة مستعدة لتَلقُّفِ ما تقذف به السوق من أردأ البضاعات، ولو توقف الأمر عند حد الترويج للخمر السوداء وهي جميلة على كل حال لهان الأمر، ولكن أن ُتسَّوق بعض البضاعات التي يمجها الذوق السليم وأن تجد لها زبناء فهذا من غرائب الدهر بل من مصائبه.. مناسبة هذا الحديث، مع ضرورة اعتبار القياس مع الفرق، هو انطلاق القناة التلفزية الأمازيغية يوم الأربعاء 30 دجنبر 2009 في البت ولو لساعات معدودة، ولا شك أن انطلاق هذه القناة الجديدة فضلا عن كونه سوف يعزز المشهد السمعي البصري في بلادنا، فهو أيضا سيستجيب لحاجات ملايين المغاربة الذين قد لا يجدون ضالتهم في باقي القنوات، وهم بالأساس الناطقون بالأمازيغية الذين لم يجدوا لهم في المرحلة السابقة، موقعا منصفا في مساحة الاهتمام في القناة العمومية الأولى، إلا ما كان من برامج محدودة لا تكاد تشبع الحاجة أو تشفي الغليل، ومهما يكن فإن انطلاق هذه القناة الأمازيغية اليوم يشكل خطوة مقدرة جديرة بالتنويه، كفيلة بتعزيز الخطوات السابقة بانطلاق قناة محمد السادس للقرآن الكريم والقناة الرياضية والقناة الرابعة والقناة المغربية وقناة الأفلام وقناة العيون، وإذا كان لنا من مطلب في هذا الإطار فهو أن تتحرر هذه القناة من قيود السياسة الإعلامية الرسمية بأن تعطي للديمقراطية الإعلامية معنى وأن تسمح لكل الآراء أن تبرز وأن تتنوع المادة وُتجود شكلا ومضمونا بما يحقق عنصر الجذب الذي تفتقده القناة الأولى. إلا أن الذي يحز في النفس ولا نكاد نجد له مسوغا أو تفسيرا مقنعا، فهو هذا التأخر الفظيع في إخراج القناة البرلمانية إلى الوجود، وهي القناة التي يشكل غيابها عطبا فادحا ماسََّا بمطلب التواصل المباشر للبرلمانيين مع الشعب والرأي العام، فإذا كان لكل جمهور قناته وإذا كان للحكومة أيضا قنواتها التي تعرِّف عن طريقها بأعمالها ومبادراتها، فلماذا هذا الاستثناء المخجل في التعامل مع ممثلي الشعب؟ إن البرلمانيين العاملين بإخلاص ومسؤولية، مدعوون اليوم أن يكسروا الحواجز الإعلامية التي تفصلهم عن ناخبيهم وأن يعلموا أن عملهم الرقابي والتشريعي الدؤوب في اللجان والجلسات لا يكاد يعلم به أحد وأن طوقا من العَزْل يراد لهم حتى ينفض الناس أيديهم منهم، فهل نبتغي بمطلب القناة البرلمانية غير أن نعرف المشاهدين بأعمالنا وأن نقنعهم بمواقفنا ومبادراتنا، أما من يفكر في إقناع الجمهور باقتناء الخُمُر السوداء فلسنا معه، ويقينا سوف تظل بضاعته كاسدة ولن يفلح في أن يجعل من القط فيلا ولا من الهر أسدا، ولو دُبّجت من أجله القصائد وغُنّت، لأن فراسة الناخب لا تخطئ، فحذار.. إن ما يدعو إلى الاستغراب فعلا أننا إذا سألنا الحكومة عن تأخر انطلاق القناة البرلمانية أجابتنا أن الاعتمادات رصدت وأن القرار النهائي بيد البرلمان وإذا سألنا المسؤولين في البرلمان أجابونا أنهم جاهزون إلا أن الحكومة يجب أن ترصد الاعتمادات والموارد البشرية، وهكذا ضاعت هذه القناة بين الحكومة والأغلبية بتبادل رمي الكرة بين شباكيهما، ومع ذلك فنحن واعون أن هذا التواطؤ يراد منه ألا تنتشر فضيحة من أصبح غيابهم مزمنا وإذا حضروا فالرداءة تشكو من رداءتهم، وأيضا حتى لا يعلم الناس بالعمل الجبار الذي يقوم به القلة من البرلمانيين في ساحات اللجان والجلسات العمومية.. إن لنا الحق نحن البرلمانيون، من موقع القناة التلفزية الخاصة، أن نُشهِر أعمالنا وأن ندعو الناس إلى الاقتناع بها ومعانقتها، وأن تكون هذه القناة ساحة مفتوحة على الشعب مباشرة تتدافع من خلالها أفكار ومقاربات ومواقف كل البرلمانيين على اختلاف فرقهم ودوائرهم ومشاربهم، وإلى أن يتحقق حلمنا بإنشاء قناة برلمانية كما هو الحال عند من يحترمون برلماناتهم، نهنئ مواطنينا الأمازيغ بقناتهم.. [email protected] mailto:[email protected] [1] خمر هي جمع خمار وهو ما تضعه المرأة على رأسها أو تلتحف به